وصف آلامنا الحاضرة...نزار قباني وأشعار قديمة عن اللحظة الراهنة

24 تشرين الثاني 2013

.

هو من استطاع أن يرسل مع الياسمين الدمشقي رسائل بيضاء تحمل الحب والعشق للأوطان تفوح مع عبقاتها إشارات تحذير من كل أمر مشين وخطر. هو من وضع على أكتاف حروفه عباءات الشاغور الدمشقية وحمّلها حميمية الحارات القديمة الغارقة بالطهر والألفة والمبخّرة بالعزة والإباء والوداد لتلف العالم أجمع معلنة أن دمشق أم المدائن وعروس نقية تقية وبهية لا ينالها آثم ولا غادر ولا خائن، ولن يطال حواشيها الزمردية عابث ولا حالم بها لاختلاس كل ما فيها من أصالة وعراقة وقوة وبهاء.


هو من أمسك بنواصي الشعر وهز بحوره وقوافيه برقة العاشق الغيور فجعله يستفيض عواطف وحب وأضفى عليه لمسات فنية وكلمات غير مألوفة استقدمها من عصرنة موجوعة وآمال مفجوعة وحكايات مجرحة سقطت صريعة التآمر المأفون والحقد المجنون على شام النقاء والياسمين ليخرج من ذلك بمنتج أدبي جديد ومبهر.. فريد ونادر.. مثير للتساؤلات.. محفز لتنامي الكثير من النظريات التي تقلب الأمور رأساً على عقب والتي كانت يوماً من المسلمات فلا يسعك إلا أن تقف حيال شعره الحديث بكل ما فيه مشدوهاً لا تقوى على عدم قراءته خوفاً من الظنون والاتهامات وتهابه إن فعلت وغرقت في حروف من نار ونور، وحين تفعل ذلك وتدخل حدائق الأمير الشاعر نزار قباني الشعرية تتماهى مع الأحلام وتحلق في فضاءات الذات التي تقول المقالات نفسها فتجد نفسك دون أن تدري مسربلاً بمعاني أشعاره لأنها لامست آلامك وهبطت على ضفاف آمالك بكل ما تحكيه وكل ما أشار إليه من قضايا مهمة ومصيرية لكنها كانت مثبتة عمداً وقهراً بمسامير التجاهل والتعصب والتغاضي خوفاً من شيطان الوهم أو من مارد الوعي واتهامك بخيانة الفكر من أن يشق الطريق إلى نوافذ الحقيقة المضنية والمؤسفة التي تؤكد أن العرب أضاعوا مجدهم أكثر من غيرهم وأن الغير يريدهم هكذا أبداً ولكن.. لا أحد يصغي السمع.

كثير من الأدباء كتب عن نزار قباني وتناول أشعاره بالبحث والنقد والتأويل ومع ذلك أحببت اليوم أن أستقدمه وأستضيفه من جديد مع أنني من الذين تحدثت عنه أيضاً منذ سنوات ولا أدري لماذا ذهبت إليه والدماء السورية تغطي وجه الكون لأقرأ أشعاره وتأكلني الرهبة من هذا الرجل الذي قال ما لم يقله أحد قبله حديثاً أو ربما قال غيره الكثير لكنهم غرقوا في فخ السخف أو في التضليل فرفعوا من رفعوا وجمّلوا القبيح واستفاضوا في طي الحقيقة ووضعها على رفوف التعتيم والتغييب، والحكاية هنا تصبح بلاء ووباء ويضيع معها كل الدواء ويرحل والحالة هذه كل أمل في الشفاء.

- ولادة وأسرة الشاعر نزار: كانت وفادة هذا الشاعر الفذ إلى الدنيا في21 آذار سنة 1923م في بيت دمشقي عريق لأسرة دمشقية ولقد حدثنا الشاعر نفسه عن يوم مولده فقال بجزيل العبارات وبهي الكلمات: «ولدت في دمشق عام 1923م في بيت وسيع.. كثير الماء والزهر.. والدي تاجر وجيه عمل في الحركة الوطنية ووهب حياته وماله لها وقد تميز أبي بحساسية نادرة وحب للشعر ولكل ما هو جميل وقد ورث ذلك عن عمه الشاعر المؤلف والملحن والممثل الذي ساهم بنهضة المسرح المصري أبي خليل القباني....». من أشقاء نزار المعتز ورشيد وصباح وهيفاء ووصال. طفولة نزار: في جنان بيته الدمشقي ذي عرائش الياسمين البيضاء وبحيرات الدار الزرقاء والحمائم الهدلاء عاش نزار قباني وكبر ومنه قطف أبجدياته واختزن كل الصور الجميلة وامتلأ صدره بشذى الرياحين وعبير الفل والورد الجوري والياسمين. ولهذا كان بيته الدمشقي حاضراً في أشعاره جاثماً على قوافيه راحلاً معه إلى كل مكان يسافر إليه، ينام إلى جانبه في السرير، يتغلغل في أحلامه ويضع النقاط فوق حروف القصيدة، وما من شاعر حمل حقيبة ذكرياته في فنجان قهوته وعلى صهوات أسفاره وفي خيوط سترته بل في جسده وشرايينه كما فعل نزار. فكم أنت جميلة يا دمشق حتى امتلكت هواجس نزار الشاعر وكم أنت مخلص ورائع يا نزار وأنت متلفلف بتفاصيل دمشقك وكل نمنماتها الجميلة في حلك وترحالك وحتى مماتك.

يحدثنا نزار عن طفولته فيقول: «امتازت طفولتي بحب عجيب للاكتشاف وتفكيك الأشياء وردها إلى أجزاء ومطاردة الأشكال النادرة بحثاً عن الأجمل وقد عنيت في بداية حياتي بالرسم». أجل فقد عاش في بحر من الألوان يرسم على الأرض والجدران ما يتفتق عنه خياله المبدع المتعدد المفرزات».

- دراسته وعلومه: تلقى نزار تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس دمشق وفي عام 1945م حصل نزار على ليسانس في الحقوق من الجامعة السورية بدمشق. التحق نزار قباني بعد التخرج من الجامعة بالحقل الدبلوماسي وتنقل من خلال عمله بين عدة عواصم شهيرة مثل: القاهرة.. لندن.. مدريد.. أنقرة.. بكين بعدها انتقل إلى بيروت حيث أسس دارا للطباعة والنشر عام 1966م.

- بواعث الألم عند نزار ودوافعه إلى اختراق المألوف من الأشعار: مما لا شك في أن بيئة نزار الجميلة والخصبة ووراثته الميل إلى الشعر من أبيه وما امتلكه من خيال خصب إبداعي ساهم في خلق شاعريته النادرة لكن الأهم من ذلك كان في أمور جسيمة اخترقت حساسيته البالغة فأدمت قلبه وأوجعت فكره فانطلق يترجم ذلك في تحدياته الشعرية التي كان منها وفاة شقيقته وصال التي انتحرت بسبب قصة حبها لشاب وكان آنذاك من المحرمات، ثم جاءت وفاة ابنه توفيق في أزمة قلبية بحيث كشفت تلك الفاجعة عن شفافيته الشعرية كل ستر وغطاء فقال في رثائه:

مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات
ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات
فكيف يغني المغني.. وقد ملأ الدمع كل الدواة!
ماذا أكتب يا بني وموتك ألغى كل اللغات!!

بعد ذلك جاء مقتل زوجته بلقيس إثر تفجير السفارة العراقية في بيروت وهو من أحبها كثيراً فقال فيها قصيدته الشهيرة بلقيس جاء فيها:

بلقيس أيتها الصديقة والرفيقة والرقيقة مثل زهرة أقحوان
يا من تحديت الغيوم ترفعاً
من أين جئت بكل هذا العنفوان؟
بلقيس ما أنت التي تتكررين
فما لبلقيس اثنتان.

ويتابع مستنكراً تفجير السفارة العربية في بلد عربي فيقول:

إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب
ويأكل لحمنا عرب
ويبقر بطننا عرب.

وفي نهاية القصيدة يتساءل الشاعر بكل مرارة وألم عن دور العرب في تحرير فلسطين فيقول:

لو أنهم من ربع قرن حرروا زيتونة
أو أرجعوا ليمونة
ومحوا عن التاريخ عاره
لشكرت من قتلوك بلقيس
يا معبودتي حتى الثمالة.

- دمشق ونزار: وتبقى دمشق هي معبودة نزار وملهمته، هي أهله وذويه ومدرسته، هي تاريخ إنسانيته.. هي مجده.. هي داره.. هي أشعاره وأسراره.. هي قلبه وأسواره.. هي عزته ومحفظة قوافيه.. هي العيد.. هي الفرح.. هي الذكريات وكل ما يحبه ويشتهيه. ففي قصيدته «غرناطة» الأندلسية يعود إلى دمشق فيقول في وصف صبية حسناء قابلها هناك:

ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي
وجه دمشقي رأيت خلاله أجفان بلقيس وجيد سعاد
ورأيت منزلنا القديم وحجرة كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة رصعت بنجومها والبحيرة الذهبية الإنشاد

ويرد على الصبية متابعاً فيقول:

ودمشق أين تكون؟
قلت ترينها في شعرك المنساب نهر سواد في وجهك العربي
في الثغر الذي ما زال مختزلاً شموس بلادي
في الفل في.. الريحان.. في الكباد.

- نزار والمرأة والحب: مما لاشك فيه أن نزار قباني شاعر حب من الطراز الأول والذي رأيناه حتى في أشعارنا القديمة عند عمر بن أبي ربيعة مثلاً.. ومما لاشك فيه أنه تناول في أشعاره حكايا الحب التي تأثر بها نتيجة انتحار شقيقته وصال وفاء منها لحبيبها الذي حرمت منه فاعتبر حينها أن «الحب سجين في الشرق» وجاهد كثيراً كي يدافع عن الحب لكن الأكثر من هذا وذاك أن نزار قباني كان يعتبر المرأة في الأصل وطناً كاملاً وكيف لا وهي منجبته ومربيته وحبيبته وزوجته وكل ما في هذه الدنيا من أمور ارتأى نزار أنها عالقة بالمرأة ومن هنا روى كثيراً في أشعاره قصصاً عن المرأة التي تحملته والتي صبرت على جنونه والتي لينتهي إلى مفهوم المرأة الوطن.. فطالما هي كل شيء في هذه الحياة فهي الوطن إذاً.. هكذا كان في منظوره الشعري يدمج بين المرأة الوطن ويتضح هذا بقوله:

في زمن اللا كتابة لا أدري ماذا أكتب
.. وفي زمن اللا حواء لا أعرف كيف أحاور يديك الجميلتين.

ويتابع:

فالأشجار ترتدي الملابس المرقطة والقمر يلبس خوذته المعدنية كل ليلة
العالم يا حبيبتي مخفر بوليس كبير
علينا أن نقف في الطابور كي نثبت أننا لا نقترب من النساء
وأنه ليس في بيوتنا مكتبة ولا دفاتر ولا أقلام رصاص
في زمن الميليشيات المثقفة والكتابات المفخخة
في زمن خطف القصيدة وخطف اللغة.

في النهاية أقول: إن عشرات وعشرات الصفحات لا تكفي للحديث عن مثل ذاك الشاعر السوري الذي اخترق حتى التحديات وجال في كل المفردات فقطف منها ما يريده وما يأخذه إلى عروش الشعر الحديث مضمخاً أشعاره إضافة إلى ما ذكرت بانتقادات لاذعة وكثيرة لمواقف الأشقاء العرب من بعضهم في البلد الواحد والبلدان العديدة.

- مقتطفات مما قال في ذلك:

في زمن التلوث الذي لم يترك لنا غصناً أخضر
ولا حرفاً أخضر
في زمن الكتابة الخارجة من رحم النفط
في الزمن الذي أكل نصف أصابعنا ونصف دفاترنا
ألتجئ إلى ذراعيك
كما تختبئ حمامة من بواريد الصيادين
في زمن يخاف القلم من الكلام على الورق
ويخاف الليل أن يمشي وحده في الشارع
في زمن لا فضل لعربي على عربي إلا بالقدرة على الخوف والقدرة على البكاء
أنادي عليك.

وهكذا تستمر هواجس الشاعر نزار مجدولة في كلمات بسيطة وكبيرة تمزج قضايا العرب بقضايا المرأة.. ليبقى شاعراً سبق زمانه وقال الكثير مما يمكن أن يقال في هذه الأيام.


عفاف يحيى الشب

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق