نسيج من تدمر:إنتاج محلي، استيراد، وتقليد للنسيج الحريري الصيني

06 حزيران 2007


القماش التدمري

إن هذا البحث القصير هو جزء من تقرير أولي عن مشروع تعاون مشترك بين البعثة السورية الألمانية المشتركة لصيانة ونشر المعلومات الجديدة عن الأنسجة العائدة لتدمر. وتود البعثة عن طريق تقديم هذا البحث أن تكرم ذكرى السيد رودولف فيستر الذي كان له التأثير الكبير، عن طريق أبحاثه ومؤلفاته، على تاريخ دراسة النسيج، والذي كان لأعمال الصيانة التي قام بها الفضل في إنقاذ هذا الكنز الفريد من نوعه للأجيال القادمة.
لقد زودتنا الأنسجة المكتشفة في تدمر بفكرة واضحة وحية عن حياة الرخاء فيها خلال ذلك الوقت، وأعطتنا أيضاً فكرة عن موقعها التجاري الوسيط بين الشرق والغرب، وقد وجدت بقايا النسيج إما على أنها أجزاء من أردية المومياءات أو قطع مبعثرة موجودة داخل القبور. وكانت تحتوي على قطع بسيطة من الكتان غير المزخرف بالإضافة إلى القطع الكثيرة الزخارف كالصوف والكتان والحرير. ولحسن الحظ فقد بقيت أكثر هذه القطع محافظة على قيمتها الأصلية ولونها بسبب الطقس الجاف والظلام الذي كان مخيماً في معازب الدفن.
بعد تنظيف النسيج، وتصفيف الخيطان بالشكل الذي كانت عليه طولياً وعرضياً "كما كانت على النول"، فإن جميع النماذج تحولت إلى أجزاء من الأثواب على شكل أقلام. إن دراسة طبيعة الدرزة، بداية الحاشية، وحاشية القماش تلقي ضوءاً جديداً على تاريخ اللباس وصناعة الثياب في العصور القديمة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التحليل المجهري للأدوات، الألوان، وتقنية عملية النسيج يعطي معلومات مفصلة عن مصدر الأنسجة وأدوات الحياكة المستخدمة.

لقد تم اكتشاف كمية كبيرة من النسيج في تدمر، ويمكن تقسيمها إلى مجموعتين، منسوجات التدمريين المحليين والمنسوجات المستوردة من الصين.

إن المنسوجات التدمرية البسيطة هي من الكتان، وهو نسيج يصعب تشربه للسوائل، ولذلك يبقى محافظاً ومستعملاً بألوانه الطبيعية. ويعتبر القطن نادراً، ونماذجه النادرة الباقية غير مزينة. أما الأقمشة المترفة والمزينة قد تم صنعها من الصوف الذي يمكن صبغه بألوان متعددة.

وتوجد لدينا أمثلة عديدة عن صباغ الأرجوان الأصلي في البقايا التي وجدت في تدمر أكثر من أي مكان آخر في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وذلك في الفترة الأولى (من القرن الأول إلى القرن الرابع بعد الميلاد). وفي العصور القديمة كان الأرجوان يملك نفس قيمة الذهب بسبب صعوبة صبغه. لذا نجد أن تزيين الكساء الصوفي بالأرجوان كان يعتبر من دلائل الرفاهية، ويعتبر مثل تزيين القماش بخيوط الذهب.

يستخدم الصوف الأرجواني إما في التقليمات غير المزينة والمساحات اللونية الواسعة أو يستخدم كخلفية لزخرفة جيدة. ومن أكثر الأمثلة التي تم الإنفاق عليها من المجموعة الأولى هو الكساء الصوفي، الذي وجد في مدفن عتنتان (العام التاسع قبل الميلاد)، وبالطبع، لقد تم استيراد الصوف الأرجواني من منطقة ساحل البحر المتوسط.
لقد تم التأكد من العلاقات الوثيقة الموجودة بين تدمر ومدن مثل /صور، صيدا/ أشهر منتجي الأرجوان في العصور القديمة وتدل على ذلك أيضاً مكتشفات أخرى في تدمر. ولقد تم ذكر الصوف الأرجواني غير المغزول عدة مرات في القانون المالي التدمري (137 بعد الميلاد).

إن التأثير الرائع والواضح للنسيج المزدان بالرسوم والصور معزز بالخلفية الغامقة للأرجوان والتي تندمج تدريجياً في أرضية مظلمة وفاتحة الألوان. لقد تم التوصل إلى التغيير بين درجات اللون من الغامقة إلى الفاتحة عن طريق غزل الصوف بمختلف درجات اللون. ولم تكن هذه التقنية الصعبة، والتي تستغرق وقتاً طويلاً، مستخدمة للصوف الأرجواني فقط، لكنها استخدمت أيضاً بالنسبة للألوان المتدرجة المختلفة، كما أكدت على ذلك قطع النسيج المكتشفة في المدفن رقم (65). وإنه لمن المثير أن أسلوب قوس قزح شوهد أيضاً بعد زمن في الفسيفساء السورية.

إن جميع النماذج الصوفية المتعددة الألوان قد تمت حياكتها بواسطة تقنية النسيج المزدان بالرسوم والصور. نجد أن السدّاة مغطاة بطبقة كثيفة من الخيط اللحمي الصوفي. لقد تم صنع هذا الجزء عن طريق عدة خيوط منفردة وليس عن طريق لحمات متتالية. ويحتاج الحائك إلى قطعة من الكرتون، ومثال مرسوم بقياس 1:1 ليستطيع إنشاء مثاله الخاص به. إن الأرضية الأساسية هي من النسيج المخطط والمنقط بالسواد، ويتم إدخال التزيين على القماش عن طريق استعمال النول البسيط. ويعتبر تطوير عملية التطريز بالإضافة إلى المادة الجيدة من الأشياء الرئيسية في الحياكة عند التدمريين.

وبالرغم من بساطة التقنية، فإن أجزاء النسيج التدمري جيدة ومتقنة جداً. لقد أثبت التدمريون أن لديهم مهارة عالية، ولقد برعوا بتقنيات الحياكة. وتوجد بعض الأجزاء التي تحتوي على الكثير من الخيوط المستقلة، ولكنها لم تعد مناسبة لصنع الملابس. إذ أن العديد من الشقوق الطولية الموجودة في نفس المكان المخصص لتغيير الألوان قد تسببت بوجود تزيينات هشة سهلة العطب عند الاستعمال الكثير للنسيج وغسله مرات عديدة. إن الحائكين في اجتهادهم للحصول على أجزاء جيدة قد وصلوا بشكل طبيعي إلى حد تقني توقفوا عنده وكان ذلك من أحد الأسباب التي توضح أخيراً نجاحهم في إنتاج أجزاء من النسيج عن طريق تقنية أخرى من تقليد النسيج الحريري الصيني.

إن النسيج الحريري الصيني المستورد هو من المجموعة الثانية من الأقمشة التي وجدت في تدمر. إن التحليل المجهري للحرير يظهر لنا نوعية ممتازة وبراقة من الخيوط غير المنسوجة. بالإضافة إلى وجود الحرير الملون، فلقد وجد أيضاً الحرير المرسوم، وبعكس النسيج الصوفي التدمري فإن القطع الصينية ذات اللون الواحد أو الألوان المتعددة قد تم إنتاجها عن طريق السدّاة واللحمة وبشكل مستمر،ولم يتم إنتاجها عن طريق الخيوط المستقلة.

نستطيع أن نلاحظ تأثير تلك الأجزاء عن طريق السدّاة وليس عن طريق اللحمة. إن الزخارف الموجودة على النسيج الحريري الأحادي اللون تتألف من العديد من الأسدية الطويلة والمنظمة بشكل يطفو على سطح القماش. إن حقيقة رؤيتنا للقماش بشكل أفضل في الضوء، كما هي الحال مع القماش الأبيض الذي أطلق عليه اسم (هان الدمشقي)، والذي نستطيع أن نجد كمية كبيرة منه في الصين ومنغوليا في القبور التابعة لعصر سلالة (هان)، وفي زمن السلالات الحاكمة الست، يمكن تأريخه بالقرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الرابع بعد الميلاد. ونستطيع أن نرى بين هذه المكتشفات بعض التماثل والتناظر فيما بينها وبين الأقمشة الموجودة في المدافن البرجية في تدمر. على سبيل المثال، الحرير الأخضر الطحلبي الموجود في منطقة لوب ـ نور، نستطيع مقارنته مع الحرير ذي اللون نفسه، ولكنه يحتوي على أقنعة ودوائر ومستطيلات متداخلة وجدت في مدفن إيلابل. إنه حرير يحتوي على رسوم تمثل ماشية وطيوراً منقوشة على أشكال معيّنيّة، وقد وجد في المدفن نفسه وله نفس أسلوب النسيج الذي في لولان.

إن ما وجد من الحرير الصيني المتعدد الألوان هو نادر جداً في تدمر حتى الآن، ولا تعرف منه إلا ثلاثة أمثلة فقط، اثنان منها تم الكشف عنها حديثاً، وهما يتألفان من خيوط السدّاة واللحمة بشكل مختلط، كما في القماش الذي يحمل اسم (هان الدمشقي)، ولكن بعكس جميع الحواشي المركبة الآتية من الغرب، فقد تم إنجاز هذه الأجزاء عن طريق خيوط السدّاة. إن هذا الحرير الباهظ الثمن والذي يحتوي على أرقام موجودة باللون الزبدي، الأحمر المائل إلى البني، الأزرق الحبري إلى أحمر مائل إلى البني، أزرق أو أصفر على القاعدة قد وجدت في مناطق مختلفة في صحراء تكلامكان. من أجمل الأمثلة جوارب موظف صيني كبير وجدت في مكان قريب من منطقة نيا القديمة. لقد تم تزيين نسيج الجوارب بواسطة صفوف من الأحرف الصينية، وتم اكتشاف هذه الأحرف على اثنين من الأمثلة الثلاثة للحرير المكتشف في تدمر.

لقد تم إثبات الأصل الشرقي للحرير. وهذه العلامات تعبّر عن الأمنيات الطيبة، وقد تم رسمها على طريقة الكتابة الموجودة في بلاط هان الإمبراطوري، وبالتالي فإنها تدل على صناعة النسيج في الورشات التابعة للإمبراطورية.

ومن المرجح أن بعض المطرزات الحريرية على أرضية حريرية هي من أصل صيني. لقد صنعت الغرزات من ألوان كثيفة وأصلية حالت ألوانها خلال الخمسين عاماً الماضية، ومن أكثر الأمثلة اللافتة للنظر هي بقايا أنسجة مقلمة وجدت في القبر رقم (46)، فيها أجزاء مطرزات تظهر صفوفاً من وحوش وتنينات. بالرغم من أن الأجزاء السفلى فقط من الحيوانات هي التي تم حفظها، فإن جميع التزيينات التي اكتشفت في تدمر تظهر رسوماً للزهور والورود بقياسات مختلفة. ولكن من التزيينات الغريبة والمدهشة، نرى الزينة ذات الحبكة أو الغرزة التي صنعت على نسيج غير محاك، ووجدت أمثلة كثيرة من ذلك في مدفن إيلابل. بعد علمية تنظيف بعض منها، استطعنا أن نكون فكرة واضحة عن الألوان الأصلية على الحرير والتي حالت ألوانها كثيراً: أزهار السوسن باللون الأصفر، الوردي، التركوازي، والأحمر قد انتشرت على أرضية خضراء طحلبية.

إن التزيين المسرف قد يكون بسبب متطلبات الذوق التدمري. إن الكمية الكبيرة من الحرير التدمري والتطريز، وهي بقايا صغيرة وقليلة من الكميات الوفيرة من النسيج الموجودة في تدمر، أثبتت أن الحرير والبضائع الصينية كانت تصدر بكمية كبيرة. بالرغم من أن تفاصيل استيراد الألبسة الحريرية أو التجار التي كانت تمر عبر تدمر مازالت مجهولة، إلا أنه من الواضح أن قسماً هاماً قد وصل إلى تدمر من طريق الحرير.

ومن الواضح أن النسيج الحريري الصيني قد أثر على النسيج التدمري، ولدينا أدلة على أن التدمريين قد قلدوا الصينيين في حياكة الصوف، ومن الأمثلة على ذلك، النسيج الصوفي المصبوغ باللون النيلي الذي يشبه النسيج الصيني الشفاف، وقد وجد في مدفن برج كيتوت. وتذكرنا أشكال المعينات بالحرير المسمى (حرير هان) مع المعيّن ذاته بأجزائه المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التزيينات على النسيج الصوفي لم تعد تنفذ بطريقة السجاد، ولكن تم نسجها بإضافة خيط إضافي. يوجد أيضاً مجموعة أخرى من النسج المقلّدة كالنسيج المزين بخطوط ملونة غير منتظمة والذي يعطي الانطباع بأنها من نسيج الكات الصيني.

وقد نجح الحياكون التدمريون أخيراً في إنتاج نسيج يحتوي على أجزاء غير محاكة. إن جزءاً من النسيج الموجود في مدفن إيلابل مصنوع من صوف أرجواني ومن نوعية جيدة وذو لمعة مثل الحرير. ويتكون النموذج ذو الزخارف الهندسية من مربعات صغيرة منفصلة عن بعضها عن طريق التغيير في اتجاه الأقطار. إن فكرة تحديد هوية الأجزاء عن طريق معرفة أساليب عملية الحياكة، مقتبسة من طريقة (هان الدمشقي) بالرغم من أن التقنية نفسها قد ترجع إلى جذور غربية.

إن تقنية النسيج الصوفي قد استخدمت لحياكة الحرير الموجود في مدفن إيلابل أيضاً. أما الأشرطة التزيينية غير المحاكة الموجودة على الصوف الأرجواني فقد ثبت أنها من صناعة سكان تدمر الأصليين، وبالتالي فإن المكان الأمثل لحياكة الحرير كان في غرب آسيا.


آن ماري شتوفر

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الاثنان والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق