«قلم حمرة».. الحياة ما هي إلا مسرح كبير

13 آب 2014

.

دخلت بطلة تخت شرقي الميدان بعد غياب أربع سنوات بزي المحارب الذي يرى أن الساحة لا تتحمل الانتظار أكثر مستحضرة المسرح وأدواته لتضعه في الشاشة الصغيرة التي احتجت عليها في بداية مشاهدها في مسلسل قلم حمرة دونما أن نعلم حينها أنها تسعى لشق طريق جديد على مستوى الأسلوب وتتطلع لإيصال أفكار تعالج الوضع الراهن في ذات الوقت.

ولعل تناول موضوع الأزمة في سورية جعل يم مشهدي كاتبة النص تعمل بمقولة شكسبير «الحياة ما هي إلا مسرح كبير» حاشدة هذا الكم من الشخصيات التي تعمل في مختلف مفاصل الفن من كتاب إلى طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية أو الفنون الجميلة أو الموسيقا لتكون الراوية ورد «سلافة معمار» هي مايسترو العمل والتي تلعب فيه أيضاً الدور المحوري في العمل ككاتبة سيناريو ما يستحضر طيف كاتبة العمل التي مرت بنفس ظروف البطلة.

يمكن القول أن هذا الوسط سهل مهمة السفسطة والتنظير ليبلغا مستويات عالية خلال العمل الذي يمتزج فيه الخيال بالحقيقة والواقعية بالسريالية الأمر الذي جعله خلطة لذيذة لكنها سرعان ما تسبب التخمة لمتناوليها إلا أن نسبة المتابعة العالية للمسلسل رغم عرضه على قناة وحيدة هي السومرية تعكس المزاج العام للجمهور السوري الذي يبدو لاهثاً وراء أجوبة عن ملايين الأسئلة التي تقض مضجعه أكثر من أي وقت مضى.

ويبدو الشكل العام للعمل متعدد الأجناس فمشاهد الحلقات الأولى تبتدئ بخواطر البطلة حول مواضيع حياتية وأخرى وجودية بأسلوب روائي نجد أحياناً طروحاً مشابهة له على منشورات «الفيسبوك» ثم تنتقل خلال الحلقة إلى قصة العمل بشخوصها الأخرى وفقاً للنمط الدرامي المعهود إلا أن الكثير من الحوارات التي ترد على لسان الشخصيات بغالبيتها تأتي وعظية ومكثرة في إطلاق الحكم لدرجة أنها محت إلى حد ما خصوصية كل شخصية وتفردها فمثلاً ممكن أن تأتي نظرية.. «عندما يوجد مال لا يوجد شعور وعندما يوجد شعور لا يوجد مال» على لسان ورد أو بسام أو نورس… الخ وذلك ضمن بيئة من الواقعية الميالة إلى العبثية بأداء مسرحي في العديد من المشاهد وبفنيات سينمائية في سواها كحال مشاهد الزنزانة.

ومن جهة ثانية مكنت تقنية الخطف خلفاً الفلاش باك الكاتبة من العودة بالزمن إلى الوراء راصدة المشهد قبل الأزمة من قلب زنزانتها لتجعل من المسلسل قلم أحمر والذي ستضفي به المسحة العبثية ومن موقع المجرب على مشهد البلاد وهي تعيد إنتاجه من عدة جوانب كالموروث الاجتماعي والثقافي ثم الانتقال إلى مظاهر الفساد المنتشرة مستخدمة مختلف وسائل التفريغ النفسي لبلوغ تلك الغاية كالكتابة وتعاطي المخدرات وحبوب الاكتئاب إضافة إلى الرسم والموسيقا ولاسيما الهارد روك منها لكنها لسبب ما غيبت اللجوء إلى التيار المتطرف كآلية نفسية رغم أنه حضر في المشهد السوري الحقيقي.

وتتبع سيرورة العمل شكلاً متحلقاً حيث تمر كل شخصية بتجربتين تعي كل منها حقيقة معضلتها ولكنها تفشل في الخروج منها في المرة الأولى لتعاود هذه المشكلة الظهور محدثة تحولاً بمسار الشخصية ثم لتغلق الحلقة الأخيرة نهاية المطاف من نقطة توازي البداية الشخصيات ذاتها بنفس المناسبة ولكن من الملفت أن تشير الكاتبة إلى ذلك على لسان ورد الراوية التي تعلق على الأحداث وتفسد في كثير من الأحيان متعة الكشف لدى الجمهور فهي التي عقبت قائلة: «الخبرات تتكرر لكنها تودي إلى مطارح تانية» وكمثال آخر جاء على لسان تيم عابد فهد الطبيب النفسي قوله واصفاً حازم رامي حنا بالشخص التنافسي الذي يحب الحصول على ما يمتلك أقرانه رغم أن شخصية الأخير باتت واضحة للمشاهدين دون الحاجة إلى هذا التحليل.

وتدور الكركترات الأخرى في فلك شخصية ورد كونها الكاتبة التي رسمت الشخصيات الأخرى من قلب زنزانتها ما يتيح لها التنقل في الزمن بين الحاضر والماضي القريب في حين تبدو شخصيتا تيم وهيفا كاريس بشار متشابهتين إلى حد كبير من حيث وضعهما الاجتماعي وقربهما من ورد فكلاهما تزوج وأنجب في سن مبكر وكلاهما ينجح في حل مشاكل الآخرين إما بالتحليل النفسي والنصح الأكاديمي أو بتقديم الكحول وإسداء النصائح استنادا إلى الخبرات الحياتية بالوقت الذي يواجهان فيه مشاكل جسيمة في تربية الأولاد وإمكانية السيطرة على أفعالهم ويمكن القول إنهما يشكلان مع ورد ثالوث الفرد الشخص-الحبيب-الصديق.

كما يوجد من ناحية رسم مسار الشخصيات تقابل ضدي فحازم يقابل تيم وهو النموذج الأناني الذي يطرح نفسه كحبيب لورد في حين تقع جودي نظلي الرواس مقابل لهيفاء فهي الصديقة التي تحتل مرتبة ثانية بالنسبة للبطلة وتتسم بالتكلف في الشكل والبساطة في المضمون على عكس هيفاء ورغم أنها تبدي حقداً في بعض الأحيان إلا أن جودي صادقة يحمل كاركترها مسحة طريفة بطريقة أو بأخرى.

وباتباعه شكلا تصاعديا انطلق العمل من الفرد بهمومه ومواجعه الذاتية ثم انتقل إلى المحيط الضيق وتشابك العلاقات والضغوط اليومية حيث تعيش الشخصيات بمعظمها بمنازل لا تضم الشكل التقليدي للأسرة وإن وجدت فمظهرها جحيمي ثم انتقل إلى المجتمع ككل بما يعانيه من مظاهر تخبط قيمي وفساد عام.

وتظهر البيئة الاجتماعية التي يدور بها العمل أكثر تحرراً من سابق عهدها لجهة التعاطي مع قضايا أسرية مثل الطلاق كما أن البحث جار عن أنماط أخرى لعلاقات الأسرة في حين صور المثليون بالعمل على أنهم منبوذون أو عرضة لاستغلال حالتهم من قبل جمعيات عالمية وهنا تجدر الإشارة إلى أن مخرج العمل حاتم علي نجح في التعامل مع المشاهد ذات الصلة بالموضوع مبتعداً عن المبالغة في لباس الشخصيات أو لغة جسدها بما لا يقل براعة عن تعامله في تناول لهجة السجان التي كانت بيضاء ولغة عناصر تنظيم دولة العراق والشام الإرهابي غير المفهومة مبتعداً عن التجييش الرخيص للمشاعر ضد أي فئة.

وبالعطف على ما سبق طرح «قلم حمرة» العديد من الأسئلة الوجودية كالخوف وعقدة الذنب وما يوازيها من ردات فعل كالصوم وتقديم القرابين والاعتذار وأسطورة الماضي الجميل وصولاً إلى السؤال الجوهري «الانتماء» وما لهذا المفهوم من تبعات ستطفو على السطح فيما بعد بالمشهد السياسي كما أن حواراً بحجم هذا… «صبا.. غمضي عيونك وادعي… رب العالمين بيستجيب لعباده….»، «ورد.. لم تغمض عينيها ولأيمتى بدنا نضل عبيد…»، يعلن الحوار رفض القيم والمفاهيم التي تقف حائلاً أمام الحرية الشخصية وحرية الرأي وجواب ورد على صبا دون أن تغمض عينيها يشي بالكثير رافعاً سقف الحرية في الطرح إلى أعلى المستويات وكاسراً كل التابوهات التي تقع تحت أي مسمى ومقدماً بذلك خدمة كبيرة للدراما السورية الرائدة فكرياً وفنياً على مستوى الوطن العربي.

سحر المكان وغياب الوطن.. للأماكن سحر خاص في قلم حمرة فالزنزانة التي تعيدنا مشاهدها بين الفينة والأخرى إلى الزمن الحاضر والتي ظهرت فيها تقنيات التصوير السينمائي العالية تتحول في بعض الأحيان إلى حيز عبثي بجدالات وحوارات إشكالية أدى الحوار فيها بأسلوب مسرحي أحياناً ضمن جو هذياني يعكس الجو العام المتخبط في الخارج لدرجة أصبح من الصعب التأكد من أن كل ما دار من أحاديث لورد مع صبا و نورا كان حقيقة أم لا كما بدا هذا الحيز غريباً يدخل الشخصيات في معترك تصبح فيه معزولة عن تشويش المجتمع لأفكارها مفسحاً المجال للتأمل وإعادة ترتيب الأفكار بمساحة عريضة من الحرية.

المطعم والبار الشاهد على أبرز الأحداث التي دارت في المسلسل يبدو وكأنه يؤدي وظيفة دار عبادة بما يحويه من أدوات التفريغ النفسي كالبوح والاعتراف وذلك من خلال اجتماع الأصدقاء المقربين أو بتقديم المشروبات او بالحضور المتواتر للطبيب النفسي تيم وفاض سحر هذا المكان بالحلقة التي تناولت موضوع الشعور بالذنب حيث تحول البار إلى لوحة متكاملة من الشخصيات المبتهجة التي أدت توليفة جميلة من أغنية للسيدة فيروز «كيفك إنت» بإضافات جديدة وأخرجت ما لديها من مشاعر في مشهد رائع لكن في أي من مشاهد العمل الذي صور بلبنان لم يستطع المخرج إقناعنا أن ساحة الأحداث هي دمشق بالفعل.

أما عن البعد الرمزي فقد كان حاضراً على طول العمل تاركاً وقعاً لدى المشاهدين كما ليلة عيد الميلاد عندما تتصالح هيفا ولينا ويسود جو من المحبة والحب المكان كما أن مناجاة ورد لغسان ولأمها دون تيم في اللحظات التي فقدت بها الشعور بالأمان داخل الزنزانة تقف كمثال آخر في رسالة لعل مفادها أنه في اللحظات الاستثنائية يقتصر احتياجنا على الحدود الدنيا من الضروريات وعلى رأسها الأمان.

كما أن سقوط قذيفة الهاون في مطبخ والدة ورد وإطاحتها بخزانة المقتنيات الزجاجية التي تعتد بها البيوت السورية ما هي إلا إشارة إلى أن هذه الأزمة تنسف الذكريات والتفاصيل الجميلة والآثار ولكن بالمقابل فإن التعلق بأصنام الماضي تضع الناس في قوالب وتجعلهم أسيري ذلك الزمان .. أما تزامن إطلاق سراح ورد مع هروب تيم من العصابات المتطرفة فتلك مسألة أخرى.

بالتأكيد إن هذا المخطط الشكلي المحكم له أن يكون رافعة لمضمون ضخم وثقيل كقلم حمرة إلا أنه ضحى بالعفوية والقرب من المشاهد مبتعداً عن النظرية التي تقول إن العمل الجذاب هو ذاك المتكامل الذي يصعب توصيف عوامل نجاحه وفرزها عن بعضها البعض.

وكنموذج شذ عن هذه القاعدة تخرج مجريات الحلقة المتعلقة بعيد الأم عن المناخ السائد للمسلسل بحوارات رشيقة أقرب للحقيقية تدور بين ورد ووالدتها التي تلعب دورها الفنانة منى واصف معيدة إلى ذاكرتنا أبهة شخصية النانا في مسلسل عصي الدمع للمخرج علي والذي عرض في بداية العقد الماضي والذي وضع حجر الأساس لنموذج الرتم الهادئ في الدراما السورية كما تستحضر هذه الحلقة روح تخت شرقي للكاتبة مشهدي والتي رسمت شخوصها بعناية بالغة جعلتهم على بعد مسافة وهمية عن الواقع وعلى درجة عالية من الحميمية معنا.

ولئن عمد السيناريو إلى حقن كميات كبيرة من النظرية والحكم والأقوال الجاهزة والأخرى المستنبطة والتي تمكن المخرج من تبديد ملل محتمل قد ينجم عنها من خلال نقلات عدسته فمن الواضح أن العمل يبدي التزاما كبيراً بقضايا يسعى إلى إيصالها للمشاهدين أما السؤال فهو.. هل هذه الحوارات المنمقة التي تحاكي خواطر واقتباسات عج بها الفيسبوك كفيلة في تغيير الرأي العام أم أنها سريعة الزوال من الأذهان رغم أهميتها البالغة في كثير من الأحيان.

نعم نجحت توليفة قلم حمرة في تحقيق ما راهنت عليه الكاتبة منذ الحلقة الأولى أي التحطيم المعنوي للتلفزيون بتمكنها من جلب بعض من المسرح والرواية إلى الشاشة الصغيرة والحصول على نسبة متابعة عالية عبر اليوتيوب إذ يحسب لقلم حمرة إرساء القواعد الأساسية لهذا النمط على التلفزيون وما له كأسلوب من دور في النهوض بالذائقة العامة والإعلاء من شأن هذه الوسيلة التي تعد المنبر الرئيسي للفن والثقافة السورية ولكن بالاعتقاد أن كل فنان يرسم لوحة واحدة في حياته فإن تخت شرقي لايزال لوحة يم مشهدي بامتياز.
رشا ملحم



اكتشف سورية

سانا

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

اسمك

الدولة

التعليق