الرمزية والصوفية

إن الانتقال من الحركة الطبيعية إلى الرمزية والصوفية Symbolisme et mysticisme، كانت له أسباب اجتماعية، ولكنه كان محدداً أيضاً بمناهج الحركة الطبيعية ذاتها. ففي كل التمردات الفكرية والفنية التي انفجرت داخل المجتمع البورجوازي، تأتي دائماً لحظة حاسمة، أو حركة ثورية، لا مجرد حركة احتجاج فقط، فتحرك الجماهير، أو بعبارة أخرى، تبدأ الجماهير بالعمل. ولقد كانت الثورة الفرنسية، وثورة 1848، وكومونة باريس، نقاط تحوّل في الأدب والفن، كما كانت كذلك في السياسة. ودائماً، كان الفنانون مرغمين على اتخاذ موقف، وتأييد اتجاهات تقدمية أو رجعية. وكان للثورة البروليتارية الأولى، ولأول حركة استيلاء على السلطة، وإن مؤقتاً، من قبل الطبقة العاملة في ظل كومونة باريس، أثراً لا يُمحى. فالهلع الذي تملّك البورجوازية، ترك طابعه في هيبوليت تين الطاعن في السن، وفي فريدريك نيتشه الشاب، الذي كانت الكومونة بالنسبة له صدمة لا تُنسى. وبقدر ما كانت الطبقة العاملة تتقدم بحزم في خط التاريخ الأول، أصبح أكثر صعوبة القبول بالتمردات في إطار البورجوازية، المتزايدة التمزق بتناقضاتها، وقد حمل الصراع الطبقي المثقفين، المتمردين أكثر فأكثر، على اتخاذ موقف. وكان عليهم إما أن يتحالفوا مع الطبقة العاملة، وإما أن يتحالفوا مع الرجعية؛ أما الاختيار الثالث فكان وهمياً: فباختيارهم الاستقلال الظاهر للعدمية الاجتماعية، كانوا يدافعون بالفعل عن الوضع القائم ضد قوى المستقبل.

لقد كانت الحركة الطبيعية تعتقد بأنها تصف الظروف الاجتماعية "بموضوعية علمية". ولكن هذه "الموضوعية" كانت خدّاعة. فالحركة الطبيعية، شأنها شأن الانطباعية؛ عجزت عن أن ترى أن هذه الظروف هي صراع بين الماضي والمستقبل، وكانت تراها بمثابة حاضر لا يتغير؛ ولم تنظر إليها في سياقها الجدلي، بل بوصفها لحظة من الزمن ثابتة. وعندما كان تين رجل تقدم، كتب إلى زولا الشاب يقول:
"عندما يسد الكاتب كل المنافذ، ويسجن القارئ، ضمن نوافذ مغلقة، في قصة فريدة، وجهاً لوجه مع وحش، أو مجنون، أو مريض، فإن هذا القارئ يقع فريسة الهلع؛ وغالباً ما يصاب بالغثيان... ففي الفنان المكتمل ضرب من فيلسوف موسوعي كبير النظرات، مركَّبها. أما اليوم فالكاتب أكثر اختصاصاً، وهو يحصر نفسه كثيراً، حول جزء من كل، والمجهر في يده".

لقد فقد الفنان هذا "الكل"، كما أشار سيزان إلى ذلك أيضاً. ولم يكن لدى الحركة الطبيعية ترتيب للأولويات في الواقع؛ فالتفصيل العرضي، والتفصيل النموذجي، يحظيان بذات الاهتمام. إن حواراً أو حدثاً حاسماً، وطنين نحلة، أو دخول امرأة تبيع البيض فتقطع ذلك الحوار أو الحديث، كانت جميعاً معتبرة "واقعية" أيضاً، وبالتالي، هامة كذلك. إن هذا التسجيل الفوتوغرافي للأوضاع، المواجه بطريقة ثابتة، غير جدلية، كان يخلق إحساساً بانعدام المعنى، ومناخاً من السلبية يحمل على الوهن وتثبيط الهمم. وبذلك، كانت الحركة الطبيعية بمعنى ما، بشيراً بنزع الأنسنة، هذا التسليم المثير للاشمئزاز أمام الأشياء، التي جعلتها قوانين الإنتاج الرأسمالي اللا إنسانية قادرة على كل شيء، وهي الأشياء التي وجدت لها، فيما بعد، في الفنون تعبيراً أكثر قساوة. لقد كشفت الحركة الطبيعية عن التمزق، والقبح، ومظاهر العالم البورجوازي القذرة، ولكنها عجزت عن أن تذهب أكثر من ذلك وأعمق، كما عجزت عن أن تكتشف القوى التي تتحفّز لتدمّر هذا العالم، ولتقيم الاشتراكية.

ولهذا كان على الكاتب المندرج في الحركة الطبيعية، والعاجز عن أن يرى أبعد من التفاهات المختلفة للعالم البورجوازي المتباينة، أن يتجه، إن لم يكن نحو الاشتراكية، فنحو الرمزية، والصوفية، ويصبح ضحية رغبته في اكتشاف "الكل" العجيب، اكتشاف معنى الحياة، وراء الوقائع الاجتماعية، أو ما وراءها.


إرنست فيشر

ضرورة الفن|

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق