بيير رويار: الفينيقيون تجار العالم وصناعه الأوائل

23 05

سيطروا على أفضل المراكز في أوروبا

«من الشرق إلى قادش، الفينيقيون وشبه الجزيرة الإيبيرية» عنوان المحاضرة التي قدمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق يوم العشرين من أيار 2008، وألقاها الدكتور بيير رويار.
تناول فيها الباحث آخر ما توصل إليه علم الآثار من نتائج تشير إلى أنّ الفينيقيين بدؤوا التوطن في شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثامن قبل الميلاد، مقدماً العديد من الدلائل والمكتشفات بدءاً من الهندسة المعمارية للمنازل، وبناء الموانىء، إلى حطام ثلاث سفن فينيقية محملة بالخمور ما زالت غارقة قبالة شواطئ قادش، وإلى المدافن والنقود والأواني الفخارية والخزفية وما شابه، ما يدل على أن الفينيقيين لم يغادروا الشرق بوصفهم تجاراً فقط وإنما هناك جاليات خرجت واستقرت في العديد من المناطق، وأشار إليها الباحث بيير من خلال الصور الملتقطة وبعض المصورات التي تشير إلى توضع مستوطناتهم على سواحل الأندلس و الساحل الشرقي لشبه الجزيرة (جنوبي آليكانتة) وعلى الساحل الأطلسي للبرتغال، كما تطرق الدكتور بيير إلى معرض «بحر الفينيقيين المتوسط، من صوْر إلى قرطاجة» الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس واستمر حتى العشرين من نيسان 2008، حيث أشتمل المعرض على روائع القطع الأثرية التي جمعت من مختلف المستعمرات. «من الشرق إلى قادش، الفينيقيون وشبه الجزيرة الإيبيرية»
يقول الدكتور بيير «تميّزت المدن الفينيقية بسياستها الاستقلالية، فكانت كل من صور وصيدا وجبيل في لبنان وأوغاريت ورأس شمرا في سورية بمثابة دولة، على أن هذا الانقسام السياسي لم يكن عائقاً للتواصل بينهم، فهم ينطقون اللغة ذاتها، ويعبدون الآلهة ذاتها، وتتشابه قطعهم الفنية إلى حدّ كبير، ما يدلّ على أنهم شعب واحد وأبناء حضارة واحدة، أطلق عليه الإغريق اسم "فينيقيين" نسبة إلى لون الأرجوان الذي كانوا يصدّرونه. وبحلول القرن الثاني عشر ق.م. وما صحبه من تغيرات كبيرة على دويلات المنطقة، تخلت صيدون عن مركزها بين المدن الفينيقية، لتبرز صور كدولة قوية ولتنطلق منها حركات التوسع في منطقة الشرق وعبر البحار بغية إنشاء محطات لصيد الأصداف وصناعة الأرجوان على الشواطىء الغربية شكلت لاحقاً النواة الأولى لحركة خروج جاليات فينيقية انطلقت من الدولة الصورية وانتشرت في أرجاء العالم (جزر المتوسط ومناطق واسعة من إفريقيا ومن شبه جزيرة إيبيريا)». «من الشرق إلى قادش، الفينيقيون وشبه الجزيرة الإيبيرية»
يتابع رويار: «قادت التيارات البحرية سفن صور منها إلى سواحل كيليكية وتدل نقود هذه البلاد بوضوح على النفوذ الصوري فيها وأنشأ الصوريون إلى الجنوب من جزيرتهم عدة مدن ساحلية، كانت مهمتها الأولى تأمين الملاحة إلى مصر، وتسهيل التجارة البرية إلى داخل فلسطين، ومن أهم منشآتهم هناك كانت دور وجوبا (يافا).
«أنشأ الصوريون في أوائل القرن العاشر ق م. مدينة حلمون، وفي المتوسط، البحر المشترك بين قارات ثلاث، كانت جزيرة قبرص والسيطرة عليها شرط أساسي لصور لتتمكن من التوسع البحري، ويرجع وجود الصوريين في قبرص إلى منتصف الألف الثاني ق.م. فإلى القرب من فماغوستا، وعلى بعد ستة عشر كلم عنها كانت منطقة سكن صورية في كلوسيدا كما أن مدافن إنكومي، التي ترجع إلى القرن الخامس عشر ق. م. كانت تخص عائلة فينيقية من صور وقد تابع الصوريون توسعهم في المتوسط، فبسطوا سيطرتهم على العديد من جزره، وكانت رودس أول هذه الجزر وبعدها كانت جزيرة تاسوس ومن قبرص تابعوا إلى مالطا. «من الشرق إلى قادش، الفينيقيون وشبه الجزيرة الإيبيرية»
«أما جزيرة سردينيا، فقد كان خط الملاحة من شواطىء المتوسط الشرقية إلى إسبانيا والمحيط يسير على محاذاة شواطىء سردينيا الجنوبية وكانت كراليس أهم مدن الفينقيين في سردينيا، والوحيدة التي نعلم علم اليقين عنها أن الصوريين أنشؤوها، وأمام سردينيا في خليج نابولي، كانت بوتيولي، أول وأكبر مرافىء اليونان في إيطاليا، وكانت فيها جالية صورية مهمة.
«ظهرت في بلاد الإغريق منذ القرن الحادي عشر ق م. بعد أن أصبحت صور سيدة الشاطىء السوري بكامله، منشآت وجاليات كانت تفخر وتعتز بأنها صورية، فعلى رودس كانت ثلاث مدن فينيقية هي لندوس وجاليزوس وكاميروس، وفي كورنثيا كان ميناء ليكيون في أيديهم، وكانت جزيرة كيترا نقطة مهمة لهم، وأهم المستعمرات الصورية على الإطلاق -عدا قرطاجة- كانت تلك التي أقامها أبناء صور على شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن السابع ق م.
«أما عن التوسع الصوري في إسبانيا فيؤكد وسترابون أنهم استولَوا قبل عهد هوميروس على أفضل قسم من إيبيريا، وأن الفينيقيين القادمين من صور إلى إيبيريا قد أخضعوها كلها لسيطرتهم، وفي أيامه، في مطلِع القرن الميلادي الأول، كانت أكثر مدنها -ويزيد عددها على المائتين- مأهولة بالسكان الفينيقيين، كما سيطروا على أفضل المراكز في أوروبا».
أما فيما يتعلق بقادش عنوانِ المحاضرة فيقول الدكتور بيير «مِن قادش علّم الصوريون المتحضرون سكانَ البلاد، الكتابة وبناء المدن وصناعات يدوية كثيرة ومنها انطلق الصوريون إلى الأنحاء المجاورة. لقد شهد الربع الأخير من الألف الثاني ق. م. عظمة فينيقيا وازدهار تجارتها وحركتها الملاحية وتمكن الصوريون في زمن قصير من أن يصبحوا الدولة التجاريّة والصناعيّة الأولى في العالم وأن يحافظوا على هذا اللقب سبعة قرون متواصلة، وآثارهم باقية حتى اليوم في أوفير والكامرون، وإفريقيا وصولاً إلى بَريطانيا وإيرلندا -الكاسيتريد أو جزر القصدير- وشمال أوروبا، موطن القهرمان، واكتشافهم جزر مديرا والكناري ووصولهم إلى العالم الجديد، قبل كولمبوس بألفي عام».
يقول الدكتور بيير عن المعرض المقام في باريس «شارك سبعون متحفاً في محاولةٍ لفك أسرار غموض الحضارة الفينيقية، من اللوفر في باريس إلى المتحف الوطني في بيروت، مروراً بالمتاحف السورية والإسبانية والإيطالية والتونسية والألمانية والأميركية والبريطانية، في معرض العالم العربي في باريس، وأقرضته، بحسب اتفاقيات المتاحف الدولية، القطع الأثرية الضرورية.
«لقد وصل إلى باريس ما يقارب خمسمائة قطعة أثرية فينيقية تختلف باختلاف المواقع واستعمالها، فهناك النواويس الحجرية المنحوتة على شكل أشخاص، وهناك التماثيل الصغيرة المصنوعة من الفخار التي ترمز إلى الآلهة أو الحياة اليومية، وهناك أيضاً العاجيات المزخرفة وشواهد القبور المحفورة التي تحمل كتابات باللغة الفينيقية، وهناك أيضاً الأختام والقطع النقدية المصكوكة بحسب المدن والقطع الزجاجية الملونة، كل هذه التحف الفنية تخبر عن تاريخ الإبحار عند هذا الشعب وتعطي تفاصيل عن الحياة اليومية في مدنه الساحلية، إذ يسعى المعرض، إلى إظهار ملامح الحضارة الفينيقية وتواصلها مع دول محيط البحر الأبيض المتوسط، التي قدمت للعالم جانباً مثيراً من الاكتشافات البدائية التي كان لها الأثر الكبير في التجارة حينئذ مثل الصباغ الأرجواني وصناعات الزجاج المنفوخ».
«إن من أشهر الصناعات اليدوية والحرفية التي يقدم معرض "الفينيقيين" بعضاً من نماذجها قطعٌ مشغولة بالمعادن مثل النحاس والقصدير والفضة وأيضاً الذهب، وقد عثر على هذه القطع التي لا تقدّر بثمن في المستعمرات الفينيقية والمواقع التجارية مثل مدينتي فاماغوستا وأماتوس في قبرص حيث كان الفينيقيون يشيّدون ورش عمل حرفية مثل ما تشهد عليه الآثار. وبالطبع تبقى تجارة مصنوعات خشب الأرز أهم ما كان يصدّره الفينيقيون في هذا المجال، ومن أشهرها في هذا الإطار النواويس الخشبية إلى جانب السفن القوية التي يتعدى طولها ثلاثين متراً وكان لها الدور الأول في انتشارهم.
«كما ساهمت تجارتهم في انتشار الأبجدية حول المتوسط ووصولها إلى اليونان وبعدها إلى العالم الروماني. وما يعطي لمعرض العالم العربي أهمية خاصة، هو أنه جمع للمرة الأولى منذ اكتشاف الحضارة الفينيقية، في القرن التاسع عشر، القطع الأثرية الفريدة المكتشفة في كل المدن الفينيقية، فالزائر يمكنه التعرف في آن واحد على الفن الذي تميزت به مدينة جبيل في لبنان، وأرواد في سورية وسردينيا في إيطاليا وقرطاجة في تونس».
يذكر أن بيير رويار دكتور في الأدب، ومدير «دار رونيه جينوفس لعلم الآثار وعلم الأجناس» في نانتير، كما أنه منذ عام 1988 مدير أبحاث في المركز الوطني للأبحاث العلمية، ومسؤول البعثة الأثرية الفرنسية في آليكانتة (إسبانيا)، من أهم أبحاثه تلك التي تتناول مواضيع التبادلات الاقتصادية والثقافية بين اليونانيين والفينيقيين والإيبيريين في أقصى غرب المتوسط من القرن الثامن حتى القرن الرابع قبل الميلاد.


رياض أحمد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق