العدمية

إن نيتشه الذي فهم الانحطاط أكثر مما فهمه سواه، قد عرف في العدمية –Le nihilisme- أحد أهم سماته. وقد أعلن "صعود العدمية" بقوله: "كل ثقافتنا الأوروبية تتجه منذ زمن طويل، بحدة عنيفة تتزايد من جيل لآخر، نحو ضرب من ضروب الكارثة؛ وذلك بدون تمهل، وبعنف واندفاع...".
وإليكم كيف وصف العصر الذي "طُرحنا" فيه (هذه الفكرة عن الكائن "المطروح" في عصره، أصبحت احدى موضوعات الوجودية):
"... إنه عصر التعفن الداخلي الفادح والانحلال... فالعدمية الجذرية تعني بأننا مقتنعون أن الوجود مزعزع بشكل مطلق... والعدمية هي حالة مرضية وسيطة (فالتعميم الضخم، والاستنتاج أن ليس ثمة معنى لأي شيء، إنما هو ظاهرة مَرَضية): فإما أن تكون القوى المنتجة ليست قوية بما فيه الكفاية، وإما أن الانحطاط مازال يتردد ولم يجد بعد وسائله المساعدة... إن العدمية ليست السبب، بل هي منطق الانحطاط فقط".
وبمقتضى تشخيص نيتشه الواضح، فإن العدمية هي النتيجة، وهي التعبير عن الانحطاط. ولكن، بما أن نيتشه كان أعمى بالنسبة للديالكتيك الاجتماعي، فإنه لم يتعرّف على علاقتها الرأسمالية البالية. إن العدمية التي تبدو بوادرها عند فلوبير، إنما هي موقف صادق بالنسبة للعديد من الفنانين والأدباء في المجتمع البورجوازي الحديث. ولكن يجب ألا نسهى عن واقع كونها تساعد كثيراً من المثقفين القلقين على أن يتصالحوا مع وضع غاشم، ليست طبيعته الجذرية في الغالب سوى شكل من الانتهازية المسرحية. فالكاتب العدمي يقول لنا: "إن العالم البورجوازي الرأسمالي لبائس. إني أقول هذا دونما شفقة، وأدفع برأيي الى أقصى مراميه. إن هذه البربرية لا حدود لها. وكل من يعتقد أن في هذا العالم ما يستحق العيش من أجله، أو يستحق اهتمام الإنسانية، إنما هو أحمق أو نصّاب. إن جميع البشر أغبياء وأشرار. المظلومون منهم والظالمون على السواء، والمناضلون منهم من أجل الحرية مثل الطغاة. يلزم المرء الشجاعة لإعلان ذلك". وليسمح لي بالمتابعة في تقديم نص لغوتفرد بن، يقول:
"يخطر لي، أنه قد يكون أكثر جذرية، وأكثر ثورية، وأكثر شجاعة بالنسبة للرجل القوي، القاسي والسليم، أن يقول للجنس البشري: إنك هكذا ولن تكون شيئاً آخر؛ إليكم كيف تعيشون، وكيف عشتم، وكيف ستعيشون دائماً. وإذا كنتم تملكون مالاً، فإنكم ستحتفظون بالصحة؛ وإذا كنتم تملكون السلطة، فلستم بحاجة إلى تبرير تصرفاتكم؛ وإذا كنتم أقوياء، فأنتم على حق. ذلكم هو التاريخ!... ومن لا يقبل مثل هذه الفكرة، يزحف بين الديدان التي تعشش في الرمل، وفي الرطوبة حيث يغمرها التراب. ومن يتبجح، وهو ينظر في عيون أطفاله، في أن له أملاً، بأن يستر البرق بقبضته، ولكنه لا يستطيع أن يتخلص من الليل الذي يقتلع الشعوب من مدنها... إن كل هذه الكوارث تنشأ من القدر ومن الحرية: ونحن نرى أزهاراً لا قيمة لها، وشعلات عاجزة، وخلفها ذلك المجهول مع صيحته الأبدية "لا".
كل هذا يبدو أنه أكثر جذرية من سائر البيانات الشيوعية، ومع ذلك، فنادراً ما تعترض الطبقة السائدة على مثل هذه "الجذرية". وفوق ذلك، ففي فترات الاضطراب الثوري، تصبح العدمية التي على هذا الغرار، لازمة بالنسبة للطبقة السائدة، وتصبح أكثر لزوماً، في الحقيقة، من المدائح المباشرة للعالم البورجوازي. إن المدائح المباشرة توقظ الريبة. ولكن نبرة العدمي الجذرية توقظ أصداء "ثورية"، وتستطيع، هكذا، أن توجّه التمرد نحو العبثية، وتخلق يأساً سلبياً. ولا يتبدد هذا الرضى على العدمية المعادية للرأسمالية، إلا عندما تشعر الطبقة السائدة أنها بمأمن تام، وخاصة عندما تأخذ في التحضير للحرب: فهي عندئذ بحاجة إلى مدائح مباشرة، واستشهادات بـ "القيم الخالدة". وهنا تتعرض العدمية الجذرية لوصمة الاتهام بأنها "فن منحل".
إن الفنان العدمي، لا يدرك، عادة، أنه يستسلم بالفعل بين يدي العالم البورجوازي الرأسمالي، وأنه عندما يستنكر وينفي كل شيء، يقبل هذا العالم كأنه الإطار الذي يناسب المصيبة الشاملة. وليس من السهل بالنسبة لعدد كبير من هؤلاء الفنانين الصادقين ذاتياً، أن يدركوا ما هو في غمرة الصيرورة، والتعبير عنه في الفن. ولهذا سببان أساسيان يجعلان هذا الأمر صعباً: أولاً، الطبقة العاملة ذاتها ليست ملجأ لكل انحلال وهي تعاني من بعض التأثيرات الاستعمارية في العالم الرأسمالي؛ وثانياً، إن سقوط الرأسمالية، لا بوصفها نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وحسب، بل بوصفها أيضاً موقفاً فكرياً، هو عملية طويلة ومؤلمة، وأن العالم الجديد لا يبرز في اتقان مجيد: فهو مجروح ومشوّه من قِبل الماضي، ولابد من درجة عالية من الوعي الاجتماعي للتمييز بين حشرجة العالم القديم وبين آلام مولد العالم الجديد، وبين الأنقاض وبين البناء الذي لما يتم. كما أنه لابد من درجة عالية من الوعي الاجتماعي لتصوير الجديد في كليته، دونما تجاهل، (أو ما هو أسوأ من التجاهل) ودونما تجميل لجوانبه القبيحة. وأنه لأسهل على المرء أن يلاحظ الجانب المريع واللاإنساني فقط، وأن يرى وجه العصر المشوّه، وأن يدينه، من أن ينفذ إلى جوهر ما يوشك أن يولد، خاصة وأن التعفن أكثر تلوناً، وأشد إثارة، وأكثر تشويقاً من العمل الجاهد في بناء عالم جديد. كلمة أخيرة أيضاً: إن العدمية لا تحمل أي التزام.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

عواد:

عزيزي نيتشه لا علاقة له بالعدمية...نيتشه صاحب مدرسة الانسان المتفوق...

والعدمي معادي للحداثة والفكر البرجوازي..


ادهب الى منتدى العدميين العرب...

وهناك ستجد موضوع براءة العدمية من نيتشه...