الواقعية الاشتراكية

إن مكسيم غوركي هو الذي صاغ عبارة "الواقعية الاشتراكية" في مقابل "الواقعية النقدية" وقد أصبح هذا النقيض اليوم مقبولاً لدى الباحثين والنقاد الماركسيين.
غير أن مفهوم الواقعية الاشتراكية، المشروع تماماً بحد ذاته، قد أُسيء فهمه كثيراً، بحيث أنه أطلق خطأ على لوحات أكاديمية، تاريخية، وشعبية، كما أطلق أيضاً على روايات ومسرحيات قائمة أساساً على التجميل والدعاية. ولهذا السبب، ولبعض الأسباب الأخرى، يخيل إلي أن من الأفضل استخدام عبارة "الفن الاشتراكي". فهي تصف بوضوح موقفاً، لا أسلوباً؛ كما أنها تؤكد على المفهوم الاشتراكي، لا الطريقة الواقعية. إن الواقعية النقدية هي، بعبارة أوسع أيضاً، الأدب والفن البورجوازي بمجموعهما (أي، كل الأدب والفن البورجوازيين العظيمين) يتضمنان نقداً للواقع الاجتماعي المحيط. أما الواقعية الاشتراكية، وبعبارة أوسع أيضاً، والأدب والفن الاشتراكيين بمجموعهما، فإنهما يتضمنان موافقة الفنان والكاتب الأساسية على أهداف الطبقة العاملة والعالم الاشتراكي الذي هو قيد النشوء. وواقع كون هذا التمييز ناتجاً عن موقف جديد، لا عن مجرد معايير أسلوبية جديدة، قد كان في الغالب محاطاً بالغموض بسبب أساليب التدخل الإداري في الفنون التي ظهرت زمن ستالين. ولكن عقب المؤتمر العشرين، كفّ الالتزام الصارم بنظرية ماركسية شديدة "غرانيتية التلاحم" monolithique في الفنون عن أن يكون إجبارياً، وبرغم أن الاتجاهات المحافظة ما برحت قوية، فثمة مفاهيم فنية جد متباينة تتواجه ضمن الإطار الأساسي للماركسية.
وإليكم هذا المثال: كتب إيليا فرادكين، وهو نظري سوفياتي شاب، في مجلة "الفن والأدب" يقول أن من الخطأ الاعتقاد "... بأن صيغة جامدة، كائناً ما كانت، قد بلغت صيغة الحقيقة القطعية بمجرد أنها تكررت خلال سنوات عبادة الشخصية... وبأي فقدان للتمييز، وبأية طريقة لا مبرر لها، قد لفظ قرار "الانحطاط" بخصوص أكثر مظاهر الفن الغربي تبايناً، في غضون هذه السنوات! إن فن وأدب ما بعد 1848 وخاصة فن وأدب القرن العشرين، قد كانا معتبرين منحطّين بلا هوادة، وكذلك كان شأن سائر الاتجاهات الأدبية والفنية... إن مسألة الحركات الفنية في القرن العشرين لمرتبطة بقضية أوسع من ذلك، هي قضية العلاقات المتبادلة بين الواقعية وبين الحركات والمناهج الفنية الأخرى. وفي هذا المجال أيضاً، لخّص كل شيء، أثناء سني عبادة الشخصية، في هذه الصيغة المغرية والبسيطة إلا أنها جامدة للغاية، وتافهة بالمعنى العلمي، ألا وهي: الفن الواقعي التقدمي من جهة، ومختلف التيارات المضادة للواقعية، والرجعية بشكل جوهري من جهة أخرى. ولكن، في هذه الحال، أين نضع فنانين لا يرقى إلى عظمتهم شك، أمثال المسرحيين الكلاسيكيين موليير وراسين، وأمثال الرومنطيقيين هولدرلن ووالتر سكوت، أو أمثال من جاؤوا في أعقاب الحركة الانطباعية كفان غوغ، وغوغان؟ الخروج من هذا المأزق كان جد سهل: كان يُعترف بعظمة هؤلاء الفنانين، ولكن رغماً عن ارتباطهم بتلك الحركات المشار إليها آنفاً، وبقدر ما يمكن الكشف في آثارهم عن عناصر واقعية فقط. ولكن، هل مثل هذه الطريقة تحل المسألة؟ ألم تكن الكلاسيكية والرومنطيقية والانطباعية تتضمن حقائقها الفنية الخاصة، كما تتضمن حدودها التاريخية والجمالية في الوقت نفسه؟ ألم تكن عظمة راسين في الوقت نفسه عظمة المثل الكلاسيكية العليا للأخلاق وللإنسانية المتجسدة في تراجيدياته؟ ألم تكن عظمة هولدرلن مرتبطة بسحر الأحلام الشعرية للرومنطيقية الثورية؟".
وقد نشر في العدد التالي من المجلة جواب أحد القادة الثقافيين في الجمهورية الديموقراطية الألمانية، يقول فيه أن مقال فرادكين يدور دورة واسعة حول القضية دون أن يلامس صلب المسألة:
"إن المقال، إذا ما استخدمنا عبارات لطيفة، يعرض بعض أفكار الكاتب الذاتية المغالية... فهو ينظر إلى الوراء بحثاً عن إعادة نظر بما يزعم أنه ضروري في أحكام سابقة. وإليكم مثلاً، هذه الزهرة الصغيرة البرية، المسماة "بالانحطاط"...: إن فنانين ومفكرين روسيين، إذا لم نكن مخطئين، أمثال سلتيكوف شتشدرين، وستاسوف، وبليخانوف، وحتى غوركي، قد فضحوا وأدانوا ظاهرة الانحطاط... ولأسباب عديدة، فإن انحطاط الفن البورجوازي الذي بدأ في فرنسا عند نهاية القرن الماضي، قد استطاع أن يمارس تأثيرات رهيبة ومدمرة على تطور الفنون في ألمانيا... واننا لسعداء لكون مؤرخي الفن السوفياتيين قد ساعدونا للوصول إلى تحليل علمي صحيح لهذا الانحطاط... إن دراسة الفنون يجب أن لا تتخلى عن حق الحكم على آثار فنية على ضوء محتواها الإيديولوجي والسياسي، وصفتها الجمالية. كما أن السياسة الثقافية الرسمية ينبغي أن لا تكف عن ممارسة تأثير مباشر، قائم على مثل تلك الاعتبارات، وتلك الأحكام، على الإنتاج الفني، بجعلها الفنانين يعون بأنفسهم أخطاء أعمالهم ونقائصها، وأن تتدخل في ظروف خاصة، من وجهة إدارية، كما كانت الحال في الاتحاد السوفياتي بصدد رواية بوريس باسترناك...".
لقد اخترت هذا المثال، لأنه يبين بوضوح كلي الخلاف بين المدرستين الرئيسيتين للفكر، داخل العالم الماركسي الحديث. ان اهرنبورغ يطلب احكاماً تختلف عن أحكام غيراسيموف. والمجلات الفنية المنشورة من قبل الشيوعيين الإيطاليين، والفرنسيين، والبولونيين تختلف اختلافاً هائلاً عن المجلات المنشورة في الجمهورية الديموقراطية الألمانية. وفي الاتحاد السوفياتي، يقف مثّال حديث مثل نيزفستني في وجه الرسامين الأكاديميين. ويميل الاتجاه أكثر فأكثر إلى عدم فرض الأفكار الفنية بواسطة مرسوم، بل من خلال صياغتها وجعلها تتطور في عملية العمل، وفي اللعبة الحرة للحركات والمناهج، وضمن تباين الحجج والمناقشات. إن الفن الجديد لا ينجم عن المذاهب بل عن الأعمال. إن أرسطو لم يسبق آثار هوميروس، وهيسيود، وأسخيلوس، وسوفوكليس: بل استمد منها نظرياته الجمالية.
وبمقدار ما نتصرف بكمية أكبر من ثروة وسائل التعبير، تزيد قدرتنا في استخلاص القاسم المشترك فيما بينها. إذا كان النقيض "الواقعية النقدية ـ الواقعية الاشتراكية" هو تبسيط زائد للمسألة، فهو يتضمن حقيقة أساسية. وبمقابل معنى الواقعية الاشتراكية بوصفها منهجاً، أو بوصفها أسلوباً، فإن ثمة مسألة تبرز على الفور، ألا وهي: أسلوب من، ومنهج من؟ أأسلوب ومنهج غوركي، أم برشت؟ ماياكوفسكي، أم إيلوار؟ ماكارنكو أو أراغون؟ شولوخوف، ام أدكاسي؟. إن مناهج هؤلاء الكتاب هي متباينة قدر المستطاع، ولكن ثمة موقفاً أساسياً هو مشترك بينها جميعاً. إن هذا الموقف الجديد والاشتراكي ينتج عن تبنّي الفنان وجهة النظر التاريخية للطبقة العاملة، وعن قبوله بالمجتمع الاشتراكي، مع كل تطوراته المتناقضة، على أنها قضية مبدئية.
وحتى أكثر الرغبات تصلباً في أن يكون الفنان موضوعياً، وأن يبيّن المجتمع في كل تعقيده وواقعيته "كما هي بالفعل"، فهي ليست ممكنة إلا نسبياً، فكيف يستطيع عندئذ أن يقدم أدلته؟ لقد كان فرانز كافكا مدركاً ذلك عندما كتب يقول: "إن المهتم بالموضوع وحده يستطيع حقاً أن يحكم، ولكن، بما أنه المعني، فهو لا يستطيع أن يحكم. ولهذا لا يوجد في العالم أية امكانية للحكم، وإنما هناك بصيص من إمكانية".
لقد كان كافكا على حق في التفكير بأن ليس ثمة من يستطيع أن يدرك أو أن يحكم خلافاً لذلك، إلا من وجهة نظر نوعية، ومن خلال تبنيه وجهة نظر اختيارية أو قسرية، أي بالتحيز. ولا يوجد إذن، إلا أحد المتنازعين لكي يحكم فعلاً. ولكن عندما يضيف كافكا بأن صاحب العلاقة لا يستطيع أن يحكم، فهو يهمل إمكانية وجود مفهوم ملتزم، يستطيع، مع ذلك، أن يتطابق ضمن مظهره العام، مع الواقع الاجتماعي. إن المرء ليستطيع أن يختار وجهة نظر لا يرى من خلالها إلا تفاصيل موقوفة للنسيان، أو أن يختار وجهة نظر يستطيع من خلالها أن يسيطر ببصره على حقل شاسع من الواقع أثناء خلقه وقائع جديدة. إن "بصيص إمكانية" الحكم التي أشار إليها كافكا، يمكن أن تكون ألق الغروب، أو الخيط الأول من ضوء الفجر. إن مصدر هذا البصيص هو الذي سيحدد إذن، قيمة الحكم، ودرجة قربه النسبي من الحقيقة.
إن حكم ستندال اليعقوبي، مثلاً، على الواقع الاجتماعي لما بعد الثورة في عصره لأصدق بما لا يقاس من حكم الرومنطيقيين الملتفتين إلى الماضي، لا لأنه كان أكثر منهم موهبة، بل لأنه أيضاً اختار وجهة النظر التي تسمح له بأن يرى أبعد منهم وأوضح. وأنه لصحيح، حقاً، أن ستندال برغم كونه أكبر كاتب تقدمي في عصره، كان عاجزاً عن أن يقدم حركة الواقع بشكل موضوعي، وأنه لجأ مراراً عديدة إلى الذاتية بوعي تام منه. ولذلك، فإن كل ما يمكن أن نأمل به، هو أن تنطبق وجهة النظر التي يتبناها الفنان، جزئياً، على تطور الواقع الاجتماعي.
وفي عصرنا هذا تظهر متاحة إمكانية موضوعية قادرة على التحرك في مجال واسع، عندما يقف الفنان بجانب حزب الطبقة العاملة، والنضالات الوطنية من أجل الاستقلال، وعندما يتبنى وجهة نظر ماركسية مجردة من كل دوغمائية. إن هذه ليست سوى مجرد إمكانية: فمن أجل تصوير الواقع خلال تطوره، لا يكفي أن يكون الفنان مقتنعاً بانتصار الاشتراكية أو بمعرفة المبادىء الاجتماعية العامة. يجب أن يقدم أشكال الانتقال (والتحول) في كل مظاهرها المحسوسة والمتناقضة. وبالحقيقة، لابد من قدرة عظيمة على الرؤية من أجل طلوع هذا "البصيص" اللازم للحكم الصحيح، إلا أن كل موضوعية معرضة للتساؤل، إذا جعل الكاتب رؤيته للغد قائمة، انطلاقاً من رغبته بأن غداً وبعد غد سيندرجان ضمن إطار مرسوم سلفاً: أي، إن جداراً من النظريات الجامدة الزاعمة بأنها معدّة لجعل وجهة نظره "في حرز حريز"، تعمي بصيرته في الواقع.
إن الواقعية الاشتراكية (أو بالأحرى الفن الاشتراكي) تبشر بالمستقبل. ولا يندرج في سياقها ما سبق لحظة تاريخية خاصة وحسب، بل ما سيعقبها أيضاً. إن الوقائع لا تتبدل، ولكن واقع اللحظة يتبدل بمقتضى وجهة النظر. والذي كان فيما مضى مستقبلاً، يذوب في الذهن مع الحدث السابق، ولا يؤثر فقط على الذاكرة، بل يكشف أيضاً، إذا جاز التعبير، ويكمل الواقع الذي كان جزؤ منه مكتوماً في هذا العصر. إن عنصر التنبؤ، الذي كثيراً ما يدان باسم الواقعية قد اكتسب قوة ومكانة جديدة في الفن الاشتراكي. وقد كان جوهانس ر.بشر على حق عندما كتب يقول:
"عندما نتحدث عن الواقعية الاشتراكية، وعندما نعمل جاهدين للوصول إلى تعريف لها، ينبغي ألا نبالغ في تعقيد المسألة وتشويشها. إن مفهوم الواقعية الاشتراكية لموجود في العديد من التعاريف التي تشكلت قبل نشوئها النظري الحقيقي. فعلى هذا النحو نجد أفقاً واقعياً اشتراكياً في أشعار شيللر التالية:
"ابسط جناحيك، وحلق بجسارة
عالياً فوق عصرك
وليسطع فجر المستقبل في مرآتك
ولو بضوء خافت".
وقد كتب برشت أيضاً:
"الأحلام" و"إذا" الذهبية
تستحلف البحر الواعد
بالقمح الناضج النامي
أيها الزارع، تمهل عن الحصاد
الذي ستجنيه غداً
إنه ملكك اليوم".
إن هذين التأكيدين بمقدورهما أن يكونا كافيين لتحديد طبيعة الواقعية الاشتراكية".
إن بشر يبسِّط الموضوع بعض الشيء، لأنه إذا كانت طريقة برشت المحسوسة تكشف رؤية واقعية للفن الاشتراكي، فإن ذلك ليس صحيحاً بالنسبة لمفهوم شيللر الطوباوي بشكل عام. لقد حفل عصر الرومنطيقية بالطوباويات الاجتماعية، وبالتوقعات التكهنية، ولكن كل ما كان ممكن الحدوث بين "اليوم" وبين "بعد غد" كان مبهماً. والفن الاشتراكي لا يكتفي بالرؤى الغامضة. إن مهمته قائمة على وصف ميلاد "الغد" انطلاقاً من اليوم، مع كل ما يتعلق به من مسائل. وليس الانتقال إلى الاشتراكية، بكل ما في تعقيده من تفاعلات، وبرغم التباين الكبير في مواقفه المتوقعة، مباشراً بأي شكل من الأشكال التي يريد بعض المبسطين أن يقنعونا بها.
إن الفنان، والأديب الاشتراكي، يتبنيان وجهة النظر التاريخية للطبقة العاملة. ولكن هذا لا يعني أنهما ملزمان بقبول كل قرار يتخذ، أو كل عمل يقوم به الحزب، أو الشخص الذي يمثل الطبقة العاملة في آثارهما. إنهما يريان في الطبقة العاملة القوة الحاسمة (ولكنها ليست الوحيدة) اللازمة من أجل دحر الرأسمالية، ولقيام مجتمع بدون طبقات، وللتطور غير المحدود لقوى الإنتاج المادية والروحية التي سوف تحرر الشخصية البشرية. وبعبارات أخرى، إنهما يتجانسان مع المجتمع الاشتراكي، بشكل أساسي، في عملية نموه، فيما الفنانون والكتاب البورجوازيون المهمّون فعلاً ينفصلون حتماً عن المجتمع البورجوازي الظافر. إن الفنان الاشتراكي يؤمن بأن القدرة الانسانية على التطور هي غير محدودة، ولا يؤمن بالتالي، "بحالة فردوسية" نهائية، ولا يريد بالفعل أن تبلغ جدلية التناقض المثمرة نهايتها أبداً:
"أيها العصر الذهبي! انك لن تأتي أبداً
ومع ذلك، فأنت عبر الأرض، تفرُّ أمامنا!
وليرجع البحر إلى منبعه الأصلي
ولينعكس في أعماق أحلام صباح العالم
وجه المستقبل
ولتصبح الأسطورة هدف جنس بلغ مرحلة النضج".
إن هذا القبول الأساسي بالمجتمع الجديد، لا يمكن أن يخلو من عنصر نقدي. وما كان يقوله ماركس بصدد الثورات البروليتارية، إنما هو صحيح بالنسبة للعهود التي تتكون فيها المجتمعات الاشتراكية:
"[إنها] تنقد ذاتها باستمرار، وتوقف في كل برهة سيرها الخاص، وتعود في السبيل الذي يبدو أنها عبرته لكي تبدأ المسير من جديد...".
فالواقعية الاشتراكية، إذن، هي أيضاً واقعية نقدية، تغتني بالقبول الأساسي للمجتمع من قبل الفنان، وبوجهة اجتماعية إيجابية. فشخصية الفنان لا تعود هنا ملتزمة باحتجاج خيالي ضد العالم المجاور، ولكن التوازن بين "الأنا" والجماعة لم يعد أبداً ساكناً؛ ولابد له من أن يرمم باستمرار من خلال التناقضات والنزاعات.
إن الفن الاشتراكي، الذي يختلف بموقفه عن فن العالم الرأسمالي، يتطلب وسائل تعبير جديدة دائماً. وقد كتب برشت في تعليقاته على النزعة الشكلية في الفن، يقول:
"إنه لمن التفاهة المحض القول بأنه يجب أن لا نعلق أية أهمية على الشكل وعلى تطور الشكل في الفن. وإذا لم يطرأ على الأدب ابتكارات ذات طبيعة شكلية، فإنه لا يستطيع أن يقدم موضوعات جديدة، أو وجهات نظر جديدة إلى الفئات الجديدة من الجمهور. نحن نبني بيوتنا على غير ما كان يبني رجال عصر إليزابيث، ونحن أيضاً نصوغ مسرحياتنا على نحو آخر. ولو أردنا أن نثابر على اقتفاء أثر طرائق شكسبير، لوجب علينا مثلاً، أن نرد أسباب الحرب العالمية الأولى إلى رغبة فرد (هو الإمبراطور غليوم) في توكيد ذاته، وأن ننسب إلى هذه الرغبة واقع كون إحدى ذراعيه كانت أقصر من الثانية. إن هذا سيكون ضرباً من العبث بلا ريب. وسيكون نوعاً من النزعة الشكلية: ولهذا، نحن نرفض أن نتبنى وجهة نظر جديدة في عالم متبدل، لسبب واحد هو الرغبة في الحفاظ على طريقة خاصة للبناء، ولهذا يبدو ضرباً من النزعة الشكلية أيضاً فرض أشكال قديمة على موضوع جديد بدلاً من أن نفرض عليه أشكالاً جديدة... ومن الواضح أنه يجب استبعاد تجديدات هجينة، في عصر أهم ما فيه بالنسبة للإنسانية أنه يمسح عن عينيه ما أُلقي فيهما من غبار. وأنه لواضح أيضاً أنه لا يمكننا أن نعود إلى أشياء الماضي، بل ينبغي لنا أن نتقدم نحو تجديدات حقيقية... فما هي التجديدات الخارقة التي تجري حولنا!... وكيف يستطيع الفنانون أن يقدموا كل هذا بوسائل الفن القديمة؟".
إن وسائل تعبير جديدة لضرورية من أجل وصف وقائع جديدة. وإنه لمن التزمت القول بأن الفن الاشتراكي يجب أن يُبقي على جميع أشكال الفن البورجوازي، وبخاصة، أشكال عصر النهضة والواقعية الروسية في القرن التاسع عشر. لقد أنجبت النهضة فنانين ممتازين؛ ولكن، لماذا لا يكون للفن الاشتراكي ما يتعلمه من النحت المصري، أو من فن الأزتيك، ومن رسوم ولوحات الشرق الأقصى، ومن الفن القوطي، ومن الأيقونات، ومما عند مانيه، وسيزان، وموور، وبيكاسو؟ إن واقعية تولستوي ودوستويفسكي بديعة رائعة. ولماذا لا يكون للكاتب الاشتراكي ما يتعلمه عند هوميروس وفي الكتاب المقدس وشكسبير وسترندبرغ، وستندال، وبروست، وبرشت، وأوكاسي، وريمبو، وبيتش؟ إن المسألة ليست في تقليد أسلوب ما، بل هي كامنة في ربط أكثر العناصر تبايناً في الشكل والتعبير ضمن هيكل الفن ذاته، بحيث يجد وحدته في واقع متباين إلى أبعد الحدود. إن كل مظاهر الأمانة المتزمتة للمناهج الفنية الخاصة، هي، كائناً ما كانت، في تناقض مع المهمة التي تقوم على خلق حصيلة نتائج آلاف السنين من التطور الإنساني، ومع مهمة وصف محتوى جديد بأشكال جديدة.
لقد بدأت في العالم الاشتراكي مناقشة لهذه المسائل، ولن يوقفها شيء بعد اليوم، وإني لعلى يقين من أن الفن الاشتراكي في محتواه، سيصبح، نتيجة تصادم الآراء، أكثر غنى، وأكثر شجاعة، وأكثر شمولاً في موضوعاته، وفي أشكاله، وفي مجهوداته، وفي تنوع حركاته، من أي فن في الماضي. وينبغي أن لا تثبط عزائمنا المكابرة والأخطاء، والعثرات والنكسات. إن قصيدة "مدح الديالكتيك" لبرتولد برشت، لتنطبق على هذا الوضع انطباقها على ما عداه، وهي تقول:
"ما دمت على قيد الحياة، لا تقل أبداً: أبداً.
أن ما هو أكيد ليس بأكيد.
فالأشياء لن تبقى على ما هي عليه...
و"أبداً"، تصبح "قبل" عند أُفول النهار".


إرنست فيشر

ضرورة الفن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

واقعي اشتراكي:

شكرا لهذه الزاويه ....ذكيه ومهمة ومعلوماتها دقيقة .نبحث دائما عن دراسات بالعربي عن الفن ..هل من مزيد ؟؟

غلام مجتبى :

السلام عليكم
كنت أبحث عن الواقعية الإشتراكية حتى وجدت هذا البحث القيم واستفدت كثيرا. ارجوكم مثل هذه المحاولات المفيدة للباحثين.

باكستان

باكستانى

fala:

ارجوكم معلومات مفصلة عن الواقعية الاشتراكية .اعلامها وخصائصها. في اقرب وقت ..اشكركم

الجزائر