اطلاق «موسوعة حلب المقارنة» رقمياً بعد ربع قرن على النسخة الورقية

18 04

للعلامة الكبير خير الدين الأسدي

لم تحظَ أي مدينة بعمل كالعمل الذي حظيت به مدينة حلب من توثيق لتراثها اللامادي من مفردات وأمثال وعادات وتقاليد من خلال العمل المميز الذي قام به العلامة الكبير خير الدين الأسدي، والذي عمل على مشروع «موسوعة حلب المقارنة» خلال سنين حياته الماضية. هذه الموسوعة التي تمت طباعتها للمرة الأولى في سبعينات القرن الماضي بعد وفاة العلامة الأسدي، أصبحت مرجعاً كبيراً للباحثين فيما يتعلق بتاريخ وتراث وأهل حلب وعادات وتقاليد سكانها، والأهم من هذا كله، اللهجة التي يتحدث بها أهل المدينة ومفردات هذه اللهجة وحتى طريقة نطق هذه المفردات.

هذه الموسوعة المؤلفة من سبعة أجزاء والتي يقارب تعداد صفحاتها 3500 صفحة، جرى تحويلها مؤخراً إلى نسخة رقمية سهلة الحمل والنسخ والبحث من خلال جهود جمعية العاديات التي عملت خلال فترة مقدارها ثلاث سنوات على تحويل هذا العمل المميز من عمل ورقي إلى عمل رقمي حيث شهد يوم الثلاثاء 13 نيسان 2010 ميلاد النسخة الرقمية من هذه الموسوعة من خلال حفل أقيم في مديرية ثقافة حلب بحضور محافظ حلب وعدد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ الحلبي إضافة إلى إدارة وأعضاء جمعية العاديات صاحبة الفكرة.

وكان «اكتشف سورية» قد أجرى لقاءات مع من عملوا على إطلاق هذه الموسوعة مستطلعاً أهميتها وفائدتها للمدينة، حيث كانت البداية مع الدكتور محمد قجة رئيس جمعية العاديات في حلب والذي قال لنا عن أهمية الموسوعة: «تعتبر هذه الموسوعة تلخيصاً لما يدعى "التراث غير المادي" والذي يتألف من الأمثال والأهازيج واللهجة الدارجة والعادات والتقاليد لأي مدينة أو مجتمع. تم طبع هذه الموسوعة لأول مرة في أواخر القرن الماضي من قبل معهد التراث العربي في حلب، ومن ثم أعيد طبعها بعدد محدود من النسخ خلال احتفالية "حلب عاصمة للثقافة الإسلامية" في عام 2006 حيث جرى توزيع هذه النسخ على كبار الشخصيات التي زارت المدينة. ما قمنا به حالياً هو تحويل هذه الموسوعة من موسوعة ورقية إلى موسوعة رقمية بنفس النسق والتشكيل الذي عمل عليه الباحث خير الدين الأسدي في موسوعته الأصلية».

وقد عمل على الموسوعة عدد كبير من الأشخاص كان منهم الباحث الأستاذ محمد كمال الذي عمل على تدقيق النسخة الالكترونية من الموسوعة كما عمل على تدقيق نسختها الورقية قبل ما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً حيث يقول لـ «اكتشف سورية» عن هذا الموضوع: «إن خير الدين الأسدي واحد من أناسٍ أرادوا تخليد العلم والمعرفة للأجيال. هذا العمل المميز برأيي سيساعد على تنمية حركة الحضارة والعلم حيث كان خير الدين محباً للعلم ومتصوفاً له وقدم أبحاثاً نظرية وإبداعات فنية متعددة في هذا الصدد. وكان من جملة إبداعاته تقديم موسوعة تتضمن الجانب اللغوي والاجتماعي والفلكلوري لمدينة حلب مع ترتيب المفردات المتداولة في المدينة ترتيباً ألفبائياً. كان مجهود الأسدي في إنشاء هذه الموسوعة كبيراً حيث كان ينزل إلى الشوارع والحارات ويقوم بالتقاط المفردات التي ينطق بها الناس، ومن ثم يعود إلى داره ويرجع إلى المعاجم اللغوية ويظل يبحث حتى يصل إلى حقيقة هذه المفردة وأصلها بما يكون أقرب شكل ممكن لحقيقة مصدرها. استطاع الأسدي عن طريق هذا العمل الذي قام به أن يقدم المدينة للآخرين ويشرح كيف تفكر، وكيف تطبخ، وكيف تتصرف، وكيف تقيم الأفراح والأحزان، وكيف تنسج ثيابها، وكيف ينشأ علمائها وأبرز معالمها والقرى المجاورة لها، وغير ذلك الكثير».

ويضيف بأن الأسدي أحدث التقاطع الرائع بين تاريخ المدينة وبين واقعها حيث يعلق على هذه النقطة أكثر بالقول: «أصبحنا نعلم الكثير عن أحياء القاهرة القديمة من خلال أدب الكاتب نجيب محفوظ، ولكننا في أدبه لم نسمع المفردات وأصوات الناس التي كانت تعيش في هذه الحارات؛ أما الأسدي فقد قام بإسماعنا أصوات سكان مدينة حلب من خلال تقديم المفردات الحلبية مع تشكيلها بطريقة تضمن اللفظ السليم لها».

ويتابع قائلاً بأن «الموسوعة مرت عبر تاريخها بثلاث مراحل أساسية؛ الأولى كانت عندما كتبها العلامة الأسدي بخط يده، والثانية عندما أُخرجت ورقياً إلى الناس، وحالياً وصلت الموسوعة إلى المرحلة الثالثة المتمثلة في تقديمها كنسخة الكترونية متاحة للناس».

تراث لا مادي كبير:
من جهته يقول الدكتور أحمد أديب الشعار رئيس اللجنة المعلوماتية في جمعية العاديات بأن هذه الموسوعة كنز لا مادي كبير يندر وجوده في مدن العالم الأخرى حيث يتابع قائلاً: «بتنا نسمع حالياً محاولات المدن والدول الأخرى للحفاظ على التراث اللامادي لديها مثلما يتم حالياً في المدن البريطانية أو على صعيد الدولة الفرنسية وغيرها من الدول. كما أن الأمم المتحدة بدأت حالياً بتشجيع الدول على القيام بهذا الموضوع لكي تتمكن هذه الدول من الوقوف في وجه سيل العولمة الجارف. والأسدي بدوره قام بهذا الأمر منذ فترة طويلة حيث كان من الأوائل على مستوى العالم في مجال محاولة الحفاظ على التراث اللامادي».

وكان الدكتور الشعار وراء مشروع «رقمنة» الموسوعة وذلك بسبب وجود نقاط ضعف كبيرة في الموسوعة الورقية يعددها بالقول: «كانت الموسوعة تعاني من التكرار حيث نجد الكثير من المفردات مكررة ضمن أجزاء وفصول الموسوعة، كما أن فكرة الروابط التشعبية لم تكن موجودة فيها حيث كنا نرى كلمة أساسية في فصل ما ولا نرى ما يدل على وجود شرح لها في جزء آخر من الموسوعة، كما أنه لم يكن يضع الكلمات المرتبطة بكلمة ما على شكل مداخل. ومن ناحية أخرى، فإن الموسوعة كانت تعاني من نقص حيث كان رأينا أنها لم تغط كامل تراث مدينة حلب، وأنه يمكن تأليف أجزاء أخرى للموسوعة حول المدينة بحجم مقارب للحجم الحالي. أمر آخر في السلبيات التي وجدناها تمثل في صعوبة الوصول إلى المعلومة حتى تلك التي لدينا ثقة بأنها ستكون موجودة فيها، إضافة إلى صعوبة إجراء أي دراسة إحصائية متعلقة بعدد مفردات أو كلمات معينة ضمن الموسوعة».

ويضيف بأن العمل على الإعداد للموسوعة استغرق فترة زادت عن السنتين حيث لم تكن العملية بسيطة والسبب كما يقول: «أود توضيح التالي فيما يتعلق بعملية تحويل الموسوعة إلى موسوعة رقمية، العديد من مراكز الأبحاث تقوم بعملية تحويل المخطوطات إلى نسخ رقمية ولكنها تقوم بعملية التحويل عن طريق مسحها ضوئياً بطريقة Scanning. لهذا الأمر سلبياته حيث لا يمكن للباحث إجراء علمية بحث عن مرات ورود أو تكرار ورود كلمة معينة. أما ما قمنا به فهو عملية رقمنة لها ما يسهل عملية البحث في داخلها. كما قمنا أيضاً بعلمية وضع التشكيل الحلبي ذاته الذي استعمله الأسدي في موسوعته الأصلية لكي يتمكن الناس من لفظ كلمات حلبية معروفة لأهل حلب مثل كلمة "يوب" بنفس الأسلوب الذي يلفظه أهل حلب وبدون تحريف أو تشويه له».

ويضيف الدكتور الشعار بأن العمل صادف الكثير من العقبات بسبب هذه الأمور إضافة إلى صعوبة تنضيد الموسوعة ما جعل المشروع يستغرق كل هذا الوقت حيث يقول: «من كثرة المشاكل التي عانيناها أثناء الإعداد لها، ظننا أن هناك لعنة تلاحقنا، وما زاد الفكرة ترسخاً أن اليوم الوحيد الذي كان متوفراً ضمن مسرح مديرية الثقافة لإطلاق الموسوعة كان يوم 13 من شهر نيسان».

ويتابع بأن الموسوعة الرقمية لم تصل إلى درجة الكمال، إلا أن ما يميز النسخ الرقمية عن تلك الورقية هو سهولة إجراء التصحيحات فيها بشكل أسرع وأقل تكلفة مضيفاً بأن المشروع مستمر بعدد من المقترحات المستقبلية والتي من بينها مثلاً إعادة تحليل الموسوعة على ضوء ردة فعل القراء وتلافي الأخطاء لتقديم نسخة الكترونية وورقية خاليتين من الأخطاء، وعقد مؤتمر سنوي لوضع إضافات على الموسوعة من باب تقديم خدمة لسكان مدينة حلب وليس التقليل من عمل الأسدي وعدد آخر من الأفكار الأخرى.

ومن المتواجدين كان الباحث الأستاذ سمير طحان والذي حدثنا عن فائدة هذه الموسوعة بالقول: «إن موسوعة حلب المقارنة هي تراث عالمي كبير لوقوع مدينة حلب على طريق الحرير في الماضي ولكونها مصب الثقافات حيث استقت مفرداتها وعاداتها من الثقافات التي وردت عليها مثل الثقافات الهندية التي جاءت عن طريق قوافل الحرير، والثقافات الخاصة بالفرس أو الرومان أو الأتراك أو الأجانب الذين قدموا للتجارة وغيرها. هذه الموسوعة هي حقاً عالمية وأنا برأيي أنه في المستقبل ستكون هذه الموسوعة مترجمة إلى أكثر من لغة، والدليل الأبرز على كلامي هو وجود مستشرق إسباني حالياً في مدينة حلب يقوم بترجمة مقاطع من هذه الموسوعة إلى اللغة الإسبانية. كما أن هذه الموسوعة هي وعاء ثقافي يمكن أن تكون مجالاً لإلهامات كبيرة سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الفن أو الأدب أو الأزياء أو أي مجال من مجالات الحياة».

ويختتم قوله بأنه كان ممن حالفهم الحظ وتتلمذوا على يد الباحث الأسدي مضيفاً بأنه يعمل حالياً على إطلاق ستة أجزاء مكملة لموسوعة الأسدي تتحدث عن مدينة حلب متمنياً أن تتاح الفرصة له لنشر إنجازه هذا في المستقبل القريب.

بقي أن نذكر بأن الموسوعة ستتوفر قريباً على أقراص مدمجة بسعر رمزي للباحثين والمهتمين، كما أنها ستتوفر على موقع جمعية العاديات بشمل ملف يمكن تحميله بشكل فوري ومجاني للمهتمين في أي مكان في العالم.


أحمد بيطار - حلب

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

الدكتور محمد قجة في حفل إطلاق موسوعة العلامة خير الدين الأسدي رقمياً

جانب من حفل إطلاق موسوعة خير الدين الأسدي رقمياً في حلب

إستعراض أقسام الموسوعة التي ستكون على اقراص مدمجة من تنفيذ وإشراف عاديات حلب

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

علاءالدين عطار:

علآمة افتقده الوطن

سورية حلب