زكي محمد

1925ـ1984

أبرع ملحني القصائد الذين عرفهم القطر العربي السوري قبل الجلاء وبعده هم: سري طمبورجي، محمد محسن، محمد عبد الكريم، نجيب السراج، وزكي محمد.
واسم "زكي محمد" الذي انصرف إلى التلحين مذ احترف الموسيقا في أوائل الأربعينيات هو "زكي الحموي" وقد لجأ إلى تغيير اسمه، لأن أسرته ثارت عليه وخيرته بين الانسلاخ عن الأسرة نهائياً أو اعتزال الموسيقا، فآثر الموسيقا كما فعل "محمد محسن" و"فتى دمشق" ـ بهجت الأستاذ ـ و"المتكتم" ـ عدنان راضي ـ وغيرهم.
عرف "زكي محمد" أول ما عرف من خلال عزفه على آلة "البانجو"، وعندما وجد بأن الآلة تقف عائقاً أمام ربع الصوت المقامي، انصرف إلى معالجتها فنياً، ولم يمض بعض الوقت حتى أضحت هذه الآلة بفضله تستطيع أداء ربع الصوت، ويعود سر نجاحه في ذلك إلى إتقانه العزف على آلة العود بالإضافة إلى فهمه القوي للموسيقا الشرقية ونظرياتها. ويمكن القول أن هذه الآلة "بانجو" استطاعت أن تفرض وجودها في سني الأربعينيات، وأن يميل إليها الناس من خلال "زكي محمد" كميلهم إلى بزق الفنان الكبير "محمد عبد الكريم" الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بطريقة عزفه المتفردة، وبألحانه الشهيرة التي ذاع أمرها في كل الوطن العربي. وإذا كان أمير البزق قد تبوأ عرش الموسيقا في القطر العربي السوري، وسجل علامة بارزة في تاريخها، فإن "زكي محمد" قد دان له عرش القصيدة على الرغم من الألحان المتعددة التي كانت تظهر لغيره بين الحين الآخر، والتي لم تكن تتبع أسلوباً معيناً قدر اهتمام ملحنيها بالتحديث الذي كان رائد الموسيقيين جميعاً دون استثناء.
اهتم زكي محمد بالأعمال التراثية وبفن القصيدة بنوع خاص، وأعطى فيها على غرار "رياض السنباطي" الشيء الكثير، وألحانه التي غنتها المطربة الكبيرة "ماري جبران" جعلته يقف في تلك الفترة على قدم المساواة مع "رياض السنباطي" مبدع فن القصيدة التقليدية والغنائية الحديثة حتى أن شيخ الملحنين "زكريا أحمد" عندما استمع إلى قصيدة "أحمد الخميسي" "خمرة الربيع" من ماري جبران في ملهى "القطة السوداء" أثناء زيارته لدمشق عام 1949 بدعوة من المطربة القديرة الراحلة سألها عندما اتخذت مجلسها إلى جانبه بعد تأدية وصلتها الغنائية فيما إذا كانت التقت رياض السنباطي ومتى؟ فأجابته بأنها التقته معه - أي مع زكريا أحمد - عام 1927 في ملهى كوكب الشرق في بيروت، ولم يكن حينذاك معروفاً، ثم في مصر أثناء عملها في صالة بديعة مصابني.
ولكنه أي ـ زكريا أحمد ـ سألها فيما إذا أخذت منه ألحاناً، فأجابت بالنفي، وعند ذاك سألها عن ملحن قصيدة "خمرة الربيع" التي غنت، فأشارت بيدها نحو "زكي محمد" الجالس معهما وقالت: إنه ملحن القصيدة المذكورة.
وعند ذاك قال الشيخ زكريا وهو يصفق بيديه منتشياً: المغنى إذن بألف خير في بلدكم. هذه شهادة شيخ الملحنين، بالملحن المتواضع "زكي محمد"، وهي شهادة لها قيمتها، لأن المعروف عن زكريا أحمد بأنه من المعلمين الذين لا يجاملون كمحمد عبد الوهاب، ويقول رأيه بصراحة متناهية دون محاباة.
يمكن القول عن "زكي محمد" دون مغالاة، إنه صنو رياض السنباطي في مضمار القصيدة، وإن اختلف الأسلوبان والمجال الحيوي للفن، فالقاهرة كانت ومازالت مركز الفن الموسيقي في الشرق، تتجه إليها أنظار الفنانين العرب من كل مكان، ولا يمكن لأية موهبة أن تشرق وتضيء في سماء الفن الغنائي ما لم تنطلق منها، ومع هذا،وعلى الرغم من الإغراءات القوية فإن زكي محمد العاشق لدمشق لم تنفع معه إغراءات النزوح إلى القاهرة، وظل معلقاً أفراسه في مدينته التي يحب، يأبى عنها رحيلاً، وهذا الأمر هو الذي جعل أعماله أقل ذيوعاً وانتشاراً وبريقاً من أعمال الكبار الذين تربعوا على عرش القصيدة في مصر.
وجد زكي محمد في صوت المطربة الكبيرة "ماري جبران" متنفساً لنبوغه فأعطاها من القصائد ما أعطاها، ومن المونولوغ الغزلي ما أغنى فن المونولوغ حتى غدت دمشق والقطر كله يرقب حفلاتها المنقولة من إذاعة دمشق كل يوم سبت من أول كل شهر.
من أشهر القصائد التي لحنها "زكي محمد" لماري جبران، قصائد "دمشق، زنوبيا، أحلام الرمال، خمرة الربيع" وفي كل هذه القصائد ـ وهي نماذج لفن القصيدة الذي لم يمارسه بصورة جدية سواه في قطرنا العربي السوري ـ اعتمد لضرورة الشعر على مقدمات طويلة، ولوازم موسيقية لا رابط بينها وبين المقدمة، وعلى جمل موسيقية قصيرة، تربط بين صدر البيت وعجزه، وتقوم في الوقت نفسه بعملية الانتقال المقامية بإبداع يخال المرء معه بأنه يعيش الأجواء الساحرة التي وحد بينها الشاعر والملحن والمؤدي معاً، وفي أعماله هذه يذكرنا بأعمال السنباطي الأولى لفتحية أحمد في قصائد "رأى اللوم" و"ظنون" و"الصفصافة" التي التقى فيها باتجاه السنباطي في الأربعينيات.
لحن زكي محمد لمطربات أدنى مستوى من "ماري جبران" كسلوى مدحة ونورهان وتغريد محمد وغيرهن، ولحن أيضاً لمطربين من ذوي الأصوات القوية القادرة كفتى دمشق وياسين محمود والمتكتم،ووضع الكثير من المقطوعات الموسيقية من أجملها مقطوعة على إيقاع الرومبا بعنوان "رومبا نهاوند".
أقلع زكي محمد عن عطائه القوي في القصيدة بعد غياب الفنانة الكبيرة ماري جبران، وتوقف نهائياً عن التلحين بعد سنوات قليلة على رحيلها، وتوقف "زكي محمد" عن التلحين كان كما يبدو بسبب غياب الفن الحقيقي الذي يعتمد على القوالب المتعارف عليها فنياً، وبعد أن استولى على مقادير الموسيقا والغناء، فنانون يمارسون الفن دون أن تكون لديهم ثروة علمية يعتمدون عليها في ممارستهم واحترافهم لهذا الفن الذي غلبت عليه المسحة التجارية أكثر من الروح الفنية.
أمضى زكي محمد ما تبقى له من العمر موظفاً صغيراً في إذاعة دمشق، مهمته تدوين الألحان لغيره وتصنيفها في أرشيف الإذاعة. وظل في وظيفته هذه يمارسها بصمت الأعلام الكبار وبترفع عن مد يد الحاجة التي دفعته إلى البقاء في عمله، إلى أن صدمته سيارة صدمة خفيفة أمام بيته فوقع على الأرض وفارق الحياة فوراً، وكان ذلك في العام 1984.



[1]البانجو ـ آلة غربية يتألف تجويفها من نوع من الرق المحاط بدائرة من معدن الفضة المثبت على خشب خاص بصناعة هذه الآلة، زند الآلة قصير، كزند آلة الماندولين، وأصوات درجاتها الموسيقية مرتبة كآلة الكمان.


صميم الشريف

الموسيقا في سورية|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

زكي الحموي:

شكراً لكم لأهتمامكم بألحان جدي ومسيرته الفنية

سوريا

هبه الحموي :

أنا بتشكّر العاملين على كتابة هذا المقال و الاهتمام بم قدم جدي و أضاف للموسيقى العربية

الكويت