نزع الأنسنة

إن نزع الأنسنة La déshumanisation بمختلف أشكاله، هو عنصر آخر من عناصر الفن البورجوازي الحديث. والقول بأن مثل هذا الفن هو معادٍ للإنسانية، لا ينتج البتة عن فكرة ماركسية مسبقة؛ إن نظريي الفن، الذين هم على نقيض الماركسية، يقولون الشيء ذاته، ويرحبون غالباً بنزع الأنسنة هذا بوصفه مزية وعلاقة تقدم. وقد كتب أندريه مالرو يقول: "... ثمة من يقول: إن الفن، إذا أراد أن يبعث، يجب أن لا يفرض علينا فكرة المدنية، وذلك لأنه لابد من استبعاد كل نزعة إنسانية منذ البداية... لقد كانت الفنون الإنسانية حلية لحضارتهم؛ إن ظهور الفنون غير الإنسانية، بإسهامه في جعل الفن ميداناً نوعياً، كان يوحد الفنانين فيما بينهم، بقدر ما كان يعزلهم أكثر عن ثقافة (وعن مجتمع) عصرهم".
إن مثل هذا التأكيد يعترف بأن الفنان متغرّب عن المجتمع وعن الإنسانية وأنه متحول عنهما، ولكن المؤلف أقرب إلى الاغتباط منه إلى القلق. إن أفكار عصر النهضة، والثورة الديموقراطية البورجوازية (العقل والنزعة الإنسانية، والإنسان "مقياس كل شيء" خالق ذاته، وخالق واقع اجتماعي هو في سبيل التطور) إنما هي أفكار مرفوضة باشمئزاز، ويتحدث مالرو عن "عودة الشيطان" ويضيف قائلاً:
"إن دنيا الشياطين، هي دنيا كل ما في الإنسان، ويطمح إلى تدميره، إن لشيطان الكنيسة،وشيطان فرويد، وشيطان بيكيني ذات الوجه. وبقدر ما تظهر الشياطين الجديدة في أوروبا، يزداد فنها اهتداء إلى أسلافه في الثقافات التي عرفها الأقدمون... فالأصنام التنبؤية، المنضّدة في المتاحف الملتهبة أشبه بعرائس الشعر، تنظر الى مدن غربٍ ما أصبح أخوياً، وتمزج آخر خيوط الدخان الرقيق بدخان الأفران التي أعدت لحرق البشر...".
ففي هذا العالم المستلب، حيث الأشياء وحدها لها قيمة، أصبح الانسان شيئاً بين الأشياء: وهو أيضاً في الظاهر أكثرها عجزاً، وأكثرها حقارة. ومنذ ظهور الحركة الانطباعية، تحلل الكائن البشري إلى نور ولون، وعومل كظاهرة طبيعية بسيطة لا تختلف عن غيرها بشيء. لقد قال سيزان: يجب أن لا يظهر الإنسان. وقد تموّه الإنسان أكثر فأكثر، وأصبح بقعة من اللون بين بقع أخرى، وكفّ نهائياً عن أن يكون حاضراً في المناظر الطبيعية المستوحدة، والشوارع المقفرة. أو لعله شوّه، لا عن طريق الذهول كما حصل في الفن القوطي (الذي تشتق منه الانطباعية)، بل باعتباره آلة يمكن تفكيكها، ومثالاً شبيهاً بالمنشآت التكنيكية، وشيئاً عبثياً وشيطانياً. إن الإنسان، المتغرّب عن ذاته، يتمثل بشكل صنم، وقناع، وفزّاعة؛ إن "الطابع الصنمي للبضاعة" الذي تحدث عنه ماركس، قد انتقل إلى الانسان أو استحوذ عليه بشكل تام.
إن نزع الأنسنة لمعروف أيضاً في إزالة الذاتية التي يميزها الكثيرون من نقّاد الأدب بوصفها سمة أساسية في الشعر الغنائي الحديث. إن الذات (شخصية الشاعر) تنسحب من المشهد (وهذا الانسحاب، كما نذكر، قد بدأ به فلوبير وتتخذ القصيدة طابعاً لا ذاتياً، "وموضوعياً" في الظاهر. غير أن هذه الموضوعية ليست موضوعية الأثر، حيث الجماعة الاجتماعية والفئة أو الطبقة تجد تعبيراً عنها، ويحس فيها الشاعر بأنه أداة جماعة حية؛ فالشاعر، على عكس ذلك، يخترع "أنا" تنأى عن الوعي، يخترع هوية "id" كما كان يقول فرويد، وهذه الهوية، المجذرة في ماض قديم أو أسطوري، تصبح العنصر الذي تكشف عنه القصيدة. ويعزى إلى رامبو قوله: "إن تفوقي يعود إلى كوني بدون قلب". وكان رامبو يقول أيضاً بصدد الشاعر:
"أنا" هي شخص آخر. وإذا ما تحول النحاس إلى بوق، فليس ذلك خطأ ناجم عنه. هذا واضح بالنسبة لي: إنني أشهد تفتح فكري: فأتأمله، وأستمع إليه: وأحرك قوسي: فتتحرك السمفونية في الأعماق، أو تقفز قفزة واحدة إلى المسرح... فمن الخطأ القول: إنني أفكر. فالأولى أن يقال: إني موضع للتفكير".
إن إزالة الذاتية لتركز على الوهم القائل أنه باعتماده على الـ"id" الفرويدية يستطيع المرء أن يجعل الأشياء الخرساء تتكلم، على نحو ما حاول جويس أن يفعل في روايته "فيننغانس ويك"، حيث كوّن لغة تزعم أنها لغة الريح أو الماء. ليست الأشياء، في الواقع هي التي تتكلم، وإنما هو الإنسان الذي يضع نفسه موضع الأشياء، وقد فقد ثقته بوعيه، وأصبح يثق فقط بتداعي الأفكار في اللاوعي. ويستشهد غوتفردبن بنظرية ليفي برول القائلة بأن الفكر المنطقي أدنى بكثير من الذهنية السابقة للمنطق، لأن هذه الأخيرة "هي أكثر عمقاً وتتحدر من مكان أبعد". فهو يتحدث عن "أنا عريقة الامتداد في المسارب الاحتقانية"، التي هي أداة الشعر. "اهبطي، أيتها "الأنا" لكي تندمجي مع "الكل"؛ وتعالي إلي أيتها "الزمر المتهللة: أيتها الرؤى، والسكرات، الساكنات الصباح".
فبدلاً من الجماعة الاجتماعية التي لم يعد يؤمن بها، يخترع الشاعر الانحطاطي جماعة اسطورية قديمة جداً، كونية، يعتبر أنها المنبع الحق لكل شعر.
إن نزع أنسنة الفن والأدب لا تتجلى فقط في اختفاء الانسان أو تشويهه، أو في انحطاط "الأنا" وحسب، بل تتجلى أيضاً في موقف مضاد للإنسانية يتخذ غالباً طابع نقد اجتماعي فظ. ولنأخذ مثالاً ساطعاً: رواية الإثارة الأميركية. ليس هنا مجال مناقشة وظيفتها، التي هي على نطاق واسع، تهدف إلى الحلول محل الملحمة البطولية التي فقدناها، كما فقدنا بطلها "الإيجابي" الخارج ظافراً من كل أنواع التجارب المثيرة، مع إسرافه في النشاط، وغيابه التام عن التحليل السيكولوجي. وإني لأكتفي بالتلميح إلى هذه الرواية كمثل نموذجي عن نزع الأنسنة في الأدب. ولنترك جانباً كتب سبيلان المرعبة، ولنذكر داشييل هامث، الكاتب الأصيل الذي اخترع نموذجاً جديداً من رواية الإثارة. ففي نهاية روايته "الصقر المالطي" ثمة مخبر خاص، ليس على شيء من الخلق، يسلم عشيقته للعدالة وللكرسي الكهربائي. وهو يوضح لها، بمنطق بارد، لماذا يقدم على ذلك: لأن المال، والنجاح وحياته الخاصة هي أكثر أهمية من كل عاطفة. وعندما تسأله قائلة: "ألم تعد تحبني؟"، يجيبها: "إنني لا أدري ما معنى هذا. فهل ثمة من يحب أبداً؟ ولكن، لنفرض أنني أُحبك. فماذا بعد؟ قد لا أُحبك في الشهر القادم... وماذا سيحصل؟ سأشعر بأنني كنت غبياً. وإذا ما كنت أُحبك، وحكم علي، سأتأكد عندئذ من أنني قمت بدور الغبي. وإذا ما أصبحتِ أنت محكومة، فسوف يسبب لي ذلك كثيراً من الحزن، وسأقضي بعض الليالي القاسية، ولكن ذلك سينقضي".
ففي هذه الرواية، وفي غيرها، يصور داشييل هامث، الرأسمالية الأميركية بصدق جارح، بل برعب وسخط. لكن موقفه ("الأمور تسير كذلك") يقبل بالنزعة المعادية للإنسانية كنقطة انطلاق، ويعرض عملية نزع الأنسنة عارية، دون أي تكلف فلسفي.
وهناك العديد من الأمثلة الأخرى، لا في عداد روايات الإثارة وحسب، بل في الأنواع الأخرى من الأدب البورجوازي الحديث. الإنسان أصبح لا شيء والنجاح هو كل شيء.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق