أنطون المقدسي

01 آذار 2009

.

مقدمة


لقد توارى في الثرى، لكن زهيرات صغيرة آخذة بالتفتح من حيث توارى.

وإذ هي تزهو بألوانها، تعبق بالعطر، ويفوح شذاها الذي يمتد عبر الزمان، ويصل إلينا، لنشمّ فيه عبقاً صوفياً ممتلئاً بهذه الروح التي توارى جسدها في التراب، ومفعماً عطاءً عبَّر عن حب لا يموت لأجيال عبرت على أديم هذا الوطن، وأُخَر تنتظر العبور.

سيرة حياته


ولادته


وُلِدَ في يبرود (دمشق) عام 1914، والده ميخائيل المقدسي وأمه حنة، وكان البكر بين أخوته حسب التسلسل: زكية، مريم، وتوفيق.

تعليمه وكتاباته الأولى


درس الابتدائية في مدرسة يبرود الأسقفية، وقسماً من الثانوية في يبرود والقسم الآخر في دمشق (بكالوريا أولى وبكالوريا ثانية، على الطريقة القديمة) وذلك في عامي 1933–1934.

كان طالب بكالوريا عندما نشر أولى كتاباته في مجلة لبنانية وهو في السابعة عشرة من عمره، ورفض ناشر المجلة التصديق بأنه كاتب المقالة حين التقاه لأول مرة!، أما كتاباته الأولى في الصحف الأدبية فقد بدأت فعلياً منذ عام 1938.

وحين كان طالب حقوق في الجامعة السورية قطع دراسته وذهب إلى فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية كي يدرس الفلسفة الإغريقية وعلم الاجتماع وحصل على إجازة في الفلسفة وشهادة في الأدب الفرنسي من فرنسا، جامعة مونبيلييه.

عمله وبدايات حياته السياسية


عندما عاد إلى سورية عمل مدرساً للفلسفة في ثانوية حمص (اعتباراً من تشرين الأول 1940) ثم في حماة وفي دمشق ثم في حلب. كما درّس أيضاً علم النفس والتربية في دار المعلمين بحلب أولاً ومن ثم في دمشق.

وأثناء ذلك أكمل تحصيله القانوني في كلية الحقوق، وحصل على إجازة في الحقوق وأخرى في العلوم السياسية من مدرسة الحقوق الفرنسية في بيروت، وكانت ما تزال تابعة لجامعة ليون (فرنسا)، وانخرط في الحياة السياسية نصيراً لاستقلال الوطن والمستضعفين من أبنائه، ومدافعاً عن عروبة فلسطين، ومناضلاً في سبيل وحدة العرب! وكان صديقاً لزكي الأرسوزي والتقى عدة مرات مع ساطع الحصري.

كان له دور في الحركة الشعبية التي عرفتها سورية بدءاً من أواخر الأربعينات، وأدت إلى إيقاظ الفلاحين من خلال زياراته المتكررة للقرى وفقراء المدن، حيث نشر لديهم الوعي بحقوقهم، وأهمية دورهم في الحياة العامة، ليطالبوا بحقوق عادلة، فلعب دوراً رئيساً في بلورتها والدفاع عنها بالقلم والموقف العملي!.

درّس الفلسفة اليونانية في جامعة دمشق (ساعات إضافية) طوال عشرين عاماً، كما درّس الفلسفة السياسية في المعهد العالي للعلوم السياسية لمدة أربع سنوات.

كان له دور مهم في الجامعة، جعل منه أحد أبرز العارفين بالفلسفة اليونانية في الوطن العربي، وواحداً من أكثر الأساتذة قرباً من الطلبة وحواراً معهم!.

حزب الاتحاد الاشتراكي


يعتبر أنطون المقدسي أحد مؤسسي حزب الاتحاد الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني، ووضع دستوره ونظامه الداخلي، وحين اندمج هذا الحزب عام 1953 مع «حزب البعث العربي» ليصير اسمه «حزب البعث العربي الاشتراكي» كان أحد الذين -إن لم يكن هو- كتبوا وثيقة الاندماج، وفور وصول الحزب إلى السلطة انسحب منه أنطون المقدسي وغادر نهائياً النشاط السياسي المباشر وتفرغ لعمله الفكري، فبدأ يكتب دراسات فكرية وتاريخية وفلسفية، كل دراسة بحجم 100 صفحة، وغيرها بأقل من ذلك.

زواجه وأبناؤه


روي عنه أنه في عام 1955 استعار خاتمين من صديقين له كانا في المقهى، عندما ذهب إلى الكنيسة لعقد قرانه على شريكة عمره وحبيبته لوريس، وأن هذين الصديقين كانا شاهدي عرسه.

سكن مع زوجته لوريس في حي شعبي يدعى ركن الدين، وكانت تجربة كبيرة من حيث الاحتكاك بالوسط الشعبي مباشرة وتركت آثاراً في روحه لا تُنْسَى. و قد انتقل ليصبح حي الشعلان مسكنه الدائم اعتباراً من سنة 1969.

أنجبت لوريس له كلاً من: سمر التي أصبحت فيما بعد عازفة بيانو عالمية وتخرجت من كلية الصيدلة وتزوجت وهي مقيمة في ألمانيا، ثم ميشيل الذي حصل على الدكتوراه في علم الآثار وهو الآن مدير التنقيب والبحث الأثري في مديرية المتاحف والآثار في دمشق ومتزوج، وأخيراً لينا وهي مهندسة كهرباء ومتزوجة ومقيمة في دمشق.

عمله في وزارة الثقافة


ترك أنطون المقدسي الجامعة السورية، وتفرغ لعمله في وزارة الثقافة مسؤولاً عن مديرية الترجمة والتأليف منذ عام 1965 ولغاية عام 2000.

وأثناء توليه مهام إدارة التأليف والترجمة في الوزارة اشترك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام 1969، وظل عضواً في مكتبه التنفيذي حتى عام 1996.

وقد استطاع أن يجعل من إصدارات وزارة الثقافة السورية أهم إصدارات الكتب في الوطن العربي، حيث أدخل الحداثة إلى نوعية الموضوعات التي أصدرتها الوزارة، كما أدخل كافة التيارات الفكرية والنقدية الحديثة إلى سورية.

وعلى هذا النحو كان له دور مهم في وزارة الثقافة، حيث أشرف على ترجمة ونشر أهم ما عرفته المكتبة العالمية منذ منتصف القرن الماضي، فضلاً عن الكلاسيكيات الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والروائية والفكرية والسياسية من كل صنف ولون، لم يؤمن بماركس ومع ذلك فقد ترجمه إلى العربية لتسنح الفرصة لدراسته، وبالتالي فقد حوَّل مديرية صغيرة في وزارة الثقافة يعمل فيها عدد من الموظفين إلى واحدة من أكثر دور النشر العربية أهمية، سواء من حيث كم الكتب التي أصدرتها أم من حيث نوعها!.

ويمكن القول أن أنطون المقدسي قد أشرف خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من القرن المنصرم على إنجاز أضخم وأغنى مشروع ثقافي ظهر في سورية إلى الآن، إذ تمكن من خلال إدارة التأليف والترجمة هذه من نشر حوالي 3000 كتاب (مؤلف ومترجم) لكبار الكتاب والمفكرين من مختلف العصور.

وعلى هذا النحو يُعْتَبَر أنطون المقدسي بلا جدال واحد من ألمع المثقفين العرب المعاصرين، خصوصاً أنه حصّن نفسه من الانزلاق في إغراءات المناصب والألقاب كما أشار الكاتب علي ديوب.

وفي أحد الحوارات معه، استخدم أنطون المقدسي كلمة «قرائي»، وقد لاحظ المحاور أنه يقول ذلك لا ليقصد قراء أعماله، بل ليقصد قراء الكتب الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، إذ كان يشعر أن الكتب الصادرة عنها كأنها من إنجازه، لذلك كان لا ينشر سوى الكتب التي يعتبر أنها مفيدة للثقافة السورية، واكتسب بذلك شهرة واسعة لدى القراء واحتراماً بالغاً وثقة عظيمة.

لقبه


كان يُلَقَّب في الأوساط الثقافية السورية بـ«الأستاذ» حيث أنه لم يعمل كمؤلف كتب، بل كان يناقش ويحاور ويوجه ويلقي المحاضرات، وكان ذا معرفة واسعة بمختلف أنواع وأشكال الفكر، وبمختلف الاتجاهات الفلسفية القديمة والحديثة، وكان محباً بشكل خاص للفلسفة اليونانية، كل هذا جعل لقب الأستاذ ينطبق عليه كثيراً.

لقد عاش أنطون المقدسي محترماً ومبجلاً على المستوى الثقافي العربي والسوري خاصة، ومن النادر أن يعيش مثقف سوري هذا العمر المديد ويحافظ على هذا الاحترام طيلة الوقت.

شيخوخته


ولأن المقدسي صاحب مشروع فقد بقي في الوزارة بعد التقاعد وفي ظل شيخوخة صريحة، وكان الزائرون للوزارة يستغربون كيف يقوى هذا الرجل على العمل لساعات طويلة، قراءة وكتابة وإدارة ونقاشاً ومقترحات ومشاركة في ندوات.

وفاته


أمضى المقدسي أيامه الأخيرة في مستشفى الطب الجراحي بدمشق، وطلب أن تكون جنازته بسيطة، تخلو من المراسم والرسميات، وأن يحضرها الناس بصفتهم أصدقاء له وحسب، وليس بأية صفة أخرى.
وفي 5/1/2005 أسدل الستار عن حياةٍ مفعمة بالعطاء والحب.

مؤلفاته


إن الكتاب الصادر في العام 1992 عن دار الريس للنشر تحت عنوان «حرب الخليج، اختراق الجسد العربي» هو أساساً مقالة كتبها أنطون المقدسي لمجلة «الناقد» ونشرتها الدار لاحقاً في كتاب من دون علم المؤلف. ورغم أن الكثير من مقالات أنطون المقدسي يتجاوز عدد صفحاتها المئة، أي أن كل واحدة منها تصلح منفردة لأن تكون كتاباً، فإن المقدسي ظل مصراً على بقائها طي المجلات المتخصصة، ورفض نشر أي منها في كتاب مستقل، كونها جميعها بحسب رأيه، في حاجة إلى مراجعة وتدقيق. فتواضعه الجم لم يكن يكافئه سوى توقه إلى الاقتراب من الكمال ومعرفته الفلسفية باستحالة الوصول إليه.

أعماله


1) «فاسا جيليزنوفا»، تأليف: مكسيم غوركي، ترجمة: أنطون المقدسي، وزارة الثقافة، 1981.
2) «مبادئ الفلسفة: مشكلة المعرفة»، تأليف: أنطون المقدسي، وزارة التربية، 1985.
3) «الصوفانية (1982–1990)»، بقلم: الأب الياس زحلاوي (وقائع وذكريات)، الأستاذ أنطون المقدسي (تأملات)، حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، 1991.
4) «حرب الخليج: اختراق الجسد العربي»، تأليف: أنطون المقدسي، دار رياض الريس للنشر، 1992.
5) «المسألة القومية على مشارف الألف الثالثة: دراسات مهداة إلى أنطون مقدسي»، بالاشتراك: أنطون المقدسي في مقالة أكثر من مئة صفحة بعنوان إشكالية الأمة.
6) «الأستاذ»، إعداد وتقديم: د.علي القيم، مجموعة مقالات لأنطون المقدسي معظمها في مجلة المعرفة منذ 1968 حتى 1992، وزارة الثقافة، 2006.
7) «الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية»، تقديم: أحمد حيدر، مراجعة: د.علي القيم، مجموعة محاضرات في السنة الثالثة لمادة الفلسفة في العام الدراسي 1953–1954، وزارة الثقافة، 2008.

أهم مقالات أنطون المقدسي


المقالات المنشورة في الصحف العربية

1– في الأدب:


- «قضايا الأدب وضرورة إنتاجه»، 90 صفحة، في قضايا الأدب العربي، سلسلة الدراسات الأدبية 2، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1972.
- «مدخل إلى دراسة الأدب والتكنولوجيا»، 50 صفحة، الموقف الأدبي، عدد 12، نيسان، 1973.
- «وطن ألّفه الكلام»، مجلة المعرفة السورية، عدد 147، أيار 1974 (عن فرادة الشعر الفلسطيني).
- «العقل في الأدب: مقدمات عن معقوليات الحداثة الأدبية»، 20 صفحة، الموقف الأدبي، عدد 1، أيار، 1974.
- «الحداثة والأدب – الموجود من حيث هو نص: رؤياه وإبداعه»، 20 صفحة، الموقف الأدبي، عدد 9، 1975.
- «مقاربات من الحداثة»، 60 صفحة، مواقف، عدد 35، ربيع 1979.

مقدمات طويلة لبعض الأبحاث والأعمال الأدبية، منها:


- «الرواية والأصل»، مقدمة لـ«رواية الأصول وأصول الرواية» لمارت روبير، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1987.
- «عبد الله يبحث عن نفسه» مقدمة لـ«عبد الله والعالم"، لخالد محيي الدين البرادعي 1992.
- «قراءة في سفر الصحراء»، مقدمة لأعمال الشاعر وصفي القرنفلي.
- «قراءات في حياة عبد البر ونصوصه»، مقدمة لأعمال عبد البرعيون السود.
- «طريقة»، مقدمة لأعمال الروائي جورج سالم.

2– في الفلسفة:


- «من الوجود إلى الوجودية»، المعرفة، عدد 85، سنة 1969.
- «لينين والفلسفة المادية»، 30 صفحة، المعرفة، عدد 99، أيار 1970.
- «في البدء كان المعنى»، المعرفة، عدد 113، تموز 1971.
- «الفلسفة تبحث»، 115 صفحة في كتاب «عن الفلسفة» لإبراهيم الفاضل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1979.
- «العقل وغير العقل، عقلانية في البحث عن موقع العقل»، الوحدة، عدد 55، عام 1988.
- «من المنطق إلى الميتافيزيقا»، المعرفة، عدد 334، تموز 1991.
- «ما هي الماركسية؟ قراءات الياس مرقص في أسفار الماركسية اللينينية»، 30 صفحة، المعرفة.
- «الفلسفة تحاور الأدب»، المعرفة، العدد 350، تشرين الثاني، 1992.

3– في الاقتصاد:


- «مقومات أولى للاقتصاد الحديث» المعرفة، عدد 176، 1976.
- «ديالكتيك الاقتصاد ومنهجه لدى كارل ماركس»، المعرفة، عدد 112، 1971.

4– في الفكر العربي المعاصر:


- «في الطريق إلى اللسان: بحث في الأرسوزي واللغة»، الموقف الأدبي، عدد 3–4، 1972، وكذلك مقدمته لأعمال الأرسوزي.
- «الأمة في فكر الحصري والأرسوزي القومي»، المعرفة، عدد 195، 1978.
- «الحصري يعرف الأمة»، المعرفة، عدد 204، 1979.
- «صدقي اسماعيل مفكراً، مع تأملات في الفكر والأدب»، المعرفة، عدد 164، عام 1984.

5– في القضايا العربية:


- «القضية الفلسطينية والغرب المسيحي»، المعرفة، عدد 110، 1971.
- «الوحدة في المعرفة العربية»، المعرفة عدد 130، 1972.
- «النهاية في البداية»، الموقف الأدبي، عدد 59–60، 1976.
- «من الحوار إلى طريق الحوار: محاولات في جذور الفكر القومي»، المعرفة، عدد 198، 1978.
- «الطريق العربية إلى الأمة»، المعرفة، عدد 199، 1979.
- «المثقف العربي والديمقراطية»، المعرفة، عدد 139، 1982.
- «الصورة العربية عن الحضارة الغربية والاستجابة لهذه الصورة»، في «العلاقة بين الحضارتين العربية والأوروبية، وقائع ندوة هامبورغ، نيسان، 1983»، الدار التونسية للنشر، 1985.
- «تيارات الإحياء الديني ومستقبل الثقافة في لبنان– أولوية الحل الثقافي»، الكاتب العربي، عدد 12، 1985.
- «النهضويون المسيحيون العرب»، مقال بالفرنسية في وقائع ندوة «مسيحيو العالم العربي»، باريس، 1987.
- «الديمقراطية في مواجهة العنف»، الموقف الأدبي، عدد 211، 1988.
- «حرب الخليج: اختراق الجسد العربي»، دار رياض نجيب الريس، 1992.

6– الفن التشكيلي:


- «العقلي واللامعقول، من بولدلير إلى الفن الحديث»، الموقف الأدبي، عدد 2، عام 1972.
- «الفن والإنسان، وإلياس زيات»، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.
- «ساعات مع الفاتح»، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.
- «ذلكم هو الإنسان»، (عن الفنان مروان قصاب حسن)، الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق.
- «إن لم تكونوا كالأطفال»، عن رسوم الأطفال اللبنانيين، الموقف الأدبي، عدد 4، 1974.

فكره السياسي


أولاً القضية الفلسطينية:


يرى الأستاذ أنطون المقدسي أن المشكلة الفلسطينية كلية، أي أنها تتناول الوجود العربي بمجموعه، وفي كل أبعاده الفكرية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
وهو يقول في هذا: « إنما هي مشكلة جسم حي يُزْرَع صنعياً، على جسم حي آخر، فإما أن يرفضه هذا أو ينهار».
ويقول أيضاً: «يبدو لنا شخصياً أن للمشكلة، من الوجهة السياسية، ثلاثة مستويات يرتبط كل منها بالآخر فهي بآن واحد، قطرية (تتعلق بأبناء القطر الفلسطيني)، وعربية (أو قومية) ودولية. فأي حادثة تقع في فلسطين – كبيرة كانت أم صغيرة– ينتقل أثرها فوراً وعبر العالم العربي إلى كافة أطراف العالم وتثير اهتمام الدول كلها».

الفكر العربي والقضية الفلسطينية:


يرى أستاذنا المقدسي أن المشكلة الفلسطينية لها من الوجهة الثقافية ثلاثة مستويات، هي مترابطة ديالكتيكياً: المستوى الشعبي والمستوى الفكري والمستوى السياسي. والفكر يتوسط بين الشعب وقيادته، يأخذ عن الأول ويعطيه، ويأخذ عن الثاني ويعطيه.
إلا أن المقدسي يلاحظ بحضور بديهته تسارع الأحداث في الوقت الحاضر وقد أدى ذلك إلى تجاوز السياسي المفكر، وبذلك تم حذف مستوى وسيط هام، فأصبحت المشكلة مبتورة وكأنها فقدت عقلها.
ويشير المقدسي إلى أن قضيتنا ليست واضحة لا في الشرق ولا في الغرب، وإنما هناك إيمان بعدالتها في الشرق وإنكار مغرض لعدالتها عند الأكثرية الساحقة من مفكري الغرب وسياسييه. وأخيراً يرى أن الحل منطلقاته أربعة: الأول قومي فهو يقول أنه يحق لنا أن نختصم في كل الأمور وعلى كل المستويات، ولكن من الجريمة والعار أن نختصم حول مسألة كالمسألة الفلسطينية تهددنا في وجودنا. والثاني شعبي ذلك أن الشعب في عقله لا انفعالاته، في تنظيمه لا في مسيراته. والثالث فكري فهو بحاجة إلى بلوغ مرحلة التحليل الانتقادي في جو من الحرية بكل أبعادها السياسية والدينية بعيداً عن التعصب والانفعال والأحكام المسبقة. وهذا يؤدي بنا إلى المنطلق الرابع ألا وهو الانفتاح الفكري بالتجاوب مع الفكر العالمي من جهة ومع الشعب وقادته من جهة أخرى. وبالنتيجة فإذا لم يتكون الفكر العربي على أسس علمية فلن يتكون الشعب ولا الحاكم، ولن تتكون الأمة التي بيدها وحدها حل المشكلة، وهي في المرحلة التاريخية الراهنة، مفتاح مشاكلنا كلها.

ثانياً) حرب الخليج، وبواكير النظام العالمي الجديد:


يقول المقدسي: «كانت أزمة الخليج، في شكلها الأول تمهيداً للحرب، والحرب تمهيداً للسلم (العربي–الإسرائيلي طبعاًُ)، والسلم تمهيداً لإقرار النظام العالمي الجديد، في هذه المنطقة من العالم، الذي هو نظام الهيمنة الأميركية على العالم. ولهذا بدا واضحاًَ منذ بداية الأزمة، أن النتائج ستتجاوز الأسباب، فالذريعة الأولى كانت تحرير الكويت والدفاع عن الشرعية الدولية والديمقراطية (ومعروف أن دولة الكويت ديمقراطية جداً!). ولكن عندما بدأت تغطي أرض الخليج وبحرها وسماءها الجيوش الأحسن تدريباً (وقد بلغ عددها ما ينيف عن النصف مليون) والأساطيل البحرية الأحدث، والطائرات الأسرع وكلها مزوّدة بالأسلحة المسفسطة، بدا واضحاً أن الهدف أبعد مدى بكثير من صراع محلي أو عربي. واليوم لم يعد أحد ليشك بأن أهداف الحرب المضمَرة والمعلَنَة متعددة. قد يكون أهمها: تدمير العراق أسلحة وشعباً ونظاماً بحيث لا يعود له أي دور في صراعات المنطقة مستقبلاً».
ونستطيع أن نحدس من كلام المقدسي أن تدمير العراق، سيكون البوابة التي يدخل منها ما يُسَمّى الشرق الأوسط الجديد الذي يحمل نعش العراق على أكتافه وربما نعش لبنان، ونعش فلسطين الذي كنا حملناه، واليوم حملنا نعش غزة. والحال فالشرق الأوسط الجديد يحمل نعش الأمة العربية على أكتافه، فهو بعبارة أخرى، يخفي حرباً حقيقية على الأمة العربية، بهدف تحويلها إلى دويلات تقوم على أسس طائفية متناحرة ومتقاتلة فيما بينها، وتحييد الصراع من صراع عربي صهيوني إلى صراع عربي إيراني أو صراع سنّي–شيعي أو حتى عربي–عربي!!.
ولما كان العراق هو البوابة التي يدخل منها الشرق الأوسط الجديد، ففيه تبدأ كل المخططات، ورأينا منذ فترة تهجير المسيحيين من الشرق الأوسط الجديد المزعوم هذا الذي بدأ مخططه بالعراق، وقد يسأل سائل لماذا؟!.
يشير المقدسي في دراسته إلى مقالة نشرت في مجلة الناقد عدد 33/آذار،1991، ص4–5، للباحث كمال أبو أديب يقول فيها: «إن منعطف 1973 شهد بزوغ الأقطار العربية المتحررة والمتقدمة ثقافياً على المسرح الدولي، بوصفها قوة يُحْسَب لها عالمياً حساب. فصار من الضروري تحطيمها وإحلال الإسلام والأمة الإسلامية محل العروبة والأمة العربية».
من هنا إذن لَعِب الغرب على وتر الطائفية في حربه على الأمة العربية، ولهذا كان لابد من إخلاء الشرق الأوسط الجديد من المسيحيين والعمل على تهجيرهم بدءاً من العراق لتجريده من العروبة وإلصاق الأمة الإسلامية محله على أسس طائفية مدروسة، ناهيك عن الحملة الرعناء التي تعرض لها الإسلام. هذا الإسلام أيضاً تعرَّض لحملة تشويه فظيعة، وأصبح يُنْظَر إليه على أنه أساس الإرهاب وأساس التطرّف..الخ. وفي كل هذا حملة مغرَّضة بهدف تشويه معالم المنطقة الثقافية والروحية، وإلصاق الطائفية والتعصب والنعرات الإثنية فيها!!.
نعود للمقدسي الذي بدأنا بالحديث عن أهداف حرب الخليج كما رأينا أولاً في تدمير العراق. ثانياً، « إنهاء حلم الأمة العربية الواحدة بإحداث شرخ فيها يمزقها في الصميم، والاستيلاء المباشر على بترول الخليج».
وهنا أحب أن أنوِّه إلى إشارة المقدسي في هذا البند، أنه مع إنهاء حلم الأمة العربية الواحدة بإحداث هذا الشرخ فيها يمزقها في الصميم، فقد نجحت الإدارة الأميركية بنقل عقدة الهزيمة من اللاشعور الأميركي الذي رسخت فيه هذه العقدة إثر حرب فيتنام المشؤومة، وتباشيرها لاحت مع طرده بأساطيله البحرية والجوية والبرية من القرن الإفريقي في الصومال، فقد نجح إذن بدهاء ماكر في نقل هذه العقدة إلى اللاشعور العربي بزهوه بانتصاره الخرافي في حرب العراق.
نعود للمقدسي في ثالثاً، «خنق كل نية بالتمرد في العالم المتخلف على سلطة أميركا المتحدة، وإدخال المنطقة العربية في نظام للهيمنة، أطلقوا عليه تيمناً اسم "النظام العالمي الجديد" ولهذا عطلت أميركا المتحدة كافة أنواع التسويات التي اقتُرِحَت من أجل حل سلمي، أزّمت الموقف وجعلت من مجلس الأمن واحداً من أجهزتها، وصوّرَت الرئيس العراقي على أنه هولاكو نهاية هذا القرن، يعد العدة التي تمكّنه من أن يقضي على الديمقراطية والحضارة! وبعد أن كان ما كان، يحق لنا أن نتساءل ما إذا كان هولاكو هذا عربياً أم أميركياً».
وعلى هذا يعتبر المقدسي حرب الخليج واحدة من نكباتنا الثلاث الكبرى في التاريخ المعاصر، جذورها كلها في النكبة – الأم التي هي الدولة القطرية: نكبة 1948، نكبة 1967، وأدهاها نكبة 1991 لأنها جعلت من التجزئة في نظرهم واقعنا الأبدي.
ثم يتابع قائلاً: «لقد استهدفت حرب الخليج التدميرية الشعب العربي عبر العراق، والشعوب المتخلفة عبر الشعب العربي. وهي من هذا القبيل، حرب عرض عضلات. الحرب الحقيقية التي تُشَنّ علينا، نحن العرب بدأت مع مؤتمر السلام. إنها أخطر حرب واجهناها منذ خمسة عشر قرناً ونيِّف. إذ القصد منها تفتيت الشعب العربي بشكل منهجي، كي يتحول إلى قطع صغيرة، يختارون منها القطع الأضعف، ويحيّدون القطع الأخرى بالرشوة أو بالتهديد، كي يتمكنوا من وضع القطع الأخرى على المشرحة لإبادتها.
وكان بريجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر قد أعلن: سنلعب بعد الآن لعبة الطائفية. ففي رحلة التفتيت هذه، أزيحت الـ(نحن) القومية بعد فترات متعاقبة من الصعود والهبوط لحساب الـ(نحن) القطرية، وصار من الممكن لواحد من أركان مجلس التعاون الخليجي أن يعلن: أثبتت حرب الخليج أن الأمة العربية خرافة».
وأخيراً، يوضح المقدسي ماهية النظام العالمي الجديد قائلاً: «إذن الاستعمار هو الاستعمار، يلبس لكل حالة لبوسها، فهو قديم جديد، جديد قديم. إلا أنه يظن أنا نسيناه، فيشدّد على حضوره كي يذكرنا به. وآخر زي اصطفاه لذاته أدهى الأزياء وأشرسها هو (النظام العالمي الجديد) الذي هو أعلى من الامبريالية. شكله هرمي تراتبي. إنه نظام من التبعيات المتبادلة».
وإنني أتساءل هنا ماذا لو أن المقدسي الآن حيٌّ يُرزَق فيما بيننا، ماذا لو رأى هذه الامبراطورية الاقتصادية قد بدأت أزمتها المالية منذ أزمة العقارات، التي تلتها بعد شهور قليلة الأزمة المالية العالمية، التي ضخّتْ فيها التريليونات من الدولارات لاحتواء هذه الأزمة، وبدأت تراوح قريباً من الإفلاس، وعلى هذا النحو، وكما لو أن الامبريالية بنظامها الرأسمالي قد أوشك على الأفول، ومن هنا تلوح الاشتراكية في الأفق على أنها ستكون البديل لكي تعطي الحلول على أرض واقعية لا طوباوية، فنحن نرى اليوم الغرب لم يجد حلاً إلا في تأميم قطاعات كبيرة من الخاص وضم حصص كبيرة من البنوك لكي لا تنهار نهائياً تحت وطأة الأزمة.. أتساءل، هل هذا ينبئنا بشيء ما؟! هل هذا يريد أن يقول لنا أننا فعلاً على عتبات نظام عالمي جديد مختلف تماماً عما توقعه أو أراده جورج بوش؟!.

ثالثاً) الأرسوزي وصوفية الأمة:


يشير المقدسي في مقالته الكبيرة حول الأمة–الإشكالية، إلى أن العروبة، ومنذ أن تم اكتشافها في النصف الثاني من القرن الفائت، شكلت المعنى الأبعد والأكمل لوجودنا، وعلى هذا النحو فهو يقسِّم أجيال العروبة إلى خمسة أجيال:
الأول: هو الذي حاول إحياء اللغة العربية ونشرها على أوسع نطاق ممكن لمقاومة عملية التتريك.
الثاني: هو الذي جاهد من أجل فصل الوطن العربي بشكل أو بآخر عن تركيا العثمانية وبعد العثمانية.
الثالث: هو الذي كونته الثورات القطرية، صقلت فكره ومكنته من وضع استراتيجية للوحدة. ولكن هذه الاستراتيجية كانت ما تزال قطرية، أقصد أنها تنطلق من القطر وكأنها ترد العروبة إليه.
الرابع: هو جيل الإيديولوجيين وقد ضم مجموعة من المثقفين الثوريين، جلّهم من المشرق العربي، بدأت حركتهم قبيل الحرب العالمية الثانية، واستمرت أثناءها ومارست فعاليتها الأقوى والأنضج بعدها. أعلامها ثلاثة: زكي الأرسوزي (1900–1968)، ميشيل عفلق (1909–1989)، وساطع الحصري (1879–1968)؛ سبقتهم ومهدت الطريق أمامهم ورافقت مسيرتهم شوطاً كبيراً حركة القوميين العرب المتعددة الأشكال، أو حركة «الوعي القومي» كما يقول أحد أكبر روادها د.قسطنطين زريق.
عندما انتقل زكي الأرسوزي عام 1938 من إسكندرونه إلى دمشق هو والعديد من مريديه كان قد قاد حركة قاومت بشجاعة نادرة عملية تسليم تركيا لواء إسكندرونه. وهي عملية تبنتها فرنسا، عسى أن تشترك تركيا في الحرب مع الحلفاء أو على الأقل تلزم جانب الحياد.
ثمة أربعة مفاهيم كانت على كل الألسن بين الحربين: النهضة، اليقظة، الإحياء، والبعث. ويرجح الأرسوزي، في الندوات التي كانت تعقد عفوياً حوله في المقاهي أين وأنى وجد واستمرت حتى آخر أيام حياته، مفهوم البعث الذي يشير إلى أن الهدف المباشر والأبعد للكفاح العربي هو استعادة حقيقتنا، وقد طمس معالمها هجوم الأغيار على ديارنا واحتلالهم لنا، وبعث هذه الحقيقة كما تُبعَث الروح في البدن. وفي عام 1943 تفرغ لكتابة فلسفة الأمة العربية. وقد لخصها وكثفها العام ذاته 1943 في كتاب «العبقرية العربية في لسانها».
تقام الأمة عند الأرسوزي على مستويين: مستوى الحقيقة فهي «معنى». وكل معنى عند الأرسوزي «العدالة – العلم – الحق» قائم في (المعنى) الأول الذي هو الله أو الألوهة إذا شئت.
المستوى الثاني الواقعي: الأمة من الأم كما كان يطيب له أن يردد. إنها إذن أسرة اتسعت فشملت ملايين البشر.
والأرسوزي كان قد عُيِّنَ عندما عاد من فرنسا عام 1930 مدرساًَ للفلسفة والتاريخ في (تجهيز) ثانوية أنطاكية، وكان يركز في دروسه على مشكلات التحرر والوحدة والاستقلال فأفهمه المستشار الفرنسي أن ما يُدرَّس في فرنسا لا يمكن أن يُدرَّس هو كما هو في المستعمرات. هذا التنبيه العنيف كان عنده بمثابة صدمة قوية نبهته إلى قوميته. كان قبلها يقول: «كل إنسان له وطنان: فرنسا ووطنه». ورأى عندئذ أنه عربي فقط، عربي لا غير.
كان يعرف بالتجربة أن الأمم اليوم كلها خليط غريب عجيب من الأعراق. ولا تشذ الأمة العربية عن هذه القاعدة العامة.
واعتقد جازماً أنه اكتشف في لغتنا رؤية للوجود وللعالم هي فلسفتنا – الفلسفة العربية – تختلف جذرياً عن الرؤية الإغريقية/الغربية التي انبثقت منها فلسفتهم. هذا التعارض في رأيه تكامل. فلقاؤنا مع الغرب يكملنا ويكملهم، منا الأخلاق والحياة الروحية، ومنهم العلم والتقنية وبهذا تكتمل البشرية. وكان على الأرسوزي بالمقابل وقد اكتشف الأصيل، أن يفضح الهجين الدخيل ومعه أسباب التروي في حياتنا بمختلف جوانبها. وتعجبك، لا بل تدهشك أمانة الأرسوزي لنظرياته. فلا أعرف شخصياً مثيلاً له في تماسك سلوكه مع كتاباته وأحاديثه في المقاهي إلى حد الإحراج. هو حقاً الإنسان الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.
ويصل بنا الأستاذ المقدسي إلى الجيل الخامس ويسميه جيل البعث، يقول في هذا السياق:«الأمة حقيقة حية، أصيلة، متجددة باستمرار، ذات مصمون إنساني.
فليست فكرة، بل عنها تصدر الأفكار، ليست نظرية، فهي مبعث للنظريات والفنون. إنها والحرية سواء بسواء. الأمة حب وتضحية، وجود وحياة، إيمان وعمل. واحدة في جوهرها فالتجزئة مصطنعة، تلك خلاصة سريعة عن أفكار ميشيل عفلق كما تبلورت عام 1943».
وكان يرى، عام 1935، أن الأمة عود إلى عهد البطولة والطفولة. وفي عام 1940 أنها الهوية للشعب كالاسم للشخص وكملامح الوجه. إنها بذرة كامنة في نفس كل عربي، وعلى جيل البعث، الجيل الجديد، أن يتعهدها وينميها. والجيل هذا هو الذي يوقف تاريخاً منكفئاً على ذاته يجتر ماضيه، ليبدأ تاريخاً، زمناً هو زمن الثورة الكامن في صميم الشعب والشعب جوهر سليم، هذا جيل البعث، انقلابي كالبعث، ثوري انقلابي كما كان يردد ميشيل عفلق باستمرار.
الأمة رسالة لا سياسية والرسالة ليست مجموعة مفاهيم وقيم علينا أن نحققها بل هي الأمة ذاتها، لا تعترف بواقعها السيئ وموقعها المفتعل كما أنها لا تتنازل عن مرتبتها الأصيلة بين الأمم، بل تصر على أنها ما تزال هي هي في جوهرها. وعليها اليوم أن ترقى إلى درجة تمكنها من تبليغ رسالتها، والإسلام ليس بعداً من الماضي بل هو استعداد دائم في العروبة لتجاوز ذاتها والانتصار على الواقع الآسن.

رابعاً) ضرورة المجتمع المدني:


  يشرح المجتمع المدني في رسالته على النحو التالي:
«المجتمع المدني لم يظهر في الغرب إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وقام على نظام إقامة البلديات، البلدية هي حكومة المدينة، وإذا تضخمت المدينة قُسِّمَت إلى إمارات، مدينة باريس مثلاً 20 حارة، وكل حارة لها بلديتها التي تنتخِب رئيسها الرمزي (وبالمناسبة نحن لا نزال نأخذ بنظام البلدية العثماني، مع أن تركيا تركته). المجتمع المدني إذاً يقوم على البلدية، بلدية منتخبة مباشرة من الشعب، فرئيس البلدية والبلدية ليسوا موظفين بل أعضاء في المدينة لهم دور سياسي، المحافظ له وظيفة، مدير المنطقة له وظيفة، أما البلدية فليست وظيفة، هي كيان سياسي، وهذا هو بالضبط المجتمع المدني، كيان سياسي ينظم كل أمور المدينة، المدارس، الطرق، المواصلات، علاقات الناس ببعضهم، وكل ما يخص الناس هو من تنظيم البلدية. لذلك نجد لانتخاب البلديات في أوروبا من الأهمية ما لانتخاب البرلمان».
«الشعب غير الجمهور، فهذا كتلة صماء من الانفعالات أما ذاك فهوية تتحقق في جملة مؤسسات ينشئها الشعب بإشراف الحكم وليس بمبادهة منه بالضرورة. المؤسسات هذه هي حيث الشعب يعبر عن إرادته، ومن أهمها، الأحزاب والنقابات والتعاونيات، والبلديات التي لن تكون على الطريقة العثمانية. بل البلدية هي التي ينشئها الشعب باقتراع حر، لكل قرية، لكل حي، من أحياء المدينة مجلس بلدي يدبر شؤونه ويحل مشكلاته: المدارس، شق الشوارع، وتنظيفها، نظافة الحي. ويرأس البلدية مختار يسهر على حسن إدارتها. ذلكم هو المجتمع المدني».

رؤياه الشخصانية للحب


كتاب «الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية» نموذجاً

مدخل إلى الشخصانية (من مقدمة أحمد حيدر للكتاب)


يذكر المفكر الراحل أحمد حيدر في مقدمة الكتاب أن «الحب بين الله والإنسان هو الذي يشخصن الإنسان أي يجعله قادراً على التصعيد والعلو على ذاته».
«الحوار بين الله والإنسان هو حوار شخصاني، ولكن الشخص الإلهي متشخصن في ذاته، أو قائم بذاته، بصفته المطلق، والشخص الإنساني يتشخصن بالحوار مع الله، بصفته النسبي أمام المطلق، أي الله نفسه. فالحوار بين الله والإنسان هو حوار بين مرتبتين من مراتب الوجود».
«إن تشخصن الإنسان يعني أن يكتسب الشخصية بالتصعيد من مستوى الرغبة إلى مستوى المعنى الأخلاقي والانفتاح على الحقيقة. إن عالم المحبة المسيحية الذي يؤلف إطار حماية الإنسان هو عالم محوره الشخص: الشخص الإلهي المطلق والشخص الإنساني النسبي. فالشخص هو محور أديان الوحي. ولذلك فالأفضل أن ندعوها الأديان الشخصانية».
«لقد ظل الشخص في الحضارة اليونانية ملحقاً بالميثولوجيا وحتمية القدر اللامعقولة، تلك الحتمية التي تلف البشر والآلهة على السواء، ولم يبلغ مستوى النضج والتفتح الكامل لإمكاناته إلا في الأديان الشخصانية».
«يقال أحياناً أن الحضارة اليونانية هي حضارة لوغوس (LOGOS) أو القانون الكوني، ولكن لوغوس متضمن في بنية الشخص فهو المعيار الناظم له».
«يمكننا أن نعتبر أديان الوحي الثلاث تعبيراً عن ظهور الشخص ومشتقاته في التاريخ، فالمحبة والحوار بين الله والإنسان لم تبدأ إلا معها، فأديان الوحي هي ثورة الشخص».
«والثقافة اليونانية هي فكر لا تظهر فيه فكرة الشخص وكذلك فكرة العلاقات الشخصية بين فرد إنساني وإله».
«ونحن نعلم أن الصلات الشخصية بين العبد وربه يستحيل الكلام فيها من غير الاعتراف بشيء من تشبيه الله، من غير أن يوجد شيء من التجانس الخلقي بين العابد والمعبود».
«إنسان العصر هو فردية ذرِّيّة مستأصلة لا جذور لها ولا انتماء، فهي تمضي مع كل ريح فهي نقيض الشخص، فالإنسان الحديث لم يعد شخصاً، ولم يعد قادراً على الحب، فهو قد فقد نقطة استناده في العالم ولا يعرف أين يسند رأسه».
«المحبة المسيحية منوطة بالشخص الإلهي–الإنساني الذي أصبح غائباً عن عصرنا، وبغيابه غاب الإنسان نفسه، فالإنسان–الشخص هو كائن أنطولوجي متجذر في الوجود، فهو في علاقة مع نفسه وعلاقة مع الآخرين وعلاقة مع المتعالي، وهذه العلاقات هي التي تؤسس الإيمان في النفس البشرية. ولكن الإيمان لا محل له في سيكولوجية الإنسان الحديث، فبنيته النفسية مصممة وفق أنموذج مغلق، منفصل عن عالم الحقيقة والقيمة، وبُعْدُ التعالي بكليته، التعالي الديني، الفلسفي، الأخلاقي، الجمالي..الخ، معطل عنده، فهو إنسان البعد الواحد حسب عنوان (ماركوز) أي بعد الحياة اليومية. وهذا الإنسان تبرره إيديولوجية وضعية، فالإنسان ليس سوى ظاهرة طبيعية يدرسها العلم الوضعي، فنحن في عصر الفردية الذرِّيّة (Atomique) الشاردة التي لا ناظم لها سوى المعايير الخارجية، ولا انتماء خارج الأنا.
«المحبة اليونانية ذات طابع جمالي–إيروسي (شبقي أو شهواني)، أما المحبة المسيحية (Agapé) فتقوم على احترام الفرد الإنساني بصفته ذاتاً أو شخصاً أي كائناًَ أخلاقياً».
«الإنسانية كلها مكثفة في الشخص».
«إن إيروس ليس شخصاً ولكنه نزعة، وقد حل محله الشخص في أديان الوحي، ومع الشخص ظهر نمط جديد من الحب هو الحب الصميمي للآخر الذي نرى خلاله الذات العميقة للآخر، فالتعاطف مع الآخر هو الذي يؤهلنا لمعرفته بضرب من الحدس».
«المحبة المسيحية هي لقاء إنساني صميمي يقوم على التعاطف. وفي عصرنا هذا الذي يعاني من جرح الإلحاد، وضياع الحوار ببعديه الإنساني–الإلهي والإنساني–الإنساني، عصرنا المغلق على الأنا، فهو عصر عدمي، تضيع المحبة الشخصانية بضياع التعالي ويصبح الفرد واقعة ذرِّيّة هاربة من الصميمية. في العصور العدمية يتعاطف الناس تعاطف القنافذ، إلى الدرجة التي يبدأ عندها وخز الأشواك، أشواك الأنانية والحذر وسوء الظن والبارانويا. وفي العلاقات الإنسانية: الصداقة والحب والزواج، نجد أن الصميمية والعلاقة هشة لا قوام لها».

المحبة ودورها في الفلسفة:


1– المحبة كمعنى فلسفي:


إن علم النفس يدرس المحبة كعاطفة، أما نحن فندرسه كمعنى، أي كأمل، تنشأ عنه الأفكار والعواطف والأعمال.
إن المحبة بالنسبة لكل إنسان وكل حضارة تعني الاتحاد بالمطلق اتحاداً داخلياً، اتحاداً من الصميم، ولنسمّ المطلق ما شئنا: الله أو الديالكتيك، العالم أو القانون التاريخي، الحب الصوفي، أو الحب الجنسي..الخ.

2- المحبة في الفكرين المسيحي والإغريقي:


يضطر الغربيون أن يدللوا على الحب كما فهمه الفكر الإغريقي بكلمة (Erôs) التي استعملها أفلاطون، وعلى الحب كما فهمته المسيحية بكلمة (Agapé) اليونانية التي استعملها القديس بولس.

آ– الحب (Erôs) عند الإغريق:


الحب (Erôs) عند اليونانيين إله، وأفلاطون لم يعطه هذه المرتبة، بل فضل أن يعتبره كوسيط بين الإنسان والجمال (الجمال كمثال). ومهمة الحب عند الإغريق، هو أن يرقى بالإنسان إلى عالم المثل، وهو عالم عقلي، أي لا صفة شخصية له.
ويأخذ الحب عند أفلاطون صفة ديالكتيكية، أي أنه أداة ارتقاء من العالم المحسوس إلى العالم المعقول، والعامل الأساسي في هذا الارتقاء العمل الفردي، أي جهد الإنسان في تطهير نفسه من آثار المحسوسات ومن الشهوات.

ب– الحب (Agapé) في المسيحية:


يرى فيجرن بأن الحب عند اليونانيين متعلق بالقيمة الذاتية للشخص الذي يحب، أي أنه متناسب مع القيمة الذاتية للمحب، أما الحب المسيحي فعفوي وحر، أي أنه هبة مجانية من الإله، وبتعبير آخر، يقول فيجرن، الحب هو الذي يخلق القيمة في المسيحية، لا القيمة هي التي تخلقه، فالله لا يحب الإنسان لقيمته الذاتية، ولكنه يعطيه قيمة لا متناهية إذ يحبه، فليس الحب هنا إذاً الجواب على نداء يرسله المحب (أي لا مبرر له)، بل هو هبة ونقطة ابتداء مطلقة، وإبداع إلهي من العدم. ويلخص كل ذلك كلمة الإنجيل: الله محبة.
وهنا يبدو الفرق جلياً بين التفكير اليوناني والتفكير المسيحي، فأعلى ما توصل إليه الأول هو قوله إن الإله عقل يعقل ذاته، ومحرك أول يحرك العالم، بينما الإله المسيحي حب مبدع، وفيض من المحبة لا ينضب.

القسم الأول: معنى الحب عند أفلاطون وفي الفلسفة الأفلاطونية

الفصل الأول: فلسفة أفلاطون وأسطورة الحب

1– الاتجاهات الأساسية لتفكير أفلاطون:
آ– هل توجد فلسفة أفلاطونية:
لا يمكننا أن نحصر كل تفكير أفلاطون في مذهب متماسك كمذهب أرسطو أو مذهب هيجل، ذلك أن أفلاطون فنان بمقدار ما هو مفكر، والأسطورة تلعب دوراً أساسياً في تفكيره.
ب– الأفلاطونية كعلم:
يفهم أفلاطون بكلمة علم معرفة الشيء الثابت والخالد في أي من المثل (أو المعاني الأساسية)، ويميز أفلاطون بين عالم الحس المتبدل والخاضع للزمان، وهو ما نسميه اليوم، الوجود (Existece)، وعالم المثل، عالم الماهيات، وهذا الأخير هو عالمنا المندرج في الزمان والمكان، ومعرفته يسميها أفلاطون رأياً (Doxa)، وغاية النفس الإنسانية الارتقاء إلى العالم الأول (المثل)، موطن المعرفة، وطريق الانتقال هو ما يعرف باسم الديالكتيك.
ج– الأفلاطونية كطريقة في الخلاص:
المعرفة ليست غاية بذاتها، ولكنها واسطة لغاية أعلى هي تحقيق سعادة الإنسان، وبإمكاننا أن نقول بأن المعرفة والسعادة شيء واحد.

2– الأسطورة في فلسفة أفلاطون:
إن صعوبة تفسير فلسفة أفلاطون ناتجة عن أنه ليس باستطاعتنا أن نميز بين العلم والأسطورة في محاوراته، فهو يستخدم الأسلوبين دون أن يضع حداً فاصلاً بينهما.

3– الأصل الديني لأسطورة الحب عند أفلاطون:
يظهر بأن القسم الأكبر من هذه الأساطير من أصل شرقي. وأشهر هذه الديانات، ديانة أورفيه الإله الموسيقي، ومن أشهر أساطيرها أسطورة إله الحب التي استخدمها أفلاطون في حوارية عن الحب (المأدبة والفيدر)، وبالفعل فأفلاطون يروي في المأدبة أسطورة الحب على لسان العرافة ديوتيمه.

4– الكلمة وإله الحب، والعقل والأسطورة عند أفلاطون:
يقول الأستاذ فيجرن بأن أفلاطون في نظرية المثل قد قام بعمل واسع المدى، إذ وفق بين التصوف الشرقي والنزعة العقلية اليونانية، وهذا صحيح لأن أفلاطون قد أعطى لأسطورة أو أساطير الخلاص شكلاً عقلياً.
إن فلسفة أفلاطون ليست فلسفة عقلية بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل هي بذات الوقت نظرية في الحقيقة وطريقة في الخلاص، أو ديانة، وكلاهما يؤلف وحدة لا يمكننا أن نفصل أحد عناصرها عن الآخر، وبالفعل فنحن نسمع أفلاطون دائماً يقول: «على الإنسان أن يحرص دوماً على خلاص نفسه»، والفرق بين أفلاطون والأديان الإغريقية هو أن الخلاص عند أفلاطون يحصل بالمعرفة، لا بالطقوس الدينية.
إن أفلاطون عندما يتكلم عن نظرية المعرفة، يلجأ إلى الديالكتيك، ولكنه عندما يتكلم عن الحب، يطلق عليه اسم الجنون الإلهي، وهي كلمة مستعارة من لغة المتصوفة.

أ– ما هي الكلمة؟
الكلمة حالة نفسية أو ذهنية حاصلة من اتصالنا بعالم المثل، إذاً الكلمة وسيط عقلي. وقد أخذت المسيحية عن الفكر اليوناني معنى «اللوغوس» فاعتبرت المسيح وسيطاً بين الإنسان والإله، والفرق بين المسيحية والفكر اليوناني هو أن الوسيط في المسيحية شخص، أما في الفكر اليوناني فهو فكرة.

ب– إله الحب عند أفلاطون وسيط كالكلمة:
الإنسان عند أفلاطون قائم بين عالم الحس وعالم المعقول، وكلاهما يستهويه، ولكن ما الذي يجعل العالم المعقول ينتصر على العالم المحسوس؟ إنه إله الحب الكائن في الإنسان، والذي يهب لهذا الإنسان القوة التي ترقى به إلى مصاف الآلهة، وهذه القوة هي ما يسميه أفلاطون «الجنون الإلهي».
يتلمس الإنسان المثل في الأشياء ويحاول أن يرقى إليها، وذلك بفضل إله الحب، فإله الحب هو عامل الاهتداء من المحسوس إلى المعقول، وهو نزعة النفس نحو العالم الأعلى.
فلو لم يكن الحب لبقي العالمان –المعقول والمحسوس– منفصلين عن بعضهما. ومن هذا الشرح يتبين لنا بأن إله الحب هو لوغوس، وأن اللوغوس هو إله الحب، أو أن إله الحب هو القوة التي ينطوي عليها اللوغوس.

الفصل الثاني: نظرية الحب في المأدبة

البحث الأول: المأدبة والخطب الخمسة الأولى
1– ما هي المأدبة؟
المأدبة كما فهمها اليونانيون نوع خاص من الاجتماع لم يعرف عند غيرهم، فهي أشبه ما تكون بعيد ديني ومدني وثقافي، فيه كانوا يأكلون ويشربون، ويستمعون إلى الغناء، ويخطبون ويصلون وكانت الخطب تقوم على مدح إله.
والمأدبة التي كتبها أفلاطون، مأدبة جرت حقاً في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، واشترك فيها سقراط، وكان يرأس الاجتماع فيدر وهو من أتباع السفسطائيين (كما سنرى عند دراسة فكرة الجمال في الحوار الذي يحمل اسمه (الفيدر))، والذي يثبت ذلك هو أن أغلب الذين يتكلمون في مأدبة أفلاطون معروفون في التاريخ اليوناني، وأن كلاً منهم يمثل وجهة نظر خاصة. وبالإمكان تقسيم مأدبة أفلاطون إلى مقدمة وقسمين: أما المقدمة فليست إلا دخولاً في الموضوع، والقسم الأول يشمل 5 خطب، والقسم الثاني يمثل وجهة نظر سقراط، ولا يمكننا أن نميز في كلمة سقراط بين ما هو حقاً لسقراط، وبين ما هو لأفلاطون.

2– خاتمة القسم الأول من المأدبة وخلاصة عنه:
ينتهي سقراط قائلاً ما خلاصته: المهم في مثل هذا الموضوع الذي نعالجه هو الحقيقة، أي معرفة الحب بذاته لا بصفاته، فما هو الحب؟
ومغزى كلام سقراط هو أن تبجيل الحب لا يكون بالخطب الجميلة ولا بالتلاعب بالألفاظ، كما يفعل السفسطائيون، ولكن بمعرفته، وكنا قد ذكرنا سابقاً بأن المعرفة والعمل شيء واحد عند سقراط.
وهكذا يبدو لنا جلياً بأن أفلاطون بعد أن تبنى وجهة نظر السفسطائي (فيدر) والمصلح الاجتماعي (بوزانياس) والطبيب (أريكزيماك) والشاعر المسرحي (أريستوفان) والخطيب (أغاتون)، وعرض كل وجهات النظر هذه على شكل أمين، ينتقل إلى الفلسفة تحت اسم سقراط، أي ينتقل من الرأي إلى المعرفة ومن الظن إلى اليقين.

3– القسم الثاني من المأدبة: نظرية سقراط في الحب

أ– ديوتيما العرافة تبين لسقراط طبيعة الحب:
تشرح العرافة مولد الحب فتقول: «يوم ولادة أفروديت (فينوس إلهة الجمال) كان يوم فرح عند الآلهة، ومن الذين اشتركوا في المأدبة ذلك اليوم الإله "بارع" ابن الحكمة، فسكر وخرج إلى الحديقة ليستريح فنام. ولما انتهت الآلهة من الأكل وصلت "الحاجة" كي تجمع ما بقي من فتات المائدة، ولما وصلت الحديقة وجدت "بارع" فاستلقت بجانبه لتحصل على ولد يخلصها من الفقر، وهكذا وُلِدَ الحب. ولذا كان الحب دائماً من أتباع وخدام أفروديت (إلهة الجمال)».
إن أصل الحب هذا كافٍ ليبين لنا صفاته الأساسية، فهو من جهة، فقير دائماً وأبداً كأمه، وككل الفقراء وسخ وبدون مأوى، تنقصه الأناقة، ولا يخلو من الفظاظة، ولكنه من جهة ثانية، ممتلئ رجولة واندفاعاً، رائده هوى الإبداع، وخصب بوسائله (أليس هو إله البراعة بالذات؟)، خصوصاً عندما يرصد الجمال ويقتفي أثره أين وأنى وجده.
إنه مليء بالمتناقضات فأحياناً تراه حياً كزهرة الربيع، وأحياناً يكاد يحاذي الموت، إنه وسيط بين الجهل والعلم، بين الفقر والغنى، وهذا ما يجعل منه فيلسوفاً، أو هو الفلسفة بالذات (حب الحكمة) لأنه ليس بالجاهل، ومن جهة ثانية ليس حاصلاً على العلم. إن الحب هو الاشتراك في ماهية الجمال.

ب– العرافة تشرح لسقراط دور الحب في حياة الإنسان:
1– الحب كطريقة للمعرفة، أو هو الفلسفة بالذات (حب الحكمة):
قلنا بأن الحب حالة متوسطة بين الجهل والمعرفة، وبأنه أيضاً رغبة أو نزعة، وهذا ما يجعل منه الطريق الحقة للمعرفة.
2– الحب كطريق للسعادة:
الحب هو الحصول بشكل دائم على الخير، أو هو أبدية الخير.
3– الحب خلق في الجمال:
إن موضوع فعالية الحب هو الخلق في الجمال بالنسبة للجسم وللنفس.
وطالما أن الخلق معناه دوام الوجود وبالتالي الخلود، فالحب هو الخلود في الجمال.
4– الحب والخلود:
وفي ذات يوم، يقول سقراط، سألتني العرافة: ما هو الدافع نحو الحب؟ ما هو سبب هذه الرغبة الجامحة؟
إن الطبيعة الحية تحمل في أعماقها النزعة نحو الخلود، والحب هو الوسيط بين الخالد والفاني.

خلاصة:
قلنا بأن هناك خلقاً في الجمال بالنسبة للجسم وبالنسبة للنفس، والذي رائده النوع الأول ينتبه إلى النساء، وغايته أن يحصل على أولاد في غاية الجمال.
والذي رائده النوع الثاني –وهو أعلى– فإنه ينبوع في الفن والشعر والعلم، وبشكل خاص في السياسة، أي في فن إدارة المدينة والسياسة –أعلى الفنون– وهي ليست منفصلة عن الفلسفة عند أفلاطون، وتقوم على وضع تشريع ورسم اتجاهات تضمن للجماعة بقاءها وسعادتها.
ويلمح أفلاطون إلى السعادة العائلية وعلى جمال الأسرة، ثم يتناول موضوع التربية ويبين بأنها أيضاً خلق في الجمال لأنها تبدع النفوس الكبيرة، ويرى بأن سعادة المربي مع تلميذه تفوق سعادة الحب الزوجي.

ج- الحب كسر: العرافة تشرح لسقراط كيفية الكشف عنه:======
1– الحب كسر:
النزعة نحو الحب من صميم وجود الإنسان، أو هي سر وجوده، ولكن النفس قد تحيد عن الطريق الحقة، وتنزع نحو المال أو نحو الأشياء الحسية.

2– الكشف على درجات:
الدرجة الأولى: التربية الجمالية: الجمال واحد في كل الأجسام، وهكذا نفصل بين الجمال وتحققه المادي.
الدرجة الثانية: الانتقال من جمال الجسم إلى جمال النفس: نربي التلميذ على أن يعتبر جمال النفس وحده، وإن كان حاصلاً في جسم بشع، وجمال النفس يقوم على جمال سلوكه، أو بالأحرى انسجامه، ومن المعلوم أن الأخلاق هي قوام السلوك الصحيح. وهكذا ينتقل التلميذ من الكلام المنمق، إلى التعبير عن الأخلاق، وإلى فهم المعاني الأخلاقية.
الدرجة الثالثة: الانتقال إلى العلم: إن الإنسان في المرحلتين السابقتين ينتبه لجمال شيء واحد، فيهوى امرأة مثلاً، أو يتعلق بقانون أخلاقي، أما في المرحلة الأخيرة فيغوص في بحر الجمال ويبدع إبداعاً لا حد له في كل مناحي الوجود.

3– أعلى درجات الكشف: حدس الجمال المطلق:
بهذا المعنى تقول العرافة لسقراط ما خلاصته: إن الإنسان عندما يتبع هذه الطريق يصل إلى الغاية القصوى للحب، فيرى فجأة جمالاً من طبيعة مدهشة، جمالاً لا عهد له به، طالما أنه كان متجهاً نحو الأشياء الجميلة، جمالاً أزلياً وكاملاً، منه يستمد كل شيء جماله. إن الإنسان يرقى من جمال جسم إلى جمال جسم آخر، ومن سلوك جميل إلى سلوك أجمل. لماذا؟ حتى يدرك الجمال بذاته (الواقع كما يقول أفلاطون، أو الموجود حقاً)، أفليست غاية المعرفة (أي الفلسفة) هي إدراك الجمال؟
ولذا كانت الفلسفة والحب شيئاً واحد، لأن الحب هو الطريقة المؤدية إلى الجمال المطلق. وما هو ثمن إدراك الجمال؟ الخلود. وكلمة فيلسوف عند أفلاطون مرادفة لكلمة قديس وإنسان طاهر.

د– الحب والجمال:
الحب ابن الحاجة وهو غالباً ما يتحقق في الأشياء المحسوسة، لا بل هو ثمرة اتحاد المحسوس بالمعقول (اتحاد الحاجة بالإله "بارع")، ولذا كان علينا أن نتخطى الحب لندرك الجمال المطلق.

الفصل الثالث: نظرية أرسطو في الحب
1– عرض سريع لهذه النظرية:
الحب (Erôs) هو قوة الشوق المنبثة في العالم والتي تحرك هذا العالم في اتجاه الإله، والإله هو التحقق التام للحب.
والصورة الكاملة (أي التحقق الكامل أو الله) فوق الحركة. ولكن بما أن هذه الصورة الكاملة هي قطب الوجود، فهي بمثابة القطب الجاذب بالمعنى التام للكلمة، وكما أن المحب يجذب المحبوب، فكذلك الصورة التامة (الله) تجذب الموجودات. وشوق الموجودات هو الحب.
إذن أصبح الحب عند أرسطو قوة كونية تلهب العالم كله دافعة به نحو الإله أو نحو الحب الكامل.

القسم الثاني: المحبة في نشيد الأنشاد:
النشيد هو حوار بين شخصين، حوار دائم قوامه هذا الوجد السرمدي الذي يجعل من مصيرين مصيراً واحداً.
إن علاقة الرجل بالمرأة في النشيد هي رمز لعلاقة الإنسان بالإله، لا بل هو الدرجة التي يرقى بها الإنسان إلى الحب الإلهي.
نلاحظ بأن العقلية السامية تقوم كلها على الاعتقاد بأن الله خالق من العدم، وبأنه خلق الإنسان على صورته ومثاله، وبأنه علم آدم الأسماء. وهذا كله يشير إلى أن الله شخص، وإن الإنسان مثله شخص قائم بذاته يتمتع بالحرية والفردية، وبأنه منذ وجوده كامل أو أن كماله صورة عن الكمال الإلهي.
والحال أن اليونانيين لم يدركوا معنى الفردية، فردية الإنسان كمصير لا يتكرر، ولا يشبه أي مصير آخر.
إن الحادثة التي يقوم عليها النشيد هي حادثة وجدانية، قوامها العلاقة الشخصية، كما في سفر أيوب، وهذا ما لم تدركه العقلية اليونانية، ولذا فالنشيد فاتحة لوجهة نظر جديدة عن علاقة الرجل بالمرأة (جديدة بالنسبة للغرب طبعاً)، لا بل هو دستور هذه العلاقة الأساسي.

القسم الثالث
البحث الأول: المعنى المسيحي للمحبة
الفصل الأول: مقارنة بينه وبين المعنى الإغريقي
1– المعنى الإغريقي للحب:
لكلمة حب ومحبة ثلاثة معان عند الإغريق: 1– إيروس (Erôs)، 2– فيليا (Philia)، 3– أغابي (Agapé).
1– ايروس (Erôs):
لو تأملنا في تاريخ الإغريق قبل أفلاطون وبعده لوجدنا أن فكرة «إيروس» كانت فكرة دينية وصوفية بذات الوقت.
والذي يتضح لنا مما تقدم، أن الحب (Erôs) بمعنى الرغبة الجامحة، يحمل معنى جسدياً واضحاً. ولذا امتزج العنصر الصوفي بالعنصر الجسدي، والنشوة الصوفية بنشوة الخمرة وما شابهها من اللذات الجسمية. وقد كانوا يبعثون هذه النشوة بالحركات والموسيقى، فكأنهم بذلك –وهذا هو الواقع– يحاولون التقاط هذه القوة الإلهية المنبثة في الكون، والتي كانوا يجسمونها باسم أوديونيزوس.
والذي يسترعي انتباهنا في العقلية اليونانية وفي الفلسفات التي تعبر عنها (أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم)، هو هذا الإلحاح على دور النزعة (الكون نزوع)، وهذا الإلحاح يدل على فهم عميق للوجود. ولكن ألا تختلط في مثل هذا الوضع النزعة الجسمية بالنزعة الروحية؟ وكيف يحصل التمييز بينهما؟.
إن محاولة مثل هذا التمييز هي التي انتهت إليها فلسفة أفلاطون، وهي بذات الوقت تعرِّض أفلاطون لمثل كلمة جيتون التي أشرنا إليها (وبقي أفلاطون فوق الحب أو دونه). فأفلاطون يثور على انحطاط الحب إلى مستوى الجسد فيسعى لفصله عن الجسد فصلاً نهائياً ويرقى به إلى المستوى الروحي الخالص: المثل.
2– فيليا (Philia): فمعناها الصداقة أو حب الصداقة.
3– أغابي (Agapé): وهي كلمة ذات معنى عقلي يتضمن الهدوء والسلام بعكس (Erôs) التي تشير إلى نزعة لا ترتوي.
فما هو المعنى الذي أعطته المسيحية لهذه الكلمة؟
لكي نفهم معنى المحبة المسيحي، علينا أن نلاحظ هذا المعنى في التوراة بشكل عام وفي نشيد الإنشاد بشكل خاص.
يلخص المعنى اليوناني بفكرة الارتقاء: نزعة الأدنى نحو الأعلى. أما المعنى المتضمن في النشيد فهو موجه نحو الانتقاء (الانتخاب)، ولذا يقرنه النشيد بمعنى الغيرة (الغيرة قاسية كالجحيم). ذلك أن الانتقاء يفترض فكرة (التملك)، فالإنسان الذي ننتخبه يصبح ملكاً لنا، ولكننا بذات الوقت نصبح أيضاً ملكاً له. وهذا التملك اتحاد في الشخصية واتحاد في المصير يأخذ طابع الأبدية. ومن الواضح أن التملك يفترض الغيرة.
فالإنسان يختار صديقه وزوجته، والإله يختار من يشاء ليرفعه أو ليخلعه، ويختار الشعب الذي يريده ليجعل منه شعبه الخاص. وهذا الاختيار هبة مجانية أو لا مبرر له. وبهذا المعنى نقول عن معنى المحبة أنه يتخطى العدالة ومعنى القانون، فالعدالة تفترض المساواة (المكافأة بنسبة الاستحقاق، والعقاب بنسبة الذنب)، والعدالة قوام القانون. أما المحبة فلا يعنيها أكان الشخص جديراً بحبنا أم لا، لأنها هبة مجانية، أو قل إن المحبة من مستوى أعلى من مستوى العقل.
والواقع لو دققنا في معنى المحبة لوجدنا أنه يتضمن العناصر التالية:
1– محبة الله لنفسه وللإنسان:
في الفكر اليوناني الإله يحب ذاته ويقتصر في هذه المحبة على ذاته. أما في الفكر المسيحي الإله محبة، فهو يحب نفسه ويحب الإنسان والعالم، ومحبته كلها حنان ورحمة والإله هنا خالق من العدم، والخلق من العدم فعل محبة. والله خلق الإنسان وخلق المادة أيضاً. ولذا فهو يحب الإنسان بشخصيته الكاملة، أي نفساً وجسماً.
2– محبة الإنسان للإله:
إن الإنسان عند الإغريق –كالإله– جزء من العالم (Cosmos)، لا وجوداً قائماًً بذاته، له حريته التي بها يقدر أن ينفصل عن كل شيء. أو قل إن ما نسميه اليوم الأنا (أو الذات)، أي الشخصية الإنسانية كوجود قائم بذاته ومستقل عما عداه، هذه الفكرة لم تكن معروفة عند الإغريق.
أما في الفكر السامي وفي الفكر المسيحي فالإنسان حرية، وهذه الحرية بإمكانها أن تنفصل عن كل شيء وأن تقاوم حتى الله ذاته –على حد تعبير القديس أوغسطين– أي أن ترفض نعمته. ولذا فحب الإنسان لله هنا ليس مجرد نزعة تهيب به نحو ما هو أعلى منه، بل هو نزعة مرفوقة بحرية مطلقة. فبإمكان الإنسان أن يقاوم هذه النزعة، أي أن يرفض الحب الذي يهبه إياه الله، كما أن بإمكانه أن يقبله، فالخطيئة هي مقاومة الله أو الكبرياء (الرفض المطلق).
3– محبة الإنسان للآخرين ولذاته:
إن ما نقصده اليوم بالمحبوب، هو أن المحبوب غاية بذاته لا وسيلة لشيء آخر، فالغيرية تقوم على أن نعتبر الغير غاية لا واسطة. أما الأنانية فتقوم على أن نعتبر «الأنا» غاية والغير وسيلة.
أما عند الإغريق فالأنا والغير وسيلة، والغاية هي الموجود الحق، أي المثل أو المطلق، أو ما نطلق عليه اليوم في لغتنا اسم «الإله». ونقول بشكل مختصر إن الإنسان عند الإغريق ليس غاية بذاته. أما بالنسبة لنا فهو غاية بذاته، والمحبة تقوم على أن ننظر إليه بهذا المنظار. ولذا فالمشكلة الكبرى التي كان على العصور الوسطى أن تحلها هي: كيف يمكننا أن نوفق بين حب الذات وحب الغير وحب الله إذا كان للذات وللغير ولله قيمة مطلقة.
المحبة بهذا المعنى تتركز في التضحية، فإذا كنا نحب شخصاً لذاته وبمحبة حقة، علينا أن نبذل في سبيله كل شيء حتى ذاتنا، أي مالنا وحياتنا وأهم من كل ذلك كرامتنا، فأعلى أنواع التضحية هو التضحية بالكرامة.
إن كل النظريات الفلسفية التي تهتم بهذا الموضوع ترجع إلى إحدى نظريتين:
الأولى: تقول بالتعالي، وبالتالي بدرجات الوجود، أو تقول بتعدد المبادئ، التي يتألف منها الوجود.
الثانية: تقول باتصال الوجود وبوحدة المبادئ التي يستند إليها.
لنلاحظ بهذه المناسبة مرة أخرى اتجاه الفلسفة اليونانية. فهي فلسفة تقول باتصال الوجود وتقول بمعنى ما بوحدته. والعقبة الوحيدة التي تعترض فلسفة وحدة الوجود في الفكر اليوناني هي المادة. ولكن أفلوطين يقلص من دور المادة حتى تصبح عائقاً يعترض رجوع النفس إلى موطن وجودها الحق. ومن ذلك فإن النفس متصلة من الصميم عند أفلاطون وأفلوطين، بمصدر انبثاقها، أي بالمثل أو بالعالم المعقول. ولذا فالحب لا يجد في رقيه عائقاً سوى العائق الخارجي (المادة مثلاً، أو الظرف الاجتماعي..الخ).
أما في الفكر السامي وفي الفكر الإسلامي فهناك انفصال بين النفس ومصدر انبثاقها (الإله)، لأن الإله هنا متعالٍ على العالم وخالق له، وهوالذي يتصل بالنفس برحمته، أي بفعل قدرته غير المتناهية. أما النفس فلا يمكنها أن تقوم بمثل هذه الخطوة الحاسمة.
أما في الفكر المسيحي فالمسألة أدق، وربما كانت غير واضحة تماماً. فالإله متصل بالإنسان وبذات الوقت منفصل عنه.
ينتج من ذلك أن طريق الحب في الفلسفة الإغريقية صاعد، فالإنسان يرقى بالحب إلى مصدر انبثاقه، ثم يستغرق فيه. ولذا فأساس الحب هو النزعة، وكلمة (Erôs) تشير بشكل خاص إلى النزعة.
أما في الفكر السامي فطريق المحبة هابط، أي أن الإله هو الذي يحب الإنسان، ويعلِّم الإنسان كيف يحبه (يحب الإله)، وكيف يحب قريبه. ولذا غالباً ما تأخذ المحبة شكل رحمة. وثمة فرق آخر وهو أن الإرادة والحرية –وبالتالي فكرة الشخصية– تلعبان دوراً أساسياً في الفكر السامي، فالخطيئة من عمل الإرادة، والخلاص من عمل الإرادة. أما في الفكر الإغريقي فدورهما ثانوي.
ففي فلسفة تقول بوحدة الوجود نجد أن الاتصال بين الإنسان والإنسان حاصل من الأصل، وهو اتحاد في الصميم. ولكن مبدأ هذا الاتحاد ليس شخصياً. فالمحبة اشتراك في مصدر واحد وهو الإله أو المطلق. وإذا كان ثمة انفصال فمرجعه أسباب خارجية.
أما في فلسفة تبدأ بالتعالي وبفكرة درجات الوجود، وتلح على دور الإرادة والحرية، فالمحبة علاقة قوامها الإرادة، أو هي علاقة حرة. والحرية أداة اتصال كما أنها أداة انفصال. ثم إن الحرية تتجه بالمحبة إلى ذات مختلفة عنها، لا إلى مبدأ عام. فالنفس عند أفلاطون تحب الجمال لا الشخص الجميل، أما في فلسفة تؤكد على الشخصية فالمحبة، تتوجه إلى الشخص وتعتبره ذا قيمة مطلقة، أو قائمة بذاتها، لذا فقوام المحبة هنا هو التضحية والتفاني. أما في الفكر اليوناني فقوام المحبة هو الاشتراك أو الاتحاد في جوهر واحد.

الفصل الثاني: الحب عند أفلوطين
إن أول ما يسترعي انتباهنا عند أفلوطين هو أن مبدأ الوجود عنده واحد، ويطلق عليه اسم «الواحد» ويشبهه بالشمس، وكما تفيض الأشعة عن الشمس كذلك تفيض الموجودات عنه. ويقول عنه أخيراً أنه الجمال المطلق، فأفلوطين يوحد ما كان عند أفلاطون متعدداً. ونلاحظ ذات الشيء في العقل وفي النفس الكلية.
يقف أفلوطين إذاً بين أفلاطون والمسيحية، ولكنه أقرب إلى أفلاطون منه إلى المسيحية لسببين:
الأول هو أن صفة الواحد عنده هي الجمال، والثاني هو أن الواحد ليس ذاتاً متميزة بالإرادة والحرية.
وبالتالي فالحب عند أفلوطين رغبة وشوق، أو نزعة الأدنى التي تهيب به نحو الارتقاء، أو النزعة الكامنة في النفس والتي تحثها دوماً كي تعود إلى موطنها الأصلي. وبتعبير آخر طريق الحب عند أفلوطين صاعد كما عند أفلاطون.
يعتبر أفلوطين أن الله حب ولكنه يحب ذاته كإله أرسطو، فهو على تعبير ابن سينا عشق وعاشق ومعشوق. فالواحد إذن مكتف بذاته ومستقل بوجوده عن كل وجود.
ولما كان أفلاطون يعزي وجود عالمنا للصانع، وأفلوطين يرى أن عالمنا حصل من تراضي النفس الكلية، والنفس الكلية فيض من الواحد، ولكنه ليس فيضاً مقصوداً. أما المسيحية فترى أن الوجود نتيجة لفعل محبة هو فعل الإله الخالق من العدم، فالإله الذي خلق العالم يعنى به، وهو الذي أوجد الإنسان على صورته ومثاله، أي حراً ومزوداً بالقدرة على المحبة.

إن نهاية المطاف عند أفلاطون –كما عند كل فلاسفة الإغريق قبل أفلاطون– في التأمل أو مشاهدة المعقولات (Théoria)، أما عند أفلوطين فهو استغراق في الذات الإلهية ووحدة الوجود، وهذا الفرق هو ما يعبر عنه المتصوفة في الإسلام بتمييزهم بين وحدة الشهود ووحدة الوجود.
والخلاصة أن أفلوطين أضاف إلى الفلسفة اليونانية ذلك العنصر الروحي الذي كان ينقصها ولذا تأثر به كل المتصوفة.

الفصل الثالث: فكرة المحبة حتى أواخر القرن الرابع الميلادي
دمجت المذاهب ذات الطابع اليوناني – كالأفلاطونية الجديدة– أرسطو مع أفلاطون مع الرواقية معالمذاهب ذات الطابع المسيحي، دمجت الفلسفة اليونانية بالتوراة والإنجيل، ذلك أنه كان على المسيحية أن تقف موقفاً حاسماً من الكتاب المقدس، أي من ماضيها، وموقفاً حاسماً من فكرة الحب (Erôs) اليونانية التي اصطدمت بها.

البحث الثاني: الحب في الغنوصية
ما هو المذهب الغنوصي؟
«غنوص»: كلمة يونانية معناها المعرفة، وتشير في لغة أصحاب المذهب الغنوصين إلى:
1) الكشف عن السر، الاتصال بسر الوجود.
2) تجربة ترقى بالإنسان إلى مرتبة الألوهة فيرى مباشرة ويعرف، إذ يصبح والذات الإلهية شيئاً واحداً.
والأرجح أنه نشأ في القرن الأول قبل الميلاد، وقد انتشر في القرن الثاني للميلاد في كل أجزاء الإمبراطورية الرومانية، وكان أتباعه يشكلون جمعيات غالباً ما تأخذ طابعاً سرياً.
والحال، فالمذاهب الغنوصية مزيج خرافي عجيب لا نعلم أين ينتهي فيه الخيال، وأين يبدأ العقل. والواقع أن الخيال الخرافي قد سيطر على هذا المذهب سيطرة قوية.
والعالم الغنوصي عالم أسطوري مليء بالكائنات الغريبة، فهناك صانع للعالم –هو إله التوراة– يخطئ في عمله، وفوقه إله مجهول، وآلهة وأنصاف آلهة، ومعان مجسمة كالحكمة والعقل والكلمة، وكل هؤلاء وغيرهم بالعشرات يكونون تأريخاً غريباً في نوعه، فالواحد يصلح والآخر يفسد. وعلى هذا النحو، فالمذهب الغنوصي قام بالدرجة الأولى على صهر الدوافع الأساسية للمذاهب التي صادفها في طريقه، في واقعٍ واحد، أي في معنى واحد هو الحب (Erôs) كما تصورته الأديان الإغريقية، وبشكل خاص الديانة الأورفية. وهذا الصهر هو الذي يلقي عليه طابعاً هجيناً.

نظرية الحب عند الغنوصيين:
يقسم أصحاب المذهب الغنوصي الوجود إلى ثلاث ممالك: مملكة الإله أو مملكة الروح الخالص (Peuma)، ومملكة النفس وهي مزيج من الروح والمادة (النور والظلمة)، ومملكة العالم (Cosmos) أو العالم الأدنى ويتصورونه على شكل أسطوري نصفه عذراء والنصف الآخر ثعبان ويطلقون عليه اسم عدن أو اسم إسرائيل.
وينظر الإله إلى العالم الأدنى فيلتهب شوقاً إليه ويتحد به، وعن هذا الاتحاد ينجم الإنسان. والواقع أن هذا التسلسل أكثر تعقيداً، فهناك مخلوقات عديدة تتوسط بين الإله والإنسان منها النيوس (ious) الذي يصدر مباشرة عن الإله، واللوغوس (Logos) وغير ذلك. وشوق الله إلى العالم هو ما يطلقون عليه اسم (Agapé) –المحبة المسيحية– وهو شوق يكاد يتخذ الصفة المحسوسة أو الحب الجنسي، مما يدل على أن فكرة الحب اليونانية (Erôs) قد صهرت في معناها فكرة المحبة المسيحية، صحيح أن محبة الله للعالم حركة هابطة، ولكنها حركة عشق لاهبة.
وبكلمة مختصرة شوق الإله إلى الأرض هو (Agapé)، وشوق الإنسان إلى الإله هو (Erôs) ولكن الاثنين بالنتيجة من طبيعة واحدة.

معنى المحبة:
إن فكرة الحب اليونانية تفترض أن الإنسان ذو نفس إلهية سرمدية وبالتالي إنها قادرة على الصعود بذاتها نحو العالم العلوي، موطنها الأصلي، شريطة أن تتحرر من المادة. أما معنى المحبة المسيحية فلا علاقة له بالمادة، ولا بالنزعة أو الرغبة. فالمحبة هي هبة من الله يمنحها للإنسان بكامله (نفساً وجسماً)، أما النزعة فشيء من الإنسان ذاته. وتتجلى المحبة بأعلى مظاهرها في الفداء.
وإذا كان الله يحب الإنسان فهو يحبه نفساً وجسماً، والخلاص من رحمة الله لا من الإنسان. أما الغنوصية فقد دمجت معنى المحبة المسيحية في المعنى الإغريقي، فالإله يحب لأنه في حالة شوق كالإنسان، لا لأنه يحتم محبته رحمة.
وبالتالي، إذا فُهِمَت المحبة على شكل نزعة، فسرعان ما ستتعرض لكل المزالق التي تتعرض لها الرغبة الإنسانية، أي إلى التحلل من الأخلاق، فالأخلاق من نتائج المحبة. وهذا المزلق تعرض له الفكر اليوناني قبل الفكر الغنوصي.

البحث الثالث: الشكل الإغريقي لمعنى المحبة المسيحية
معنى المحبة المسيحية يبدأ بالكلمة «الله محبة» ولا يمكن لمثل هذه المحبة أن تكون نزعة لأن النزعة نقص، والله هو الموجود الحق، أي الموجود الذي لا نقص فيه.
الغنوص (المعرفة) بالنسبة للأفلاطونية الجديدة تقوم على الحب (Erôs)، فالحب موضوع ديني، إذ أنه قوام العبادة والطقوس. ونقول –على شكل آخر– إن الحب معنى ديني وكذلك المحبة (Agapé) فكيف يمكننا أن نوفق بينهما. من هذه النقطة يبدأ الانحراف.

المعرفة والحب:
لمّا كان الوسيط الوحيد هو الحب، فلا معرفة بدون حب، أي لا معرفة بدون هذه الرغبة التي تدفع بالإنسان نحو مشاهدة المثل في بهائها، على اعتبار أنها مصدر حياة الإنسان. إذن فقد جنحت النظريات اليونانية نحو حذف المادة، حيث ندرك أن الفلسفات في ذلك العصر أصبحت نظريات وحدة وجود. وفي نظريات وحدة الوجود تصبح أجزاء الوجود كلها متضامنة على شكل تعاطف داخلي يوحد بينها ويضمها إلى بعضها. وعندئذ يصبح الحب تعاطفاً، والمعرفة اتحاداً بالشيء الذي نعرفه.

وبالنتيجة يصبح الحب والمعرفة أمراً واحداً. وهذا هو الغنوص كما فهمته المدرسة الأفلاطونية الجديدة والمدرسة الغنوصية والمدارس الفلسفية والدينية والصوفية التي ظهرت في تلك العصور.
ولكن لنلاحظ بهذه المناسبة أن هذه المثالية –مثالية وحدة الوجود– معرضة لخطرين أساسيين يهددانها دوماً:
الأول: في حالة الفوضى والانحطاط الأخلاقي والضعف الخلقي يصبح القول بالاتحاد في صميم الوجود بمثابة تشجيع على التهتك الجنسي وعلى إحداث الحالة الصوفية بالمخدرات. وخلاصة القول إن نظريات وحدة الوجود خطرة، حتى ولو كان الذي يقول بها اسبينوزا أو برغسون.

الثاني: هو حذف الشخصية، فمذاهب وحدة الوجود كلها تؤدي إلى ذلك، إذ الحب في مثل هذه المذاهب يصبح حباً للوجود واستغراقاًً فيه، والمعرفة هي هذا الاستغراق ذاته. ولذا تؤدي هذه المذاهب إلى حذف المعرفة، إذ أن المعرفة شعور العقل، ومذاهب وحدة الوجود تحذف في مرحلتها النهائية (مرحلة الاتحاد بالوجود) كل شعور.

نظرية المحبة المسيحية وتأثرها بالنظرية اليونانية:
إن التلاقي بين المعنى الإغريقي والمعنى المسيحي للمحبة نجده عند أحد كبار رجال الكنيسة وأحد المتصوفة المعروفين وهو غريغور من نيقية المتوفي عام 394 للميلاد، فهو يستعمل كلمة (Erôs) ويعني علاقتها بكلمة (Agapé) من حيث أن (إيروس) هو الدرجة العليا لـ (أغابي) أو مظهر من مظاهر تحققه النهائية، إذ أنه هو الذي يحقق حالة الوجد الصوفية أو حالة الانجذاب. فالنفس التي تطهرت من أدران الأرض وأدركت درجة الكمال تشعر بأنها مشاركة للطبيعة الإلهية، وهذه المشاركة هي المحبة (أغابي) وعندئذ تزداد كمالاً. وكما أن الأمور التي هي من طبيعة واحدة تتجاذب، كذلك النفس تشعر أنها مندفعة نحو الإله لتتحد به، وعندئذ نطلق على أغابي اسم إيروس.
وعلى هذا النحو تكون الأغابي حالة مشاركة أما إيروس فحالة اتصال ووحدة. ولذا فحال المحبة (Agapé) هبة من الله لا نقص، وحالة الحب (Erôs) مظهر من مظاهر أغابي يحصل عندما تشعر النفس بوجود قوة لا يمكنها أن تقاومها فتندفع نحوها.

ما قيل عنه


«عرفت أستاذنا أنطون المقدسي، منذ أيام الطلبة الأولى، عندما كنت واحداً من طلابه في جامعة دمشق. ولا أظنني أنسى حتى آخر يوم في حياتي ما استمعت إليه من أفكار ورؤى متجددة، متطورة، من محاضرة إلى أخرى ومن درس إلى الذي يليه.
لم يكن أنطون مدرساً، ولا مجرد أستاذ، لقد كان فيلسوفاً يمتلك وجهة نظر خاصة به. وكانت الفلسفات التي يعرضها على الطلاب في المحاضرات، أو ضمن المقالات التي كان ينشرها على فترات متباعدة، مجرد مناسبات ليكشف عن مواقفه الفلسفية الخاصة.
كان يفكر على غرار الفلاسفة مثلما كان يمتلك فكره الخاص، غير أن أفكارنا الخاصة في كثير من الأحيان، قد تحتاج إلى ما يقدمها ويبرزها، فكانت فلسفات أفلاطون وأرسطو وكانط وهيغل وغيرهم، مناسبات للتأمل الفلسفي لطالما استمتعنا بالاستماع إلى أفكاره حولها، أو قراءته لها، استماعاً يجمع بين العقل والعاطفة في وقت واحد.
لقد كان أنطون المقدسي يعيش دهشة دائمة ممتزجة بنوع من السخرية المهذبة التي تذكر بسقراط، وإن كان للمقدسي نكهة سورية يبرودية خاصة تخلع عليه طابع الفيلسوف الحق الخارج من بيئته والمنتج لأفكاره انطلاقاً من ذاته وعصره وأمته.
وقد تطور فكر أنطون مقدسي على نحو لافت للانتباه على امتداد ستة عقود أو يزيد. ومن هنا فإن ما قد يبدو تناقضاً بين أفكار أنتجها في البداية، وأخرى أنتجها في المراحل التالية من حياته، ربما لم يكن هذا إلا نوعاً من التكامل والنمو الذي لا بد للفيلسوف الحق من أن يمر به ويعانيه، تجربة حية متجددة على مر السنين والأيام.
لقد كان المقدسي فيلسوفاً بحق، خرج من التراب السوري وعاد إليه، وما عودته تلك إلا نذيرٌ بانبجاس أفكاره في صورة أخرى. لعلها أن تكون أكثر تقدماً في "النبوات" القليلة التي ربما كان المقدسي على إيمان بأنه قد أنتجها قبل أن يزفر زفرة الفلسفة الأخيرة، زفرة الغضب، زفرة النقد، زفرة عدم الرضى على كل شيء.
أتكلم شهادة محبة وتقدير وعرفان نحو الإنسان الذي كان أول من تعلمت منه الخطوة الأولى في عالم الفلسفة، وفي تيارها الجارف، يوم كنت لاأزال في المدرسة الثانوية وإنني لأشعر اليوم، وأنا أستاذ جامعي، عندما أتذكر رحيل الأستاذ، أنني منشدّ إلى تلك اللحظة الأولى، اللحظة البكر التي قادني إليها أنطون مقدسي بمحبة الأب وحكمة الفيلسوف وصبر المعلم».
يوسف سلامة

«أنطون المقدسي كان أكثر من أكاديمي، أكثر من مدرس فلسفة، كان فيلسوفاً شخصانياً يعتبر العلاقة الشخصانية أو العلاقة الذاتية أساساً: علاقة الحب أو الكراهية أو اللامبالاة، وبتعبير أدق: موقف التخارج والانفتاح على الوجود، أو موقف الانغلاق على الأنا، الأول هو موقف الحب والثقة بالآخر وبالوجود، والثاني هو موقف الشعور بعدم الأمن وبالتالي تجنب الصميمية أو الانفتاح، والاعتصام بالحذر وسوء الظن إلى درجة (البارانويا).
إن أنطون المقدسي قد عاش عصره وتفاعل معه وعانى مشكلاته، وفي مقدمتها: بؤسه العدمي، ذلك المرض القاتل الذي ينبغي الشفاء منه بالحب، فالحب والعدمية على طرفي نقيض، الأول يمثل الانفتاح والثانية تمثل الانغلاق الذي يهيمن على عصرنا.
ولكن أنطون مقدسي يراهن على ميتافيزيقا الحب التي تشخصن الإنسان، وتساعده على الانفتاح. وبمقدار سخائنا في بذل الحب للآخر، نسمو بإنسانيتنا. وأن نكون قادرين على أن نجلس في علاقة حقيقية مع كائن إنساني آخر، يساوره قلق عميق أو شعور بالذنب، أو يعاني مأساة معلقة فوق رأسه، فإن هذا الموقف يعتبر أسمى ما في إنسانيتنا جميعاًً. وهذا ما يجعلنا نؤكد على أهمية التلاقي (اللقاء الصميمي أو الحميم مع الآخر) بدلاً من مجرد علاقة.
وهكذا يكون رهان أنطون المقدسي على ميتافيزيقا الحب أو فلسفته، قائماً على أساس راسخ، فالحب ينبغي أن يقهر العدمية إذا كان للإنسان مستقبل».
المفكر الراحل أحمد حيدر

ما قيل في وداعه


«لن ننسى، أيها الأستاذ والمعلم، قلقك على المسيحية في الشرق عامة وفي فلسطين خاصة، وكان كبيراً. ولن ننسى خوفك على العرب، وكان شديداً. ولن ننسى أن نكون أسوة بك، أبناء هذه الأرض وهذا التاريخ وهذه الثقافة. ارقد بسلام الرب والأرض، فقد أدّيت الأمانة».
الأب إلياس زحلاوي

من أقوال المقدسي


«في عام 1983 بمناسبة مرور مئة عام على وفاة كارل ماركس، دعت اليونسكو إلى لقاء عالمي تشترك فيه كل أمم العالم، الشيوعيون الذين كانوا أقلية قدّموا مداخلات كثيرة، وفي الهيئات الاجتماعية، طُلِبَ منا نحن الموجودين أن نجيب على السؤال التالي: إذا افترضنا أن ماركس عاد حياً اليوم، ما الذي قد يقوله إلى مدنيتكم أو أمتكم؟ وأعطي لكل من يود الحديث دقيقتان حيث كان هناك حوالي خمسون متحدث، فقلت أنا بدوري: ارفعوا أيديكم أيها الدول العظمى عن بلدي وعن البلدان التي يقولون عنها دول العالم الثالث، فالشعوب قادرة على أن تتطور بفعل قواها الذاتية».
وأيضاً:
«عندما تصبح الثقافة رسالة. وأية رسالة أعظم من أن يسهِم الإنسان في إعادة تكوين مجتمعه وإنسان هذا المجتمع. تلك كانت رسالة الأنبياء. وفي بداية كل منعطف تاريخي كبير، رسالة ما، هي التي تعطيه معناه، ومنعطفنا الكبير اليوم هو تجاوز الهزائم والتخلف، وأمراض التخلف والهزائم من أجل بناء مجتمع وحدوي معافى، يعيدنا إلى المستوى اللائق بأمة عظيمة. كل ذلك يتم في صمت القلب».
دمشق –أواخر كانون الثاني– 1992

المراجع


1) أنطون المقدسي: الحياة والثقافة والمواطنة، إعداد: فايز سارة.
2) حرب الخليج: اختراق الجسد العربي، تأليف: أنطون المقدسي.
3) المسألة القومية على مشارف الألف الثالث: دراسات مهداة إلى أنطون المقدسي، إشراف: بطرس الحلاق.
4) الأستاذ، إعداد وتقديم: د.علي القيم.
5) الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية، تقديم: أحمد حيدر، مراجعة: د.علي القيم.
6) مواقع الكترونية.


نبيل سلامة

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:
صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

لوريس قسيس المقدسي:

كل الشكر للاستاذ نبيل سلامة مع تحياتي

سوريا