لوحات الفنان نعيم شلش ترنو إلى لحظات متخيّلة من الاطمئنان والراحة

25 تموز 2011

مشغولة بحسّ تعبيري عالٍ وتقشّف لوني الأشخاص

مثلما يساهم اللون بإبراز القيم التعبيرية في أعمال نعيم شلش بشكل عام، يعتمد أيضاً للغاية نفسها على المبالغة في حجوم العناصر الأساسية في موضوعه المحبّب الوجه كما في «العينين - الأذنين - الفم والشفاه - الأنف»، وإلى درجة التشويه أحياناً، لتُظهر مدى الخراب والإحباط الذي تعاني منه تلك الشخصيات، وهذا ما يظهر بوضوح في معظم مراحل تجربة الفنان من خلال مشاركاته ومعارضه الخاصة التي يقيمها بين الفينة والأخرى، والتي لا شكّ تستحق المشاهدة المتأمّلة - لتميّز التجربة وتفرّدها على صعيد الصياغة والأداء التقني- وبخاصة بالنسبة للمهتمين بمتابعة تطوّر بانوراما الحركة التشكيلية السورية.

لقد أخلص الفنان نعيم شلش لموضوع (البورتريه) الذي عالجه بحسّ تعبيري عالٍ وتقشّف لوني، مع توزّيع مدروس للإضاءة على سطح تصويري مشغول بعناية وحب وحساسية مرهفة، وهذه من أهم الخصائص التي جعلت من تجربة الفنان شلش لها شخصية مستقلة ومميّزة، بشكل تعكس فيه أي لوحة حساسية الفنان وحالة الصدق التي تظهر في أي جزء منها بوضوح، حتـّى لتشبه شخوصه بصمْـتِها وتأمّلها مزايا شخصيته وخصوصية طبائعها.

إن تركيز الفنان نعيم شلش على اللون الأزرق في لوحاته يأتي لغاية تقنية وتشكيلية معاً، فهو يصعّد من القيمة التعبيرية لكل من الرمادي والبني والدرجات اللونية لكل منهما، والذي يوليهما الفنان أهمية خاصة في صياغات شخوصه التي غالباً ما تحتل مركز المشهد ومعظم المساحة في معظم لوحاته، وللاستفادة أيضاً من رمزية اللون الأزرق لإضفاء مسحات من الحزن على المشهد عموماً، بالإضافة إلى توهج الضوء الذي ربما يعزّز من حضور تلك المنظومة من الألوان واحتفائها بعناصر اللوحة جميعها، تلك التي لا تعكس سوى المزيد من الكآبة أو بعض الواقع القريب من الحقيقة في مشاهد لطالما احتفت أو فاضت بها تعابير تلك الوجوه من مشاعر متباينة في مدى قسوتها «حرمان، قهر، ظلم، استياء، وأحياناً حقد أو غضب» وغيرها من المواقف السلبية اتجاه الحياة بما تعني من حقوق في العيش الكريم، إنّه الاحتجاج بصمت ودائماً بأفواه مطبقة وعيون جاحظة، ونظرات محبطة ومسمّرة باتجاه ما.


من أعمال التشكيلي نعيم شلش

لاشكّ يمتلك الفنان نعيم شلش تقنية خاصة تبدأ من الرسم ولا تنتهي بالصياغة اللونية أو بتوزيع الإضاءة على المشهد بهذه الطريقة أو تلك، بل ربما من اندماج الإثنين واتفاقهما بتقاسم الأهمية على المساحة الواحدة، فالضوء يكمّل أو يعزّز حضور اللون بهيّاً هنا وخافتاً مطفأ ًهناك، وبدوره يزيد اللون من جمالية الضوء وسطوعه في المناطق التي حدّدها الفنان بتقطيعات هندسية يوشّح فيها بعض المناطق في المشهد أو على وجوه شخصياته التي وكأنّه يضع تلك المناطق منها تحت المجهر ليزيد من وضوحها وظهور تعابيرها بتلك التفاصيل والدقّة، ولتخدم الغاية ووصول الفكرة للمتلقّي الذي يتعرّف بشكل غير مباشر على مهارات الفنان ومقدرته كمصوّر.

عندما يرسم نعيم شلش، يرسم لمتعته ونشوته هو أولاً، وبالتالي لابدّ من حالة الصدق التي تواكب مثل هكذا مشاعر أثناء العمل الذي بالضرورة سيكون قد حقـّق أهم عوامل أو مقوّمات النجاح التي تتطلّبها اللوحة بعيداً عن موضوعها أو ما تضمّ من مفردات، يتحكـّم بهدوء باستقرار عناصر قوتها وتمايزها، بل وحضورها - باختلاف قبولها- بشخصية مستقلة وخصوصية باتت اليوم أكثر إلحاحاً في المشهد التشكيلي السوري، والذي بات يعاني ومنذ فترة بتداخل وتشابه تجاربه، وهذا برأيي ما يمنحها مبرّرات وجودها واستمرارها رغم ابتعاد الفنان ولوحاته عن الضجيج الإعلامي بقصد الشهرة، والأهم برأيي بهذا الخصوص أن الفنان نعيم شلش عندما يُقدم على تنفيذ أي من لوحاته لم يفكر في أي يوم برغبات المتلقي باقتنائها، لكون هذا النوع من الاشتغال لا يراعي الجماليات أكثر من مراعاته القيم التعبيرية في اللوحة التي لابد أن تعكس أفكار الفنان وتحمل همومه والتي قد تتعارض مع رغبات متلقـّيها، فهي بالنهاية تبقى ملاذ الفنان ونافذته على الحياة التي يحاول من خلالها إدراك أقصى حدود رؤياه، أو حلمه في تحقيق تلك النشوة التي تبدأ بالملامسة الأولى لسطح اللوحة ولا تنتهي بتوقيعها.

من أعمال التشكيلي نعيم شلش

في ملوّنات الفنان هناك نوع من المحاكمة التي غالباً ما تتحقـّق باللاوعي، وفي تجربة نعيم شلش بعد حوالي الأربعة عقود على بداياتها لابدّ من اكتساب تلك المهارات التي تخصّ هذا النوع من الصياغات الصعبة التي يتحمل فيها اللون المسؤولية الأكبر في إنجاز التعبير بما يعكسه من رغبات بالتخفيف من أحزان اللوحة، إن كان من خلال رمزيته وما يحمل من طاقة إيجابية، أو من خلال ما يضيفه أحياناً من مسحة جمالية تقلّـل من وطأة الإحباط على شخوصه، وهذه قد تساعد العمل بالنهاية على الخروج من حالة الافتعال ودفعه باتجاه التلقائية التي تمنح باقي عناصر نهوضه مزيداُ من المصداقية، تلك الغاية التي يصعب على الفنان إدراكها أو تحقيقها بسهولة.

لوحات نعيم شلش من شدّة التعبير الذي يفيض من كوادرها، غالباً ما تتضمن غايات قد لا تكون بالأساس هدف الفنان، وإن كان أحد همومها الاحتجاج على الواقع بما يعني من حرمان، فهي أيضاً محاكاة للوجدان من غير وسيط، وتقديم حالة من الأسى والمعاناة لعديد من الأشخاص أو شريحة من المجتمع، من خلال رصد أمين لواقع هؤلاء من العمق الذي جعله الفنان يطفو على سطح اللوحة ليأتي قاسياً ومُتضمَناً في تعابير وقسمات الوجه الغاضب أو المستاء من أشياء تساوي في نظره بين الحياة أو الموت في الحياة، وما يعتمد عليه الفنان أيضاً في إظهار تلك الحالة من الإكتئاب منظومة الألوان وخاصية كل منها والتي عادة يكرّر استخدامها، مستفيداً من رمزية بعضها ودلالات بعضها الآخر، مناغماً في تداخل درجاتها العديدة وفق نظام هندسي مدروس توزيعه بحسب ثقل الكتلة ومكان توضـّعها وطريقة إضاءتها والفراغ الذي يحيط بتلك المفردة الأساسية في لوحته (البورتريه)، ومن ثم انسجام كل ذلك من خلال توزيع الضوء على ما تبقى من العناصر الملونة في لوحته بشكل متفاوت، مما يزيد من فرص المشاهدة بالنسبة للمتلقي، وبالتالي تتيح له التنقـّل بسهولة في أجزائها المختلفة والمتباينة في احتوائها على التفاصيل أو اكتفائها بالمساحة اللونية المضاءة بدرجات متناغمة في الخلف، وهي دائماً تشكّل جزءاً أساسياً من المشهد الذي ينتهي قوياً ومتماسكاً في تكوينه، ومعبـّراً بدلالاته.

من أعمال التشكيلي نعيم شلش

أعمال البورتريه في تجربة نعيم شلش، تظهر إمكانية الفنان الغرافيكية إلى جانب مهاراته كمصوّر زيتي على نفس المساحة والكادر، والذي يبدو بمظهره وكأنه اشتغال بقلم الرصاص أو الفحم على اللون وأحياناً بالداكن من اللون نفسه، وهكذا نرى تلك التأثيرات مجتمعة بتوليفة متصالحة مع بعضهاً ودائماً باتجاه إغناء المشهد وتعزيز حضوره لإدراك الغاية، وبالتالي لتحقيق أكبر قدر من الجماليات التي تخدم بعض الحالات الخاصة في النوع من الموضوعات، كالحزن الذي يظهر بجلاله دون أن يقلّل من بهاء الوجه، هذا الحزن الذي لا يغادر شخوصه حتى في حالة الفرح أو الحب وغيرها من المشاعر الإيجابية المختلفة، والسرّ برأي هنا يكمن في مقدرة الفنان على استحضار حالة الحلم في تلك الوجوه لتبدو جميعها متأمّلة ترنو إلى لحظات متخيّلة من الاطمئنان والراحة، ولو في الأبدية.

وبالنهاية لابدّ من الإشارة إلى أنّ أهمية هذه التجربة، تأتي من الخصوصية التي حقـّقها الفنان بالاجتهاد والصبر والصمت، بعيداً عن الثرثرة البصرية، مجرّباً في المواد والأدوات الأكثر إفادة وقدرة على التعبير، لإغناء مشاهده دائماً بعناصر جديدة ومتجدّدة تساعد لوحته على تجاوز رتابة ما هو حاصل في المشهد التشكيلي السوري، تعكس أصالة الفنان من صدى صوته وعبق روحه.

نعيم شلش:
- من مواليد «غصم» بمحافظة القنيطرة عام 1941.
- تخرج من قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1966، كما عمل أستاذاً محاضراً فيها.
- عُرف بحبه للوحته، وإخلاصه لعمله من خلال عدة مهام تعاقب عليها.
- أقام عدة معارض فردية، وله مساهمات دائمة في المعارض الجماعية الداخلية والخارجية.
- حاز على جائزة البينالي العربي الأول لمهرجان المحبة باللاذقية عام 1996.
- كـُرّم من قبل وزارة الثقافة عام 2002 خلال فعاليات مهرجان المحبّة.
- له عدة أعمال مقتناة في وزارة الثقافة والمتحف الوطني والإدارة السياسية ومحافظة القنيطرة وفي عدد من البلدان « ألمانيا - الجزائر - الأرجنتين – لبنان».
الفنان نعيم شلش متفرغ للعمل الفني


غازي عانا

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق