أمطري يا عرش الياسمين برداً وسلاماً..دمشق علمينا كيف نستطيع أن نحب مجدداً...

30 كانون الأول 2012

.

لون المساء.. زخات المَطر.. رائحة العطر.. دُخان البرد.. حديثك وكلامك الممزوج بالسُكر.. كلها تُغريني إلى الحنين إليك من جديد.. فأنتظر شتاءً يجمعني بك.

ويأتي صباح دمشقي جديد يتسلل عبر نافذتي الصغيرة، تلامس خدي أنفاس الإله، باردة منعشة كرائحتك عند الفجر، وخلف الستارة لاح المطر حاملاً معه عبق ذكرياتك، نقر بأنامله زجاج النافذة ودعاني إليك!استجبت لدعاء الصديق الغريب وأطللت من شرفتي أرقب رائحة الأرض تعبث بدقات قلبي، فيزداد الخفقان، وتسرع أنفاسي لاهثة لاستنشاق هذا الرّحيق الإلهي الذي يُطهّر الطبيعة من غبار الفصول، ويغسل قلوب الناس، يسقي ورود الحزن في النفوس، ويفتح أمام المواقد الودودة أبواب الذكريات وحكايا الماضي، أما أنا فلحن المطر يقتلني، يحلق بي لأندس في معطفك الرمادي بعيداً جداً في طياتك، وهمساتك تنطق كلمة أحبك لتتردد بصدى صوتك في أذني، فقط مع المطر يعود الحنين ولا يفارقني لحظة، إلى حين تشرق الشمس من جديد لتوقظ أحلامي، أنت لست هنا، وأنا لست هناك.

المطر، الشعر، الغزل والحب، اجتمعوا في قصائد الشعراء والمحبين، فحركت أعماق وجدانهم، وحلقت بأحلامهم وكلماتهم في رحلة أبدية لا تعرف الاستقرار، ولا تضع حقائبها إلا في دنيا المحبوب. ولا يمكن الحديث عن الحب والغزل إلا عبر نزار قباني شاعر الحب الأكثر جدلاً وشهرة وتمرداً، فشعرُ نزار قباني عصفور حرٌّ ماجَتْ ألفاظه على كل لسان، ودقّتْ معانيه في كل قلب، لم تقيدّه سلاسل ولم تمنعه أقفاص، وفي فصل الشتاء نظم أحلى قصائده، وتحت المطر منحنا أجمل لحظات العمر، وشاركنا تفاصيل

عالمه المجنون، فيقول:
عاد المطرُ، يا حبيبة المطر..
كالمجنون أخرج إلى الشرفة لأستقبله
وكالمجنون، أتركه يبلل وجهي..
وثيابي..
ويحولني إلى اسفنجة بحرية
أما في قصيدة ( سبتمبر) فيقول:
الشعر يأتي دائماً
مع المطر.
ووجهك الجميل يأتي دائماً
مع المطر.
والحب لا يبدأ إلا عندما
تبدأ موسيقا المطر..

الحياة هي أنشودة المطر... الحياة بكل قوانينها... بكل جمالها وقبحها بالخوف والشجاعة... وبالموت والميلاد. والشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيّاب ليس حيادياً في هذا كله، حيث أحس بالجمال... بالأنثى وبالأرض، وفي أنشودة المطر تعايش الشاعر مع الظاهرة الطبيعية والإحساس بها، فلطالما غنـَى السياب كثيراً للمطر، غنـَاه بكل براءة الطفولة، وبكل رومانسية المراهقين، وبكل معاناة الملتزمين، وبكل احتضار الراحلين، حتى باتت مناجاته للمطر ترنيمة يرددها في كل شعره، أو أنشودة يعزفها في كل قصائده،
كقوله في قصيدة ( أنشودة المطر):

أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء... كالدم المراق، كالجياع
كالحب، كالأطفال، كالموتى... هو المطر

ولا يمكن أن تجد في أي أدب آخر ما تجده في الأدب العربي من وصف لعلاقة الإنسان بالحب والمطر، المرأة والعشق، فشعراء العرب يعشقون المطر، ولأنهم محرومون من معشوقهم كما الأرض محرومة للمطر، فهو الزائر الجميل البخيل لا يزور إلا قليلاً، فيزيد حبه في القلب ويضطرم الشوق، ولا يأتي الحب اللاهب إلا من قلب الحرمان. فيقول الشاعر العراقي عدنان الصايغ:

مَنْ يغسلُ للمطرِ ثيابَهُ اللازورديةَ؟
إذا اتسختْ بغبارِ المدينةِ
وأين ينامُ إذا رحلتِ السحبُ؟
وتركتهُ وحيداً، ملتصقاً
على زجاجِ النوافذ المغلقة
وحين يفكّرُ بمصاحبةِ امرأةٍ...
مَنْ ستتسكّعُ معه في الشوارعِ؟
وتتحملُ بروقَهُ ورعودَهُ؟

ومما لا شك فيه أن المجاميع الشعرية لمحمود درويش تسيطر عليها الأجواء الرومانسية، وتتضخم المعاناة الفردية لديه لتطغى على الهموم العامة، ويأتي المطر كعنصر من أهم عناصر الوله والعشق، مأوى يلجأ إليه العاشق المعذب ليطفىء به شوقه وحنينه، ويروي قلبه المنهك فيقول درويش في قصيدة بعنوان ( المطر الأول):

في رذاذ المطر الناعم
كانت شفتاها
وردة تنمو على جلدي
وكانت مقلتاها
أفقاً يمتدّ من أمسي
إلى مستقبلي..
كان لي في المطر الأول
يا ذات العيون السود
بستان ودار
كان لي معطف صوف
وبذار
كان لي في بابك الضائع
ليل ونهار

المطر سمفونية خالدة ينتشي الإنسان لسماعها، فتغتسل حجارة البيوت في البلدة القديمة، وتنبعث رائحة التراب المنعشة من الشوارع الضيقة. وتغرد المزاريب حين ينهمر لتسمع أصواتاً مباركة تدعو اللـه الرحمة والبركة، فالشيء الوحيد الذي يعيدنا إلى طفولتنا وبراءتنا هو المطر.. حين يهطل المطر نعود أطفالا جذلين، فلتغسل أمطارك يا دمشق قلوبنا المتعبة، وأرواحنا الهائمة في سماء غربتنا الداخلية، فنعود أنقياء القلوب كقطرة المطر.


ديالا غنطوس

الوطن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق