التشكيلي جورج شمعون استلهم من الأساطير والكتابات الأدبية

27 أيلول 2011

والموروث الحضاري مواد للوحات خلابة

في حوارنا اليوم مع التشكيلي جورج شمعون الذي استمد ثقافته من إرث تاريخي حافل بالعطاء والتميز، معتبراً نفسه وريثاً لثقافة ما بين النهرين وثقافة السوريين القديمة، نقف عند سمات وخصائص فنه، وعند الموضوعات التي تحمل غنى فكرياً، والألوان الذي يحمل غنى بصرياً، فهو ليس تشكيلياً عادياً، لأن لآرائه طعماً خاصاً، ولأفكاره فلسفة خاصة أيضاً.

ولد التشكيلي جورج شمعون في مدينة رأس العين عام 1957، وانتقل عام 1972 ليعيش هو وأسرته في مدينة الرقة.

كما أقام لمدة سبع سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية والسويد والدانمرك من عام 1988 إلى عام 1994، ثم عاد إلى مدينة الرقة، وما يزال يمارس نشاطه الفني بحضور متميز على مستوى سورية والعالم العربي والعالم.

اشتغل شمعون في النحاس وأبدع، وبرع في تكريس اسمه بقوة بكل أنواع الرسم، ومن المحطات المهمة في مسيرة حياته الفنية اقتناء متحف آرت إنستيوت (أمريكا) لوحة زيتية من لوحاته عام 1990، والمتحف فيه مقتنيات لمشاهير الفن في العالم مثل بيكاسو وغوغان وفان كوغ وغيرهم، وفوزه بالجائزة الأولى في معرض موفي آرت (إيطاليا) عام 2003، ومعظم أعماله مقتناة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبارغواي والسويد والدانمرك وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واستراليا وكوريا، إضافة للعديد من الدول العربية.

في هذا اللقاء توقفنا معه عند استلهامه الأساطير والكتابات الأدبية مادة للوحاته التشكيلية، إلى غيرها من موضوعات تشغل فكره وحياته التشكيلية:

كيف يبدأ التشكيلي شمعون لوحته بعد أن يكون قد أشبع الفكرة التي يود تجسيدها قراءة وبحثاً؟
«أبدأ حيث أنتهي، ففي نهاية كل عمل أريد أن أقول شيئاً وهذا ما أعمل عليه في بداية العمل. فالأشياء التي أستحضرها وتؤلف كلاً متسقاً مغلقاً على ذاته وقائماً بوصفه أحد المعطيات التي تنظم عالماً خاصاً، يسمى هذا المجموع في لغة المناطقة "عالم القول" فجملة المظاهر الحسية التي تؤلف كيان العمل الفني على الصعيد الظاهري ـ بغض النظر عن تنسيقها الكيفي وسحرها العاطفي وقيمتها البنيوية الظاهرية ـ نستطيع أن نعتبرها مجموعة من الإشارات التي سخرت لتعرض لنا "عالم القول" وتوحي بما يضم من كائنات وأشياء.

فتمثال النصر الذي وجد في جزيرة ساموتراس فاقد الذراعين والرأس، لايصور فقط جسماً من الرخام قوياً كاملاً ونابضاً بالحياة يجري فيه دم قان تحت أدمة نظرة وخلف غلالة من القماش لصقت به، إنما يوحي إلينا أيضاً بالزورق الذي كان يحمله والريح التي كانت تدفعه وخفة انطلاق المركب ورذاذ الماء وتتابع الأمواج التي تسرع في جريها».


التشكيلي جورج شمعون

كثيراً ماحاولت في لوحاتك تحويل النص الأدبي إلى نص بصري وخاصة الأساطير والأعمال الأدبية والتراث السوري الغني ، كيف تعتمل تلك النصوص في داخلك لتخرج هذه الصورة الفنية الجميلة؟
«كان هوغو قد بعث رسالة إلى النحات فرومان موريس يقول فيها: إنما نحن أخوة
الزهرة يبدعها أكثر من فنان
فالشاعر ينحت اللفظة في وضعها
والنحات يفيض عليها من روحه الشعرية.

إن وشائج القربى تمتد بين سائر الفنون، فالمصور والشاعر والموسيقي سدنة في معبد واحد وهم إن لم يعبدوا إلهاً واحداً فإنما يعبدون آلهة من سلالة واحدة. وربات الإلهام أخوات شقيقات.

وكم يكون بيانك ممتعاً ولطيفاً حين تنقل بعض الاصطلاحات من فن إلى آخر، كأن تقول في لوحة تصور الشتاء "إنها حقاً سيمفونية بيضاء من المقام الكبير".

وكثيراً مانقرأ قصيدة استلهمها الشاعر من تمثال أو لوحة . فلوحة العميان لبيتر بروجيل المحفوظة في متحف نابولي ألهمت الشاعر "فالتر باور" الألماني و"كارلو كاردونا" بكتابة أجمل القصائد.

كما ألهم تمثال فينوس شاعر "البرناس" شارل ليكونت دوليل، والشاعر "ويلفريد سكاوين بلنت" الذي نادى بحرية مصر وندد بالاحتلال والاستعمار البريطاني بكتابة قصيدة لكل منهما. وكثيراً مانرى نصاً أدبياً قد تحول إلى مشهد بصري.

ومن أقدم الآثار التي عثر عليها المنقبون والتي تقدم دلالة واضحة على مدى العلاقة بين الآداب والفنون البصرية وجدت في الحضارة السومرية "بملحمة جلجامش". خير مثال قدم الكيفية التي كان يتم التواصل بين هذين العملين التعبيريين من خلال أجزاء وجد الكثير من القطع النحتية المعبرة عن شخوصها كتمثال "أنكيدو" البطل الأسطوري الذي صورته الملحمة كصديق لجلجامش والذي آزره في كل الظروف الصعبة التي صادفها والمآزق التي مر بها بطل الملحمة. وأنا مثل أي سوري حامل لهذه الجينة الحضارية ـ جنة أول من دجن القمح واخترع الخزف واكتشف المعادن وكتب أول أبجدية في التاريخ ـ زودت بموروث أغبط نفسي عليه فيه من التراث مايكفي لأن أعيش مئة جيل وأنا أعمل ولا أنتهي من البحث والعمل».


من أعمال التشكيلي جورج شمعون

لقد ألهمك الكثير من الأدباء من خلال ما جسدوه من صور في أعمالهم الأدبية ومنهم الروائية أحلام مستغانمي، ماهي المشاهد الروائية التي استقيت منها لوحاتك؟
«يقول الشاعر الأمريكي "عزرا باوند": (إن العمل الفني المثمر حقاً هو ذلك الذي يحتاج تفسيره الى مئة عمل من جنس أدبي آخر، والعمل الذي يضم مجموعة مختارة من الصور والرسوم هو نواة مائة قصيدة ).

فإن استيحاء الشعراء للأعمال الفنية أمر مشروع ، فالعمل الفني الحق هو الذي يوحي بأكثر من عمل فني؛ لأن الإبداع في فن من الفنون لابد أن يدفع المنتجين في الفنون الأخرى لمزيد من الإبداع، وبالتالي استيحاء التشكيل للأعمال الأدبية أمر مشروع أيضاً.

في عام 1987 استلهمت من قصيدة "انجيل الأنهار" للشاعر فائز خضور فكرة لوحة أنجزتها فكان لها حضور عند عدد كبير من متذوقي الفن في مدينة دمشق، هذا ما دفعني الى تكملة مسيرتي التشكيلية على هذا النهج.

أقمت معرضاً لأكثر من خمسين لوحة استقيت مواضيعها من النصوص العرفانية للأديب إبراهيم الخليل، كما أنجزت معرضاً كاملاً استوحيت أفكاره من أبواب الشاعر اللبناني جوزيف حرب وابن حزم الأندلسي، كان هذا المعرض بعنوان / أبواب / ثم أقمت معرضاً بعنوان (كيف تبتدئ القصيدة لونها الراعش) وبعد أن التقيت الشاعر أدونيس قررت إنجاز معرض كامل يضم كتابات شعراء ونقاد غربيين عن أدونيس فابتدأت " بميشيل كامو" و"غيفيك " لكن بكل أسف خربت لوحة غيفيك بأداة حادة أثناء عرضها في صيف طرطوس لعام 2010 كلفني ترميمها مئتي ساعة عمل.

أما في كتابات أحلام مستغانمي فقد تعلمت منها كيف أضمن اللوحة كل معاني الثراء والأصالة والطاقة الوحيدة على اللوحة والحضور والتفرد .

أحلام لا تعزف مثل الإله "ديموغورغون" الذي تروي الأساطير عنه أنه كان يبدع العوالم ليطرد السأم عن نفسه. إنها تضفي على عزفها الأدبي نبوغ المنفذ لمسة أخيرة من لمسات التكامل.

أحلام لاتعمل مثل خزاف ريفي ينبغي أن يصنع اثنتي عشرة آنية من الأواني المألوفة، إنها تعمل مثل الخزاف الإغريقي في مدينة كانوسا الذي أراد أن يبتدع قارورة واحدة مثلما أراد دانتي أن ينشئ الملهاة الإلهية، وفاغنر مقطوعته الرباعية. فالأضواء الكاشفة التي تنبعث من كتاباتها لتستقر في تأملاتي القلقة كانت نتيجة الارتقاء الخلاق والفطنة المبدعة التي اعتمدتها في سردها الروائي، وجملها الشعرية تشد القارئ إليها برباط أوثق وفتنة أقوى.

إن سلطان الكلمة لديها يجعلك تأخذ سمتاً دقيقاً ومحكماً يوسع من نطاق النظرة الجمالية بفضل ماقدم لك فكرها من عظمة وجلال، وما تملك في نظرتها الثاقبة الحذرة من أضواء خافتة تعينها على التغلغل في صميم الأشياء تجعلك كفنان تستلهم منها مئات اللوحات».

يلاحظ في أسلوبك الفني بصمة واضحة تتجلى في تلك الخطوط التي تظهر فيها الشخصيات بشكل شفاف وكأنها أرواح فحين نشاهدها في اللوحة كأننا نقرأ نصاً فتتجلى تلك الصور في خيالنا، هل اعتمادك هذا الأسلوب سببه تركزك على هذه العملية الذهنية وعلاقتك بقراءة النصوص الأدبية؟
«مقولة الشاعر "أبوللينير" الواقع ليس أكثر من ذريعة جسمت العلاقة بين الفن والواقع، وبالتالي بين الفن والطبيعة، فأطلق العنان لحرية البحث عبر المهم، فكان موندريان يتابع التشكيلات الهندسية الملونة باحثاً عن اللاشيء كما يقول مؤلف التجريدية (سوفور) "إن موندريان يصور الفراغ الأكثر سعة، يصور اللاشيء، وفي هذا اللاشيء لون أبيض يحمل صفاء اللاشيء".

أنا أشخصن الفراغ بخيوط هلامية بيضاء تشف من خلالها الأشياء (مدن، أشجار، بحار) لتصبح أخيلة على المكان وفق حركات تعبيرية أستلهمها من النص الأدبي المراد تشكيله بصرياً.

أما اختياري للون الأبيض المحيط بشخوصي لأن البنية الخلوية للون الأبيض تفسر على أنه السطح الذي لايمتص أي لون، بل يعكس كل ألوان الطيف، فهو اللون الوحيد البعيد عن الأنانية وهذه من صفات الروح.

أما الفراغ المتشكل داخل هذه الخطوط البيضاء التي تشف من خلاله الأشياء، فهو ليس عبثاً لأن الفراغ في التاوية الصينية هو الملء وفي البوذية هو التأمل وفي الصوفية هو الترقي، وهذه من مزايا الروح».


من أعمال التشكيلي جورج شمعون

ما هي الأساطير التي استفدت من نصوصها بصرياً ؟ وأيها كانت الأقرب إلى نفسك؟
«يرى البحاثة "فردريك فون ديولاين" في كتابه "الحكايا الخرافية" أن لشيوع الأساطير وتشابهها في جميع أنحاء العالم واحتفاظها بمقدرتها على الحياة مايرتبط بالمواجهة اليومية مابين الإنسان والحيوان في واقع بدائي يتنافس عليه الاثنان "فالحيوان يعيش في عالم قائم بذاته وهذا العالم إما أن يكون صورة شبيهة بعالم الإنسان وإما معارضة له كذلك وكثيراً مايمتلك الحيوان في الحكايات الخرافية السلطان على العناصر الثلاثة : الماء والنار والنور، وهو يتحكم في الأنهار وغير ذلك. وغالباً ما يتحتم على الإنسان أن يلجأ إليه لكي يسترد منه ممتلكاته".

ويذهب "رنيه هويغ" في كتاب (الفن تأويله وسبيله) بأن نزعة التنكر وتبادل المواقع والتقمص قد وجدت منذ نشأة الحياة. "مثال ذلك قناع مغارة الأخوة الثلاثة".

لقد أقمت معرضاً نحاسياً كاملاً اعتمدت فيه القناع لغة تعبيرية للزيف وإخفاء الحقيقة التي هي آفة هذا العصر، أما الأساطير التي أعتمدها فيجب أن يكون لها إسقاطاتها. فمثلاً مأساة "أفتونوي" الابنة الخامسة لقدموس التي فجعت بابنها العائد من الصيد برفقة أصدقائه وكلابه وقبل وصوله المدينة قرر الاستحمام فنزل في مغارة فيها بركة ماء ووجد الآلهة "أرتمايس" تستحم. غضبت الآلهة كيف هذا البشري يرى جسد الآلهة، فرشقته بماء مقدس وحوّلته إلى غزال، وحين خرج من المغارة وهو بهيئة غزال صار بالنسبة لأصدقائه وحراسه الكلاب صيداً وفيراً. فهاجموه ليهوي صريعاً تحت حراب أصدقائه وأنياب كلابه. والعبرة التي نستخلصها من هذه الأسطورة "كم تكون الضربة مؤلمة حين تأتيك ممن تحب!».

أدخلت مادتي الخشب والنحاس في بعض لوحاتك لماذا اعتمدت هذين العنصرين وما الذي يمثلانه بالنسبة لك كفنان؟.
«أما عن الخشب فأنا أحس بأنه مادة حية لأن الساق في الشجرة هي التي تنقل الغذاء فتلون الأغصان والأوراق والأزهار، وما الأصبغة إلا مواد كيميائية لاتكسبها الحياة إلا التي نمزج عليها هذه الألوان الخشبية. وللخشب قدسية خاصة لها تأثيرها النفسي الذي يحرضك على الإبداع فنحن نرى أغلب الآلات الموسيقية مصنوعة من الخشب».

كيف يجسد التشكيلي رؤيته الفنية حول ما يحدث اليوم في سورية؟
«أنا أرى أن الرد على ما يحدث الآن يكون في العمل الجاد لا بل مضاعفة العمل والإنتاج لأن الزمن الإنتاجي الذي يهدر اليوم من خلال ملاحقة الأخبار والشائعات والجلسات الطويلة على الفيس بوك يذهب هدراً، ويكون على حساب الإنتاج وبالتالي خسارة للاقتصاد، فأنا أرى أن تشكل ورشات عمل مكثفة ومقرات عرض داخل وخارج القطر، لأن مهمة الفن في العمل التربوي تهذيب الطباع، وهنا لابد من أن أذكر قول سقراط (إذا أردت أن ترتقي بشعب عليك أن تعلمه الفضيلة والجمال).

في زمن عم الاضطراب والقلق العصري وضياع القيم لابد من أن يتشكل عند التشكيلي انفعال بمأساة العصر، ومأساة الواقع، ويكون له موقف نضالي يثبت عقيدته. إن أي عابر سريع الخطا لكثير من متاحف العالم لابد أن تستوقفه تلك الأروقة الطويلة المملوءة بالكنوز القديمة لحضارة مابين النهرين والساحل السوري، والآن تمتد الأيدي لضرب الوعي وقتل الموروث الحضاري والذائقة عند أبناء أقدم جينة حضارية في التاريخ.
لذا وعن طريق الوعي والخط المرسوم بقيادة حكيمة من صنع مستقبل مشرق يكون مرجعاً لمن يريد التعرف على الفردوس الضائع سيجده في بلدنا الحبيب سورية.

قد يكون حقاً أن الإحساس بالزمن يتغير من خلال تطور العلاقة به، فالزمان بعد اختراع الدولاب والحضارة القائمة عليه هو ليس الزمن الذي تحقق باكتشاف النار، وإننا إذ نعيش اليوم في زمن الكمبيوتر لابد من أن نعي الزمن بشكل آخر، وأن وجود السيارة لاشك وأنه قد غير الكثير من إيقاع الحياة كما يقول "إليوت"».


بيانكا ماضيّة – حلب

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

من أعمال التشكيلي جورج شمعون

من أعمال التشكيلي جورج شمعون

التشكيلي جورج شمعون

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق