الكهف السحري

لنتفحص الآن، مسألة كثيراً ما طُرحت على بساط البحث، ألا وهي: إذا كان شكل المنتوجات الإنسانية يمثل تجربة إنسانية مركزة، فكيف نفسّر اللوحات الفنية الرائعة في كهوف العصر الحجري، هذه الآثار الفنية المذهلة التي أنتجها مجتمع على قسط جد ضئيل من التطور؟ نحن نستطيع أن نعتبر المنفعة بمثابة جوهر شكل الأموات، والفخاريات أو المساكن، ولكن، بمقابل لوحات العصر الحجري المنقوشة على الصخور، في أفريقيا، وبلدان إسكندينافيا، وفي أوروبا الجنوبية، ألا ينبغي لنا أن نفكر بأن قوة خلاّقة، عجيبة،، وميتافيزيقية، قوة إلهام وحدس، قوة فكرة إلهية، هي التي حملت الناس البدائيين، في ذلك العصر، على القيام بإنتاج مثل هذه الآثار الفنية؟
أود هنا أن اتخذ مثلاً، "كهف الأخوة الثلاثة" الذي اكتشفه الكونت بيغوين، مع ما في هذا الكهف من الرسوم الشهيرة جداً تمثل حيوانات، ومن رسم شهير يمثل "الساحر" متقنّعاً بقناع حيوان، وقد كتب حوله الكثير من الأشياء الأدبية. ولا نكران في أن جواميس هذا الكهف المظلم المحفور في الصخر، قد صورت ببراعة فائقة، وأن الساحر الذي يركّبها، والمتنكّر في انطلاقه، ينطوي على تعبير رائع الدلالة. ولكن بقرب هذه الآثار المستندة على ملاحظة دقيقة وعميقة للحيوانات، توجد رسوم على الصخور، أقل منها قيمة وأضعف، وليس بمقدور عمرها المديد، ولا أية رغبة تساورنا في رؤية كل ما هو بدائي، أن تخفي عنا تفاهة صنعها. وهذا ما يجب علينا أن نقوله، لأن بعض العلماء "يميلون إلى رؤية صفة شيطانية وعبقرية" في كل الأجناس البدائية، كما يزعمون بأن الإنسان المتمدن قد فقد هذه "العبقرية". والواقع، أن إنسان العصر الحجري قد أنتج كثيراً من الآثار الفنية التافهة، كما أنه أنتج بالمقابل آثاراً رائعة الجمال.
إن أجزاء المقارنة مع رسوم الأطفال، لتبدو على قسط من الأهمية. فهنا أيضاً، وإلى جانب الخطوط السيئة والناقصة نقصاً فادحاً، نجد أحياناً، أمثلة مذهلة لأشكال العالم الخارجي، ووضوحاً بديعاً في تصوير الحيوانات والأشياء، تذكّر بفن عصر ما قبل التاريخ. وهذا يعود، بلا ريب، إلى طراوة دماغ الطفل، وإلى واقع كون كل انطباع لديه لم يضطرب بعد بوعي التعقيدات والشروط الاجتماعية. فالطفل لا يرى سوى قطاع صغير في العالم، ولكنه يراه بحدّة عظيمة. لكن مثل هذه المقارنات يجب أن تكون دائماً حذرة، لأن إنسان ما قبل التاريخ كان يعيش في عالم جد مختلف عن عالم الطفل المتمدن. فطفل القرن العشرين، حتى وإن كان الأكثر استقامة وبساطة، يعاني من تأثير بنية المجتمع المعقد. والحيوان مثلاً، يمثل بالنسبة لطفل اليوم، شيئاً مختلفاً تماماً عما كان يمثله بالنسبة لصياد العصر الحجري.
وقبل أن نقيس مسافة التجربة التي تعكسها رسوم الكهوف، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذه الآثار، كانت يومذاك، الذروة، والنتيجة لعملية طويلة من التطور الفني. فلقد سبقتها آثار فنية من نوع أكثر بدائية، كما سبقتها كتل من صلصال جُمّعت بشكل أخرق، لكي ينشر عليها جلد حيوان، رغبة في محاكاة حيوان حي، وبغية تحويل انتقام مخلوقات أخرى من ذات الفصيلة. وقد كتب ليو فروبينيوس، وهو بحاثة ممتاز من حيث الملاحظة وإن كان نظرياً ذا قيمة قابلة للمناقشة، يقول:
"لقد اكتشف الكونت بيغوين، برفقة ن.كاستيري، كهفاً قرب مونتسبان، في الغارون العليا. وقد وجد نفسه، وفي نهاية سرداب، داخل غرفة ينتصب في صحنها شكل حيوان من الصلصال، وقد صنع بطريقة خشنة، دونما إعارة التفاصيل أي انتباه، ولكنه يمثل حيواناً مقعياً، يمد قائمتيه الأماميتين أمامه؛ إلا أنه بلا رأس، وهذا طابعه الخاص. إن هذا الأثر الفني كان مصنوعاً بطريقة رعناء، ويشبه رجال الثلج التي يصنعها الأطفال في الشتاء. غير أن خشونته لم يكن بمقدورها تفسير غياب الرأس... إن مجموع هذه الصورة، ضمن حدودها العامة، مع الشكل الخاص للقوائم، والكفل القوي، العالي والمستدير، كانت تشير إلى دب؛ وبالفعل، فقد اكتشف الكونت رأس دب بين قائمتي الحيوان الأماميتين".
وقد كتب فروبينيوس أيضاً، بصدد القبيلة الأفريقية "كوليبالي" يقول: "كلما افترس أسد، أو فهد رجلاً، كانت تقام ذبيحة في الغابة، ويُقتل الحيوان. وكان هناك مكان خاص يدعى "موليكوري نياما"، معدّ في الغابة، وهو كناية عن سياج من اشواك مستدير الشكل، وضع في وسطه شكل صلصالي لا رأس له، يمثل حيواناً مفترساً. وعندما يُقتل الأسد، أو الفهد، يُسلخ جلده، ما عدا رأسه، ويوضع الجلد والرأس حول الكتلة الصلصالية. ثم يتحلق المقاتلون حول السياج، حيث تكون صورة الحيوان في الداخل، فيما الصيادون يرقصون في الخارج. وفي هذا الوقت تجري عملية دفن جسم الحيوان".
إن هذه الكتل الصلصالية، التي كان الإنسان البدائي ينشر فوقها جلد حيوان، كانت أولى الآثار التشكيلية في التاريخ البشري. وقد كانت قليلة الشبه بما نسميه نحن اليوم بالفن؛ وكان هدفها الوحيد استعطاف العالم الحيواني، أي اكتشاف سلطة على الواقع بواسطة صورة. ولكن، منذ أن أخذ الناس يعيدون تكوين شكل الحيوان، كان لابد لهذا النوع من الإنتاج أن يتطور، أسوة بغيره، وأن يصبح أكثر دقة. ولأسباب سحرية، كان مهماً الحصول على أكبر قدر ممكن من التشبيه، وعلى شيء من التماثل بين الصورة ومثالها. وقد حصل هذا التماثل يومذاك، بفضل جلد الحيوان المقتول؛ ولكن عندما بدأ الانسان يصنع صوراً بدون جلد الحيوان ورأسه، (وربما كان ذلك بقصد إنتاج جماعي) أصبح التماثل، في أعلى درجاته، مطلباً سحرياً. وإننا نستطيع أن نفترض بأن جلد الحيوان ورأسه قد استبدلا بدمه. ذلك لأن الإنسان البدائي في مفهومه للسحر، لم يقبل فقط، بقانون الجزء من أجل الكل (أو بعبارة أخرى، يصبح المرء سيد أحد المخلوقات عندما يستولي على جزء منها) بل كان يعتبر أيضاً، أن الدم هو بمثابة الجوهر الحقيقي للحياة. وهذا الافتراض يستند على وقائع عديدة، ويكفي أن نشير إلى اثنين منها: أن قبيلة الصيادين الأفارقة المعروفة باسم "كوردوفان"، تؤمن بأنها تصبح سيدة فريستها، تماماً، إذا ما صبّ الصياد دم الحيوانات المقتولة في قرن سحري. ويقول فروبينيوس بصدد احتفالات التلقين عند هذه القبائل، مايلي:
"يُقتل ظبي، أو غزال، سواء كان ذلك في بداية الاحتفال أو في أعقابه، ويقتلع أحد قرنيه؛ حيث يملأ في المستقبل بدم الطريدة المقتولة. ويمكن استخدام قرن الجاموس، مثلما يستخدم قرن الغزال. وقد رسمت رسوم الكهوف بدماء الظباء المقتولة".
فبواسطة الدم، وبتشبيهها بالمثال الأساسي، تصبح الصور "متماثلة" بأنموذجها؛ وإذا ما أراد الإنسان، بالتالي، أن يرسم حربة في المكان الذي يريد أن يطعن فيه الحيوان، يُصار عندئذ إلى اعتبار أن الحيوان أصبح معداً عملياً للموت، وأن النجاح في الصيد أصبح مضموناً. ونستطيع، في الواقع، أن نرى حراباً في صور الجواميس الموجودة في كهف "الإخوة الثلاثة". فكيف نفسر التشابه المذهل بين الصورة وبين الحيوان ذاته؟
لقد كان هذا التشابه فريضة سحرية؛ فصياد العصر الحجري، من خلال مراقبته طريدته بدقة، كان قادراً تماماً على أن يرى نسبة كبر وجه الشبه، وبقدر ما كان الشبه كبيراً، كان يظن بأن الصورة ستكون أكثر فعالية. إذن، يحق لنا أن نفترض بأن الفنان العامل في كهفه، لم يكن يشتغل في جو من الحرية التامة، بل كان الناس ينتظرون منه أن يأتيهم بالأشكال الأكثر فائدة، أي تلك التي تصور أكبر وجه للشبه مع المثال الأصلي، وذلك على نحو ما يحصل في إنتاج الأدوات، حيث ثمة أشكال تفرض نفسها شيئاً فشيئاً. وما نسميه بالأسلوب ليس، بعد كل شيء، سوى استخدام الأشكال المقبولة والمناسبة. ومن جهة أخرى، لم يكن إنسان العصر الحجري يكتفي بمراقبة طريدته جيداً؛ فإذا كان على صيده أن يتكلل بالنجاح، عليه أن يبذل جهداً لكي يماثل هذه الطريدة. وما نسميه بالحدس الفني ليس سوى سقط إنتاج هذا "التماثل" الضروري من وجهة عملية. فالصياد يقلد الحيوان؛ وهو في رقصات الصيد، يرتدي جلد حيوان، ويقلده في خطواته وفي حركاته، ويتشبه به إلى حد ليس بمقدورنا تصوره اليوم. وأخيراً، فإن الخط الفاصل بين العالم الإنساني والعالم الحيواني لم يكن محدداً بوضوح في ذهن إنسان ما قبل التاريخ؛ ذلك لأن هذا الإنسان كان يشكل جزءاً من عالم الحيوان، ولم ينفصل عنه الا ببطء. وقد كتب العالمان في أصل الأجناس، كلاتش، وهيلبورن، يقولان:
"إن إرضاع صغار الحيوانات من قبل النساء، لعادة واسعة الانتشار بين الشعوب البدائية. وذلك، كما لو كان المتوحشون أولاء لم يعرفوا بعد الشعور بالعزة الإنسانية، وأنهم يشعرون بأنهم حيوانات بين الحيوانات... وكما أن المرأة الأوسترالية تقدم نهدها لجرو الكلب (ويلاحظ يونغ في هذا الصدد، أن ثمة حالات كان فيها الأب يقتل طفله ليجعل امرأته ترضع جراء الكلاب) فإن النساء البولينيزيات يرضعن غالباً الكلاب. ويشير ثيودات إلى هذا الواقع، عندما يتحدث عن الهنديات في كندا. ويقول ريمي إن الأمهات في جزر هاواي لا يرضعن أطفالهن وحسب، بل يرضعن الجراء والخنانيص. كما أن الخنازير أيضاً ترضع أثداء نساء قبيلة "البابو" في نيومكلنبورغ، وجزر موريس في زيلندا الجديدة. ومن جهة أخرى، فإن نساء العديد من القبائل الهندية في أميركا الجنوبية ترضع السعادين أيضاً، والأيائل الخ....".
وعندما أصبح الإنسان صياداً، انحفرت فجأة بين عالم الإنسان وعالم الحيوان وهدة مليئة بالدم: لقد أصبح الانسان قاتل حيوانات، بالرغم من أنه ظل يعتبرها أسلافاً له وأقارب. لقد دمّر بذلك وحدة الحياة، وبرغم أنه حاول باستمرار أن يوهم نفسه حول طبيعة جريمته، بزعمه أن أكل الحيوان المقتول هو مجرد "تمثله"، وأن الحيوان يستمر إذن، في الحياة، داخل الجهاز العضوي البشري، فهو مازال يخاف انتقام الحيوانات التي كانت أسلافه وإخوته. فالمرأة ترضع الحيوان، والرجل يقتله؛  وهكذا فإن العديد من قبائل الصيادين توصلت إلى الاعتقاد بوجود علاقة غامضة بين نسائهم وبين طرائدهم، مع كل ما يجر هذا الاعتقاد من تناقضات.
وينبغي لنا أن نأخذ هذا كله بعين الاعتبار، إذا كنا نريد فهم الأهمية الكبيرة لصور الحيوانات بالنسبة لإنسان العصر الحجري، والالتزام الرهيب الذي يلتزم به السحَرة للسيطرة على الطبيعة بجعل صورهم شبيهة بالمثال المقلد، قدر الإمكان. ولم تكن القضية مسألة متعة خلق جمالي؛ كانت شيئاً آخر أكثر عمقاً وأشد خطورة، وأكثر إثارة للرعب من كل هذا؛ لقد كانت مسألة حياة أو موت، قضية وجود أو لا وجود للجماعة. فالساحر، كما قلنا ذلك آنفاً، يتسنّم صور الجواميس؛ وهو يرتدي قناعاً حيوانياً، ويتأمل كل الذين يدخلون بعين واسعة مرعبة. وإذا لم تكن كل هذه المظاهر خداعة، فإن كهف "الإخوة الثلاثة" كان مكاناً تقام فيه حفلات التلقين، حيث كان أعضاء القبيلة الفتيان يندمجون بالجماعة. وفي غضون هذه الحفلات، كانت تجربة الإنتاج (أي الصيد) والعمل الجنسي، وسائر القواعد والواجبات التي تقوم بها الجماعة، تنقل إلى الفتيان بإتقان رهيب، مصحوبة بأعمال التعذيب المعدة للبقاء في الذاكرة مدى الحياة. وبهذا كان الفتيان يتحدون بالجماعة الخالدة، وبالسلف البدائي الذي يعيش منتقلاً من سلالة إلى سلالة، بحيث كان يُظن في كثير من الحالات أنه ثنائي الجنس. ويصف فروبينيوس هذه الحفلات عند قبائل "المهالبي"الافريقية، فيقول:
"ليس للفتيان الحق بالمتعة الجنسية ولا بصيد الطرائد الكبيرة قبل تكريسهم. ومن أجل إكمال حفلات البلوغ هذه، كانوا يأخذونهم إلى الادغال. وهناك، كانوا ينظمون حلقات للرقص، ويطلقون صيحات مجنونة إلى أن يصبح الفتيان أولاء في حالة ذهول. وعندما يصبحون في منتهى هيجانهم، يظهر فهد (أو مخلوق شبيه بالفهد). إن مشهده لرهيب. وينذعر الفتيان ذعراً مميتاً. ويهجم عليهم هذا الحيوان ويجرحهم. وأحياناً يكون الجرح في الأعضاء التناسلية، فيحملون أثره طوال حياتهم... ويعقب ذلك أيام إقبال مفرط على المآكل. إنها الفترة التي يحضّرون فيها بعض قرون الجواميس، التي تصبح، منذئذ، عند الصيادين أدوات سحرية بالغة الأهمية، إلى أن ينقضي أجلهم. ويصبّون في هذه القرون دماء الحيوانات التي يقتلونها. أما النساء فمحظور عليهن لمس هذه القرون، وذلك لأن الحيوانات المقتولة تتحول، عندئذ، إلى نساء بارعات الجمال ينصرف إليهن الصياد بدون وعي، فيثأرن منه ثأراً دامياً...
وفي قبائل أخرى، كانوا يحجرون على الفتيان في كهف جبلي، حيث يتوجب عليهم أن يرسموا صوراً على الجدران بدماء أحد الظباء المقتولة. ويخيل عندئذ أنهم يسحقون إحدى خصيتي كل من الفتيان.
إن العلاقة الوثيقة بين سحر الصيد، وبين سحر الجنس، لا تكف عن الظهور في مئات من الأمثلة المتجانسة. الطريدة والمرأة تذوب الواحدة منهما بالأخرى. ويبدو أن "التابو" الأول، كان بمثابة تحريم للعلاقات الجنسية أثناء فترة الحيض والحمل. وعندما تكون المرأة في إحدى هاتين الحالتين، كانت تعتبر نجسة، ولعينة؛ إنها مخلوقة يبتعد عنها الرجل برهبة، رغم أنها معتبرة، في الوقت نفسه، امرأة "مكرسة". ويشير جورج طومسون إلى أن النساء اللواتي في حالة الحيض والحمل، كنّ، في كل أنحاء العالم، يلطخن أجسادهن بالأحمر بغية إبعاد الرجال عنهن، وإكثار خصوبتهن. وكان جبين المرأة، يُنقط بالأحمر في العديد من حفلات الزواج. وفي اليونان القديمة، كانت النساء اللواتي وضعن حديثاً، معتبرات نجسات، كالذي أهرق دم خنزيرة، أو لمس جثة. لقد كانت الولادة والموت يختلطان؛ المرأة النازفة كانت تمثل الموت، والمرأة الحبلى تمثل تجدد الحياة.
بين قبائل الصيادين، كان ثمة عادة مفادها أن النساء قبل ذهاب الرجال إلى الصيد، كن يرقصن لكي يخلقن جو إثارة جنسية؛ وكان على الصيادين أن لا يقدموا على أية علاقة جنسية في مثل هذا الوقت، وأن يرضوا شهوتهم بقتل الحيوانات. ويقول فريزر بأن قبائل "نوتكاسونه" الهندية، كانت مجبرة على الانقطاع عن كل عمل جنسي، خلال أسبوع صيد الحيتان. وكان الرئيس، الذي لا يمسك أي حوت، معيناً من قبل قبيلته لكي لا ينقض قانون العفة. ولهذا، فإن تماثل النساء بالطريدة لعلى علاقة جزئية ببدايات الحرب بين الجنسين، مما نستطيع أن نسميه بأول صراع طبقي في التاريخ؛ ولكن منشأه يعود، أيضاً، إلى العادة القديمة التي كانت تعتبر كل الأشياء المتشابهة، كأنها متماثلة. ويشير باشوفين إلى أنه عندما تكون لصيادي ما قبل التاريخ علاقات جنسية بنسائهم، كانوا يغرزون حربة ترابية أمام كوخهم أو كهفهم بمثابة رمز للعضو التناسلي. وقد كتب ونثيوس بصدد رقصات قبائل الزنوج، يقول:
"في نطاق التفكير الذي كان الإنسان البدائي يتماثل به بالجماعة، لم تكن الحربة التي يمسكها بيده حربة عادية، بل كانت عضوه التناسلي ذاته، ولم تكن الحفرة الموجودة أمامه حفرة عادية، بل كانت التمثيل الحي لعضو المرأة التناسلي. وكل واحد يؤكد الآخر، في هذا التصرف، مبيناً له إثارته الجنسية".
إن العمل الجنسي هو بمثابة طعن الفريسة، والمرأة النازفة دماؤها والحيوان المدمى يختلطان في مخيلة الإنسان البدائي ويصبحان عنصرين متماثلين في العملية الحيوية؛ وهذا الجو الجنسي كان، بلا ريب، يثير الساحر الذي كان يرسم صور الحيوانات على جدران كهف الأعمال التلقينية.
كل هذا يقود إلى الاعتقاد الكثير الوقوع بين قبائل الصيادين البدائية، بأن نظرة الحيوان الموشك على الموت، هي شيء يجب تجنبه، وأن هذه النظرة تثير، بوجه خاص، الأعضاء الجنسية، وتدمر الرجولة، وقد كتب فروبينيوس يقول:
"إن تملك الجزء يؤول إلى السيطرة على الكل. وليس ضرورياً أن يتخذ هذا الأمر شكل التشابك بالأيدي؛ إذ يمكن أن يتم بواسطة نداء أو صيحة، وخاصة نظرة؛ فالنظرة هي أكثر هذه الأشياء شؤماً. والعين الموشكه على الانطفاء تثير الرعب بشكل خاص".
إن عين المخلوق الحي، إن عضو النور، ومرآة الواقع، هي التي تظهر فيها الحياة بكل حدتها. فعين الإنسان الحادة تسطع بإرادته. والإنسان يعارض إرادته بإرادة إنسان آخر، بمحاولته خفض عينيه. والصياد يحس بتأنيب الطبيعة للقاتل في عين الحيوان المقتول، وهو مدمِّر الوحدة. ووحدة الطبيعة هذه، تعيش في المرأة، ينبوع الحياة والغذاء: فالحيوان الميت والمرأة يختلطان، والحياة المقتلعة تنتقم من الأعضاء التناسلية التي هي أعضاء الحياة ذاتها. وينبغي لنا أن نتذكر العلاقة الوثيقة القائمة بين هذه الأفكار، لكي نفهم صورة الساحر في الكهف، ونظرته المعبرة والمرعبة، التي يرشق بها الداخلين.
وبالاختصار، إن كهف "الإخوة الثلاثة" كان، برغم ما يخدعنا من مظاهره، مكاناً سحرياً، كانت تقام فيه طقوس التلقين. ويمكننا أيضاً أن نفترض بأن وظيفة الساحر القبلية ومشاهديه، كانت الاهتمام بهذا الكهف: فهم "الفنانون" الذين ينتجون الصور السحرية. ومهمتهم تقوم على جعل هذه الصور شبيهة بالواقع: وكانوا يعتقدون بأن الصور، مهما كبر شبهها بالواقع، تكبر فائدتها بالتالي. وقد ورث هؤلاء الفنانون سلسلة من الأشكال التقليدية، و"الأمثلة" التي انحفظت بفضل تشابهها، أو بتعبير آخر، بفضل "أسلوب" تقليدي، ولم تكن إذن خاضعة للتعلق "بحدس" عجيب.
إن مقطعاً من كتاب هربرت كوهن "ارتقاء الانسانية" ليساند هذا الاستنتاج، فهو يقول:
"لا نشك إطلاقاً في أن اللوحات السكندينافية كانت تستجيب لغاية سحرية. لقد أنتجها السحرة. ويحاول سكان اليابان في أيامنا هذه القيام بأشياء مماثلة بذات الأسلوب. وفي جنوب غربي آلاسكا، وفي منطقة معروفة باسم "كووب الميت"، وفي جزر كودياك أيضاً، اكتشفت فريديريكا دي لاغونا رسوماً لقبائل الأسكيمو، شبيهة بالصور المتأخرة التي رسمها السكندينافيون. إنها تمثل رجالاً منمنمين، كما تمثل فقمات وأسماكاً وأيائل. وقد قال بعض الأسكيمويين الذين كانوا في المنطقة للمكتشفة، إن الرسام كان ساحر القبيلة أيضاً. وقد سألتهم المكتشفة: لماذا كان الساحر يصور مثل تلك الصور؛ وقد أجابوها بأنها كانت تشكل جزءاً من طقوس الصيد السرية، وتساعد في القضاء على الحيوانات. فبواسطة هذه الصور، كان الساحر، والصيادون يحصلون على قدرة لاقتناص الفريسة.... ومما لا ريب فيه، أن السحرة قد أصبحوا قدوة، مثلما كان الأمر زمن العصر الجليدي. وإننا لنرى الشيء ذاته غالباً، في مختلف الأمكنة".
لقد ساعد السَّحرة مساعدة جلى كون واقع "تماثلهم" بالشكل الأصلي (الانصهار الجماعي للذات والموضوع) كان شديداً. كما أن جو الإثارة الجنسية الجماعية، كان يزيد من هذا "التماثل" وربما أعقب  هذا العمل جو من الانخطاف الجنسي الجماعي. وإذا ما فكرنا، أخيراً، بأن انتباه الصياد البدائي كان مركّزاً تماماً حول طريدته، لا على الملامح الخاصة أو الفردية لحيوان خاص، بل على الملامح الأساسية للنوع الذي يصطاده؛ وبعبارة أخرى، كان الشيء الذي يهمه هو حدود الحيوان، لا التفاصيل العديدة لمظهره، نكون، على ما أعتقد، وجدنا تفسيراً كافياً للأعمال الفنية في العصر الحجري. وإني آخذ بعين الاعتبار أنني أحاول إعادة تكوين الظروف والعمليات التي لا نملك بصددها غير القليل من المواد. وإنه لممكن جداً أن أهمل عوامل هامة، أو أن أحلل الوقائع تحليلاً يفسر تفسيراً سيئاً. ولكن الشيء، الذي حاولت أن أظهره، هو أنه لا حاجة لأية افتراضات غيبية أو ميتافيزيقية لكي ندرك أصول أشكال الفن البدائي، ولندرك بالتالي، الأشكال التي سبقتها. ولهذا وجدتني أطيل الاسترسال في هذا المثال الخاص.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق