المقالع الحجرية في تدمر

08 حزيران 2010

اشتهر السوريون عموماً منذ عهود بعيدة بولعهم بنحت الحجارة وصقلها، وتكييفها حسب ذوقهم الخاص وميولهم الفنية لتنسجم مع تقاليدهم المحلية. ومنهم سكان تدمر الذين أبدعوا باستخدام هذه المادة، وساعدهم بذلك وجود المقالع وتوفر الحجارة في تدمر، الأمر الذي جعل من هذه المادة عنصراً أساسياً مهماً في أبنيتهم، إلى جانب استخدامهم لمواد أخرى.

تتصف الحجارة التي استخدمت في أبنية تدمر بأنها محلية من النوع الكلسي، ويكمن الاختلاف في نوعية هذه الحجارة الكلسية، فمنها نوع صلب لونه مائل للسّمرة بقي محفوظاً مقاوماً لعوامل الطبيعة، هذا النوع من الحجارة استخدم بكثرة في بناء الأبراج الجنائزية التي ما تزال منتصبة حتى أيامنا هذه بفضل صلابة ومتانة جدرانها المبنية من هذه الحجارة.

أما النوع الثاني فهو حجارة كلسية بيضاء اللون شبيهة بالرخام أقل صلابة من النوع الأول، ونجد أمثلتها في المعابد الجنائزية وحمامات زنوبيا، ولهذا السبب لا توجد أمثلة كثيرة محفوظة للأبنية المبنية بهذه الحجارة[1].

إن المصدر الأساسي للحجر المستخدم في العمائر التدمرية هو المقالع الحجرية التي عثر عليها بالقرب من مدينة تدمر (الشكل 1)، منها المقالع الشمالية الشرقية على بعد 15 كم تقريباً إلى الشمال الشرقي من المدينة الأثرية، وهي مجموعة من المقالع الممتدة على مسافة تزيد عن 5 كم وقد تمّ الكشف عن قسم منها لأول مرة في الثمانينات من القرن العشرين وفي الأعوام 1991-1994. تمّت أول عملية مسح لهذه المقالع من قبل بعثة أثرية مشتركة سورية- ألمانية متمثلة بالمعهد الألماني للآثار والمديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق[2]. أما المقالع الأخرى فنجدها غرب القلعة العربية على بعد 5 كم على يسار الطريق المؤدي إلى دير الزور حيث لا تزال آثارها واضحة على الرغم من الانهيارات العديدة التي أدت إلى طمس بقايا هذه المقالع (الشكل 2). المقالع الأخيرة التي نود أن نشير إليها غير مؤكدة بالنسبة للباحثين[3]، إلا أنه من وجهة نظرنا تعتبر من المقالع المهمة جداً في تدمر بفضل نوعية حجارتها وتقع على بعد 30 كم تقريبا إلى الجنوب الشرقي من تدمر (انظر الشكل 1) والسبب في عدم تأكد الباحثين من ماهيتها هو وجود مقلع حديث يعمل في الموقع منذ ما يزيد عن 5 سنوات[4]، وما تجدر الإشارة إليه وجود العديد من المواقع الأثرية بجانب المقلع مثل البازورية والسكري (الشكل 3).


الشكل 1: خريطة تدمر الأثرية


الشكل 2-أ: المقالع الغربية


الشكل 2-ب: نظرة قريبة للمقالع الغربية

رغم عدم وجود عمليات تنقيب في هذه المقالع إلا أنها قدمت معلومات في غاية الأهمية، منها ما يخص التقنيات التي كانت متبعة في نحت القطع الحجرية، الوضع المعيشي للعمال، الأدوات، وطريقة استخراج القطع الحجرية قبل أن يتم تحويلها إلى الشكل المطلوب، وعملية نقل الحجارة. وتعتبر المقالع الشمالية الشرقية من أهم المقالع في تدمر وأكبرها والأكثر حفظاً حتى الوقت الحاضر.

الشكل 3: المقلع الجنوبي الشرقي

تقع تلك المقالع إلى الشمال الشرقي من مدينة تدمر على بعد 15 كم وتتميز بامتدادها على مسافات كبيرة بشكل طولي (الشكل 4) وتأخذ جدرانها شكلاً قائم الزوايا مفتوحاً في الوسط (الشكل 5)، وذلك لتسهيل العمل ونقل القطع الحجرية، وفي نفس الوقت استخدمت مغاور محصنة طبيعية كمساكن لعمال المقالع، فقد عثر على منازل حجرية كانت مخصصة لسكن العاملين في تلك المقالع، بنيت من بقايا الحجارة المهملة مع مداخل قابلة للإغلاق وموجهة نحو مداخل المقالع الحجرية (الشكل 6)، كما تمّ العثور أيضاً على بقايا أعمدة كانت تنتظر نقلها إلى المدينة (الشكل 7)، قسم منها مكتمل والقسم الآخر لم ينجز بالشكل النهائي ولسبب ما بقيت مكانها[5].

الشكل 4: مخطط المقالع


الشكل 5: شكل المقالع


الشكل 6: أحد منازل عمال المقالع


الشكل 7: بقايا الأعمدة

تقنيات العمل:
إنّ الدراسات التي تناولت موضوع المقالع الحجرية في تدمر نادرة، والدراسة الوحيدة المنشورة عنها تتمثل بمقالة الباحث الألماني شميت- كولونيه السابق ذكره. إلا أن المعلومات المنشورة في ذلك البحث تتناول تلك المقالع بشكل عام دون التطرق إلى تقنيات العمل ومراحله، أو الأدوات المستخدمة في استخراج القطع الحجرية ونحتها. سنحاول هنا إلقاء الضوء على بعض الجوانب المتعلقة بمراحل العمل[6] وذلك بالاعتماد على المعلومات المتوفرة عن مقالع تدمر ومقارنتها بمثيلاتها في سورية ومناطق أخرى مؤرخة في نفس العصر.

أ. مرحلة اختيار مكان الحفر وتهذيبه:
يبدأ العمل بإزالة الطبقات السطحية الهشة غير المتماسكة على مساحة معينة ومن ثم يتم تنظيفها بشكل جيد، يلي ذلك الحفر بشكل عمودي وبشكل متدرج حتى عمق يصل إلى 2-3 متر أو أكثر وذلك بهدف الحصول على سطح صلب مصقول مستوي (الشكل 8)، ويتم التخلص من نواتج الحفر وترحيله خارج موقع العمل لتبدأ بعدها المرحلة الثانية.

الشكل 8- أ: المرحلة الأولى من العمل


الشكل 8- ب: رسم توضيحي للمرحلة الأولى من العمل

ب. مرحلة اختيار الكتل واقتلاعها:
تتمثل هذه المرحلة باختيار حجم الكتل اللازمة وتحديدها بناء على الشكل المراد عمله، أي إذا فرضنا أنهم بحاجة لعمود فإن اختيارهم للكتلة يجب أن يتطابق مع حجم العمود وقطره، وهنا يتم تحديد حجم الكتلة وطولها فوق السطح المستوي من ثلاث جهات باعتبار أن الجهة الرابعة محفورة مسبقاً وهي التي ستشكل نقطة اقتلاع الكتلة، ومن ثم يعمدون بعد ذلك إلى طرق مكان التحديد بمطرقة لها رأس مدبب من الجهتين ويستمرون بالحفر بشكل عمودي حتى عمق معين حسب نوع القطعة المراد تصنيعها، وهنا تصبح الكتلة محررة من أربع جهات من الأعلى (الشكل 9)، ليصار بعدها إلى اقتلاع الكتلة يتم عمل عدة حفر صغيرة في الجزء السفلي من الكتلة بمسافة متساوية ويوضع في كل حفرة إزميل معدني طويل إلى حد ما له رأس عريض غير مدبب وتطرق هذه الأزاميل بشكل متقطع أي بمعدل طرقة أو اثنتين فوق كل إزميل والهدف من ذلك تفادي تكسر الكتلة من جهة دون الأخرى[7]، وتستمر عملية الطرق حتى تبدأ الكتلة بالتشقق بشكل منتظم ومن ثم تنفصل عن السطح الأساسي[8]، لتبدأ بعدها مرحلة نقلها إلى مكان التشذيب وتحويلها إلى الشكل المطلوب (الشكل10).

الشكل 9: مرحلة التحديد والحفر


الشكل 10- أ: طريقة اقتلاع الكتلة


الشكل 10- ب: طريقة اقتلاع الكتلة


الشكل 10- جـ: طريقة اقتلاع الكتلة

ج- مرحلة تشذيب الكتل:
تُنقل الكتل التي تمّ اقتلاعها خارج المقلع وذلك بهدف تشذيبها وصقلها وتحويلها إلى الشكل المطلوب، وتتطلب عملية النقل جهوداً كبيرة بسبب ثقلها وكبر حجمها. لقد كانت آلاتهم بدائية تعتمد بالدرجة الأولى على القوة العضلية وقوة الحيوانات، وتتكون مواد آلاتهم لرفع تلك الكتل ونقلها من القطع الخشبية والمعدنية والحبال بالإضافة إلى قوتهم العضلية (الشكل 11). يتم نقل الكتل إلى المكان المخصص وهنا يبدأ عمل فريق آخر بتهذيب الكتل وتشذيبها عبر عدة مراحل تبدأ بالتخلص من الزوائد على السطح والأطراف ومن ثم تشذيب الأطراف حسب الشكل المطلوب (الشكل 12) ومن ثم صقل القطعة بالأدوات المخصصة لذلك (الشكل 13). وهناك فرضية أخرى تذكر نقل الكتل إلى المدينة حيث يتم النحت النهائي لها كاملاً في مواقع التركيب حسب الشكل المراد نحته من أعمدة أو تماثيل...الخ[9].

الشكل 11: عملية رفع الكتل ونقلها


الشكل 12: مراحل التشذيب


الشكل 13: أدوات العمل

د- مرحلة نقل القطع:
هناك العديد من زوار المواقع الأثرية الذين تعتريهم الدهشة عندما يرون القطع الحجرية الكبيرة كالأعمدة أو المداميك ويتساءلون عن طريقة استخراجها ونقلها، وعن الآلات التي كانوا يستخدمونها، لا سيما أن المقالع تبعد كثيراً عن المدينة. وقد تعددت طرائق عمليات النقل وتطورت من فترة إلى أخرى، وقد اعتمد التدمريون دون شك في عملية النقل هذه على القوة العضلية للعمال لتجهيز الطرقات وتسويتها وعلى الحيوانات في عملية جرها إلى المدينة، والتطورات التي حصلت تمثلت بأشكال الآلات وموادها. حيث نجد عدة نماذج لآلات النقل في العالم القديم، كانت القطعة الحجرية في البداية تُجر بواسطة الحيوانات مباشرة فوق الطريق وهذه الطريقة كانت تستغرق وقتاً أطول، ثم أصبحت فيما بعد توضع فوق عربات تجرها عدة أحصنة أو بغال وجُهزت لنقل أكثر من قطعة في النقلة الواحدة (الشكل 14)، حيث أن مسيرة التطور كانت مرتبطة بتوفير الوقت والجهد[10]، ولم يقتصروا على تطوير تقنيات النقل إنما عمدوا إلى تطوير أدوات النحت والقص والتشذيب، ففي تدمر كما في مواقع أخرى من الدولة الرومانية تمّ استبدال الفأس المروّسة بمطرقة الطرق الثقيلة الرومانية في بداية القرن الثاني الميلادي، وهذه الأداة الجديدة سمحت باستخراج كتل كبيرة بجهد أقل ووقت أقصر. من جانب آخر قدمت دراسة المقالع تسلسلاً زمنياً للمباني المختلفة في تدمر ولمراحل بناء تدمر بدقة أكثر من خلال الملاحظات التي جمعت من تلك المقالع ومقارنتها مع ما هو قائم في مباني المدينة[11].

الشكل 14- أ: وسائط نقل الكتل الضخمة


الشكل 14- ب: وسائط نقل الكتل الضخمة


الشكل 14- جـ: وسائط نقل الكتل الضخمة

كما أمدتنا المقالع بمعلومات غنية وهامة عن الظروف المعيشية للعمال، وعن الأدوات التي كانوا يستخدمونها ونمط حياتهم. وكنا قد ذكرنا سابقاً عدم وجود أية عمليات تنقيب في تلك المقالع التي من شأنها أن تغني الدراسات عن أدق التفاصيل في حياة العمال اليومية كالمأكل والمشرب، إقامتهم دائمة أم مؤقتة، عدد الورشات الموجودة، طريقة تنظيم العمل وغير ذلك من المعلومات المجهولة حتى الوقت الحاضر والتي تتعلق بعمال المقالع.

الحواشي:
[1]- للمزيد حول مواد العمارة الجنائزية في تدمر راجع


1949 , La tour funéraire de Palmyre, Syria, XXVI, Paris. ; WILL E
GAWLIKOWSKI M;1970, Monuments funéraire de Palmyre, Warszawa.


[2]- راجع


SCHMIDT-COLINET A; 1995, The quarries of Palmyra, ARAM, vol,7, pp. 53-58.


[3]- هناك بعض الباحثين الذين قاموا بزيارة المقالع المذكورة أعلاه أمثال الباحث الألماني شميت- كولونيه الذي قام بدراسة وتوثيق المقالع الشمالية الشرقية إلا أنه لم يشر في دراسته إلى أية معلومات عن المقالع الأخرى.

[4]- أثناء الزيارة الميدانية للموقع التقيت أحد العاملين في المقلع الحديث وقد أعلمني بأن نوعية الحجر الذي ينتجها المقلع تتمتع بجودة عالية وأن قسماً كبيراً منها يتم تصديره إلى خارج سورية، وقد نوه الباحث عدنان البني إلى أن نوعية الحجارة الشبيهة بالرخام المستخدمة في أبنية تدمر تشبه نوعية الحجارة الموجودة في ذلك المقلع (انظر البني، عدنان. الأسعد، خالد: تدمر، ط 4، 2003، ص 146).

[5]- شميت- كولونيه، أندريه: 2005، المقالع الحجرية في تدمر، ت: هاني صالح- محمد قدور، أمكنة وأزمنة، منشورات المعهد الألماني، دمشق، ص 92، 93.

[6]- لمزيد من المعلومات عن تقنيات استخراج القطع الحجرية من المقالع وطريقة نحتها راجع:


BESSAC JC; 2007, Le travail de la Pierre a Petra, Paris.


[7]- راجع:


BESSAC JC, ABDUL MASSIH J; 1997, Doura-Europos Etudes, De Doura- Europos a Aramel, IV, Beyrouth, pp. 160-181.


[8]- حول عملية اقتلاع الكتل ذكر الباحث عدنان البني طريقة أخرى تتمثل باستخدام أسافين خشبية يتم وضعها داخل الثقوب المفرغة في الكتل الصخرية، ومن ثم تسقى بالماء فيزداد حجم الإسفين الخشبي مما يؤدي إلى تشقق الكتلة الصخرية عبر مستويات الثقوب المفرغة. وما نود أن نشير إليه أن أغلب الباحثين الذين تناولوا موضوع المقالع في العصرين الهلنستي والروماني ذكروا استخدام الأزاميل المعدنية في عملية اقتلاع الكتل الصخرية (المرجع السابق، ص 146).

[9]- البني والأسعد: 2003، ص 146.

[10]- راجع:


KOWELJ T;1988, Transport de pierres en grece de la carrier au chantier, Marbres helléniques, Bruxelles, p. 122, 123.


[11]- شميت كولونيه، أندريه: 2005، ص 93.

المصادر والمراجع العربية:
- البني، عدنان. الأسعد، خالد: تدمر، ط 4، 2003.
- سعد، همّام: المدافن التدمرية، أطروحة ماجستير، جامعة دمشق، 2007.
- شميت- كولونيه، أندريه: 2005، المقالع الحجرية في تدمر، ت. هاني صالح- محمد قدور، أمكنة وأزمنة، منشورات المعهد الألماني، دمشق.

المصادر و المراجع الأجنبية:


BESSAC JC; 2007, Le travail de la Pierre a Petra, Paris.
- Doura-Europos Etudes, De Doura- Europos a Aramel, IV, Beyrouth, 1997.
- GAWLIKOWSKI M;1970, Monuments funéraire de Palmyre, Warszawa.
- KOWELJ T; 1988, Transport de pierres en grece de la carrier au chantier, Marbres helléniques, Bruxelles.
- SCHMIDT-COLINET A; 1995, The quarries of Palmyra, ARAM, vol,7.
- L architecture funéraire de Palmyre, Archéologie et histoire de la Syrie, Saarbrucker Druckerei und verlag, Germany, 1989.
1949 , La tour funéraire de Palmyre, Syria, XXVI, Paris. - WILL E


إعداد: همّام شريف سعد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

فادي بصبوص:

عنجد شــــــــــــكرا


كتير ألكون على هالمعلومــــــات الحلوة خلي العالم تتعرف أكتر عبلدنا



تحياتــــــي

والله يوفقكــــــون



سوريا

عيسى داود:

تقبرو قلبي على هالمعلومات شو خطيرة الله يخليلنا ياكن فوق راسنا يا كبار

شكرا حبيبات قلبي

يسلموووووووووووووووووووووووووو

سورية