نبيل السمان يعرض في آرت هاوس

15 06

نقش اللون وحوار الرؤى المتجددة

وشم، تلك الكلمة التي تتخذ العديد من الأبعاد كمعنى ولا تقف عند حدودها، وإن كانت هنا تعني النقش، أو الإشغالات البصرية كتكرارات زخرفيه معينة لمنح اللوحة إيقاعاً من الخصوصية، بحيث يكوّن الخلفية البصرية للشكل (الموضوع) الذي يقدمه الفنان نبيل السمان وإن كان للوشم تعريف محدد.

فالقياس اللغوي يكون بقياس الفن ذاك الوشم المنقوش على الأوابد الأثرية القديمة، ويتعداه إلى ما هو منقوش في شفرتنا الوراثية التي تكتنز بكل التوهجات، وتظهر في حبنا وإبداعنا، فالآتي من هنا يكون الحاضر في اللوحة مشغولاً على إيقاعات حداثية تأخذ في الاعتبار كل الجديد الحالي، فاللوحة تأتي من حراك التفصيلات القديمة لأنفاس الناس لتتصل مع هذه الأنفاس الآن.

فلتكن اللوحة وشماً أو رسماً، نقشاً أو إشغالات الروح على مساحات ألوان العيون، فهذه هي لوحة السمان، وشماً ستجده في قلبك بعد قليل، لأنها تأتي من هذا القديم والحميم الذي يخصك وتعرفه جيداً.

أجواء اللون في لوحتك تتميز بطزاجة وعفوية الحضور الطفولية، وتوحي بأجواء الفريسك، إيقاعات متباينة ولكنها مضبوطة في لوحتك، لنتحدث حول هذا؟

«خبرة العمل تجعلك تبحث دائماً عن العلاقة الكيميائية بين الألوان وتجاورها، بما في ذلك إضاءة اللون وشفافياته. وإذا أردنا أن نتحدث عن بنائية اللوحة، فإن أي فنان صاحب مشروع لا يكتفي بما يخرج من المصادفات اللونية، إذ إنه من عناصر نجاح اللوحة وجود التباين (كونتراست)، هذا الفرق اللوني بين القيم الفاتحة والغامقة، أنا أسميها رحلة اللون من الظل إلى النور، وهذا يرد على سؤالك بخصوص الفريسك، فالألوان المستعملة في الفريسك هي ألوان مطفأة (ترابية) متجاورة ومتلاصقة بتوشيحات تشبه فن الأيقونة المحلية، وبالتالي فثمة ضابط زمني ذا مرجعية محلية أسميها نكهة محلية، الفن لغة عالمية، لكن ما يميزنا هو خصوصية هذه الجغرافيا وهذا الضوء الموجود، وأمّا ما يتعلق بطزاجة اللون فهي إشكالية موجودة عند كل الفنانين، وهي أن أوجد في اللوحة طاقة تجعلها متجددة بصرياً لتخرج من سطوة الزمن، وهكذا تبقى اللوحة تقدم نفسها بهذه الجدة اللونية عبر الزمن، فأنت مثلاً عندما تشاهد لوحة غرفة فان كوخ الصفراء ستشعر أن كوخ غادر المكان للتو!

في ذاكرتنا كل ما أنجز من أعمال فنية خلال تاريخ الفن، ولكن الفنانين الحداثويين يأخذون في الاعتبار قفزة العمل الفني من مقاربة الواقع إلى إيجاد عوالم جديدة لوناً وتشكيلاً، وما نسميه بالعفوية الطفولية موجود في المدرسة الوحشية التي أسس لها ماتيس، ولكن علوم اللون تعود لتعقلن هذه العلاقات، هناك ألوان متممة لعلاقة الأحمر بالأخضر والأزرق بالبرتقالي، ومن عوامل نجاح اللوحة بروز اللون كمنتصر أو منهزم أمام لون آخر وهو ما أسميه بالدراما البصرية أو الإيقاعية في اللوحة، الرسم في اللوحة يمثل العودة إلى فرح الاكتشاف الأول والمتعة الأولى وهو ما يذكرنا بتجربة بيكاسو الذي مر بالعديد من المراحل ليصل إلى أسلوبية تمازج بين الطفولية في الرسم وسمة الحداثة في التعبير والشكل».

لوحتك أشبه ما تكون بقصة لا زمنية تمازج بين الماضي القديم والحاضر بحبكة بصرية تحليلية تكتنز الكثير من المفاجآت، كيف أفهم أكثر هذا منك؟


من أعمال التشكيلي نبيل السمان

«في هذه المحطة من رحلتي الفنية، أقول بأن لكل تجربة فنية زمن للبوح، في البدايات تشكل أدواتك ورموزك ومعرفتك بالمادة التي ستنفذ بها، وبعد أن تمتلك أدواتك تدخل في زمن تكون قد تشكلت لديك فيه مرجعياتك الثقافية ومعارفك، وهذا ما نقول عنه الفرق بين أن تكون رساماً أو فناناً! فالفنان هو صاحب رؤية ثقافية، هذه المحطة من رحلتي تعتمد على إخراج الزمن من حالته التوثيقية لتوظيفه بصرياً في فضاء اللوحة بعد إلغاء البعد الثالث وحالة المنظور، وهذا يقود إلى مقاربة منمنمات الواسطي وفيما بعد كل الحداثويين في أوروبا، نحن لم نأت من فراغ ولسنا صدى للمدارات الغربية، لدينا تراث بصري معماري غني رغم غياب التشخيص في زمن ما لأسباب يطول ذكرها!

أما في زمن ما بعد الحداثة، فأنت تلتقي مع فنانين متعددي الجنسيات على قاعدة عودة الشكل التشخيصي – وبقوة - إلى العمل الفني، الفراغ الروحي لإنسان هذا الزمان وحاجاته للخروج من الحالة الاستهلاكية أيقظت الحالة المسرحية الدرامية في العمل الفني، ولكن هذه الحالة الحرجة بحاجة إلى تكثيف شديد في ظل اكتساح الميديا البصرية وفنون الديجيتال والعوالم الرقمية، ثمة فنون حديثة كثيرة تقتحم ساحاتنا البصرية والفكرية لا نستطيع أن نرفضها، لذا يتحتم على اللوحة أن تقدم في لحظة واحدة كماً هائلاً من التكثيف اللوني والبصري المعرفي الفكري، ولكن بعيداً عن تحويل النص البصري إلى نص أدبي».

ما يضاف إلى نصك البصري ليس الفكرة أو الأفكار بل إيقاعها التطريبي الذي لا تمله العين، كيف استطاع السمان أن يقيم هذه العلاقة بين المدروس والمحسوب والمرتجل بفضاء لوحته؟

«عنونت هذه المرحلة التي أقدمها حالياً بالوشم، وهذا عنوان معرضي الحالي، الوشم محاولة لإيجاد نص بصري مشرقي. وبما يتعلق بالارتجال، فأنا أشبه الأمر بتقاسيم العزف على آلة العود التي قدمها كبار الموسيقيين أمثال منير بشير ونصير شمه، أي أن هناك حالة من الامتلاء والتحريض لحظة مواجهة العمل الفني وبدون هذه الحالة لن تقدم جديداً، هذه التقاسيم ذات مقامات وإذا أردنا أن نقسم المقامات، نذهب إلى للحديث عن اشتقاقات اللون، ففي لوحة ما نلاحظ سيطرة عائلة لونية معينة وهذا التناغم بينها هو ما يوصلنا إلى حالة التطريب البصري هذا، وهو إلى حد ما ليس تهمة في العمل الفني، ولكنه قد يصبح كذلك إذا صار تزينياً (أي مجانياً)، فللون مغرياته لذلك من الضروري العودة لضبط هذا الجموح والسيطرة علية ولكن ليس تقييده».

بخلاف اللوحة التقليدية المحمولة التي تعلق على الجدار أو التي يمكن تعليقها بكل الاتجاهات وصولاً إلى السقف لو أردنا، هذا الأعلى إلام يقود؟

«أحاول أن تنعتق لوحتي من فعل الجاذبية الأرضية، فالكائنات الموجودة في فضاء اللوحة هي في حالة من انعدام الوزن وبالتالي فأنا أرسم اللوحة من الاتجاهات الأربعة للوحة، وبالتالي من الممكن أن تشاهد بعضاً من أعمالي من أكثر من اتجاه وهذا يربطنا بسينوغرافيا تواجد الأعمال الفنية في حيز مكاني جغرافي بعينه، ففنون الحداثة اليوم فنون تركيبية تعتمد على إعادة صياغة توزيع مفردات المكان كلون وإضاءة وحجم أي مساحة المكان ليكون المتلقي في فضاء العمل وليس مقابله فقط.

هذه المشاريع بحاجة إلى شروط إنتاجية عالية الكلفة لذلك ما زلنا نعمل على اللوحة التقليدية التي يمكن تداولها، هناك الكثير من الطرق لتقديم الحالة التعبيرية خارج اللوحة المحمولة ذات البعدين، حيث يمكن أن تكون اللوحة موظفة على الجدران والأرضية أو على السقف، هذا الفضاء كله بخدمة العمل الفني».

ما ميز الفينيقيين صناع الحرف والأرجوان أنهم وصلوا إلى العالم عبر ترحا لاتهم البحرية، أنت هنا تقص هذه الحكاية عبر اللون، أي عالم تصبو أن تصل إليه؟

ليس المطلوب من العمل الفني أن يكون توثيقياً، معرفتنا بالأساطير التي تعود لمنطقتنا والممتدة في التاريخ منذ أسطورة التكوين (إينمونا إيليش) ومروراً بملاحم جلجامش وبحثه عن الخلود الأبدي وعشتار وتموز المرتبطة بتجدد الطبيعة ربيعاً. هذا الفهم الأولي لإنسان هذه المنطقة وثقافته (ثقافة المحراث والحرف) ونقل المعرفة للآخر فرصة لتواضع العقل البشري بأبهى حالات التواصل الإنساني. معرفتنا لتلك الأزمنة ووجودها في ذاكرتنا قصصاً وآثاراً ومنحوتات وعمارة تغني فيما بعد العمل الفني بمفردات ورموز ودلالات فيها تمظهرات تضيف إلى هذا العمل وتعطيه دون قصد بعضاً من ملامحه المحلية، وهذا يشير إلى أنه من المحتمل أن يشكل هوية فنية، وعلى النص النقدي الموازي أن يتحدث عن مدى أصالة ما يقدم، والى أي حد هو مفتعل؟! وكمثال على ذلك: تعود تجارب الحروفية في الفن لتشكيلي وتقديمها على أنها هوية سبب تفاوتاً كبيراً بين ما قدمه محمود حماد وما قدمه ويقدمه الآخرون في مدى هروب النص التشكيلي من دلالاته اللغوية. هذا سؤال مشروع، كيف نستنطق الموروث برؤية حداثوية معاصرة نربط فيها الماضي بالحاضر ونكون مستقبليين بنفس الوقت؟! الفنان أو الفن لديه هذا الدور، بأن يكون جديداً وطازجاً وجدياً ومستقبلياً بغض النظر عن مرجعياته».

من أعمال التشكيلي نبيل السمان

لوحتك نزهه بصرية وعقلية معرفية في آن، وهنا يتداخل الأدبي بالبصري، فهل هذا من مقومات بقاء اللوحة لديك؟

«في مراحل سابقة كانت لوحتي تحمل الكثير من مفردات النص الأدبي، ومع مرور الوقت تراجع هذا النص لصالح الجرعة البصرية مع الإبقاء على مشاركة المتلقي للولوج في عوالم اللوحة ومساعدته في تتبع خط حركتها التعبيرية، بحيث يضيف هو فيما بعد رؤيته الخاصة إلى العمل وهذه المشاركة في العمل الفني مع المتلقي كقيمة تغني اللوحة، أي أن المتلقي يشارك في اكتشاف العمل. هذا يتعلق بالنزهة البصرية والعقلية التي أدعو المتلقي من خلالها إلى مشاهدة العمل، وعلى الفنان أن يكون متفقاً مع ما لديه وما يرسمه، وإلا كيف يستطيع أن يحدث هذا الحوار! الفنان يتبادل الخبرة والأثر الرجعي لهذه المثيرات التي يقدمها للآخر مستفيداً من حالة الدهشة لولوج عالم اللوحة».

لست ملوناً بالفهم التقليدي للكلمة بمعنى التصوير، إلا أنك توظفه بطريقة حادة ومثيرة وتقيم علاقات خاصة بين مساحات اللون والفراغ، كيف نفهمك أكثر من هذه الزاوية؟

«لنأتِ على ذكر فهم سطح اللوحة، فهو سطح جدير بالسبر والاكتشاف حتى يومنا هذا فكل عمل فني بالنسبة لي هو اكتشاف جديد لذهنية التعاطي مع هذا السطح، إنه اختيار لتضاريس القماش ولكيمياء اللون، هناك ألوان كتيمة وألوان شفافة، ولا تحتمل التجربة العبث، ولكن هناك حالة من اللعب في التعاطي مع هذا السطح واشتقاقات الألوان والإلغاء والحك والتوشيح والإضافة وإعادة النظر لاحقاً إلى العمل، كل ذلك دعوة لتواضع العقل، وبأن ما تم اكتشافه ليس سوى بداية، كيف توقف إغراء اللون ووقاحته أحياناً، كيف تنعتق وتعود إلى الأبيض، كيف نوشي جسداً بزخرف أشبه ببروكار دمشقي، هي رحلة تبقى الطبيعة معلمها الأول، أما احتمالات اكتشاف المعادل اللوني والضوء والعتمة في نفس اللون، فهي رحلة بحاجة إلى تأمل صوفي.

هناك فرق بين سطح مدهون وسطح فيه تأثيرات لونية أو تعبيرية تنتقل عبر العين لتعطي مدلولاً نفسياً، فاللون كالموسيقى والعين أداتها، السطح لدي مشغولٌ بعدد من الطبقات اللونية، ويبقى هذا السطح قلقاً حتى إنجاز اللوحة، وبالتالي ليس في لوحتي جزء متروكٌ للصدفة، أي سطح اللوحة لدي سطح مشغول تصويرياً وبالتالي فأنا أعتبر نفسي ملوناً من الجيل الثاني».

تنتقل من مرحلة إلى أخرى في حالة بحثية مستمرة من المائيات إلى الغرافيك، والآن أنت في عوالم اللوحة التصويرية، إلا أنك لا تزال محتفظاً بكل هذا؟

«أعتبر اللوحة مختبراً يمر بمراحل مختلفة. بداية عملت على السطوح الورقية بألوان مائية لأختبر شفافيات اللون، فيما بعد، كان من الضروري المرور بمرحلة الأبيض والأسود لاكتشاف الرحلة من الظلمة إلى النور وبدرجات اللون الواحد، وهكذا بالنسبة لكل لون، حيث كان يمثل رحلة من الظلمة إلى النور. أما الذي يغني التجربة اللونية فهو العمل على لا نهائية استكشاف اللون، اليوم أنا أوظف كل هذا في لوحتي لتغدو بهذا الغنى».

من أعمال التشكيلي نبيل السمان

كثيرة هي العناصر في لوحتك وكأنها مشهد الحياة بكل تفاصيله، ألا يشكل هذا إرهاقاً لعين المتلقي؟

أنا أحب المسرح، فكل العناصر في اللوحة في حالة درامية، أي في حالة حراك وحركة، وهذا ينسحب إلى وجود عناصر غير بشرية تتحاور مع الإنسان على فضاءات اللوحة كالغزال والطيور وهي لتبرير سكونية اللوحة ما بين أي كائن وإنسان، فالرموز والإشارات الشكلية في أي لوحة هي حجة للرسم المباشر، ولكن ينطوي فيها مبررات وجودها من نواح عدة، وإن كان هذا الأمر يتم بشكل غير قصدي، أنا أحاول أن أخلق فضاءات في العمل الفني الواحد، وأتفق معك بأن لوحتي سابقاً كانت تحتوي الكثير من المفردات البصرية ما يدخلها أجواء النص الأدبي، اليوم تتجه لوحتي لتدخل حالة تكثيف واختزال لهذه المفردات لتغدو الرؤية أكثر تأملية».

لا يمكن بلقاء واحد الحديث عن كامل تجربة الفنان نبيل السمان لذا أختم بسؤال حول توظيفاتك الرمزية لبعض الأشكال ومنها الأقنعة، البومة، القطة، الغزال والطيور والسمك. من أي مرجعية تأتي هذه الرموز؟

«لم أنقطع عن زيارة المتاحف وخصوصاً في سورية، ومن خلال ملاحظاتي لمست عناصر كان يتكرر استخدامها في المحفورات ما قبل التاريخية والتي تعود إلى هذه المنطقة، فقد لفتني الغزال الفينيقي محفوراً في تدمر أسفل أسد اللات، وكأن هذه العلاقة ما بين الكائنات تمتلك من القديم مقومات هذا التسامح والتعايش، فبدأت بعض الرموز تقتحم لوحتي دون استئذان وصياغات جديدة تتحرك وتتطور مع تحرك تجربتي، وإن كنت لا أتقصد حضورها الرمزي في فضاء لوحتي، إلا أن حضورها وتجاوره مع غيرها من العناصر قابل لأكثر من تأويل من قبل المتلقي، فأنا أحرص على أن أبقي لوحتي مفتوحة على المتلقي دون تقييدها في عنوان محدد».


عمار حسن

اكتشف سورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق