مع الكبرياء والشعر - نزار قباني وتنويعات الرمز الديني

06 كانون الثاني 2014

مع الكبرياء والشعر - نزار قباني وتنويعات الرمز الديني
من انطلاقة نزار قباني شاعراً يهز عرش الشعر، وحتى رحيله تاركاً اسمه علامة للشعر المميز الخالص الذي يحمل اسمه وبصمته، حفل شعره بالرمز الديني الشفاف استجارة به أو لوذاً به أو رفضاً لواقع، وربما كان الرمز الديني لديه لتصوير مفارقة مؤلمة بين ما كان من شأن هذا الرمز في التراث، وما يعنيه اسماً وحدثاً، وبين حدث مماثل على الصعيدين القومي والشخصي.

ولكن نزاراً ابن دمشق الشام بما تحمل من تنوع وتعدد كان خير مثال على الشام، حتى لتكاد لا تعرف انتماءه من هذا الإيمان الجمعي، ومن استعماله المتقن للرمز الديني، ومن احترامه لكل رمز سواء كان منتمياً إليه أم لا، فالرمز الديني عند نزار هو للأرض ومنها، وليس للدين والمذهب والطائفة، وهنا استطاع نزار أن يصل القمة في تسخير الرمز الديني في شعره، ويدلنا على ذلك براعته، وسيرورة هذه الرموز لديه دون أي نوع من الاستهجان.

إذ لم ينكر عليه أحد هذه الاستعمالات، بل إن عدداً لا يستهان به من الشعراء والأدباء ساروا على نهجه في استعمال الرمز الديني، ولم يعد لديهم أي نوع من الحرج، وشتان ما بين ثقافة نزار الفطرية المتسامحة المتقبلة وثقافة أخرى تريد الإفادة من هذا الاستخدام!

خرج نزار من القيمرية ومئذنة الشحم، ليدخل حي الأمين، ويدلف إلى الأموي، ويعرج على السيدة رقية، ويضع شمعاته أمام تمثال للسيدة العذراء والسيد المسيح يستند إلى بيت دمشقي في حي المنكلاني أو سواه.. ومن الشرفات والنوافذ المتعانقة رأى زينة المولد النبوي، ولمح في الجوار مغارة وشجرة ميلاد ويسوع، وشهد احتفالات وذكريات لآل البيت، وهذا ما شكل وعيه الفطري العفوي الأصيل الذي لم يكن في غير شام عندما كانت شام، وبقيت هذه المفردات تشكل وعي الشاعر، وصارت جزءاً لا يستهان به من ذاكرة شاعر وأمة، ودون أي طلب أو ما شابه كانت هذه الثقافة المتعددة تجد طريقها إلى شعر نزار لتصبح جزءاً من قافية وقصيدة وفكر، وأزعم إلى درجة اليقين أن نزاراً كان شاعراً يملك مسكة من تدين تتفوق على كثيرين ممن عرفوا في زمانه بالتدين، فما من مرة ذكر رمزاً لأي جانب إلا وكان الذكر تبجيلاً واحتراماً لذاته الشاعرة، ولذات الرمز وإجلاله عند أهله ومعتنقيه، وهذا ما جعل الشاعر مقرباً ومحبباً من الجميع، وهو لم يسع إلى ذلك بغاية الحب، بقدر ما كان يفعل ذلك انطلاقاً من فطرته السليمة المعجونة بتراب شام التي لا تعرف ضيق الرؤية، وهي التي استقبلت في أمويها قبل أربعة عشر قرناً الحسين وصنعت له مقاماً، وإلى الجوار جرن العمادة الذي لا يزال يشهد بتوحد البيت والشرائع، ناهيك عن الشرفات المتعانقة التي تقول ما لا يمكن للمرء أن يقوله، وإن قاله أحدهم سوى نزار، كان ذلك من باب التنطع والإعلام.

نزار وحده غنّى محمداً والمسيح وموسى، وشهد بطهر المجدلية، وحزن في كربلاء، وأحب ميسون، وصرّح بهواه الأموي العصبي، وسأل عن معاوية، وتحدث عن القديسين والقديسات، ولجأ إلى أرض الخرافات لعل المسيح يعود من جديد، وكان أبو ذر رمزاً، وخالد بطولة، وصلاح الدين مجداً.. وفي كل مرة تجد نفسك مع نزار هوى ورمزاً من أذان إلى جرس كنيسة، ومن احتفاء بالعروبة إلى تغن بصلاح الدين ومجده.
إنه نزار، وهل مثل نزار حياة وتسامحاً واحتفاظاً بالإيمان الفردي الذي لا يقسر الآخر؟

وعن ميلاده ولحظة المخاض يقول:

ماذا جرى في بيتنا؟
في ليلة الواحد والعشرين من آذار
نحرك الدموع والأشجان
وما لأمي قد بدت شاحبة؟
وابتلعت صراخها
ومزقت فراشها
واستنجدت بمريم العذراء في مخاضها
وسورة الرحمن
لا أحد أجابني
لكنني أحسست أن امرأة في بيتنا
كانت تعيش حالة ابتكار..
وعندما يقفل القوس على حبه يقول:
لا أستطيع أن أحبك أكثر
لقد كتبتك بالخط الكوفي
على أساور الحمام
وأباريق النحاس الدمشقي
وقناديل السيدة زينب
وجوامع الآستانة
وقباب غرناطة
وعلى الصفحة الأولى من نشيد الإنشاد
وأقفلت القوس
وحين يعجز المحب عن فهم من يحب لا يجد نزار أعمق من القول الديني ليوظفه (الراسخون في العلم).
أنت الكتابة السرية
التي لا يعرفها
إلا الراسخون في العشق
أنت الكلام الذي يغير في كل لحظة
كلامه

وفي يوميات الفنان التشكيلي الذي هو يقول:

تبدو لي الأجساد مثل أرغن
يعزف في كنيسة
لكننا لا نسمع الأصوات
حين أرى وجهك يا حبيبتي
أحسّ أني أقرأ التوراة
وفي تعبير صوفي كشفي يقول:
لم يعلموني في المدرسة
كيف أحب امرأة
ولكنني اكتشفتك بحاستي السادسة
كما يكتشف الحصان العربي مصادر الماء
وكما يتخيل الصوفيون
شكل النساء في الجنة

وعن المواطن العربي ومدرس التاريخ يستعيد بروح جمعية:

من أين يأتينا الفرح؟
وكل طفل عندنا، تجري على ثيابه
دماء كربلاء
والفكر في بلادنا
أرخص من حذاء
وغاية الدنيا لدينا:
الجنس والنساء!!

وعن طهر المجدلية وتطهيرها يرمز بالحياء والخجل:

هل من الممكن، يا سيدتي، أن تعشقيني؟
وأنا من غير تاريخ، ومن غير هوية
فضعي الشال على صدرك كي لا تبردي
فأنا أخجل من تقبيل ثغر المجدلية!!

وإشارة إلى الطهر والقديسة يعود إلى السيدة العذراء:

يا امرأة،
تمشي على سجادة الكاشان، مثل الملكة
أيتها القديسة العذراء
والتقية.. النقية.. المباركة

وعن المهرولين يقول:

سرقوا عيسى بن مريم
وهو ما زال رضيعاً
سرقوا ذاكرة الليمون
والمشمش والنعناع منا
وقناديل الجوامع

وفي وصف ما جرى في مجزرة قانا:

وجه قانا
شاحب اللون كما وجه يسوع
وهواء البحر في نيسان
أمطار دماء، ودموع
دخلوا قانا.. كأفواج ذئاب جائعة
يشعلون النار في بيت المسيح
ويدوسون على ثوب الحسين
ورأينا الدمع في جفن علي
وسمعنا صوته وهو يصلي
تحت أمطار سماء دامية
كل من يكتب عن تاريخ قانا سيسميها على أوراقه: كربلاء الثانية

وفي حديثه عن جميلة بو حيرد يقول:

إبريق للماء وسجان
ويد تنضم على القرآن
وامرأة في ضوء الصبح
تسترجع في مثل البوح
آيات محزنة الإرنان
من سورة «مريم»
و«الفتح»

وفي هذا المقطع مزج موفق ما بين طهرية العذراء والمرأة «مريم» وما بين النصر القادم للجزائر من رمزية سورة الفتح.

أما عندما يتحدث عن القدس فإنه يجد المجال واسعاً للرمز الديني، ويقدمه كتلة متكاملة:

يا قدس.. يا منارة الشرائع
يا طفلة جميلة محروقة الأصابع
حزينة عيناك يا مدينة البتول
يا واحة ظليلة مرّ بها الرسول
من يحمل الألعاب للأولاد؟
في ليلة الميلاد؟
من يغسل الدماء عن حجارة الجدران؟
من ينقذ الإنجيل؟
من ينقذ القرآن؟
من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح؟
من ينقذ الإنسان؟

هذا العقل المفتوح، الذي يرى رؤية صوابية يقف عند قضيته مع الجميع، وعلى مسافة واحدة من القناعات الدينية التي يحملها كل إنسان ليقدم طروحاته وهمومه دون أن يميل إلى جانب من الجوانب.

وفي المنشورات الفلسطينية يستعير المفهوم القرآني بوعي مطلق:

وجاء في كتابه تعالى:
بأنكم من مصر تخرجون
وأنكم من تيهها سوف تجوعون وتعطشون
وأنكم ستعبدون العجل دون ربكم
وأنكم بنعمة الله عليكم سوف تكفرون
وفي المناشير التي يحملها رجالنا
زدنا على ما قاله تعالى، سطرين آخرين:
«ومن ذرى الجولان تخرجون»
«وضفة الأردن تخرجون»
«بقوة السلاح تخرجون»

هذا هو الفهم الديني للنص عند نزار، له قداسته بقدر ما يتمسك به ونعمل على تطبيقه، ونفهم ما فيه.. وحين يرثي جمال عبد الناصر يستعير الرمز الديني بقوة:

قتلناك يا آخر الأنبياء
قتلناك
ليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسول قتلنا
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة
وأيامنا كلها كربلاء

وأمام أبي تمام يقول في إفادته داعياً إلى فهم حقيقي للرمز الديني والتصوف:

مرّ عامان... والمسيح أسير في يديهم ومريم العذراء
مرّ عامان والمآذن تبكي والنواقيس كلها خرساء
أيها الراكعون في معبد الحرف كفانا الدوار والإغماء
مزقوا جبة الدراويش عنكم واخلعوا الصوف أيها الأتقياء
اتركوا أولياءنا بسلام أي أرض أعادها الأولياء؟

وها هو في خطابه لدمشق يستعير كل الرموز مهما كان انتماؤها، لأنه يراها أمة متنوعة التاريخ، دون تقويم لهذا الشخص أو ذاك.

يا ابنة العم والهوى أموي
كيف أخفي الهوى وكيف أبين؟
إن عمرو بن العاص يزحف للشرق
وللغرب يزحف المأمون

ويخاطب طه حسين بقصيدة هي حوار ثوري من النوع العظيم، وخاصة أن طه حسين صاحب إرث في كتابة التاريخ الملتبس لدى العامة:

أيها الغارقون في نعم الله
ونعمى المربربات الحسان
قد رددنا جحافل الروم عنكم
ورددنا كسرى أنوشروان
وحمينا محمداً وعلياً
وحفظنا كرامة القرآن
فادفعوا جزية السيوف عليكم
لا تعيش السيوف بالإحسان

وقفت عند الرمز الديني وتنويعاته عند نزار، ولم أشأ أن استوعب كل المواضع التي نوّع فيها وعزف، لأن ذلك يحتاج إلى دراسة كبيرة، لكن المقصود في هذه الوقفة أن نرى براعة الشاعر وصدق الانتماء حين وقف أمام وطنه، ونظر إلى كل رمز من الرموز نظرة احترام وتبجيل، ونظر إليه على أنه جزء من تاريخ البلاد، استفاد من خاصية الرمز ليرسم لوحة ولا أبهى، بل في كثير من المقاطع دمج بين أكثر من رمز نظن لجهلنا أنهما متباعدان، وهو لبراعته وعمق إيمانه رأى التوحد بينهما... وقفت عند هذه الرمزية فهل نتعلم من نزار معنى أن تكون منتمياً للأرض لا للأشخاص والمذاهب والطوائف؟


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق