أوغاريت.. سيدة كنعان البحرية تباهي العالم بابتكار الأبجدية والتدوين الموسيقي

09 تشرين الثاني 2015

.

في تعاقب زمني لا نظير له في العالم تطور الإنسان على الأرض السورية من حالاته الأولى في البحث عن مفاتيح الحضارة إلى الإمساك بهذه المفاتيح فبعيد العصر الحجري الحديث تطورت البنى السكانية في سورية فأنشأ العموريون والكنعانيون ما يعرف بممالك المدن التي امتدت من الشرق في ماري وحتى أوغاريت في الغرب واتصلت هذه المدن ببعضها برباط عرقي واقتصادي وجغرافي.

وتعد أوغاريت التي مر 87 عاما على اكتشافها أحد أهم هذه الممالك التي سكنها الإنسان السوري منذ العصر الحجري الحديث وشغلت موقعا متقدما على خارطة الحضارات القديمة في الشرق للأهمية التي تتمتع بها وما تم الكشف عنه من آثار لمدينة جيدة التخطيط والمباني متقدمة في العلوم والصناعة وعدت ملتقى اللغات وموطن أول أبجدية في تاريخ البشر.

أوغاريت التي كانت معروفة للاثاريين عبر ورود اسمها في وثائق وجدت بممالك كنعانية أخرى كماري ويمحاض حيث ذكر وجود مدينة مزدهرة تقع بالقرب من موقع مدينة اللاذقية الحالي وكما هو الحال مع سائر المدن المدفونة تحت الارض اكتشفت أوغاريت صدفة عام 1928 عندما اصطدم محراث فلاح من أهالي قرية رأس الشمرا بحجارة منحوتة ضخمة تبين أنها سقف لمدفن أثري عائلي فشكلت إثر ذلك بعثة أثرية للعمل في الموقع برئاسة عالم الآثار الفرنسي كلود شيفر بدءاً من عام 1929.

وجاءت تسمية رأس شمرا لموقع أوغاريت من نبات الشمرا الذي يغطي التل المرتفع الذي توضعت عليه كما اشتق اسم أوغاريت من كلمة أغارو التي تعني باللغة الاكادية “الحقل”.


ويورد الباحث الدكتور محمود حمود في دراسة له عن أوغاريت أن عمليات التنقيب بينت وجود خمس سويات أثرية في الموقع تمتد من نحو7500-1200 قبل الميلاد أهمها السوية العائدة إلى عصر البرونز المتأخر 1600-1200 قبل الميلاد والتي بينت أن أوغاريت كانت إحدى أهم ممالك الشرق القديم .

وتألفت مدينة أوغاريت من قسمين الأول مدينة مرتفعة تتضمن الأبنية الضخمة كالمعابد والقصور والثاني مدينة منخفضة تتضمن بيوت الناس العاديين وأحيط كلا القسمين بسور دفاعي مهم كشف عن جزء منه في الجهة الغربية من المدينة وهو من النوع المسمى السور المنحدر ذا القاعدة العريضة تدعمه الأبراج القوية وتخترقه البوابات من نوع الكماشة التي يعتقد أن أوغاريت احتوت 4 منها على غرار بقية المدن العمورية/الكنعانية.

وكانت الأبنية تتألف من طابقين أو أكثر و كان قبر العائلة في البيوت الكبيرة يقوم تحت أبنية السكن المرصوفة بالأحجار والمنحوتة بعناية كما احتوت هذه البيوت آبار مياه وحمامات وتمديدات أخرى تنظم عملها أقنية وشبكة توزيع وتصريف دقيق للمياه.

وفي القسم الغربي من المدينة يقوم القصر الملكي الكبير الذي يعود تاريخه إلى ما بين القرن الخامس عشر و الثالث عشر قبل الميلاد وأصبح أحد أهم القصور العمورية الكنعانية في المشرق واستدل على شهرته من الرسالة التي بعث بها ملك جبيل رب عدو إلى فرعون مصر أمينوفس الرابع يمتدح فيها هذا القصر العظيم وضم هذا القصر 90 غرفة تلتف حول خمس باحات مكشوفة بينها حديقة وأربع باحات صغيرة مسقوفة ويتألف من طابقين في الأول قامت قاعات الاستقبال وملحقاتها إضافة إلى الأرشيف والمكاتب والمخازن والمستودعات والحرس والخدم بينما خصص الطابق الأعلى لسكن العائلة الملكية كما وجد بالقصر الملكي عدد كبير من الوثائق الكتابية واللقى الأخرى من بينها الرأس العاجي والطاولة والأسرة.

وإلى الشرق من القصر يوجد الحي الملكي وفي الجهة الشمالية الشرقية في الأكربول يوجد معبدان لبعل ودجن وبينهما بيت الكاهن الأكبر.

وكشف في أوغاريت إضافة إلى القصر الملكي الرئيسي الكبير عن قصرين آخرين الأول القصر الشمالي لوقوعه شمال القصر الرئيسي وهو أقدم قصور أوغاريت ويتألف من 30 غرفة وصمم في القرن السادس عشر قبل الميلاد والثاني هو القصر الجنوبي عبارة عن بناء صغير مساحته 1600 متر مربع يقع جنوب القصر الرئيسي عثر في بعض قاعاته على أرشيف معظم وثائقه عبارة عن نصوص تجارية متبادلة بين أوغاريت وقبرص ومصر وفلسطين.


وبحسب وثائق الأرشيف الملكي فان سكان اوغاريت عبدوا آلهة بلاد الشام وعلى رأسها ايل وبعل وعشتروت وعنات وبنوا لها معابد مارسوا فيها طقوسهم حيث كشفت التنقيبات عن أربعة معابد في المدينة أكبرها معبد بعل الذي شيد في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد.

وكان هذا المعبد على شكل برج عال بحكم موقعه يرى من مسافة بعيدة في البحر فكان بمثابة نقطة علام للبحارة القادمين إلى مرفأ مينة البيضا قرب الموقع وإلى الجنوب الشرقي من معبد بعل يقوم معبد دجن الذي بني مثل مخطط معبد بعل لكنه أصغر حجماً.

ويمكن قياس مستوى تطور اوغاريت من الاكتشاف الاهم فيها وهو الابجدية الاوغاريتية التي تعد أهم ركائز الحضارة البشرية فالقدرة على اختزال اللغة بهذه الطريقة تدل على مستوى معرفي راق جدا .

وكما ورد في كتاب “ولنا في الرؤى اثر” للباحث الدكتور علي القيم فان تاريخ الابجدية الاوغاريتية يعود الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد وهي اقدم ابجدية معروفة مكتشفة حتى الآن في العالم القديم وكان استخدامها في الكتابة بمثابة اختصار لإشارات كانت تصل بين 600 و800 اشارة في الكتابة المسمارية المقطعية ويعود الفضل في استخدامها ونشرها في العالم القديم إلى سكان الساحل السوري في الالف الثاني قبل الميلاد.

وفكت رموز اللغة الاوغاريتية بعد جهد كبير من العلماء ويبين طابعها الابجدي المؤلف من ثلاثين علامة كلمات متتالية قلما تزيد على أربعة أحرف مفصولة بعضها عن بعض بفاصل شاقولي وأول من نشر النصوص الاولى كان العالم شارل فيرولو وادوار دورم الذي فك رموزها الكتابية.

وتشهد الوثائق الكتابية التي اكتشفت في اوغاريت على وجود ثماني لغات كانت متداولة في مملكتها وهي الاوغاريتية والاكادية والحورية والحثية واللوفية والسومرية والمصرية والقبرصية.


أما أنشودة العبادة الاوغاريتية التي اكتشفت عام 1948 في رأس شمرا على رقيم مسماري نقشت عليه رموزها والتي يعود تاريخها الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد ما زالت تستأثر باهتمام الباحثين والموسيقيين والمهتمين بشوءون التاريخ والموسيقا حتى اليوم وهي اقدم مدونة موسيقية وجدت في العالم تتميز بأن سلمها الموسيقي اقدم من السلم السباعي الدياتوني الذي ينسب الى العالم اليوناني فيثاغورث بنحو 900 سنة.

كما عثر في اوغاريت على مئات القبور الحجرية والعديد من اللقى الأثرية من بينها تماثيل الآلهة المقدسة صغيرة الحجم المصنوعة من الذهب والبرونز والحجر ومن اهمها تمثالان
لإيل وبعل مطليان بالذهب إضافة إلى تماثيل لآلهة و لبشر وحيوانات وطيور مغشاة بالذهب من بينها الصقر وهو رمز الإله المصري حورس.

وعثر على مئات الرقم الطينية المسمارية التي كتبت بلغات متعددة إضافة إلى مجموعة المجوهرات والحلي وأدوات الزينة والعاجيات والأختام الأسطوانية والأواني الفخارية والمعدنية فضلا عن عدد من الأنصاب الحجرية.

واشتهرت اوغاريت بالنقش على الأواني المعدنية التي اظهرت مهارة الفنان الكنعاني حيث تم اكتشاف قصعة من الذهب الخالص قطرها 17سم نقشت عليها أشكال متنوعة توءلف بمجموعها مشهداً معيناً تتكرر عناصره على أدوات تعود إلى عصر توت عنخ آمون.

كما اشتهرت اوغاريت بحرفة صناعة العاج ولم يقتصر استعماله على صناعة الأدوات الصغيرة بل استخدم في ترصيع وتطعيم قطع الأثاث حيث عثر في مينة البيضا باوغاريت على غطاء عاجي نقش عليه صورة سيدة جميلة كما عثر في حديقة القصر الملكي على قطع عاجية من أثاث.

وتميزت اوغاريت بصناعة الارجوان الذي درت صناعته والمتاجرة به أرباحا وافرة على الاوغاريتيين لأنه كان من المواد باهظة الثمن وكان يستخرج من المحار وهذا ما دفع الاغريق ليطلقوا على سكان الساحل السوري اسم الفينيقيين الذي يعني بالإغريقية الأرجوان.

ولعل أحد أهم ميزات أوغاريت أنها بنيت كمدينة قادرة على استيعاب التطور الذي من الممكن ان يحصل فيما بعد و استفادت من موقعها كمرفأ بحري في نقطة استراتيجية وسيطة ومن خيراتها الزراعية الوفيرة لتلعب دوراً تجارياً وحضارياً متميزاً وليصل تأثيرها حتى بابل في الشرق ومصر في الغرب مستفيدة من اسطولها البحري الضخم .

ويقدم الآثاريون فرضيتين حول زوال مملكة أوغاريت تؤكد الأولى أن ذلك تم بعد تدميرها على يد شعوب البحر القادمة من البلقان في مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد في عصر آخر ملوكها عمورابي وفرضية أخرى تعزو زوال أوغاريت إلى كارثة طبيعية ربما تكون زلزالا.

وبحسب الباحث الأثري غسان القيم فإن مملكة اوغاريت التي وصلت مساحتها الجغرافية إلى نحو 36 هكتارا لم تكشف عمليات التنقيب حتى الآن سوى عن 20 بالمئة منها وبحسب ترجمة الوثائق فيها تبين أنها ضمت العاصمة أوغاريت واكثر من 350 قرية وبلدة ومزرعة حملت أسماء مطابقة في معظمها لأسماء القرى والبلدات الحالية في محافظة اللاذقية مثل بسنادا وروضو والعمرونية وجناتا وغيرها.

وأشار إلى أن آلاف اللقى الأثرية والرقم التي وجدت تدل على عظمة وروعة الفن الاوغاريتي وإبداع الفنان السوري.

وإذا كان المؤرخ اليوناني الأشهر هيرودوت أكد قبل نحو 2500 عام أن الفينيقيين نقلوا إلى الاغريق معارف لم يكونوا يعرفونها ومن بينها الحروف فإن الواقع الحالي يشير إلى أن نحو خمسين جامعة في العالم تدرس طلابها أبجدية أوغاريت.


ايناس سفان

sana.sy

Share/Bookmark

صور الخبر

أوغاريت سيدة كنعان البحرية

أوغاريت سيدة كنعان البحرية

أوغاريت سيدة كنعان البحرية

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق