عبد الرحمن مهنا يلجأ الى الماء لبناء عمارته بتثبيت اللحظة

24 01

اللمسة الأنيقة التي تظهر على سطح اللوحة دون ادعاءٍ لتسجيد واقعٍ ما

في معرضٍ ضم ما يقارب من ستين لوحة تشكيلية في صالة الـ «فري هاند» منحنا عبد الرحمن مهنا الإحساس بعدم ركون هذا الفنان لاستمرارية إبداعية واحدة
فعلى مدى تجربةٍ فنية قاربت النصف قرن كان فيها العديد من الانعطافات ما ينشغل في تجريب جديد قبل أن يقع في مطب التكرار وعدم الإضافة، وإن كان ثمة أسلوبية تُشكل كخيوطٍ تربط بين تفاصيل هذه الانعطافات أسلوبية تشكل خصوصيةً لهذا الفنان يُفارق فيها الكثير من الفنانين في التشكيل السوري، تجربةً تشكيلية بدأت بالزيتي الممزوج بموادٍ أخرى مختلفة لاسيما الشمع، وقد تميز بالأخير ثمَّ كان له شأنٌ هام في الغرافيك، والأحبار الصينية، والملونة أنجز خلالها ما يقارب من خمس وعشرين معرضاً.
اليوم ثمة ما يغوي عبد الرحمن مهنا بالألوان المائية فأنجز خلالها وبما يشبه انعطافة جديدة في تجربته هذا المعرض الضخم في صالة الـ «فري هاند» هذا الأمر الذي يبدو أنَّه كان ينضج على نارٍ هادئة في دواخله المائي، الذي قد يكون أسهل تناولاً لكنه الأصعب تنفيذاً كما هو معروف والذين برزوا في المائيات في ساحة التشكيل السوري لا يتجاوزن عدد أصابع اليد الواحدة، وهنا نذكر في هذا المجال: وليد عزت، ويوسف عقيل، وطاهر البني، وفي جديده المائي يُفرغ عبد الرحمن مهنا طاقةً شعورية في اللوحة اختلفت عن تجاربه السابقة وتنوعت موضوعات اللوحات فيها، وهي وإن كانت من مشاهداته في تفاصيل الواقع غير أنَّه يقدمها تشكيلياً برؤى غرائبية أحياناً تسير صوب الحس الساخر والسوريالي، وان كان لا يفارق التعبير في كلِّ ما قدمه من تشكيل.
إذ جسد في هذه اللوحات وبشفافيةٍ عالية قد تكون فرضتها تقنية الماء اللحظة الهطاء أثناء التنفيذ فالدفقة اللونية التي ستجسد الفكرة سيطرحها مرة واحدة على خد الصفة البيضاء ويمدها بكل ما أعطته الخبرة الطويلة.

في لوحات الـ «فري هاند» سيخفف عبد الرحمن مهنا من طغيان الأخضر الذي كان رفيقه على مدى تجربة الزيت لصالح ألوان أكثر حرارة وأكثر حيوية، لاسيما اللمسات التي ظهرت بالأزرق والنبيذي الذي يتدرج إلى الأورانج والذي يبدو أنَّه يناسب الشغب الفني المعاصر ويبدو أيضاً أنها جاءت أقدر تعبيراً عما يختلج في نفسه من تفاصيل واقعية ورؤى وخيال الذي يماهي بينها ليقدم ما يعتبره يحقق الدهشة الإبداعية.
والعفوية التي تشي بها اللوحات جاءت كتكثيف للتجارب السابقة بهذه اللمسة الأنيقة التي تظهر على سطح اللوحة دون ادعاء لتسجيد واقعٍ ما، أي استطاع أن «يؤلف» سرده التشكيلي الخاص رغم صعوبة التأليف بالمائي كما ذكرنا سابقاً.
عفوية التأليف التي جاءت بنقل الأحاسيس المخبأة، وانسكاب الألوان وحبّها وفرشها برشاقة على السطح الأبيض وبدون تكلف، بهذا المزج بين الخيال والواقع يكون هذا الواقع المشتهى والمرغوب به وفيه، وليس كما هو واقعاً، وكان إغواء «العمارة» له في كل ما قدم، ذلك أن الأثر الذي يذكرنا الماضي فيه الكثير من المواصفات التي يستشف منها حساسيته الفنية فيبني العمارة من خلال آفاقٍ فنية من خلال تكوينها الفكري والثقافي وليست مفروضة عليه كما هي العمارة الحديثة ومن حيث التقنية هي تكوين يركبه مهنا من خلال عوالم يتحسسها باستمرار تجاه الواقع، وأشيائه أي لا يتناول هذه العمارة من منظورٍ فوتوغرافي أو تسجيل، بل هو يركب كما يقول من خلال فهمٍ تشكيلي وإبداعي خاص، ليس له علاقة بالصورة المقروءة بصرياً وإنما هي صور ذهنية فكرية تحمل مضامين ورؤى ذاتية يعايشها دائماً بأحلامه وطموحاته، لذلك تأتي هذه الأعمال بخصوصية تجسد بآفاقٍ فنية يضع فيها الجديد بما يتوصل من تقنياتٍ تشكيلية معاصرة.

على سبيل المثال ثمة طيف لعمارة محددة وليس عمارة بعينها فهو يأخذ دلالات البيوت العتيقة يركبها لتحمل جماليات تعيش في داخله، ويضيف عليها من خلال تكوين وتجسيد للمسات الزمن وفلسفته وتاريخه، جدران، مشربيات، وشبابيك.
هذه المرة لن يكتفي عبد الرحمن مهنا بالعمارة الصرفة والاشتغال عليها كما في معارضه السابقة هنا سنجد ثمة اتجاه لـ «عمارة» البورتريهات التي يستخدم في بنائها ذات التقنيات السابقة، أي ليست وجوه محددة بعينها وإنما أيضاً أطياف وجوهٍ يطرحها بكل سرعة الدفقة، وطرح ومد الألوان المائية على سطوح اللوحات، وبذات الفطرية والعفوية الأمر الذي يُبعد مسألة التكرار التي قد توحي بها القراءات الأولى، وكان هذا الاهتمام أيضاً بهذه الحساسية الخطية التي تمثلت باللون الأسود المشبع بالماء يأتي وكأنه يخيط أو يشبك بين الألوان المتجاورة أي ثمة حساسية لونية أيضاً تقدم مفاصل تعبيرية تكشف عن هواجس أسلوبية خاصة به، لاسيما بهذا الأزرق الحلم الذي نهرب إليه في أكثر من حالة سواء كانت عجزاً أو طموحاً أو أمل.


علي الراعي

تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق