الأجهزة العضوية الحية

إن اتجاهات الطبيعة الأساسية هي الأكثر ظهوراً مباشراً في العلاقات البسيطة، نسبياً، للمادة اللاعضوية؛ فهذه الاتجاهات تصبح أكثر تعقيداً بقدر ما تصبح الجواهر أكثر تعقيداً. إن الوراثة، في العالم العضوي، هي الاتجاه المحافظ، كما أن التغاير هو الاتجاه الثوري. وفي المجتمع البشري، الذي ارتفع إلى ما فوق الطبيعة، وأعدّ قوانينه الخاصة، نستطيع أن نتعرف بوجه عام، على الاتجاه المحافظ في علاقات الإنتاج، أي في الأشكال التي يتخذها الإنتاج كما نستطيع أن نتعرف على الاتجاه الثوري في القوى المنتجة، أي في المحتوى الاقتصادي المتحرك والنامي لكل التشكيلات الاجتماعية. وفي كل زمان ومكان، يقاوم الشكل، والبنية أو التنظيم القائم، كل جديد، كما أن المحتوى الجديد يفجر، حيث كان، حدود الأشكال القديمة، ويخلق أشكالاً جديدة.
فالأجهزة العضوية الحية تماثل ظروف العالم الخارجي بأشكال مختلفة. وهذا التماثل للظروف الخارجية، وهذا التحول إلى ظروف داخلية، وهذا الامتصاص والهضم للعالم الخارجي (لا الأطعمة وحسب، بل مجمل نظام ما من العلاقات) هي جميعاً إحدى الخصائص الأساسية المميزة للمادة الحية. ففي جذور النباتات مثلاً، تتحول قوة الجاذبية من ظرف خارجي إلى ظرف داخلي. وكمثل كل كتلة، تنصاع الجذور هنا إلى قانون الجاذبية (فهي "تسقط" في بطن الأرض) إلا أنها لا تكتفي "بالسقوط"، بل تندفع نحو بطن الأرض بقوة أقوى بكثير من قوة الجاذبية، التي تصبح هنا عائقاً ينتج عنه تسلسل عمليات وتفاعلات داخلية. وعندئذ يصبح التأثير المباشر لقوة الجاذبية تأثيراً غير مباشر.
إن تكوين نبتة هو نتيجة سلسلة من التبدلات الشكلية. وكل من هذه التبدلات تأتي في غضون عملية نمو غير منظم، وقد تكون غالباً دقيقة تكاد تبين. وقد يتكون هذا التبدل، مثلاً، ضمن عملية النمو الموضعي لداخل الخلية، أو عبر تطور أحد الأعضاء من جهة تفوق تطور الجهة الأخرى إلخ. إن هذه العمليات يمكن أن تُعزز أو تُعرقل حسب الرغبة، بتحويل الظروف، عن طريق الإشعاع مثلاً، أو بواسطة تغذية خاصة، الأمر الذي يؤثر بشكل حادّ على شكل النبتة. ومثل واحد يبين لنا إلى أية درجة يمكن أن تؤثر ظروف التحول الغذائي على عملية التكوين، لا بالنسبة للنباتات وحسب، بل بالنسبة للحيوانات أيضاً. وقد أثبت هارتمان بالتجربة أن الدودة البحرية المسماة "أوفريوتروشا بيوريليس" لا تلد إلا ذكوراً. فإذا تجاوز الواحد منها أكثر من 15 أو 20 قطعة دائرية، يصبح أنثى، ويتبدل شكله تبدلاً كبيراً. وإذا ما جوعت هذه الحيوانات، فإن الذكور لا تبقى ذكوراً وحسب، وإنما تتبدل منها تلك التي أصبحت إناثاً، وتتحول الى ذكور.وإننا لنصل إلى ذات النتيجة إذا ما زدنا نسبة إيونات البوتاسيوم في السائل الغذائي. وهكذا نجد أن ظروف التحول الغذائي لا تحدد الشكل في هذه الحال الخاصة وحسب، بل تحدد أيضاً جنس الجهاز العضوي الأحيائي.
إن قابلية التكيف هذه، وتغيّرية المادة الحية الهائلة، يناقضهما اتجاه محافظ نحو ثبات الأشكال. وإذا ما تآلف جهاز عضوي أحيائي مع ظروف ثابتة نسبياً، ووجد شكل توازن نسبي مع العالم الخارجي، فإن هذا الشكل ينحفظ عندئذ ضمن كل نواة خلوية ويتحول عن طريق الوراثة. وبدون هذا الثبات النسبي للشكل، لا يمكن أن يوجد أي جهاز عضوي أحيائي. وليس لهذا أية علاقة بالجهد الرامي إلى بلوغ غاية ما. إنه يعني ببساطة، أن الجهاز العضوي الحي إذا كان عاجزاً عن مقاومة الوسط الذي هو فيه، عليه أن يزول في أعقاب مدة قصيرة من وجوده، على نحو ما يتحلل العديد من المركبات الكيميائية التي ما إن تتشكل حتى تتحلل. إن الأجهزة العضوية القادرة على التكيّف والمقاومة في الوقت ذته، هي وحدها القادرة على أن تعيش. وأجنة الخلايا التي تنحفظ فيها بنية جهاز عضوي، يُظهر جهاز تفاعلاتها و"شكلها" طاقة هائلة من المقاومة، وتواجه العالم الخارجي بنزعة "محافظة عنيدة". ومع ذلك، فإن هذه "الكتلة الوراثية" ليست ثابتة ولا معصومة عن كل تفاعل مع العالم الخارجي أكثر من ثبوت الشبكة البلورية "البعيدة عن الجوهر"، كما أنها لا تمثل "مبدأ ذي طابع خارج المكان".
إن شكل الأجهزة العضوية الحية ليس ثابتاً لا تغيّر له، وإذا ما أعطينا نبتة "محتوى" جديداً (عن طريق تبديل طريقة غذائها بكل ما في الكلمة من معنى، وبإجراء عمليات تهجين أو تطعيم، وكلها إجراءات ترمي إلى قيام نوع من حيّز تحول غذائي، بواسطة فرض ظروف خارجية جديدة بشكل مركز) فإن شكلها سيتبدل أيضاً، وبرغم أن ميلها إلى العودة للشكل القديم يكون جد قوي، فإن أشكالاً جديدة ستظهر بدورها بشكل صلب، وتصبح الصفات الناتجة عنها قابلة للانتقال في بعض الظروف. ولهذا فإن كلمات غوته في تمجيد الطبيعة لا تزال صحيحة: "إنها أبدية التبدل ولا تعرف لحظة سكون واحدة. وليس لها أية معرفة بالراحة، وقد أطلقت لعنتها على كل ما هو سكوني...".
إن الشكل، "السكون"، في حالة توازن ثابتة نسبياً، لهو دائماً عرضة للدمار من قبل المحتوى الجديد وتبدلاته.


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق