نزار قباني عذوبة الحب وعفويته

15 كانون الثاني 2014

.

لم يكن شعر الحب عند نزار قباني حديثاً عن تجربة جسدية فقط، بل إن الشاعر صوّر الحب في هيئاته كلها، وذلك تبعاً للصورة التي يلتقطها نزار، فكثير من القصائد لوحات لا تحاكي سيرة الشاعر بقدر ما هي لوحة يرويها أو يتخيلها الشاعر، ونزار الذي عرف بالشاعر المحب الذي يتحدث عنه بالتفاصيل المدهشة، يقف كذلك مع تفاصيل الحب البريئة والسعيدة التي تجعل حياة الناس أكثر جمالاً، فهل هناك أجمل من لحظة حب مدهشة وبريئة؟

وهل هناك أمتع من حب ومراسلة ورسائل مرسلة أو محترقة؟ وهل يعد الحب حباً إن لم يعد يمرّ بمثل هذه الحالات التي تجبه الإنسان وتجعله محباً؟
لم يبدأ الحب عند نزار بلقاء وعشق وجسد...
لم يكتف نزار بالحب القائم على وصال ولقاء فحسب...
بل صور نزار عذوبة الحب وعفويته كما يعتري العاشق الحقيقي الذي يعتريه الخوف على من يحب، ويطلق تساؤلات لا تصدر إلا عن محب حقيقي يعاني سهم الحب الذي جاء من جانب واحد

وفعل فيه فعله:

تراني أحبك؟ لا أعلم
سؤال يحيط به المبهم
وإن كان حبي افتراضاً لماذا؟
إذا لحت طاش برأسي الدم
وحار الجواب بحنجرتي
وجف النداء ومات الفم
وفر وراء ردائك قلبي
ليلثم منك الذي يلثم

نحن أمام لوحة آسرة للمحب الحائر الذي يطلق العنان لأسئلة، يتحدث كما نتحدث، ويسأل كما نسأل، ويعبر عن ذاته كما نود أن نعبر، ولكنه ملك القدرة على القول ولم نملك، لذلك يخاطب

الروح عندها، ويعترف بمكابرته، ويندفع إليها اندفاعاً يظهر هذا الحب الكامن، ولكنه وهو الذي نظنه يخاطب الجسد يقف عند حدود المحال أمام من يحب.... أريدك

أعرف أني أريد المحال
وأنك فوق ادعاء الخيال
وفوق الحيازة فوق النوال
وأطيب ما في الطيوب
وأجمل ما في الجمال
ويوم تلوحين لي
على لوحة المغرب المخملي
تباشير شال
يجر نجوماً..... يجر كروماً..... يجر غلال
سأعرف أنك أصبحت لي
وأني لمست حدود الخيال

إنها عاطفة الحب الحقيقي الذي يجتاح كيان الشاعر، ويجعل المرأة شيئاً من المحال، وهو يتبع كل حركة من حركاتها، وكل أمله أن يصبح قادراً على لمس حدود هذا الخيال لا غير! ومثل هذا

الحب النبيل يتجدد عند كل لقاء، ويظن أنه أول مرة يحب، أو أول مرة يلتقي بمن يحب، ونزار محب للمرأة، وممارس جدير بالحب، لأنه يتعامل مع الحب لا كما ينقل صورة من صور الجسد

المشترى بالدراهم لرجل وامرأة، بل يقف عند حدود الدهشة والمحال.

وها هو يمارس انتظار المحب على تعاقب الفصول، ولا يمل الانتظار، ويصبح للموعد لديه قداسة الوقت، ولذة الشتاء مع ما يحمل من دفء للروح، لذلك لا غرو أن يبقى نزار وفياً للشتاء ونكهته

في الحب:

وكان الوعد أن تأتي شتاء
لقد رحل الشتا ومضى الربيع
وأقفرت الدروب فلا حكايا
تطرزها ولا ثوب بديع
ولا شال يشيل على ذرانا
ولا خبر... ولا خبر يشيع
وهاجر كل عصفور صديق
ومات الطيب وارتمت الجذوع
حبيبة قد تقضى العام عنا
ولم يسعد بك الكوخ الوديع
فلا تخشي الشتاء ولا قواه
ففي شفتيك يحترق الصقيع

هذا هو الحب النزاري الذي يحمل نكهته معه بعيداً عن الصور التي التقطها هنا وهناك، الحب العذب الذي يلتقي به عاشقان بكثير من الوعي والتعلق والحب الوله، مع تفاصيل من الحب التي

تغير الوقت والفصول، فيصبح الشتاء دفئاً على شفتين تحرقان الصقيع بلهفة الحب، ويصبح ما يخشى أبعد ما يكون عن الخشية التي تعودها المحبان.

ونزار يهرب من التعاريف عادة، فالشعر لا يعرّف، والحب لا يعرّف، ولكنه في شعره كله بوعي تام يمزج بين إحساس المحب وإحساس الشاعر، ولذته في شعره أنه يتحدث عن الحب بأحاسيسه

لا بشيء آخر، ولا يعطي وصفة أو تعريفاً، ولذلك صار شعره في الحب عنوان رسائل العاشقين الحقيقيين الذين يشبهونه، وربما لعذوبته أرادوا أن يتشبهوا به، وفي تضرعه أمام من يحب يرسم

صورة لا تخصه، ولكنها من نحته وجرأته:

أحبك لا أدري حدود محبتي
طباعي أعاصير وعاطفتي سيل
وأعرف أني متعب يا صديقتي
وأعرف أني أهوج أنني طفل
أحب بأعصابي أحب بريشتي
أحب بكلي لا اعتدال ولا عقل
أنا الحب عندي جدة وتطرف
وتكسير أبعاد ونار لها أكل
بعينيك قد خبأت أحلى قصائدي
إذا كان لي فضل الغنا فلك الفضل

إنه الحب الجارف الذي لا يقف أمامه حدّ، إنه نزق المحب والغيرة والتماهي مع الحب، إنه الحدود غير المحدودة للمحب كما يصفها لمن يحب دون أن تجمل، يبرز لها جنونه وتعلقه بها،

فهي أمام حقيقة العش وما فيه من غيرة وتهور، ولكنه يختم باعتراف قلما يعترف به رجل أو شاعر، فهو إن محباً أو فارساً أو شاعراً، فمعزوفته لها طرف آخر، الفضل يعود لها في قصائده

ورجولته وحبه، ولا يستهان بهذا الاعتراف، فكم من إنسان يتهيأ له أنه الأفضل والأكبر، متجاهلاً دور الآلة أو العازف وكأن الحب ممكن من طرف واحد؟ الحب النزاري هارموني بين حبيبين

عاشقين لا يكون إلا بمستوى النبيلين الاثنين معاً، ولذا رأى أنها صاحبة الفضل في غنائه وقصائده وقافيته.

وها هو يحلم مع من يحب بعالم آخر، لا يقف عند حدود الجسد، وإنما يتجاوز لبناء عالم جميل من الحلم بين عاشقين اثنين، وهل هناك حلم يرهق العاشقين مثل بيت يحتوي هذا العشق ضمن

حدود مساحة خاصة يحلو بعدها الذوبان والعشق؟

قالت: حرام أن يكون لنا
على أراجيح الضيا بيت؟
يغسل البريق شباكه
وسقفه طرزه النبت
وفيه آلات الهوى كلها
الكوب والقربة والتخت
كمنزل العصفور أرضى به
فيه الطعام السمح والصمت
أقول فيه كل شيء فلا
بحت بما كان ولا بُحتُ
وبعدها لا بأس أن ننطفي
كالعطر لا حس ولا صوت

عالم من الحب والحلم والعذوبة يصنعها نزار لبيت حب، تملك المرأة الجرأة أن تصفه وأن تحدد نوعه ومحتوياته، وآلاته كما الفرقة الموسيقية التي تعزف لحناً عذباً، ولكن لحن الحب والجسد

أعلى مكانة عندهما، وبعد ذلك ينطفئ الشخصان بلقاء شهي أبدي، ولا يتوقف الحب لأن الحب كالعطر لا حس ولا صوت، ولكن رائحته تضوع في الأرجاء لتبقى علامة على عشق من نوع آخر...
وتشكل الرسالة جزءاً مهماً من حياة العاشقين عند نزار، فهو لا يقف عند لقاء وبيت وجسد وإنما يفرح بالرسالة العاطفة التي تحمل له أشياء لا يقدمها اللقاء الجسدي، وهذه الرسائل على البعد

مهمة للغاية، فهي رسول حب ودليل شوق

وأخيراً أخذت منك رساله
بعد عام لم تكبتي لي خلاله
عرشت وردة على الهدب لما
رحت أتلو سطورها في عجاله
كل حرف فيها خزانة طيب
يا له عطرك النسائي يا له
وعليها تركت ما يترك النهد
صباحاً على نسيج الغلاله
أنت في غرفتي وما أنت فيها
صورة في خواطري مختاله

إنني سامع صياح قميص
شرس زلزل الهوى زلزاله

وأعي إذ أعي انفلاتة شعر
غجري أرخى علي خياله
لا تكوني بخيلة واكتبي لي
في عروقي مقر كل رساله

تشكل الرسالة عند نزار ركناً من أركان الحب، فهو الشاعر الذي يكتب، ينتظر أن يكتب له من يحب، ويتمنى أن يقرأ ما يكتبه الحبيب، ولا يكتفي بأن يكتب هو، لذلك كان كلما قرأ حرفاً ممن

يحب احتفى به وغنى له وصنع بسببه عالماً مختلفاً من الحب، يبوح من خلال حوار الرسالة بما يدور لديه من لواعج الحب الذي لن يخبو طالما هناك من يعبر عنه كتابة ومراسلة ليقول بأن الحب

لا يزال مؤثراً وموجوداً.

فها هو يستقبل ساعي البريد بأحلى الأغنيات:
أغلى العطور، أريدها، أزهى الثياب
فإذا أطل بريدها بعد اغتراب
وطويت من صدري الخطاب
عمرت في ظني القباب
وأمرت أن يسقى المساء
معي الشراب
ووهبت لليل النجوم
بلا حساب... بلا حساب

كوناً من الحب يبني مع الرسالة القادمة إليه، يشاركها كل حالات حبه والعشق، هذا في الحب، ولكن عند الغضب يدون رسائل لم تكتب لها، ما يؤكد أهمية التواصل بالرسائل بينه وبين من

يحب، حتى وإن لم تكتب لها، لكنها وسيلة لتفريغ ما به من حب عفوي أحرق الورق

مزقيها
كتبي الفارغة والجوفاء إن تستلميها
والعنيني والعنيها
كاذباً كنت وحبي لك دعوى أدعيها
إنني أكتب للهو... فلا تعتقدي ما جاء فيها
فأنا كاتبها المهوس لا أذكرْ
ما جاء فيها...

إن ما فرغه نزار في الرسائل التي لم تكتب لها يدل دلالة قاطعة على أهمية الرسالة عنده، فهو بشوق دائم أن يقرأ خطها المنمنم الذي يستقر في عروقه، ولكن انقطاع الرسائل جعله غاضباً، ومن ثم

وقف عند بريدها الذي لا يأتي ولا يصله معاتباً مع كل الحرقة

تلك الخطابات الكسولة بيننا
خير لها... خير لها أن تقطعا
إن كانت الكلمات عندك سخرة
لا تكتبي فالحب ليس تبرعا
إنا أرفض الإحسان من يد خالقي
قد يأخذ الإحسان شكلاً مفجعا
لا تتعبي يدك الرقيقة إنني
أخشى على البللور أن يتوجعا
إني أريحك من عناء رسائل
كانت نفاقاً كلها وتصنعا
الحرف في قلبي نزيف دائم
والحرف عندك ما تعدى الإصبعا

هذا هو الحب النزاري الذي يفاجئ الوهم ويصعقه، فليس من حق المحبوب دوماً أن يطلب الحب دون أن يجود به، أو أن يطلب الاهتمام دون أن يظهره، أو أن يطلب احتراق المحب بالحرف

دون أن يشارك في الاحتراق.. الحرف والرسالة في الحب النزاري احتراق ونزيف، وليست عملية روتينية، والرسائل تعنيه كثيراً، وهو وإن دعاها في الرسائل التي لم تكتب لها إلى إيداعها في الموقد

مع الحطب في النار، وهي تستلقي بمتعتها أمام موقد في بيتها الباذخ، إلا أنه عندما يعلم أنها أودعت رسائله النار يبلغ درجة من الألم غير متخيلة، وهو يجثوا أمام رسائله المحترقة يندب عمره

وكلماته ورسائله:

أحقاً رسالاتي إليك تمزقت
وهن حبيباتي وهن روائعي
حروفي سفيراتي مرايا خواطري
وأطيب طيب في زوايا المخادع
وأجمل ما غنيت ما طرزت يد
وأكرم ما أعطت أنامل صانع
أمطعمة النيران أحلى رسائلي
جمالك ماذا كان؟ لولا روائعي
فثغرك بعض من أناقة أحرفي
وصدرك بعض من عويل زوابعي
وأنا بعض هذا الحبر ما عدت ذاكراً
حدود حروفي من حدود أصابعي..

هذا هو الحب النزاري الذي يعتني بالتفاصيل الصغيرة في العلاقة، لأنها هي التي تعطي وتحيي الحب، وتبعد الحب عن الفتور والضعف، وبعد كسل الحبيبة في الكتابة له نجده يثور لحرق

كلماته، وعندها نكتشف اعتداد الشاعر المحب بكلماته، والتي كانت شريكته في الغناء والكلمة صارت من صنعه لكمة وعشقاً..!

وحتى عندما استعاض الشاعر عن الرسالة بالهاتف تجده مهتماً للغاية بتتبع الحب والحبيب ليبقى الحب شيطاناً محبباً وجميلاً:

وعدتك.... أن لا أتلفن ليلاً إليك
وأن لا أفكر فيك، إذ تمرضين
وأن لا أخاف عليك
وأن لا أقدم ورداً
وأن لا أبوس يديك
وتلفنت ليلاً.. على الرغم مني
وأرسلت ورداً... على الرغم مني
وبستك من بين عينيك حتى شبعت
وعدت بأن لا... وأن لا... وأن لا...
وحين اكتشفت غبائي ضحكت


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق