ريما سلمون: قوة التأمل واشتهاء التدمير

28 أيار 2011

تستحضر أعمال التشكيلية ريما سلمون الإنسان كموضوع أساسي في تجربتها، وقد جاء معرضها الأخير في غاليري أيام بدمشق متمماً لتصوراتها السابقة التي تقدم الاشتغالات الذاتية على ماسواها، وتعلي من مكانة الإنسان كقيمة عامة تضع المرأة بشكل خاص في فضاءات الدلالة النوعية المجسدة لأنا الفنانة بالدرجة الأولى، باعتبارها «الشاهد» الإشكالي الذي يسرد سيرتها مباشرة، بلغة بصرية تحيل إلى البديهي الخصب والغامض بآن معاً، إنها لغة تعتمد على الصفات الفريدة للجسد كمصدر غني لهندسة المشاعر، كما تعتمد على الوجه الإنساني كدليل لولوج المجهول الهش المتصل بالمصير كحالة وجودية على صلة بمفهوم العلاقة بين الحياة والموت.


من أعمال التشكيلية ريما سلمون
بمعرضها الأخير بغاليري أيام

من جهة أخرى تمزج التشكيلية بين الحضور الجسدي كحاضن مفهومي، والوجه كحضور إشاري، لتكثيف المراجعات الممثلة لتساؤلاتها الأساسية التي تبدو عارية كنماذجها المتراصفة، المطورة لحقيقة تمثيلها الأوجه المتعددة للكآبة، التي تُخرج مختلف شخوصها من حالات الغياب وتدخلهم في الفعل الملموس لطقوس التفاصيل اليومية، وانحشار الجسد في البحث عما يلي اللحظة التي تجمع مايشعه العري كلحظة وجودية مبالغ بتمثلها إلى انفجار الفكرة المثقلة بعزاء الحكايات التي ترويها هذه الشخوص، وكأنها تروي حكاية الحكايات المرتبطة بعدالة الظهور، والمسلمات المحددة لجوهر الاختلاف بين الجسد كنمط والجسد كقيمة قابلة للتفكيك.

من أعمال التشكيلية ريما سلمون
بمعرضها الأخير بغاليري أيام

إن استكشاف ماتتضمنه الأعمال الأخيرة يتعلق بالتأكيد بمسار المعارف البصرية، وبالسلوك الذي ينبغي انتهاجه من قبل المتلقي كمتفاعل، حين يعيد صياغة الشك بمعاني التحرر والانعتاق مما هو غير متجانس بالمرور إلى جدليات الانسجام في اللعبة البصرية. وهي لعبة لها شروطها وقيودها وأهدافها لبناء ضمير العمل الفني، القوة الفاعلة المتجاوزة للحضور الفيزيائي المحسوس للجسد البشري، باعتباره قوة للتأمل في القلق الوجودي والمعرفي، وبنية شعرية للاشتهاء والتدمير، وتحديد معاني الصدمة التي تبرزها الملامح المزروعة بألغام الألم، وجذور الأسئلة التاريخية عن الفقد والغياب والموت، وكل مايرتبط بإيجابية الحياة كتفاصيل تقص تجاربها بيقظة جمالية في غاية البراءة.

أجساد زينتها أننا نراها باستمرار خارج الزمن وهي تغرق في مجازها البصيري، المضمخ بعطر الفصاحة الأدائية والتقنية، وإيقاعات الرسم الذي تصوغه الأقدام وهي تجدل صلابتها الظاهرة بالأيدي التي تخرج باستمرار عن السياق، للتمعن في المكابدات التي تعانيها المرأة حين تقصها بصمة ريما سلمون، حكاية السفر بخجل في الذاكرة الجمعية للمرأة المعاندة لقدرها كحالة وليس كشخص.

من أعمال التشكيلية ريما سلمون
بمعرضها الأخير بغاليري أيام

إنه الزمن يخذل الذكريات، ويدون الملامح باعتبارها أسراراً للاختزالات الجارحة والكاشفة لعوالم التشكيلية الداخلية، كائنات يعذبها العجز، وتدهشها تضاريس وجوهنا ونحن نحدق في تقاسيمها، وجوه رمادية بملامح ترابية أضاعت يقظتها الشعرية في تلافيف القسوة والتصعيد النفسي، الذي يجعل من إنسانيتها رسالة جريئة لقراءة هواجسها وهمومها الإنسانية، صور عن ذواتنا ودواخلنا الباردة والباهتة والمشتتة، استلاب لايعوضه إلا حرارة الحركة التي نلمسها كانعكاس لحركة التشكيلية وهي تعيد بناء هذه الأشكال بحرارة تدفع بالتوازن إلى مخاطبات بصرية في غاية الإقدام لولوج عوالم الانفعال، وكل ماتتركه سرعة حركة الفرشاة من أثار على سطح القماش، إنه الانفجار المعبر عن اختزان فضاءات من الاشتعال المتوسد ضفاف الحزن.

من أهم مايمكن أن نلحظه في الصياغات التشريحية للجسد أو الوجه هو الجزء الغائب أو الغائم منه، حيث يعيد هذا «الجسد- الوجه» إنتاج المكمل الأيقوني للقيمة المرتبطة بالكيفية المحددة للمعنى، فالشكل المصور مركز إشعاع تنبعث منه إلى جانب كتلته اللونية التجربة البصرية والمعنوية للتشكيلية. وهذا مايجعل التمثيل التصويري يقدم المفارقات الترميزية التي تحيل إلى الزاوية التي تختارها التشكيلية للوقوف بمواجهة اللوحة، والتي لاتتبدل إلا بمقدار تبدل حالة وقوفها أمام المرآة. وفعلاً، فإن سعي ريما أن يكون حجم الشخصيات أكبر بقليل من الحجم الحقيقي له مايبرره، باعتبار أن العمل نسخة غير نسقية عن ذاتها، ففي كل مرة تحاول اختراق العلامات التي يحدثها الجسد بتوقع مقابلاته المعرفية، أو الشروط الممكنة التي تجعل سماته من طبيعة التشنجات اللونية الجديرة بالملاحظة، والتي تعيد التشكيلية صياغتها وفقاً للثقل الدرامي، ومن خلال الحرص على نقل إدراكها للعالم بالتعبيرية المناسبة لبحثها البصري.

من أعمال التشكيلية ريما سلمون
بمعرضها الأخير بغاليري أيام

الألم إذن ينشئ نموذجه، وهو نموذج يدفع باتجاه بناء صيغة اتفاقية تتمفصل مع إمكانية التحول بالسمات الإنسانية الظاهرة إلى مايوازيها على المستوى الذهني، أي بناء حدود دلالية للصلابة بمقابل العجز كي لايتحول العمل إلى بكائية للضمير، أو ترنيمة جنائزية فردية لايحقق نواحها البصري أكثر من وقوعها في دوامة الواقع المزيف. ففي الوجوه المستقلة تتفكك الرسالة، وتغدو المعالجات متضمنة لما هو قبل تحقق الوجه على المستوى الذهني باستبداله بكامل الجسد. وهو حلول يتم فيه إنابة الوجه عن كامل الجسد، باعتبارهما متكاملان على مستويات الإرسال الانفعالي والمفهومي.

لاتمضي ريما إذن إلى المتماثل بل إلى المتقابل كنموذج لايمكن تصنيفه كمتشابه أيقوني، فالانفتاح على تكرار الشكل هو تكرار ليس على مستوى المواضعة الهندسية للشكل بل تكرار للمواضعة الكشفية التي تخرج المتشابه عما ينتجه من المعاني الأيقونية وبما يقضي باحتواء التفصيلات المنفصلة أوالمتناوبة. هذا الأمر يدخل في إطار المعالجة التي تركز على أهمية الأعداد المتكررة للشخصيات في اللوحة الواحدة، أو في مجمل اللوحات. إذ لايمكن تجاهل القوة التي يمنحها التكرار العددي لتوثيق السؤال الأشمل المطروح في مجمل الأعمال، أو مايضيفه الفرق بين النظرة الكلية أو الجزئية كمجال للمقارنة التوقيعية للوقائع التعبيرية.

من أعمال التشكيلية ريما سلمون
بمعرضها الأخير بغاليري أيام

صحيح أن إعادة إنتاج المعنى تؤكد على سعة هذا المعنى من جهة، وعلى علو العتبة التي تتيح الاتصال بالمحاولات المتعددة لوصف القرار البصري المتعدد الدلالات فكرياً من جهة ثانية. فمن الإيحاء الذي تقدمه صور النساء لابد من الانتقال تراجعياً إلى الحامل البلاغي الذي يقرر شكل الإدراك، أي الشكل المشخص على هيئة إنسانية والموظف من قبل الفنانة كي يحمل المؤطرات المعاصرة لفهم الحياة انطلاقاً من الأبعاد الأنثوية، والتي تجعل الإيمائية المختزلة مصطلحاً مشتركاً للصمت والوجوم كعلامات تحليلية للمحاور الشكلية، التي تقوم على أساسها مبادئ تحريك الأشخاص وحكاياتهم كعالمين متعامدين على المستوى البصري. لتثبت الدعوة الصريحة إلى المشهد لإبداء الرأي في الخطاب الذي يفرق بين التصوير المادي الصارم والتصوير الروحي المرن.

يضاف إلى ذلك الإشارة الواجبة إلى أن المحترف السوري غني بالتجارب التشخيصية التي تتناول الجسد والوجه الإنساني، وعبر مختلف التوجهات التعبيرية، التي تقع تحت إطار المنهجة والتصنيف. وتظهر تجربة ريما سلمون كعلامة مكملة لهذا النسق، تغني لغته وتفعل قبوله وتبلغ رسالته من موقع ينشئ أثراً مميزاً، ويحقق قاعدة جديدة للتواصل في شبكة الإبداع واختبارات التأمل المعرفي.


طلال معلا
تشكيلي وباحث في الجماليات المعاصرة

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

علي غانم:

وكل ما رأيته انه المزيد من مربعات الأبيض والأسود ثنائيات متواهية بين تفاصيل علينا ان نرتكبها وهناك منها الكثير وعلينا الإكتشاف أصابع من ريش للفنانه ريما ..... سلمت صديقي طلال

سوريا

مروان العلان:

ما هو موجود داخل اللوحات وفي تفاصيلها الواضحة والمبهمة أهم من الكلمات التي تحدثت عن اللوحات.. هناك ألم وشكوى تعيدنا للوحات يوسف عبدلكي المكتظة بالتشاؤم والألم. هل هو واقع يتمثل في لوحات أم هي لوحات تخاف من قادم بلون السواد الذي رسمت به اللوحات
للفنانة ريما رؤية مختلفة يمكن قراءتها في اللوحات.. وما تقدّمه اللوحات لا تستطيع الفنانة التعبير عنه في كلمات
تحية للفنانة ولطلال معلا على جهده القيّم في الفهم والتعبير والتقديم العميق

فلسطين