الفيلم التركي ثلاثة قرود

04 11

كاميرا تصنع من الفكرة المكررة فيلماً مدهشاً

في فيلم «ثلاثة قرود» للمخرج السينمائي التركي نوري بيلج سيلان، لن يجد المشاهد، أي أثر لهذه القرود الثلاثة، ولاحتى لأية قرود، أو حيوانات أخرى.
وإنما وضع اسم «القرود» هنا، فقط لتذكيرنا بلوحة القرود الثلاثة، التي جسدت المثل الصيني المشهور حول «المواطن الصالح»: «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم».
في هذا الفيلم الذي يتناول فكرة حياتية معاشة ربما طوال الوقت، وهي التواطؤ العائلي لدرء فضيحة ما وكتمان سرها، والعائلة هنا مؤلفة من أب يعمل سائقاً لدى ثري سياسي، وأم تبدو شبقة، وفتى مراهق، يبدو هو الآخر لا مبالياً.
الفضيحة التي سيتستر عليها هؤلاء الثلاثة كما ذكرت تكاد تكون مكررة في السينما. حتى أن فيلماً أمريكياً لم أعد أذكر اسمه جسدها بحذافيرها، هناك تقع الأم أو الزوجة في غرام شاب طائش، أمام إهمال الزوج لها والذي يكتشف الأمر متأخراً، فما كان منه إلا أن قضى على غريمه، وتجنباً لهذه الفضيحة المركبة (الزنا وجريمة القتل) سيحدث التواطؤ بين الزوج والزوجة على كتمان السر ولبس القناع!‏
ومع أن للزوج والزوجة السابقين ابناً غير أن دوره في أحداث الفيلم اقتصر على التشكيل العائلي والذي نرى إصراراً على عدم اهتزازه بأي شكل!‏
القصة ذاتها في فيلم «القرود الثلاثة» التركي، غير أن نوري بيلج سيلان سيعطي دوراً أكبر لابن العائلة بحيث يوسع من دائرة التواطؤ لكتمان الفضيحة المركبة أيضاً، غير أن الآسر في هذا الفيلم سيكون كاميرا سيلان التي تعتبر المحرك لكل أحداث الفيلم، بحيث تبدو الفكرة المعاشة وحتى المكررة مدهشة لدرجة الجذب لأحداث هذه الدراما على مدى قارب الساعتين، وذلك باختيار الأماكن والأزمنة، وزوايا التصوير، «الزمكانية» هنا وهي خريف اسطنبول، هذه المدينة التي تقيم على الحد الفاصل بين الشرق والغرب، والتي يرفدها كل لحظة أكبر تعدد ثقافي وتنوع حضاري، مدينة نسيت لبس الطربوش، ولم تستطع لبس البرنيطة كما يجب، فاختارت نوعاً من قميص مزيف وتصالحت مع هذا الزيف بحيث يبدو الخارج والسطحي على ما يرام فيما تعصف الأنواء بالداخل.
هذا العصف الداخلي الذي تواطأ الجميع، وهم هنا العائلة التي يمكن إسقاط مدلولاتها على المجتمع، ككل على كتمانه كان أن جسده سيلان بمزاج هذا الخريف الذي يعصف بالمدينة، وهذا أمر يبدو ليس غريباً على عدسة نوري بيلج سيلان إذا ما علمنا أنه بدأ مشواره الإبداعي مصوراً ضوئياً، حتى كاد الفيلم يظهر صامتاً، وحتى كان بالإمكان وبكل بساطة أن يستغني سيلان عن الحوار في الفيلم والاكتفاء بالصورة البصرية الساحرة طوال الوقت ومزاج الخريف المربك والموارب، وكان بالإمكان أيضاً أن تصل الفكرة بدون توسل هذا الحوار الذي جاء مقتصداً في كل الأحوال!‏
الفكرة التي يجسدها فيلم «ثلاثة قرود» متشابهة من حيث أنها فضيحة مركبة كما في الفيلم الأميركي السابق ذكره، لكن سيلان هنا سيوسع من هذا التواطؤ والزيف العام ليكون تراتبياً يمارسه الكبير والصغير، الغني والفقير، على حد سواء.
وفكرة الفيلم ببساطة هي: ثمة زوج يعمل لدى سياسي ثري سائقاً، الأخير يرتكب «جريمة» حادث سير في الوقت الذي تكون فيه البلاد على حافة انتخابات تشريعية وسياسية، يتواطأ مع السائق لقاء مبلغ سيدفعه لأسرته مقابل أن يعترف أمام القضاء أنه هو من ارتكب حادث السير الذي أدى إلى مقتل عابر طريق.
يفشل السياسي بالانتخابات ويصاب بالإحباط وتكتئب الزوجة التي تشعر بفراغ وجوع عاطفي مرعب وكان لقاؤها مع السياسي كمن وضع شعلة نار أمام تنكة بنزين، فيولع الشبق بين الاثنين، يرتاب الزوج والابن ولاسيما عندما يعلم الأول بذهاب الزوجة لقبض المال من السياسي في مكتبه، وهو الذي يعرفه الزوج عن قرب شديد وقد خبره جيداً. الزيارة كانت كافية لتجعل الشك يقيناً لدى الزوج، لكن المنتقم هنا سيكون الابن، غير أنه في هذا الجو العاصف داخلياً سيكون ثمة تواطؤ بين الثلاثة على كتمانه، والتحفظ عليه بذهاب الزوج إلى عند صبي المقهى بيرم الفقير الذي يقنعه بالاعتراف بقتل السياسي لقاء مبلغ كبير من المال.‏
ويكمن في هذه الخاتمة ما يريد نوري بيلج سيلان قوله، وهو تأكيده على تراتبية الزيف، والتواطؤ على كتمان الفضيحة، وكأن كل شيء على ما يرام، هذا الانفصام الذي يعصف بالمجتمع الذي لبس ثوب الفضيلة فوق قميص من الفضيحة.


علي الراعي

تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق