قراءات وإضاءات في دمشق الأثيرة والآسرة

28 06

دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع

عن دار غار حرّاء للطباعة والنشر والتوزيع، صدر كتاب «دمشق-قراءات وإضاءات» للكاتب غسان كلاس، متزامناً مع تتويج دمشق عاصمة للثقافة العربية.
قدَّم الكتاب الدكتور عفيف بهنسي، وجاء في مقدمته «لقد حرص المؤلف أن يقف شاهداً على عبقرية شعراء وروائيين معروفين، مختاراً أثراً معيناً من آثارهم، تكون دمشق الموضوع الأثير لديهم. ويشكل هذا الكتاب خطاباً دسماً يغذي ثقافة القارئ، ويساعده في ساعات استرخائه على مشاركة الكاتب في نزهته الممتعة عبر حقول الشعر والرواية والبحث».
أما مقدمة الكاتب غسان كلاس فلخصت مضمون الكتاب، وأسراره، وكنوزه، وجاء فيها «على مدى ثمانية فصول لأرابط في اختيارها سوى أنها تفيض بالإحساس الصادق، والكلمة الموحية لمبدعها، والتي حملت ـ عن غير قصد ـ في ثناياها دمشق" المدينة الأثيرة والأسرة". ومن المؤكد أن هذه الفصول، في تناولها أو تحديد موضوعاتها لم تعتمد منهجاً نقدياً، وإنما اندرجت في إطار من التعبير الذي يعرَّف ولا يعلَّم، يُقارب ولا يُقطع، يوحي ولا يملي».

يضم كتاب «دمشق-قراءات وإضاءات» باقةً مميزةً ورائعة من أعمال شعراءٍ، وكتابٍ، وروائيين، قاسمهم المشترك عشق دمشق والوفاء لها.

فقد اختار الكاتب غسان كلاس مجموعة من شعراء الشام، حملوا الوطن في قلوبهم، فانبجس حبه قصائد تغنيه وتحتفي به، وبطولاتٍ نغنيها مزهوين فخورين، ومن هؤلاء الشعراء الأعلام خير الدين زركلي، وشفيق جبري، وخليل مردم بك، ومحمد البزم، ونزار قباني، وكمال فوزي الشرابي. الذين أوفوا دمشق حقها من الوصف والحب والمديح، ولم ينس الكاتب عَرضِ أشعار فحول شعراء مصر، مثل أحمد شوقي، وأحمد رامي في أبياتهم الشعرية الصادقة في تكريم دمشق ورجالاتها.
كما اختار الكاتب غسان كلاس في مؤلفه هذا أهم ما كُتب عن الحياة في دمشق، من خلال رواية إلفة عمر باشا الإدلبي «دمشق يابسمة الحزن»، أو رواية معروف الأرناؤوط «سيد قريش»، أو ما كتب عن تاريخ دمشق من خلال كتاب عبد العزيز العظمة «مرآة الشام».
ورصد الكتاب مسيرة الكفاح والنضال من ميسلون إلى الجلاء خضبتها دماء الشهداء، وأذكتها نيران الثورات على امتداد الوطن. كما ضمَّ الكتاب فصلاً عن التقاليد والعادات في شهر رمضان المبارك التي لم تفسرها معطيات التقانة الحديثة.
وألقى الكاتب غسان كلاس أيضاً الضوء على عالمين من علماء دمشق هما الروائي بديع حقي، والناقد المحقق عبد الغني العطري، وعلى معلمين هما: المدرسة العمرية، ومكتب عنبر.
ونظراً لحب نزار قباني لدمشق، وحب دمشق له أفرد الكاتب غسان كلاس فصلاً خاصاً عنه، بعنوان نزاريات.
ففي محطات من حياة نزار قباني نقرأ:
«أعود لأبحث عن حبل مشيمتي ‏
وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني ‏
وعن القابلة التي رمتني في طشت تحت السرير ‏
وقبضت من أبي ليرة ذهبية، وخرجت من بيتنا في ذلك اليوم في آذار 1923، ويداها ملطختان بدم القصيدة».
هكذا ولد نزار قباني، كما وصف، وكان ذلك في الربيع، تحديداً في الثالث والعشرين منه.
وجاء في سيرته الذاتية ضمن أوراقه المجهولة:
«كنت جالساً ذات صباح في مكتبي، حين دخل عليّ الشاعر السفير عمر أبو ريشة، وبعد عناق حميم، تأمل محتويات الكتب باستغراب وعدم رضى، وقال: ماذا فعلت بنفسك يا نزار؟! تركت كل أمجاد السفارات وإمبراطورية السلك الدبلوماسي، وثريات الكريستال، وسجاد الفويلان والأبومسون، لتقعد في هذا المكتب الأصغر من خرم إبرة!. وقعت علي كلمات عمر كالصاعقة، فقلت له بنبرة حادة: عن أي أمجاد تتحدث يا عمر؟! إن مجدي الحقيقي هو الشعر. كما هو مجدك أيها الشاعر الكبير. لقد كنت أنتظر منك يا صديقي أن تطلب مني أن أضع لك كرسياً ثانياً خلف المكتب الذي أجلس عليه. على كل إذا قررت ذات يوم أن تخلف أقنعة الشمع، وترمي بذلة السموكن والفراك، والقمصان السوداء، والقبعة العالية في الزبالة وتختار الشعر، فإن هذا المكتب يتسع لكلينا، نظر إلي عمر بعينين يغسلهما القلق والدهشة، وقال وهو يودعني: لا أعتقد أنني سأختار يوماً هذا المصير المجنون».
وفي العام 1997 كتب نزار قباني تحت عنوان «دمشق تهديني شارعاً»:
«ويشاء الرئيس حافظ الأسد أن يكون أول رئيس للشعر، يحتضن هذا الفن الجميل، فيتبنى اقتراحاً لتسمية أحد شوارع دمشق باسم نزار قباني، الشاعر الذي طلع من تراب دمشق، وكان جزءاً من تاريخها الشعري والثقافي، ونقل بياض ياسمينها وعبق تفاحها وأزهار مشمشها إلى كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية. فيا أيها الواقفون أمام الشارع الجميل الذي يحمل اسمي، في حي أبي رمانة، تذكروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع، لعبت فوق حجارته، وقطفت من أشجاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره. تذكروا أنه كان أبي وأمي ووطني وقصائدي، التي طارت كحمام الشام من المحيط إلى الخليج».
دمشق الغالية. دمشق الأثيرة لم تفارق شاعرنا، على مدى حياته، لم تفارق خريطته الجغرافية والشعرية والنفسية، فأينما تجولت في خريطة نزار الشعرية كانت دمشق تظهر أمامك بمآذنها، بياسمينها، بتاريخها، بتراثها، بأنهارها. وكان لا يستطيع الحراك خارج جغرافية الشام، فهو لم يكن محاصراً داخلها، بقدر ما كان منتشياً بهذا الحصار، الذي صنعه هو، فالحارة والمآذن والقباب والسنونو استوطنت نزار حتى آخر لحظة في حياته.
وفي اليوم الأخير من شهر نيسان 1998، في عز الربيع، قرر نزار قباني أن يصمت. وحين قرر الرحيل كان يدرك أن زمن الصمت قد حان، إذ كان يعرف أنه قد ترك أجمل ما عنده فينا، ولم يعد لديه ما يضيفه. لقد كان أكثر الشعراء العرب جماهيرية، فقد ظلَّ طيلة حياته الأدبية غزيراً منتجاً، لم يهجر القلم غالى نهاية حياته.
وفي أوائل أيار من العام 1998 نقلت الطائرة جثمان نزار إلى مسقط رأسه، فقد أوصى، بخط يده، أن يدفن في دمشق التي عشق، معرباً عن رجائه من جميع إخوته وأهله تنفيذ هذه الرغبة النهائية «لأن ، وأهداني أبجدية الياسمين. هكذا يعود الطائر إلى بيته، والطفل إلى صدر أمه».‏

وختاماً.
هذا غيض من فيض مضمون كتاب دمشق قراءات وإضاءات للكاتب غسان كلاس.
إن هذا الكتاب يشكل غذاء دسماً لكل من أحب دمشق. وهو جدير بأن يقرأ من غلافه الأول الى غلافه الأخير. مضيفاً للمكتبة العربية سفراً جديداً عن دمشق المدينة الأثيرة والآسرة.


تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق