إلفة الإدلبي

01 02

==مقدمة==
حين تعزف المرأة أو تبدع أفلا ترقص الآلهة في السماء؟!
وحين تضحك أو تبكي أفلا تذرف الآلهة دموعها من أعالي السماء؟!
لعلنا نصغي لذلك اللحن السرِّي العميق عبر الأزمنة السحيقة، ذلك الصوت الناعم الباكي، أفلعله صوت حواء الأولى يترجَّع صداه عبر أقلام الأديبات في العصور المتوالية وصولاً إلى عصرنا ومنطقتنا؟!
كلنا أو معظمنا سمع ألحاناً دافئة وحنونة، وأصواتاً تنعم بالوداعة والسلام. وأيضاً، سمعنا ألحاناً تنساب من أعماق عظمائنا مثل بيتهوفن في سوناتته «ضياء القمر» أو إلى حبيبته «إليز». ما سر ضياء القمر، حين يمتزج مع صورة الحبيبة إليز؟!
أفليست المرأة منبع الإلهام الحقيقي، وسحر الوجد، وغبطة الأزمنة؟!
يتصاعد لحن «ضياء القمر»، وينسرب عبر أعماق الأفئدة، ليكشف سراً عميقاً في داخلنا، إنه «حواء»، أو «الأنثى الخالدة»، أفلعلنا نسمع أو نصغي إليها؟ ماذا تريد أن تقول لنا؟! ماذا اختبرت؟! وإلامَ تتوق؟! وكيف تشعر؟! هذا ما سوف نراه في رحلتنا مع «إلفة الإدلبي».

سيرة حياتها


ولادتها


وُلِدَت إلفة الإدلبي في مدينة دمشق في حي الصالحية المنحدر من جبل قاسيون في عام 1912 من أبوين دمشقيين هما «أبو الخير عمر باشا» و«نجيبة الداغستاني» وكانت البنت الوحيدة بين خمسة أخوة ذكور.

نسبها


يعود نسبها من أبيها إلى أسرة دمشقية الأصل، ومن أمها، إلى أسرة داغستانية، ويشير د. بديع حقي إلى أن إلفة الإدلبي «تؤكد المقولة المعروفة عن عبقرية الإنسان المتحدر من عرقين واشيين بخصالهما المتميزة وطبائعهما المتفردة». «لعله نحا إليها من أمها وخالها رحمهما الله، وكان الدكتور كاظم إلى جانب ثقافته وعلمه، شعلة متقدة من اللطف والظرف وخفة الروح».
«نفى السلطان العثماني محمود الثاني جدها الشيخ محمد حلبي، وقسره على مغادرة وطنه داغستان مع أسرته، بسبب نضاله لتحريره من الاحتلال الروسي، ليقيم نهائياً بدمشق، مدارياً عمره كله لواذع الحنين إلى بلده البعيد، ولو أنه بقي فيه، لما تسنى لحفيدته نجيبة الداغستاني رحمها الله، أن تتزوج من أبي الخير عمر باشا رحمه الله ولمَا ظفرت دمشق بابنتها البارة المتحدرة من هذا الزواج المبارك».

تعليمها


تلقت علومها في مدرسة تجهيز البنات، وفي عام 1920 أصبح التدريس في مدرستها باللغة العربية، وحين عاد الملك فيصل الأول من باريس خرجت لاستقباله بزي مدرسي أُعِدَّ خصيصاً لهذه المناسبة التاريخية.
في عام 1921 أُصِيبَت بالحمى التيفية، ونجت منها بأعجوبة، مما أخَّرَها عن الالتحاق بالمدرسة سنة كاملة، ولما أسست مدرسة «العفيف» القريبة من منزلها انتمت إليها، وكانت من المتفوقات في دروسها.
وفي عام 1927 نالت الشهادة الابتدائية وانتقلت إلى دار المعلمات. وكان من أساتذتها فيها أبو السعود مراد، وصادق النقشبندي، ومحيي الدين السفرجلاني. وكان صفها قليل العدد لا يتجاوز ستة عشر تلميذاً، أما التلميذات فلا يكاد عددهن يُذْكَر.
ومن الجدير بالذكر أن إلفة الإدلبي منذ بداية تفتحها على الحياة، أظهرت ميلاً واضحاً نحو الأدب. فكانت تُقبِل على القراءة، وحفظ الشعر، وتمضي الساعات الطوال مع أمهات الكتب، التي تذخَر بها مكتبة والدها الذي لاحظ ميول ابنته، فأخذ يوجهها وضعاًً بين يديها أثمن ما احتوته مكتبته، فقرأت «العقد الفريد» وقرأت «الأغاني»، وكتاب «الأمالي» واستحسنت الشعر القديم وتذوقته، وحفظت أروع القصائد وأجملها.

زواجها


في عام 1929 تزوجت إلفة من الطبيب حمدي الإدلبي، وتزوجت منه دون أن تراه، ولكنه استطاع أن يراها خلسة بمساعدة صديقة للطرفين، وأنجبت له ثلاثة أولاد هم: ليلى وياسر وزياد. وكانت قد انقطعت عن متابعة تعليمها بسبب هذا الزواج المبكر.

مرضها


أنجبت إلفة الإدلبي في عام 1932 ابنها ياسر وأصيبت بمرض أقعدها في الفراش سنة كاملة انقطعت خلالها إلى القراءة انقطاعاً كاملاًً، حيث كانت تقرأ عشر ساعات متواصلة يومياً، تنتقل فيها بين الأدب القديم والحديث والمترجم، إلا أن قراءة القصة كانت هوايتها الأثيرة، الأمر الذي جعلها تستنفد جميع مؤلفات محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم عبد القادر المازني، وطه حسين، وميخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران، ومارون عبود، ومعروف الأرناؤوط. ومن الأدب العالمي قرأت: تولستوي ودوستويفسكي وبلزاك. وقد حصلت على هذه الكتب كلها من مكتبة خالها كاظم الداغستاني (1901-1985) وكان مفكراً وأديباً وناقداً وحاصلاً على دكتوراه في الفلسفة وعلم الاجتماع. وله كثير من المقالات الأدبية والنقدية في الصحف العربية والمحلية، وله مؤلفان أدبيان «البيت الشامي الكبير» و«عاشها كلها».

نشاطها الأدبي والاجتماعي


بعد إبلالها من مرضها تابعت القراءة وعاشت حياة طبيعية. وانتسبت خلال تلك الفترة إلى عدة جمعيات خيرية وثقافية كجمعية دوحة الأدب. وكانت تعقد في دارها ندوة كل شهر يشترك فيها عدد من أدباء دمشق وأديباتها ومثقفيها لتبادل الآراء حول الأدب والثقافة.
وفي عام 1937 أنجبت ابنها زياد، وعاودها المرض ولكن بشكل أخف، وزارت القاهرة لأول مرة فبُهِرَت بها. وكانت تزور لبنان كل صيف حيث توثقت عرى الصداقة بينها وبين السيدة نازك العابد زوجة المؤرخ محمد جميل بيهم.
وفي عام 1940 انتمت إلى جمعية الندوة، وقامت من خلالها بنشاط أدبي واسع، ولعل أول من تنبه ورعى موهبة إلفة الإدلبي من خارج الأسرة كان أستاذ اللغة العربية أديب التقي البغدادي عندما كانت طالبة في دار المعلمات فعرض عليها وعلى مثيلاتها من الطالبات الموهوبات تشكيل جمعية أدبية، وكانت فكرته هذه هي النواة الأولى لتشكيل جمعية أدبية ثقافية أخذت صبغتها الرسمية في عام 1942 هي «الندوة الثقافية النسائية» وملتقاهن في الندوة الثقافية النسائية هذه كان صباح كل ثلاثاء، كما ذكرت الأديبة أميرة الدرّة التي كانت تسرد ذكرياتها إبان الثورة السورية، وها نحن نورد نص حديثها لما يؤرِّخ فترة هامة من حياتها ألا وهي نضالها جنباً إلى جنب الرجل الندّ للندّ.

قصة نضال لها


تقول إلفة الإدلبي: «أثناء الثورة السورية كنا في دار المعلمات. وكنت أنا وأخي وأربعة من أولاد عمومتي قد التحقنا بالثورة السورية، وسَرَت العدوى إلى صديقاتي وإخوتهم فالتحقوا بالثورة، وكنا يومها نشتعل حماسة واندفاعاً. أنشئ أول معمل للألبسة الوطنية (التريكو) في دمشق فخطر لنا نحن الفتيات المتحمسات أن نذهب إلى المعمل بالسر وبدون إعلام أهلنا من أجل أن يصنع لنا سترات بيضاء يحيط بها العلم السوري بألوانه الأبيض والأخضر والأسود والأحمر في إطار الكنزة وفي إطار الأكمام. ورحنا نلبس الملاءة السوداء ونضع السترة فوق التنورة السوداء فيظهر العلم السوري ما بين الملاءة والتنورة.
وعندما كنا نسير في الطرقات كان كثير من الشبان يحيوننا ويحيون العلم السوري. ولما وصلنا إلى المدرسة تكتلت رفيقاتنا حولنا ورحن يسألن: أين صنعتن هذه السترات، نريد مثلها، نريد مثلها.
وكانت الناظرة عين المديرة الأجنبية تتجسس علينا، وتحمل لها أخبارنا، فأسرعت إليها بالخبر.
دعتنا المديرة الأجنبية إلى غرفتها وهددتنا بالطرد إن لم نخلع العلم السوري. لأن ذلك يثير الشغب في الطرقات وفي المدرسة. وكبر الأمر علينا فبقينا ثلاثة أيام في البيت ندَّعي المرض أمام أهلنا. وجاء أحد الآباء إلى أبي قائلاً: أفلا يكفي ما نلاقيه في أبنائنا الشباب حتى تفعل ذلك بناتنا؟. فطلب مني أبي ألا أرتدي ذلك اللباس وأن أذهب فوراً إلى المدرسة.
انتشرت الحادثة في كل أرجاء دمشق وسمع بها الشاعر أحمد الشهابي -وكان ملتحقاً بالثورة- فنظم فيها قصيدة ألقاها على الثوار، ومازلت أذكر هذه الأبيات:
جاءت ليوم الفحص تلبس حلة    علم العروبة ظـاهر بإطار
فرأته بنت السين فاهتزت لظى ورمته بالممقوت من أنظار
أمرت بطرد فتاتنا رغم الألى       شاموا إباء ... في إصرار

أبرز المحطات في حياتها


ومن أبرز المحطات التي مرت عندها الكاتبة بعد الندوة الثقافية النسائية نجد «حلقة الزهراء الأدبية» في عام 1945. وكان من أبرز أعمال هذه الجمعية إصدار كتاب «مختارات من الشعر والنثر» للأديبة والصحفية السورية الأولى ماري عجمي.
في عام 1947، كتبت أول قصة لها بعنوان «القرار الأخير» وأرسلتها للاشتراك في مسابقة إذاعة لندن ففازت بالجائزة الثالثة، وقد شجعها هذا الفوز على الاستمرار في كتابة القصة التي أصبحت إحدى رائداتها. وهي منشورة في كتابها «قصص شامية». ثم كتبت إلفة الإدلبي قصتها الثانية «الدرس القاسي» فأرسلت إلى مجلة «الرسالة» المصرية القصتين معاً، فنشرتهما.
في عام 1953 أصدرت كتاب «قصص شامية» وقد ضم عدة قصص منها: «مهدي أفندي، الكاسات المعدودات، ثوب سلمان، انتقام، الستائر الزرق، الدرس القاسي، كان سيئ الخلق».
ثم انضمت الكاتبة إلى «منتدى سكينة»، كما كانت من أعضاء «جمعية الأدباء العرب» وأثناء ذلك جعلت من بيتها صالوناً أدبياً مخصصاً لاستقبال ضيوف الجمعية من الأدباء المصريين أثناء فترة الوحدة بين القطرين، إضافة إلى الأدباء والشعراء السوريين الذين هم أعضاء في «منتدى سكينة» وأعضاء في «جمعية الكتاب العرب».
في عام 1963 أصدرت إلفة الإدلبي كتاب «وداعاً يا دمشق» وضم قصص: «الرقية المجربة، وداعاً يا دمشق، انهزم أمام طفل، سلاطين مخيفة، نسمة الصبا، الله كريم، خيط العنكبوت، سراب، ماتت قريرة العين».
في عام 1964 نشرت الأديبة كتابها «المنوليا في دمشق وأحاديث أخرى». وفيه قصة عن امرأة إنكليزية هي «الليدي جين ديكبي»، وفي الكتاب أيضاً خمس محاضرات ألقتها الكاتبة في مناسبات رسمية حيث قدمت المؤلفة تقريراً شاملاً ومفصلاً في محاضراتها تلك عن حياة المرأة السورية ونشاطاتها ومراحل النضال والتطور التي اجتازتها. وأكدت على ضرورة مشاركة المرأة الفعلية في السلطة القضائية، أو في السلطة التشريعية أو التنفيذية وعلى أهمية تسلمها للمناصب الوزارية في الحكم.
وتوالى النتاج الأدبي للكاتبة فأصدرت مجموعتها القصصية الثالثة «ويضحك الشيطان» عام 1970، وبدت أعمالها الجديدة، تحمل تطوراً نوعياً واضحاً، ومتناسباً مع تغيرات الواقع، إذ تطرح مشكلات معاصرة، وتركز على القضية الفلسطينية، ومآسي الاحتلال الصهيوني، وتلجأ إلى استخدام تقنيات فنية حديثة، كأسلوب التداعي والمونولوج الداخلي.
وفي عام 1976 أصدرت مجموعة قصصية رابعة بعنوان «عصي الدمع» ويلاحظ فيها اتساع دائرة اهتمام الكاتبة بقضايا المرأة والمجتمع والوطن التي تعكس الواقع الجديد بكل تبدّلاته، وتطرح قضايا إنسانية عن استغلال الإنسان للإنسان، وعن بؤس المقهورين، وغربتهم في مجتمعهم، وعن آثار الرجعية على أوضاع المرأة، وتعرض صوراً عن صراع الفقر والغنى الذي لا ينتهي. وكذلك تتحدث عن حرب تشرين وآثارها النفسية على أبناء شعبنا.
ومن أهم أعمالها الأدبية أيضاً روايتان هما: «دمشق يا بسمة الحزن» (1980)، ورواية «حكاية جدي» (1990).

عملها


عملت إلفة الإدلبي في لجنة النثر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وذلك مدة تقرب من عشر سنوات، كما عملت في لجنة الرقابة الأخلاقية في مؤسسة السينما العربية في سورية لمدة وجيزة.

المؤتمرات التي شاركت فيها


شاركت إلفة الإدلبي في عدة مؤتمرات عن المرأة منها: المؤتمر الخامس للاتحاد النسائي العربي الذي أقيم في بيروت عام 1962، وشاركت في بغداد عام 1969، وفي مؤتمر المغرب عام 1989.

الندوات التي شاركت فيها


حضرت العديد من الندوات الأدبية المحلية والعربية والعالمية، فمثلت اتحاد الكتاب العرب في تشيكوسلوفاكيا، وزارت الصين في مجال التبادل الثقافي بينها وبين سورية، كما شاركت في ندوة «مكاسب الالتزام في الأدب العربي الحديث» مع كل من الدكتور عبد الله عبد الدايم، ومطاع الصفدي، ويوسف الخطيب، في مركز الجمعية السورية للفنون بدعوة من جمعية الأدباء في 1/4/1959. كما شاركت في الندوة التي أقامتها «جمعية الوعي العربي» عن القصة السورية مع كل من شاكر مصطفى ود.عبد السلام العجيلي في 14/1/1961.
بلغ عدد الندوات التلفزيونية التي أجريت معها في كل من: سورية، ولبنان، والكويت، خلال الأعوام 1961-1986 سبع عشرة ندوة، أما الندوات الإذاعية فأكثر من أن تحصى.

محاضرات وحوارات


ألقت عشرات المحاضرات في الأندية الأدبية والمراكز الثقافية، وعشرات الأحاديث الإذاعية، وأجريت معها مقابلات صحفية وتلفزيونية عديدة.
كما أجرى معها برنامج «كاتب وموقف» الذي يعدُّه عبد الرحمن الحلبي حواراً حول روايتها «دمشق يا بسمة الحزن» اشترك فيه عبد المعين الملوحي وملاحة الخاني في 8/12/1981.

وفاتها


في يوم الخميس 22/3/2007 رحلت الأديبة إلفة الإدلبي عن عمر يناهز السادسة والتسعين عاماً، وتم تشييعها من جامع البدر في حي المالكي بحضور أهل الفقيدة وعدد من الشخصيات الثقافية والأدبية في سورية.
وعن هذا الحدث الجسيم كتب ديب علي حسن يقول: «واليوم ومع بداية الربيع ينتهي العمر المديد المعطّر بأكثر من خمسة عشر كتاباً ما بين الدراسة الأدبية والرواية والقصص ناهيك عن المحاضرات التي توزعت ما بين دمشق وحلب.
إلفة الإدلبي الأديبة السورية الدمشقية المولد في إبداعها عطر الغوطة وسحر الشرق، رحلت في مطلع الربيع الذي تغنت به كثيراً حين يلوّن دمشق وغوطتها بريشته المبدعة ويحولها إلى قارورة عطر وبستان مواعيد وأشواق».

أعمالها


1) قصص شامية، مجموعة قصصية تضم سبع عشرة قصة قصيرة، 1954.
2) وداعاً يا دمشق، مجموعة قصصية فيها سبع عشرة قصة من القصص القصيرة، 1963.
3) المنوليا في دمشق وأحاديث أخرى، طائفة من المحاضرات والأحاديث التي ألقتها في كل من دمشق وحلب، 1964.
4) ويضحك الشيطان وقصص أخرى، مجموعة قصصية، 1970.
5) نظرة في أدبنا الشعبي: ألف ليلة وليلة وسيرة الملك سيف بن ذي يزن، دراسة، 1974.
6) عصي الدمع، مجموعة قصصية، 1976.
7) دمشق يا بسمة الحزن، رواية، 1980.
8) إسرائيليات، محاضرة، 1983.
9) حكاية جدي، رواية، 1991.
10) وداع الأحبة، 1992.
11) عادات وتقاليد الحارات الدمشقية القديمة، محاضرات ومقالات، 1996.
12) ما وراء الأشياء الجميلة وقصص أخرى، 1996.

الأعمال التي ترجمت إلى لغات عالمية


1) الإنكليزية:
«حمام النسوان»، ترجمة ميشيل أزرق، من مجموعة «ويضحك الشيطان».
«بعد سبعين عاماً»، ترجمة سيمون فتال، من مجموعة «ويضحك الشيطان».
«الحقد الكبير»، ترجمة منير فرح، من مجموعة «وداعاً يا دمشق».
«دمشق يا بسمة الحزن»، ترجمة بيتر كلارك، رواية.
2) الروسية:
«العودة أو الموت»، ترجمة د.أولغا فالورفا، من مجموعة «وداعاً يا دمشق».
«وداعاً يا دمشق»، من مجموعة «وداعاً يا دمشق».
«حكاية جدي»، رواية.
3) الصينية:
«الحقد الكبير»، من مجموعة قصص «وداعاً يا دمشق».
«قصص شامية»، المجموعة الكاملة.
4) الايطالية:
«ويضحك الشيطان» ترجمة محمود لولا، من مجموعة قصص «ويضحك الشيطان».
5) التركية:
«الستائر الزرق»، ترجمة منور موره لي، من مجموعة «قصص شامية».
6) الألمانية:
«الستائر الزرق»، من مجموعة «قصص شامية».
7) الإسبانية:
«دمعة وابتسامة»، من كتاب «المنوليا في دمشق».
8) الأوزباكستانية:
«انتقام»، من مجموعة «قصص شامية».
9) لغات أخرى:
توجد ترجمات أخرى منها إلى اللغة العبرية، والفرنسية، وبعض لغات الاتحاد السوفياتي السابق كالأوزباكستانية، والشوفاشية، واللغة الهنغارية، والهولندية، والسويدية، والبرتغالية، والفارسية.

أدبها وتأثيرها على مسيرة الأدب


يجمع دارسو أدب إلفة الإدلبي على تصنيفه ضمن الأدب القصصي الواقعي، وإن كان هذا الأدب يحمل سمات الرومانسية التسجيلية كما تشير ملاحة الخاني التي تقول: «إن المؤلفة في عرضها الفني لنوعية الأحداث التي تستأثر باهتمامها تحمل سمات الرومانسية التسجيلية لعدسة أمينة لا سمات العين التحليلية أو التركيبية ضمن خط درامي متنام. يمكن أن ندرج أعمال السيدة إلفة الروائية ضمن مساق الرواية التقليدية المتأثرة بالأعمال الروائية المترجَمة، ويظهر هذا الأثر في طبيعة الشخصيات، وسلوكيتها، والمصائر المحزنة التي آلت إليها البطلات، هذه الطبيعة المبنية على فكرة التذكر التي توحي مباشرة بالموقف الرومانسي».
إذن أصرت ملاحة الخاني على البعد الرومانسي في واقعية أدب إلفة الإدلبي، فمن حيث المقاربة الواقعية نسمع د.عبد الله أبو هيف يقول: «مقاربة الواقعية في نزاعها مع مقاصد القصة الواضحة. إذ يجد المتتبعون قصصاً كثيرة ذات ميل تسجيلي. وأخرى ذات ميل تعليمي. وثالثة ذات ميل واقعي نقدي، وهذا النوع الأخير من القصص هو الأكثر تعبيراً عن المرأة في خضم المتغيرات الاجتماعية».
أما د.حسام الخطيب فيدلو بدلوه ويقول: «استطاعت السيدة القادمة من منبت اجتماعي غير مرحب به في أوساط الواقعية، أن تثبت أن لديها ما تقدمه لاستكمال شخصية الأدب القصصي الواقعي السوري في الخمسينات، فاحتلت ركناً من المنبر الواقعي، وشاءت له أن يستند إلى ركيزتين هما معاناة المرأة واللون الدمشقي المحلي، واحتفظت لنفسها على مدى السنين التي تلت بطريقة بالغة الحساسية والرهافة في تناول هذين العنصرين. رغبتها مستمرة في مخاطبة الجانب الخيِّر في النفس الإنسانية. وربما كان هذا الميل فطرياً في تجربة إلفة الإدلبي». وها نحن نورد ما أشار إليه د.حسام الخطيب حول أدبها القصصي.

أدبها القصصي


«في معظم القصص ترتكز اللعبة الفنية للكاتبة على رصد لحظة التغير النفسي في الشخصية الرئيسية. وتعتمد قفلة القصة عادة على إحراز تغير مفاجئ مرغوب به في نفسية البطل يأخذ وظيفة ذروة الحادثة أو الفعل في القصص التي يرتكز هيكلها على العقدة.
إن بنية معظم قصص إلفة بنية نفسية تساق فيها المشاعر والمواقف لتحقيق انقلاب نفسي به تختتم القصص.
فمثلاً من نزعة تمرد إلى اطمئنان ورضى في قصة "الستائر الزرق"، ومن حركة تفاؤل إلى ذبول وتشاؤم في قصة "مهدي أفندي"، ومن شر وغطرسة إلى خنوع ومصالحة في قصة "الآغا أبو الدب"، ومن إدمان على الخمر إلى تقوى وورع في قصة "الكاسات المعدودات" وطبيعي أن يأخذ هذا التفسير النفسي مجراه في وعاء الزمن (من الماضي إلى الحاضر) أو قناة القدر (حياة تفرّق وقدر يجمع بالمصادفة) أو الحس الأخلاقي العام للكون. بحيث يكافأ الخيِّر (أبو شيحو مثلاً) ويجازى الشرير كما في قصة "امرأة خالدة". حيث تنتقم بنت سلوى لأمها – دون أن تشعر– من رفيقة أمها التي غدرت بها قبل 19 سنة.
ويندر أن تصنع شخصية ما مصيرها بيدها، فهناك يد خفية حائكة تنسج خيوط المصير، ولكن الأشخاص مع ذلك ليسوا دمى فارغة بالمعنى القدري للمأساة اليونانية القديمة، وتصر يد القدر دائماً على جمع الأشتات في عالم إلفة الإدلبي القصصي، حتى يُخيَّل إلى القارئ أنه لا يمكن لأية شخصية أن تفترق إلى الأبد عن الأخرى، ولسبب يعود إلى انحصار الشخصيات في بيئة دمشقية محددة (مجتمع ما فوق الطبقة الوسطى)، ولكن إلى جانب ذلك هناك تفسير قدَري لا يمكن استبعاده.
وتفضل الكاتبة عادةً القصص ذات الطول المحدود، بحيث تتسع القصة للحظة انطباع، أو لحكاية سمر قصيرة، وإن يكن بغير توتر. وتبدأ القصص عادة بمقدمة تميل إلى الطول وإن كانت غير خارجة عن الموضوع، وتتضمن إما مدخلاً لمناقشة لب القضية المعروضة أو تعتيماً بسيطاً للحدث الرئيسي. وقد تتشابه المقدمات في تقنيتها، ولكنها مع ذلك تحتفظ دائماً بجاذبية حكائية يعود لها الفضل في إنقاذ كثير من قصص المجموعة.
وفيما بعد تطور فن إلفة الإدلبي ولكن الرسم البياني لهذا التطور ظل مترجرجاً، واحتفظت الكاتبة بملامح سمات البداءات. ووفت تباشيرها بكثير من وعودها المبكرة».

القصة والرواية


ولما كانت القصة لقطة من الحياة في حين الرواية هي الحياة في مجراها. ولما كانت "إلفة الإدلبي" قد أبدعت في المجالين لا بل حتى في مجال المقالات والمحاضرات. فإننا سوف ندلف في دراسة أدبها بإطاريه القصصي والروائي. وفي هذه الدراسة سوف نستند إلى أطروحة د.سحر شبيب في الماجستير في أدب "إلفة الإدلبي".

الوصف


الوصف عند إلفة الإدلبي وظيفي محدد حين ترسم الشخصيات، أما عندما ترسم البيئة بمحتواها الزماني والمكاني، فيكون الوصف مستفيضاً متتبعاً لأدق التفاصيل فيها، لاسيما حين تصف عادات وتقاليد هذه البيئة أو حين ترسم تراثها المعماري والمكاني.
أولاً) وصف الشخصيات:

قليلاً ما تلجأ الكاتبة إلى وصف شخصيات قصصها لأنها غالباً ما تترك للحوار والمواقف والأعمال التي تؤديها هذه الشخصيات مسؤولية التعبير عنها ومسؤولية تصويرها للقارئ.
ففي قصتها "عصي الدمع" تصف الجندي المصاب وصفاً دقيقاً لأن هذا الوصف هو في صلب العمل الدرامي في القصة، فهو يوضح آثار الإصابة البالغة للجندي ويؤكد وحشية العدو في استعماله للأسلحة المحرَّمة، ويهيئ القارئ لاستيعاب مغزى الحكاية «كان الجريح جالساً في سريره. وكانت يداه المضمدتان الممدوتان أمامه تبدوان بالضمادات أضخم وأطول من الحجم الطبيعي. أما جذعه فكان عارياً، داكن اللون أسود مبقعاً ببقع صفراء حمراء، العينان سليمتان واسعتان لكنهما بلا أهداب وحواجب».
هذه الحالة المأساوية التي تحمل الإنسان على الألم والصراخ لشدة ما تسببه من أوجاع تغلب عليها الجندي فلا يصرخ منها، في حين يعلو صراخه وبكاؤه عندما يسمع بتوقف الحرب وجنودنا في أوج انتصارهم وعدونا في أسوأ حالة، متمنياً لو تستمر المعركة حتى يبلغ العرب كل غاياتهم ويستردوا كامل أرضهم.
ثانياً) وصف التراث:

في رواية «دمشق يا بسمة الحزن» وصفت الكثير من العادات والتقاليد المتّبعة في البيئة الشامية، وقد وصفتها بدقة بالغة وخاصة حين وصفت حلقات المولوية:
«ويبدؤون الرقص بفتلات بطيئة، الأيدي متصالبة على الصدور، والرؤوس منحنية إلى الأمام قليلاً، والنظرات منكسرة تعبِّر عن التوسل والخضوع، ثم يطوقون خصورهم بأيديهم، وتتسع خطواتهم شيئاً فشيئاً ثم يضعون اليد اليمنى على موضع القلب، ويرفعون اليسرى فوق الرأس، وتزداد سرعة دورانهم فتنفرش أثوابهم المزمومة فإذا هي دائرة كبيرة، تنبثق في وسطها جذوعهم ثابتة دون أي التواء، ثم ترتفع أيديهم بضراعة نحو السماء كأنها تستجير بها، وتميل رؤوسهم قليلاً إلى اليمين»، وتتابع هذا الوصف الدقيق لكل حركات الراقصين وسكناتهم حتى ينتهي أداء هذه اللوحة الفنية الجميلة.
أما في قصصها التصويرية التسجيلية فهي تلجأ إلى الوصف الجميل المطول أحياناً، إذ تحاول من خلاله إحياء التراث فتسجل صوراً اجتماعية واقعية، تبعث في النفس مشاعر الدفء والنشوة، كما في «حمام النسوان» و«يا نايم وحِّد الدايم».
وفي هذا السياق تذكر د.ماجدة حمود التالي: «أعتقد أن الكاتبة "إلفة الإدلبي أكثر كاتبة سورية استطاعت أن تقدم لنا البيئة الشامية بكل جمالياتها، فعشنا بفضلها عادات شامية، تكاد تنقرض اليوم، ففي مجموعتها "ويضحك الشيطان" يلفت نظرنا "حمام النسوان"، إذ نطلع على طقوس الذهاب إلى الحمام حيث تبدأ الاستعدادات في المنزل أولاً (تغيير ملاءات السرير، صرّ بقج الحمام، والملابس والأدوات الخاصة به)، ثم نتعرف على النساء اللواتي يعملن في الحمام (المعلمة، الناطورة، البلانة: وهن عاملات الحمام، الأسطة) عن طريق الراوية الطفلة التي تذهب إلى الحمام أول مرة مع جدتها، كما نتعرف على أبرز معالمه (البراني، الوسطاني، الجواني)».
كما تصف الكاتبة الدور الشامية القديمة بأدق جزئياتها وتجعل منها المكان الأمثل لاحتواء أحداث قصصها وشخصياتها حتى أننا لا نكاد نستطيع تصور بنية القصة في طراز معماري آخر. إذ تُظهِر الكاتبة براعةً في توحيد الأحداث والشخصيات بالمكان المعماري مما يضفي على قصصها جمالية مقنعة بواقعيتها وصدقها.

الصورة الفنية


تبتعد الكاتبة عن افتعال الصورة ولا تقصدها لذاتها وإنما توظفها لتقوية التعبير عن المواقف النفسية والوقائع، كما فعلت في روايتها «دمشق يا بسمة الحزن»، ولاسيما حين كانت تصور الحالات النفسية التي تمر بها بطلة الرواية.
والصور عندها غير معقدة تعتمد على الخيال الواقعي الذي يلائم أسلوبها الواقعي. فتصور مثلاً البطلة «صبرية» في روايتها «دمشق يا بسمة الحزن» كيف أُحكِمت هذه القيود فاستنزفت طاقتها وهزمت ثورتها:
«كلما حاولت الكلبة الجموح الإفلات من قيدها ازدادت السلسلة انطباقاً عليها، حتى انغرزت في لحمها، فكانت كلما تحركت يسيل دمها ويشتد ألمها».
وهي وتشير في هذا المقطع إلى المحاولات الكثيرة التي قامت بها «صبرية» للإفلات من الحصار المطبق من حولها إلى أن أقنعت نفسها بضرورة الاستسلام وتقبُّل الواقع ظناً منها أنها انتصرت على ثورتها: «لقد انهزمت شر هزيمة حين انتصرت على نفسي. استطعت أخيراً أن أقضي على الثورة الجامحة التي كانت تغلي في أعماقي دائماً كما يغلي الماء في المرجل. لقد أطفأتها بالكبت الطويل». هذا الكبت الذي اغتال حياتها ورغباتها «ماتت فيَّ الرغبات كلها».
الخيال البلاغي عموماً في صورها معتدل، غالباً ما يستند إلى الصور الحسية: «شهقت كقطعة حديد ملتهبة اندلق عليها ماء بارد»، «لم أنفجر كبركان بعد أن عرفت الحقيقة الفظيعة، بل أشعر أن قلبي يحترق كقطعة من الصوف تأكلها النيران على مهل دون أن تشتعل ويتصاعد لهبها، وكأن دخانها الخانق يعشعش في حنجرتي، أختنق ولا أموت» وتصور حياتها الباهتة التي اجتاحتها أزمات مرعبة «إنني أعيش كالميتة».
وترتبط صورة الوطن المحتل بصورة المرأة المقهورة في أعمالها «أصبح العجوز يستبيحني كل يوم، الآن أدركت معنى الأرض المستباحة. وأي ذل، وهوان، وقهر».

اللغة


تحرص الكاتبة على استعمال اللغة الفصحى، وهي غالباً ما تتخيَّر الألفاظ السهلة الواضحة المأنوسة، وتؤثر الابتعاد عن الألفاظ الغريبة المنمَّقة، وتسعى لأن تتناغم مفرداتها مع واقعية أعمالها، ولذلك تبدو تراكيبها أكثر مرونة وطلاوة، وأكثر حركة ورشاقة، مما يضفي على السرد إيقاعاً رشيقاً منسجماً مع الموقف، ومما يزيد الأسلوب تأنّقاً وكثافة وبهاءً. ولغتها طبيعية مفهومة سليمة، تسعى من خلالها إلى خلق تجاوب نفسي لغوي مع جمهرة القراء، وتتقصّد النقاوة اللغوية البعيدة عن الترخّص والركاكة والابتذال.
إلا أنها وبوجه عام تفضّل الوظيفة اللغوية على القواعد النحوية في حوار الشخصيات حيث تؤثر في حوارها محاكاة الحوار الدارج في الواقع رغم حرصها على الحفاظ على الصحة اللغوية؛ فتعمد إلى تفصيح التركيب الشائع، واللغة المحكية على لسان شخصياتها الشعبية، من ذلك حوار الأم مع ابنها في «الرقية المجربة» إذ تقول له: «يا بنيّ طوّل بالك، الله يرضى عليك، ملائكة السماء ترضى عليك، أبوك رجل عنيد، لا تصطدم معه، شكوتُه لله، لا تعمل لنا فضيحة لا تصيّرنا سيرة بفم الناس».
وتتكرر بعض مفرداتها أو بعض تراكيبها في أكثر من قصة من المجموعة القصصية ذاتها منها عبارة «دائماً أبداً» أو «يداها البضّتان» وقد ترد بعض أغلاط نحوية ولغوية نادرة.

الخلاصة


إن نتاج إلفة الإدلبي لا ينضوي كله تحت صبغة فنية واحدة، وقصصها ليست من نوع واحد أو ضمن إطار واحد، فمنها ما كان واقعياً شديد الالتصاق بواقع الحياة وقضايا المجتمع وعلى الأخص قصصها التي تطرح قضايا المرأة، ومنها ما كان يحمل عناصر الواقعية الاشتراكية كتلك التي طرحت فيها قضايا اجتماعية ووطنية وتحدثت فيها عن معاناة العمال والفلاحين، ومنها ما كان مفعماً بالأحاسيس والمشاعر الإنسانية والمشوب بكثير من الرومانسية.

عالمية أدبها


يقول الناقد عيسى فتوح: «إن وصفها للمسحِّر في شهر رمضان، والعرس الشامي، والدار الشامية في أكثر أقاصيصها يعطي هذه الأقاصيص قيمة متحفية كبيرة، يجد فيها الباحث عن الفولكلور الدمشقي متعة ما بعدها متعة، كذلك تختار أبطال هذه القصص من الأحياء الشعبية القديمة.
من هنا كان لقصص السيدة إلفة الإدلبي هذه النكهة الخاصة، وتلك الأهمية عند المستشرقين، لذلك أقبلوا على قراءتها وترجمتها إلى لغاتهم المختلفة، باعتبارها تعكس صورة الحياة الشامية منذ مطلع هذا القرن، فنقلت إلى اللغات الروسية والفرنسية والإنكليزية والصينية والمجرية والبرتغالية».
أما أ. نجاة قصاب حسن فقد أشار إلى «أن فكراً يُتَرجَم إلى خمس عشرة لغة عالمية على الأقل، ففيه بالضرورة شيء إذا رازه النقد رجحت كفته، وكل المعادن الثمينة وازنة».
أما د.سحر شبيب فتشير إلى أن «هناك عدداً من قصصها أخرجتها إذاعة القاهرة في تمثيليات إذاعية قدم لها الكاتب يوسف إدريس بتعريف إلفة الإدلبي بأنها أم القصة السورية.
كما أن قصتها "الحقد الكبير" دخلت المناهج المدرسية في سورية، وظلت تُدَرَّس ما يزيد على عشر سنوات في كتاب النصوص الأدبية للشهادة الثانوية. وتدرس أيضاً هذه القصة في الولايات المتحدة الأميركية على طلبة الشهادة الثانوية ضمن كتاب يجمع مختارات من آداب الشعوب بعنوان "نظرات عالمية: شعوب وثقافات"».
كما يُذْكَر أن رئيس المركز الثقافي البريطاني في دمشق آنذاك قد ترجم رواية «دمشق يا بسمة الحزن» إلى اللغة الإنكليزية بعنوان «صبرية» وقد صدرت في تشرين الثاني عام 1995 ترجمة بيتر كارك، كما أصدرت صحيفة الفايننشال تايمز مقالاً عن الرواية المترجَمَة، ومما جاء فيه أن كاتبة الرواية التي بلغت من العمر 83 عاماً آنذاك، عاشت أحداث الثورة السورية الكبرى (1925) وعرفت خلفيتها وتحدثت عن حب فتاة مراهقة، وأن هذا الكتاب يُتَرجَم لأول مرة.
والحال، أن الرواية نالت من الشهرة والذيوع نصيباً كبيراً، لما حوته من قيمة فنية وقيمة وثائقية عن الحياة الدمشقية أثناء الثورة السورية الكبرى، وقد أُخْرِجَت هذه الرواية في مسلسل تلفزيوني عُرِضَ في دمشق عام 1993، وكانت قد أُخْرِجَت سابقاً في مسلسل إذاعي مؤلف من خمس وثلاثين حلقة إذاعية، أعدها وأخرجها للإذاعة د. بديع بغدادي. كما قام د. رفيق الصبان بإعداد سيناريو لها، لتحويلها إلى فيلم لصالح مؤسسة السينما من إخراج لطفي لطفي، كما تُرْجِمَت بالإضافة للغة الإنكليزية إلى اللغة الصينية أيضاً.
ومن الجدير بالذكر أن عالمية أدب إلفة الإدلبي تظهر أيضاً في رواية «حكاية جدي» حيث تروي الكاتبة قصة جدها لأمها الذي هاجر من بلاد الداغستان إلى دمشق وأسس فيها أسرته الصغيرة. وتعبِّر هذه الرواية عن روابطها الوشيجة بأسرتها التي تفيض حباً وتعلقاً بهم.

فكرها القصصي وأساليبها التعبيرية


نلخص فكر إلفة الإدلبي القصصي بناء على ملاحظات أبداها الناقد عيسى فتوح في دراسة جميلة نشرتها مجلة الثقافة تشرين الثاني عام 1993 بمناسبة تكريم الأديبة:
1) «تغلِّب الكاتبة في معظم قصصها الفضيلة على الرذيلة، والخير على الشر، وتنقذ أبطالها من السقوط والانهيار بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى منهما، كما حصل لبطل قصة "الستائر الزرق" الذي أوشك أن يطلِّق زوجته العاقر ليتزوج صبية لعوباً، ولما حملها بسيارته إلى بيت أهلها لتقيم شهراً يغيب خلاله مع عشيقته الحسناء، فزوجته فيما بعد، طلبت منه أن يعيدها إلى البيت لأنها نسيت أن تغلق نوافذ غرفة الاستقبال، وتخشى عليها من أشعة الشمس، فقدَّر الزوج منها هذا الموقف الإنساني النبيل، وإشفاقها على عش الزوجية وهي تغادره إلى غير رجعة ونَدِمَ إلى ما كان قد عزم عليه، واستغفر منها، وأقسم أن لا يطلقها، بل جثا على ركبتيه وقبَّل يديها، ثم مد يده إلى جيبه فتناول الخاتم الماسي من العلبة المخملية ووضعه في إصبعها، فضمت رأسها إليه، وأخذت دموعها تتناثر حارّة على وجهها.
وكذلك ارتد أبو شكر عن شرب الخمرة وبكى بعد أن عاقرها زمناً طويلاً لأنه رأى في شهر رمضان حلماً هائلاً حول ما يصيب شارب الخمرة من عذاب في الآخرة.
ولا يقل اهتمامها بخواتيم قصصها عن الاهتمام ببداياتها، وقد أشار إلى هذا الأستاذ محمود تيمور في المقدمة التي كتبها لكتابها "قصص شامية" فقال أنها تفتنُّ في بدء الأقصوصة وخاتمتها، وتحرص على استقبال قارئها حرصاً على إحسان توديعه تطالعه بما يثير اهتمامه ويبعث شوقه، وإذا أفضت إلى النهاية خبأت ما يكفل بعث الشوق وإثارة الاهتمام».
2) أما الأديبة أميرة الدرة فترى «أن شكاوى الناس في رأي إلفة الإدلبي لا تدل على أن الحظ السيئ يتابعهم بقدر ما تدل على أنهم يقتصرون على ذكر ما يحزنهم وينسون النعمة التي منحها الله لهم».
«وترتيل النغمة أحب إلى الناس من أنين يتصاعد من مخاوفنا وعجزنا».
«والمتاعب تأتي لأنها ظاهرة مكملة للحياة ولا وسيلة للشعور بالهناءة إن لم يسبقها أو يتلوها شعور بالتعاسة والشقاء».
«وهكذا فقير من كان بلا أصدقاء مهما كان ثرياً».
أما ملاحة الخاني فهي تبدي ملاحظة بخصوص فكر إلفة الإدلبي في «رصدها لحركة المجتمع تبقي القارئ على الحياة فلا هو ثائر مع الثوار، ولا هو مقبل معهم. وإنما يتعاطف بالالتزام مع الكاتبة وانتقاءاتها الذكية، وحركة اليوم كل يوم، دون أن يوحي إليه باستشراف المد العظيم الآتي مجللاً ساحة البلاد الشامية جميعاً. ولأن الكاتبة تقع تحت سيطرة غنى الذكريات، لا يسعها، أو ربما تخشى، أن تغوص في أعماق المتغيرات الجذرية التي امتدت عميقاً في تطور المجتمع، مما جعلها تعكس روح الفرد لا روح الجماعة، وما في هذا من مأخذ، بل هو منهج عفوي له تبريراته».
3) ما يميز قصص السيدة إلفة ألا وهو اعتمادها على السرد الهادئ المطمئن، أكثر من الحوار الذي يُكْسِب القصة حركة ودينامية، ويسرع في تطويرها ودفع عجلة أحداثها إلى الأمام، غير أن اهتمامها بالسرد لا ينسيها الحوار كلياً، بل نراها تلجأ إليه في قصة «الدرس القاسي» وتمعن فيه على مدى صفحتين كاملتين ونصف الصفحة.
4) لجوؤها إلى أسلوب التعبير من خلال رسائل كما في كتابها «المنوليا في دمشق وأحاديث أخرى»، ففي إحدى الأحاديث تدور حول رسالة بعث بها إليها شاب جامعي اسمه «مجيد» من دمشق يدرس الفلسفة في القاهرة، وهو صديق ابنها زياد في المدرسة الثانوية.
خلاصة الرسالة والجواب هي أن مجيداً ليس إلا واحداً من ملايين الشباب الضائعين الحائرين القلقين الذين يتلمسون طريقهم إلى شاطئ الأمان وسط عتمة الآراء والمذاهب والنظريات، في بحور متلاطمة من التمرد والفوضى والبلبلة وعدم الاستقرار، البدع الداخلية المستوردة تغزو أفكارهم، وتشل أدمغتهم عن التفكير السليم. فمجيد كان في دمشق نباتي المذهب كأبي العلاء المعري، إلا أنه أصبح في القاهرة سارترياً وجودياً، ثم إنه ينصرف عن السارترية إلى الإنسانية فيكره الحرب، وينادي بإزالة الحدود والسدود بين الدول، فالعالم كله في نظره أسرة واحدة، فلا قومية تفصل، ولا جنس أو مذهب أو لون.
5) أما أسلوبها التعبيري الأخير فكان المحاضرة، ففي محاضرتها عن «المرأة العربية والعقيدة» أشارت إلى أن المرأة أكثر ثباتاً على العقيدة من الرجل، فهي قلما تتلون أو تنقلب أو ترتد، ولو أوردها ذلك الهلاك. وعرجت على التاريخ العربي فأخذت منه أمثلة شاهدة على ذلك، كأم علقمة الخارجية التي وقفت في وجه الحجاج غير هيابة قسوته وجبروته. وغزالة الحرورية التي اضطرت الحجاج أيضاً إلى أن يختبئ في مسجد الكوفة خوفاً من سطوتها، وكذلك عمرة بنت النعمان، وسودة بنت عمارة، وهند بنت عتبة، والخنساء الشاعرة، وأسماء بنت أبي بكر وغيرهن.
كما نراها في محاضرتها الأخيرة من كتابها «المنوليا في دمشق» تتقمص شخصية المحامي للدفاع عن المرأة العربية من النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتطالب بجرأة أن تساوي الرجل، فتعطى حقوقها كاملة لتكون قاضية. أو رئيسة وزارة أو سفيرة في وزارة الخارجية.

المرأة في أدبها


لاشك أن المرأة تطلُّ علينا في أدب إلفة الإدلبي من خلال عدة وجوه، فهي بادئ ذي بدء تطلّ علينا بوجهها الحنون في المهد، وبذا يكون وجهها الأزلي (وجه الأم)، لعل وجه الأمومة هو القمة التي تصبو إليها كل امرأة في أعماقها، فالمرأة تُعرَف وتمتاز عن الرجل أنها حارسة النوع البشري، فمن خلال الأمومة تحيط الجنس البشري بهالة من القداسة والحماية من مخاطر الحياة ومجازفات الوجود. ولسوف نرى معنى الأنوثة وبُعدها الجنسي في قراءتنا لروايتها «دمشق يا بسمة الحزن»، ونكتفي في هذه الفقرة باستقراء وجوه المرأة في رحلتها خلال هذه الحياة، فهي قد تفشل أو تحول بينها وبين بلوغ تلك القمة التي تدعى الأمومة عوائق هائلة قد تكون فوق استطاعتها، وإذ تنوء بأحمال المجتمع وأنانياته وشهواته فتبتعد عن القمة وتخوض في طرقات مؤلمة يدينها المجتمع عليها، وحريٌّ بالمجتمع أن يدين نفسه قبل إدانتها، إذن ثمة وجه آخر تطل علينا به، وهو وجه «الخاطئة»!!.
إلا أننا وبعد تركنا المهد ودبيبنا على الأرض ونموّنا إلى عمر الصبا، تتدرج الفتاة كالبرعم على درب النموّ، هذا البرعم لا يلبث أن يفتح بتلاته وينشر عبيره ويجذبنا نحوه. نعم، فالمرأة عاشقة، وعاشقة كبيرة، لكن وعلى ما يبدو أن أدب إلفة الإدلبي يكاد يخلو من هذا البعد السرّاني في حياة المرأة، وإن ظهرت إرهاصات له في روايتها «دمشق يا بسمة الحزن»، لكن وجه العاشقة الجميل يطلّ علينا عموماً في أدب إلفة الإدلبي من خلال «الزوجة»، إلا أن هذه الزوجة قد تكون عاقراً وقد تصبح أرملة فكيف تكون حياتها آنئذٍ وكيف تواجه متاعب الحياة وضغوطات المجتمع؟!.

أولاً) الأم:


كتب الناقد بو علي ياسين: «إن للأم والأمومة دوراً هاماً في تفكير وأدب إلفة الإدلبي. فمن ناحية، تُعَدّ المرأة–الأم الحالة المثالية للمرأة. وهكذا تبين ضرورة ومعجزات الأمومة في قصتي "الحزن غلاّب" و"الكنز". ومن ناحية ثانية تصور الكاتبة الأم الفاضلة، وهي المتحلية طبعاً بالفضائل التي ينادي بها المجتمع العربي القديم، كما نعرفها من الخنساء وأسماء بنت أبي بكر وغيرهما.
لقد صادفنا الأم في كثير من القصص السابقة خصوصاً من مجموعتها "ويضحك الشيطان"، وهي دائماً أو غالباً ذات صفات ايجابية، إلا أن ظروف الحرب والنضال تعطي فرصة أفضل لظهور المرأة المثالية في المجتمع ما قبل الرأسمالي، هكذا في قصص "وراء الحدود" و"من أجل الأرض والكرامة" و"مفتاحان". وأخيراً فمن ناحية ثالثة تهتم الكاتبة بالمحبة والاحترام اللذين تستحقهما الأم كما في قصص "الحل الوحيد" و"بعد سبعين عاماً" و"عاد إنساناً" و"مفتاحان"».

ثانياً) الخاطئة:


هذا الوجه نراه في قصة "من أجلك أنت" وكتب فيها الناقد بو علي ياسين:
«ها هنا تهاجم الكاتبة الشرق، ولكن دون أن تتخلى عن أخلاقه.
إذ تقول المتحدثة في القصة: "هل قصتي هي الأولى من نوعها؟. إنها قصة عتيقة، قديمة، قدم الإنسان على الأرض. فتاة غرَّة وقعت في فخ نصبه لها رجل ذئب".
هل هذا صحيح؟ أم أن نشوء هذه القصة كان فقط مع نشوء المجتمع الذكوري البطريركي، وتسلط الرجل؟! وهل القضية قضية فخ وغرَّة وذئب، أم أنها أخلاق مجتمع لا يقبل جماعاً دون زواج مُعْلَن؟!.
لقد نشأت بطلة القصة يتيمة محرومة من حنان الأهل والأقرباء، فلما التقته شاباً وزميلاً في الوظيفة هامت به أي هيام. لقد وجدت فيه عوضاً عن حرمانها، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها بعد الخطبة إلى زميلة جديدة أجمل. وهكذا أنكرها فيما بعد، وأنكر حملها منه، ورماها بعنوان طبيب صديق كي تجهض. لِمَ؟ "إنه اكتشف بعد عشرتنا الطويلة أننا لا نصلح زوجين".
إننا نتوقع أن يصل القارئ العادي من هذا الكلام – وبحق – إلى أنه لا يجوز للفتاة أن تقيم علاقة جنسية قبل الزواج، حتى مع خطيبها، وذلك خوفاً من غدر الرجال(!).
إن إلفة الإدلبي لا يمكن أن تؤيد التعارف الوثيق قبل الزواج، طالما هي تنظر إلى كل رجل كذئب محتمل، وإلى كل امرأة كنعجة محتملة، من المعلوم أن هذه النظرة غير ممكنة – وفي كل الأحوال – غير ذات قيمة إلا في المجتمع الاستبدادي البطريركي (الأبوي) الذي يحاسب الفتاة على العلاقة غير الزوجية ويهددها بالعنوسة، ويصم الطفل الناتج من هذه العلاقة بـ"ابن حرام".
تبدأ القصة بحلم مريع، تتخيل فيه الشابة قتل جنينها. تستيقظ هلعة، وتروح تحكي حكايتها، وتعلن تصميمها على أن تتحدى بجنينها الناس. إلا أن خيالها يطير بها إلى المستقبل، حين ستغدو ابنتها – تريد ابنة!– شابة، ويتخلى عنها خطيبها لأنها مجهولة الأب. وهكذا تقرر قتل الجنين (وتقصد الإجهاض).
إن المرء ليتساءل عن حرص البطلة على تخيل جنينها ابنة، لا ابناً. فلو كان الجنين ابناً، فهل كان سيأتي إلى أمه، ويقول لها: لقد تخلت عني خطيبتي حين عرفت أنني مجهول الأب؟ تقول الابنة المتخيَّلة لأمها التي غُرَّ بها: "عرف أنني بنت حرام!. وصمة عار وستلازمني مدى العمر!. وكيف أستطيع أن أتخلص من عارها وأنا في هذا الشرق الذي سيحاسبني على هفوتك أنتِ دون تسامح أو رحمة!".
إن الكاتبة لا تعارض أخلاق المجتمع، بل تريده أكثر تسامحاً مع الخاطئات، وخاصة على بناتهن اللواتي لا ذنب لهن فيما اقترفت الأمهات».

ثالثاً) العانس:


العانس هي صفة ألصقها مجتمع مجرِمٌ بحق المرأة التي لم تتزوج، ليلسعها بسياطه، والحال لو تدري هذه المرأة التي لم تتزوج، لو تدري على أي كنز تغفو، وكيف بإمكانها أن تصعِّد هذا الكنز وتتسامى به خلقاً أعلى بعذوبتها، ووجودها الدافئ، ورخامة حضورها!!.
إننا نرى هذا الوجه يطل علينا من خلال قصة «الكنز»، وفي هذه القصة يلوح أيضاً وجه «الخاطئة» جنباً إلى جنب وجه «العانس». فالخاطئة كما يقول بو علي ياسين: «هي خادمة ريفية، تعيش في خلفية قصة "الكنز"، بينما تحتل واجهة القصة امرأتان بوسواسين مختلفين.
تتعامل الكاتبة مع الخادمة تعامل ابن المدينة (الشهم) مع ابن الريف البسيط، الجاهل والفقير. ولا نعني بذلك التعالي والسخرية، بل التعاطف المتعالي والمشاركة الوجدانية من بعيد. لقد التقت الكاتبة صدفة بالفتاة الريفية وهي تبحث عن أسرة – بلا رجل– تحتاج إلى خادم، فدلتها الكاتبة على بيت صديقتيها الأختين المذكورتين. تخدم الفتاة فترة، ثم تغيب تاركة للأختين العانستين طفلاً (كنزاً) بلا أب. إنها الحكاية المألوفة للفتاة الريفية التي تضلّها المدينة، فيعتدي على عفافها رجل ما، فتحمل وتترك لقيطاً وتختفي.
وبالنسبة للأختين، نرى فيهما نموذجين نسائيين جديدين: إنهما عانستان معقدتان، حياتهما صعبة، والحياة معهما صعبة، حتى أن الكاتبة ما كانت لتزورهما لولا وصية أمهما التي تربطها بها رابطة القرابة والصداقة.
كبرى الأختين أحبت في صباها، وكانت فتانة، لكن حبيبها قضى في حادث سيارة، فعزفت عن الزواج، ونما لديها وسواس المرض. أما الصغرى فقد أضرَّ بها تفوّق أختها جمالاً وذكاء، فلم تمتد لها يد خاطب. وهكذا أصبحت عانساً، ونما لديها وسواس النظافة الذي تسبب في تهريب كل الخادمات، سوى الأخيرة. وقد كانت صلة الأختين مهزوزة تقوم على الغيرة والنفور.
حين تفاجأ الأختان بالطفل، يهتفن للكاتبة طلباً للمشورة والعون، فتهرع إليهما، وتقوم بأعمال المولدة. ويتفقن جميعاً على الاحتفاظ بالطفل بضعة أيام قبل تسليمه للشرطة، فعسى أن تعود إليه. أثناء ذلك يحدث انقلاب جذري في حياة الشقيقتين، وتتماثلان للشفاء من وسواسيهما، فتصممان على عدم تسليم الطفل بعد أن وجدتا فيه خلاصهما. وهكذا تختفيان دون أن تتركا أثراً، حتى لصديقتهما نفسها، كي لا يكون ثمة احتمال لانتزاع الطفل في يوم ما.
لقد كانت العنوسة وليدة أوهام وعقد، ولكن ذلك انتهى بدخول الطفل حياة الأختين، فالأمومة كبلسم لأمراضهما. وبالتالي فمشكلة العنوسة لا تكمن في تعذّر إرضاء الحاجة الجنسية، وافتقاد الجنس الآخر (أي الرجل)، بل في فقدان موضوع (غريزة الأمومة) عند المرأة وهو الطفل».
ولعل هذا الكلام على جانب من الصحة إن لم نغفل أحقّية الجانب الآخر، والبعض يعتبر الأولوية له، والحال أنه ينبغي أن يقوم توازن واتحاد بين الجانبين أي الجنسي والأمومي، إلا أن تعليق الناقد بو علي ياسين صارم من هذه الناحية، وها نحن نسمعه يعبِّر عما وصلت إليه إلفة الإدلبي من نتيجة في قصتها بأن الطفل كان خلاص الأختين: «هذا ما تقوله إلفة الإدلبي، وهو قول خاطئ ورجعي في آن معاً. خاطئ، لأن الأمومة هي نتاج لغريزة حفظ النوع، والتي هي اسم آخر للحاجة الجنسية. ورجعي لسببين، أولهما الانتقاص – بلباس العلم– من حقوق المرأة، حقها في أن تنال اللذة الجنسية، مع متعة الحصول على طفل أو بدونها، حسبما تشاء، أما السبب الثاني فهو حصر رسالة المرأة في تربية الأطفال، والإنكار عليها – ضمنياً- المشاركة في الإنتاج الاجتماعي».

قراءة في رواية «دمشق يا بسمة الحزن»


سوف نستند في هذه القراءة إلى دراسة جميلة للدكتورة ماجدة حمود مع بعض المداخلات. تذكر د.ماجدة حمود «أن إلفة الإدلبي كانت في الثامنة والستين حين كتبت هذه الرواية التي جسدت فضاءً زمنياً عايشته (في العشرينيات والثلاثينيات) بكل تفاصيله وأحداثه (الثورة السورية، الإضرابات، المظاهرات، الأزمة الاقتصادية، بشاعة الاحتلال الفرنسي، قصف دمشق، مقاومة الشعب بكل فئاته)، حيث عايشت تفاصيل المكان بجسده وبكل ملامحه التفصيلية (البيت، المدرسة، البستان،...الخ)، وبدت لنا روحه، فلمسنا تقاليد تلك المرحلة والنظرة السكونية التي تخنق أي تطلع لدى الفتاة لتغيير واقعها! لذلك تحول البيت، برغم جماله إلى سجن تُحبَس فيه صبرية إثر خروجها في المظاهرة، وتُمنَع من إتمام تعليمها».

الشخصية:


«بدت لنا صبرية (الشخصية المحورية) حيوية، تحمل هم الوطن وتسهم في الكفاح لطرد المستعمِر من جهة، وتنوء بعبء التقاليد التي تخنق المرأة في أوائل القرن العشرين، حيث لم يكن في دمشق سوى ثانوية واحدة!.
قدمت الكاتبة روايتها عبر أسلوب اليوميات، إذ سمعنا صوت البطلة في مذكراتها عبر ضمير الأنا الذي يشيع في الرواية جو الحميمية والألفة، فنعايش معاناة صبرية بصدق وحرارة. وتبدو لنا الكاتبة معنية في تقديم توهج أحلام الفتاة، فتبين كيف فتحت الثقافة والحب أبواب الحياة الجديدة أمامها، فتبدو متفوقة في دراستها، وبذلك كان الأب مشجعاً لها، فخوراً بها، بات يقارن بينها وبين أخيها راغب الذي فشل في تحقيق النجاح الذي حققته أخته، لكن حين تتجاوز صبرية المألوف وتخرج في المظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي، وهي أول مظاهرة سورية تشترك فيها النساء ضد الاحتلال، وتعود إلى البيت ليلاً، خارقة بذلك العرف الاجتماعي! تثور ثائرة الأب فيضربها ويمنعها من إتمام تعليمها، وتتعرض لأقسى مهانة، حين يستدعي القابلة كي يطمئن على عذريتها! إذ إن احتكاك الفتاة بالحياة العامة لابد أن يُفقِدها شرفها في تلك الفترة!».
إننا عند هذه النقطة، ندلف إلى نقطة حساسة تتناولها إلفة الإدلبي ولسوف نتطرق إليها.

العذرية:


في الرواية تقوم القابلة أم فوزي بفحص صبرية للتأكد من سلامة شرفها، وعلى هذا النحو نقرأ في يوميات صبرية ما يلي:
«لاشك أن أبي دفع الليرة راضياً. بعد أن اطمأن على شرف الأسرة الرفيع الكامن بين ساقيّ أنا وحدي دون أفراد الأسرة»، وعلى هذا النحو تلجأ إلفة الإدلبي إلى صورة فنية لتصوير مشاعر صبرية بعد أن تعرّضت لهذا الموقف الموجع والمفزع بالنسبة لفتاة عذراء، كتبت: «كأن كلاباً مسعورة قد نهشتني. أشعر أن كل مسامة في جسدي كانت تنزف ذلاً ومهانة».
لقد ذكرنا فيما مضى أن العذرية ليست مجرد علامة في الجسد أو مسألة وجود غشاء بكارة أو لا. إنها بالحري مسألة ذات مساس بالقلب والقدرة على الحب. إنها ليست شيئاً تفقده الفتاة بل شيء تقدمه. وبعبارة أخرى، هي القدرة على الوفاء والحب والإخلاص. ومن ناحية ثانية فلدى «الشعوب السامية كانت الفتاة البكر (العذراء) رمزاً للحالة النفسية الأقرب من الكل إلى الرب».
والحال، كيف لنا أن نتأكد من عذرية الفتى؟‍ ونوقع اللوم على الفتاة، إلى درجة يذهب بنا الجنون إلى ما يُسَمّى بجرائم الشرف ‍‍!!. أفلهذا الحد بلغ بنا جنوننا أننا نتعاطف حتى مع جرائم الشرف؟! أفلعل الفتاة أو المرأة أقل مرتبة من الفتى أو الرجل؟! لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أنه من خلال الأنوثة التي وُهِبَت لنا أُعْطِيَ لنا أن نسمو إلى السماء. وليس عبثاً أن كلمة «رحمة» في لغتنا مؤنثة، وكما تقول أ.شيرين دقورة: «الرحمة تجلٍّ للاسم الإلهي الرحمن، لأنه "يعطي الاشتقاق من الرحمة". وهذا سر من أسرار اسم الأنوثة الذي يطلق على عباد اسم الرحمن الذي مشهده العافية والخير المحض، في مقابل اسم الذكورة الذي يطلق على عباد اسم الله، وجميع الأسماء الإلهية تطلب اسم الرحمن، أطيب أنفاس الحق».
إننا عند هذا الحد بوسعنا أن ندلف إلى مفهوم أيضاً تطرحه إلفة الإدلبي في روايتها من خلال بطلتها صبرية وهو:

الأنوثة:


فلنسمع صبرية التي حبسها أبوها في الدار بعد أن شاركت في المظاهرة، ومنعها أيضاً من متابعة تعليمها، فلنسمع ما تقول: «أنوثتي تئن في قفصها كحيوان جريح. أشعر أنني أجف لحظة فلحظة. أشعر أحياناً أنني كلبة جموح مربوطة من عنقها بسلسلة مشدودة إلى وتد مغروس في هذا البيت العتيق».
إذن، ما هي هذه الأنوثة التي تئن وتحتضر في قفصها كحيوان جريح؟‍ ولماذا فرويد عبقري النفس البشرية عجز عن فك طلسمها، في حين أن شيخاً كبيراً مثل محيي الدين بن عربي استطاع فك طلسمها من خلال تجربته الشهودية، فها نحن نسمعه يقول عن النفس:
أنثَّكِ الرحمن من أجل من يظهر منك حين سـوّاكِ

وإذا نزلنا من التجربة الصوفية إلى التجربة الجنسية لرأينا أن الطاقة الجنسية عند المرأة هي التعبير عن أنوثتها، ولها صفة الجاذبية الكونية كتلك التي للشمس والقمر والأرض والكواكب ومركز المجرة ومركز الكون، أو أنها صفة الجاذبية كتلك التي للورود والأزهار التي تجذب إليها النحلة لتلقيحها، وعلى هذا الأساس يرتبط الجمال أيضاً بمفهوم الأنوثة والجاذبية، وكذلك المحبة أيضاً صفة للأنوثة والجاذبية صفة ملازمة لها، ذلك أن المحبة هي التي تجذب، أي عندما أحب شيئاً ما فإنني أنجذب إليه، وعلى هذا النحو فمن خلال الجاذبية نفهم أن الأنثى هي مركز ولها صفة السمو، وهي التي يسعى إليها الذكر ويجد ذاته في هذه الطاقة التي تشكل هداية له في رحلته الكونية نحو مرفأ السلام والحب والجمال، فبدون هذه الجاذبية يظل الذكر كالسيّار الهائم على وجهه في الفضاء فتلتصق فيه صفة التيه والضياع والعطالة إن لم تحالفه الجاذبية في حياته ورسمت مداره حولها واستقر من خلالها‍‍!!.
إذن نعود للبداية، ماذا نفهم من البطلة حين تقول «أنوثتي تئن في قفصها كحيوان جريح. أشعر أنني أجف لحظة فلحظة». لاشك أن ما تعنيه هو ما عبرنا عنه فيما كان يتم في عصر الجاهلية باسم وأد البنات، فإننا نعايشه في الرواية وفي عصرنا هذا، في بعض البلدان التي ما زالت تئد الأنوثة بشكل أو بآخر!!.
فالأنوثة كما ذكرنا طاقة ومركز، فمن حيث أنها طاقة، إن لم تجد السبيل للتعبير عن ذاتها، وقعت في الكبت والحرمان، ومن حيث هي مركز، إن حرمناه الكوكب الذي يدور في فلكه، ومنعنا المركز بالتالي من تحقيق رسالته، ودوره، ووجوده، فإننا بهذا نمارس وأداً للأنوثة تحت طبقات وعينا في اللاوعي، ومن هناك سوف تثأر الأنوثة لنفسها بشكل أو بآخر، فتأتي علينا بردود تهزّ أعماقنا!!.
فلنقرأ هذه الصور المعبِّرة: «هلّ الربيع فقد بدأت البراعم تنطلق من أغصانها وتشرئب إلى أعلى. شجرة الليمون الهَرِمة معتزة بصبيانها الخضر، إنها قادرة على العطاء على الرغم من هرمها، فلِمَ لا تزهو وتبتهج؟
فراشتان تهيمان في الجو، ترقصان إحداهما ترفرف حول الأخرى، فإذا فازت بلمسة انثنت منتشية هاربة، تعود الأخرى إلى ملاحقتها والدوران حولها وتستمران في الرقص. الكائنات حولي تمور بها الحياة، تمارس حقها بفرح وحيوية، إلا أنا إنسانة محرومة مما لم تحرم منه الحشرات الصغيرة والديدان الحقيرة».
وكما ذكرنا آنفاً فإن إلفة الإدلبي تؤكد على دور الأمومة في حياة المرأة، فهي إذ تلجأ لصورة شجرة الليمون الهَرِمَة فهي لا تقول أنها معتزة بثمارها، بل بصبيانها!!.
وعلى هذا النحو حُرِمَت صبرية الحب والزواج والأولاد، وقضت عمرها تخدم والديها العجوزين خاصة والدها الذي عاش عشر سنوات مشلولاً.
إذن، لم يكن انتحار صبرية في الرواية خَيَاراً، بقدر ما كان تعبيراً عن وأد الأنوثة الذي مارسه المجتمع بحقها وما زال يمارسه بحق الكثيرات، فالمجتمع هو الذي قتل صبرية، وصبرية كانت أداة التنفيذ، أي نفذت حكم المجتمع لاشعورياً بقتل نفسها!!.

العلاقة بالرجل:


أسبغ الأب حنانه على ابنته، وبدا فخوراً بتفوقها الدراسي، ولم تظهر لنا سلطته التقليدية القامعة إلا حين انتهكت البطلة العرف والتقاليد، لكن هذه السلطة تتراجع أمام حنان الأبوة، فحين يرى انهيار ابنته، إثر استشهاد أخيها (سامي) وحبيبها (عادل) يتراجع عن منعها من التعلم، ويدعوها للعودة إلى المدرسة، لكنها ترفض، فقد انتهت حياتها بمقتل الحبيب!.
لقد فتحت العلاقة بالرجل أمامها آفاقاً جديدة، أخرجتها من كهف الذات الغافية إلى عالم واسع ينبض بالحياة والتحرر، ليس فقط على صعيد الذات، وإنما على صعيد الوطن، فنجدها تشارك في أعباء الثورة بما تملكه من ذهب، وتشترك في أول مظاهرة نسائية ضد الاحتلال الفرنسي، ولكن حين يستشهد الأخ (سامي) ويغتال أخوها (راغب) حبيبها (عادل) الذي خطبها إثر منعها من الخروج من البيت، فردّ خائباً، لأسباب طبقية، إذ لا يجوز لابن الخبّاز أن يتطاول ويخطب ابنة التاجر، وبذلك يؤدي الإخفاق في الزواج ممن تحب، ثم قتله، إلى تراجع الاهتمام بالهم الوطني، بل إلى ضمور في الرغبة في الحياة، يصل حدّ الانتحار. ولعل (الأخ: سامي، والحبيب: عادل لهما دلالة الاسم الذي يوحي بالقيم الرفيعة)، في حين (الأخ: راغب له دلالة الاسم الذي يوحي بالأنانية)، وهو الذي يغتال من تحب، ويقنع والدها بحرمانها من إتمام تعليمها. وإذ يغتال الموت رموز العلاقة الحميمة (سامي وعادل)، فلم يبقَ في الحياة سوى العلاقة المتوترة مع راغب، هذه الشخصية التي تنغص حياة الشخصية النسوية.
وراغب الذي منع زواج أخته من عادل الرجل الشريف، نراه يتزوج من عاهرة «لأنه رجل مباح له كل شيء. أسطورة الرجل هذه متى ستزول من مجتمعنا؟ أم ترانا سنظل نتوارثها جيلاً بعد جيل حتى تقوم القيامة».

ما قيل عنها في تكريمها


كتبت الأديبة أميرة الدرة تقول: «استطاعت أديبتنا إلفة الإدلبي أن تتقن فن الحياة ومجابهة الحياة بطريقة ديبلوماسية تستند إلى الطاقات الناضجة فيها، حتى أتقنت فن التكيف الاجتماعي إلى حد الروعة، تستخدم كل أساليب التفاهم والتعاون لتصل إلى حقها ولكنها أبداً لا تعرف التهاون فيه.
لقد أشربت نفسها حب المرح وبرعت في فن إلقاء النكتة وتفردت فيها. وآمنت بجدوى الضحك وفائدته، فالضحك يتبعه التسامح. وقد بلغت فعلياً مرحلة التسامح وعرفت كيف تلائم بينها وبين الظروف المحيطة بها، وعرفت كيف تحقق أسباب الحياة السعيدة الناجحة.
تظهر على مسرح الحياة محتفظة بشخصية آسرة جذابة وأناقة متميزة مبنية على ذوق رفيع. تفرض احترامها في كل مجتمع تؤمه. محدِّثة بارعة، دمثة الخلق، كريمة الطبع، بعيدة عن كل تزمت، تتمتع بجاذبية خاصة وتأثير غريب على محدثيها. تبذل العطاء بسخاء وتتصرف ببساطة وعدم تكلف، وتتميز بتواضعها. على سُنّة من دام تواضعه كثُرَ صديقه.
كلمة أخيرة، إلفة الإدلبي امرأة انتصرت في معركة الحياة، فقد أحبت الناس بمختلف طبقاتهم فأحبوها، فاغتنت بهذه الدائرة الواسعة التي تحيط بها من الأصدقاء والصديقات، ونجحت في الامتحان الإنساني كما برعت في المجال الأدبي.
في إلفتنا، والإلفة لغوياً تعني المؤانسة والصداقة، ويا مؤنستنا ويا صديقتنا.
باسم الحضور الكرام، باسم أسرة الندوة الثقافية النسائية ممثلة في رئيستها الأستاذة المحامية جهان موصلي وباسم أسرة مجلة الثقافة ممثلة في عميدها الشاعر الكبير الأستاذ مدحة عكاش، وباسمي، أقدم إليك أصدق آيات التهنئة في يوم تتويجك في القلوب، أديبة مبدعة ورائدة قدوة في كثير مما يصدر عنك».

مختارات من كتاباتها


قصة «الحقد الكبير»


ما كنت أحسب أن تلك الذكرى المؤلمة ستظل قابعة في أعماق نفسي دائماً أبداً، حية لا تموت مهما بعد بها العهد. يثيرها مرأى كوب من الحليب، مجرد كوب صغير من الغذاء الذي عافته نفسي منذ ما أصبح مرآه يبعث كوامن الأسى في قلبي.
كنت كلما وقع نظري عليه تمثّل في خاطري أبو حامد بائع الحليب الجوال، بقامته القميئة، المائلة قليلاً على وعاء الحليب الكبير المعلق على كتفه، وسرواله الأزرق، وقد شد عليه زناراًًً أحمر، وارتدى فوقه ميتاناً مخططاً بالأبيض والأسود، وعينيه الصغيرتين اللامعتين تحت حاجبيه الكثيفين، وصوته الحنون وهو ينادي بنغمة ممطوطة: حليب، حليب.
كان الصوت يتناهى إلي كل يوم وأنا قابع في فراشي تحت اللحاف فيصلني خافتاً عميقاً عندما يكون أبو حامد قد وصل إلى أول حارتنا الطويلة المنحدرة من ذيل جبل قاسيون حتى حي الصالحية. ثم يبدأ الصوت يعلو ويعلو، وعندما يصل أبو حامد أمام بيتنا تماماً كانت ساعتنا العجوز المثبتة على حائط الليوان، والتي وعت جيلين أو أكثر من أسرتنا تبدأ دقاتها الرتيبة، فتدق ست دقات متتابعات وكأنها والحلاب على ميعاد لا يتخلفان عنه أبداً. فأهب عندئذ من فراشي يدفعني نشاط سن العاشرة الذي كنت فيه، وأهبط الدرج راكضاً فأثير ضجة قوية توقظ أهل البيت جميعاً، ثم أتناول إبريق الحليب من المطبخ لأملأه من الحلاب. كانت هذه هي الوظيفة التي أناطتني بها أمي كل يوم.
وعندما أفتح الباب كان يطالعني وجه أبي حامد بابتسامته العريضة التي تضفي على وجهه طيبة وحناناً. ثم يكيل لي ثلاث كيلات من الحليب.
كانت عيناي تستقران بكثير من الفضول على يده الكتعاء التي تقلصت أصابعها وتجمعت في راحة الكف ونتأ الإبهام كأنه قطعة خشب يابسة. كان يخطر لي أحياناً أن أسأله عن سبب عاهته تلك، ولكن الخجل كان يمنعني عن الكلام.
ثم يتحول أبو حامد إلى باب جارتنا ويصرخ بصوت حنون: حليب، وينفتح الباب فوراً، وتبرز منه صبية صغيرة في مثل عمري، هي سنية بنت جيراننا فتحييني بابتسامة مشرقة كصباح ربيعي فأشعر بأن الدنيا تضحك لي بأسرها، وأظل واقفاً أتملى من وجهها الصبوح حتى يملأ لها أبو حامد الوعاء الذي بيدها، فإذا أغلقت بابها انكفأت إلى داخل البيت وأنا أدمدم رشفات صغيرة من السائل اللذيذ.
وهكذا كان يبدأ نهاري كل يوم بداية طيبة.
فإذا تحلقنا حول المائدة كنت أسمع أمي تقول وهي تصب لنا الحليب: أبو حامد حلاب ممتاز. الله يبارك له، ما يغش الحليب أبداً. إنه صاحب ذمة ودين. ويرد أبي قائلاً:
مسكين إنه رجل طيب، فقير وأبو عيال، يذهب كل يوم قبل شروق الشمس ماشياً إلى الغوطة ليبتاع حليبه من ثدي البقر مباشرة.
فأشعر أنا نحو هذا الرجل الذي ألفته كثيراً بشيء من العطف والشفقة. ولكن شعوري هذا ما لبث أن تحول ذات يوم إلى إكبار وإعجاب، يوم رأيت أبي يهب من فراشه كلما سمع صوت الحلاب ويخرج معي لمقابلته. كان يفعل ذلك ليستطلع منه أخبار الثوار في الغوطة. كان يسأله أسئلة هامة ويحسب أني لا أفقه مما يقولان شيئاً. كان يقول له مثلاً:
كيف حال الجماعة اليوم؟؟
فيجيب أبو حامد وهو يكيل الحليب بصوت خافت ولهجة كلها ثقة:
بخير والحمد لله. المعنويات طيبة. ثم يهمس مبتسماً:
في المعركة التي جرت البارحة في قلب الغوطة استشهد ثلاثة من أولاد الميدان، وخمسة من أولاد الشاغور، وسبعة من الغوطة. أنا أعرفهم جميعاً، كل شاب والله مثل النخلة!. ولكنهم قتلوا كثيراً، كثيراً من الفرنسيين. وردوهم على أعقابهم. هؤلاء الشهداء يا أفندي هم شباب أهل الجنة. يا ليتني أصبح واحداً منهم!. ويبدو الأسف على محياه، ثم يمد يده الكتعاء ويقول:
هذه اليد يا أفندي أحرقت كبدي، لو كانت سليمة قادرة على استعمال السلاح، كنت والله تركت العيال في رعاية الله والتحقت بالثورة لأجاهد في سبيل الحق والوطن.
ثم يردف قائلاً بألم شديد:
ولكن الله لم يشأ أن يمنحني هذه السعادة!. ثم يتحول إلى باب جارنا ويصرخ: حليب.. حليب.
سمعته ذات يوم يقول لأبي وهو يكيل الحليب كعادته:
هجم البرد يا أفندي. وأكثر الثوار يا حسرة! ليس لديهم عباءات. والنوم في البرية بلا عباءة أمر صعب. كان الله في عونهم. ويهز أبي رأسه وهو يتمتم بكلمات مبهمة ثم يدخل البيت ويتحادث مع أمي طويلاً بصوت خافت، ويبدو على أمي أنها كانت مهتمة بالحديث اهتماماً شديداً، وأشعر برغبة ملحة لأفهم ما يدور بينهما من حديث. في المساء أخذت أسترق السمع من خلف الباب فسمعت أمي تقول:
طفت اليوم بجميع بيوت حارتنا. فما تخلف بيت واحد عن الدفع، الأغنياء والفقراء على السواء. فاستطعت أن أجمع ثمن خمسين عباءة. أتدري أن ثمن العباءة الواحدة سبع ذهبات؟ فيقول أبي: أعرف ذلك، الأفضل أن تشتري أنت العباءات. حاولي أن تشتري من كل دكان عباءة أو اثنتين فقط، كي لا تلفتي إليك الأنظار. فالفرنسيون يبثون الجواسيس والخونة في كل مكان. ثم يقول:
أتدرين أن أبا حامد الحلاب قد تكفل بايصال العباءات إلى الثوار معرضاً نفسه للخطر.
فترد أمي: إنه صاحب مروءة ونخوة. ويقول أبي: سيأخذ معه إلى الغوطة كل يوم عباءة واحدة يسلمها للثوار حتى لا يثير أي شبهة.
ومنذ ذلك اليوم أخذ أبو حامد يمر على بيتنا كل مساء ثم يخرج منه وعلى منكبيه عباءة جديدة ثم يعود في الصباح وهو عار منها ليأخذ غيرها. وهكذا إلى أن اختفت ذات يوم كومة العباءات التي كانت تختبئ تحت سرير أمي.
وفي صباح كئيب عندما دقت ساعتنا العجوز دقاتها الست لم أسمع صوت الحلاب الحنون، الذي كان كأنه يدعوني لمغادرة الفراش كل يوم. بقيت يومها قابعاً في فراشي أشعر بشيء من الغم والانقباض. حتى سمعت صوت أمي تناديني، فقمت متكاسلاً وتناولت فطوري دون كوب الحليب المفضل لدي. وتساءلت أمي قائلة:
ماذا جرى لأبي حامد يا ترى؟. ما كان ليتخلف عن المجيء أبداً. فيرد أبي والقلق باد على وجهه: من يدري لعله مريض.
عندما خرجت من المدرسة في أصيل ذلك اليوم بالذات، رأينا بعض التلاميذ قد تجمعوا في منعطف قريب من المدرسة وكأنهم يتحدثون بأمر خطير. قال كبيرهم:
تعالوا يا أولاد ننزل على ساحة المرجة لنتفرج. يقولون أن الفرنسيين يعرضون فيها جثث الثوار الذين قتلوهم في معركة البارحة.
ويبدو الجزع على وجوه الصبية ويقول بعضهم: لا تصدقوا ذلك أبداً. الفرنسيون يكذبون كثيراً. ويقول الكبير: تعالوا نر إذن. ويسير أمامهم. وأنخرط بينهم مأخوذاً ذاهلاً. كنت ألاحظ الناس في ذلك اليوم يسيرون في الطرقات عجلين منكسي الرؤوس، يبدو الوجوم والانقباض على وجوههم، وكأن رماداً قد رش عليها.
لما وصلنا المرجة كانت خالية من المارة تماماً على غير عادتها، كأن الناس كان يتحاشون المرور بها، فيحولون عنها طريقهم نكاية بالفرنسيين. ولما صرنا في وسطها تماماً رأينا منظراً مخيفاً وقفنا أمامه جامدين. لقد صفت حول النصب التذكاري القائم في وسط الساحة جثث بشعة مشوهة، ممزقة الثياب، ملطخة بالوحول والدماء. وكان بضعة جنود من الفرنسيين يحرسون الجثث، وكان ضابطهم ينظر إلينا ويشير بيده إلى الجثث وهو يضحك بشماتة ويقول برطانة أعجمية: ثوار.. ثوار.
لقد بدرت مني صيحة جزع عندما رأيت جثة أبي حامد الحلاب بين الجثث!. كانت سحنته قد تغيرت كثيراً. ولكني عرفته من ألبسته، ومن يده الكتعاء وقد تمددت إلى جانبه وكأنها برهان قاطع يثبت أن صاحبها لم يشترك في معركة لأنه عاجز عن حمل السلاح. وراح الصبية يتراجعون بصمت رهيب، وكأنهم شعروا بفداحة غلطتهم. كان يجب عليهم ألا يأتوا نكاية بالفرنسيين كما يفعل الكبار. ولما ابتعدوا قليلاً قال كبيرهم بصوت مرتجف وقد بدا عليه الخزي والندم كأنه هو المسؤول عن مجيئهم: صحيح أن الفرنسيين كذابون. ليس بين هؤلاء القتلى ثائر واحد، أنا أعرف الثوار، ذهبت مرة مع أبي إلى الغوطة ورأيتهم، إنهم أقوياء، أشداء. أما هؤلاء القتلى الذين رأيناهم فليس بينهم والله ثائر واحد، إنهم من الفلاحين المساكين، ومن العجزة، قتلوهم غدراً وجاؤوا بجثثهم ليرهبونا. خسئوا لن نرهبهم أبداً. سنصبح نحن أيضاً ثواراً عندما نكبر. فهز الصبية رؤوسهم هزات متتابعة تدل على تصميم وإرادة، دون أن ينطقوا بكلمة. كانت وجوههم مصفرة، كالحة كأنها مكهربة، وعيونهم متسعة تحملق بكل شيء، وأفواههم مفتوحة، يدل لهاثهم على اضطراب قلوبهم الصغيرة.
راحوا يسيرون بسرعة وأقدامهم الصغيرة تضرب الأرض ضربات قوية مضطربة، كأنهم رجال حاقدون. وأحببت أنا أن أتكلم لأدعم الكبير فأقول لهم: إني رأيت جثة أبي حامد الحلاب بين الجثث، وهو ليس بثائر كما تعلمون. ولكن لساني لم يسعفني بالنطق كأنه قد يبس في حلقي. كنت أشعر بضيق شديد يكاد يكتم أنفاسي. أردت أن أبكي بصوت عال لأنفس عن صدري، ولكن الدموع التي طفرت إلى عيني انحبست في محجري وأبت أن تسيل كأنها قد تجمعت كلها في حلقي حتى كاد أن ينفجر.
أسرعت إلى البيت، رأيت أمي جالسة على حافة الليوان تبدو حزينة، شاردة الذهن، ترقأ من حين لآخر دموعاً تنهمر من عينيها بسخاء وهي صامتة. فوقفت أمامها مرتاعاً وقلبي يدق دقات عنيفة، وسألتها بلهفة: أين أبي. قالت وهي تحاول تهدئة صوتها المضطرب لتطمئنني:
أبوك سافر إلى الضيعة، وسيعود بعد أيام قليلة. اقتربت منها وحدقت إلى عينيها بوقاحة ثم قلت لها: لماذا تخفين عن الحقيقة؟؟.
إنني أعرف أنه التحق بالثورة، وتركنا في رعاية الله، كما كان يتمنى أن يفعل أبو حامد قبل أن يقتله الفرنسيون.
فضمتني إلى صدرها بعنف وقالت وهي تبتسم: يا خبيث إنك تتكلم مثل الكبار تماماً. من أين عرفت كل ذلك؟ إياك أن تذكر أمام أي شخص كان أن أباك التحق بالثورة. لو دري الفرنسيون لهدموا بيتنا. قلت: أيهدمونه ونحن فيه؟؟!.
قالت: يعملونها يا بني! لقد هدموا كثيراً من الدور على رؤوس سكانها. ورحت ألتصق في صدرها وأوصالي ترتعد من الخوف. كنت أشعر في تلك اللحظة أنني كبرت كثيراً، وعرفت أشياء كثيرة. ألم أر الموت في أبشع مظاهره لأول مرة في حياتي؟ ألم أعرف اليوم الكثير عن فظاعة الفرنسيين؟؟.
في تلك الليلة نمت نوماً قلقاً مضطرباً، كانت تقطعه أحلام مخيفة رهيبة. كنت أحياناً أرى جثة أبي ملطخة بالوحول والدماء ملقاة في ساحة المرجة إلى جانب جثة الحلاب، فأصحو على صراخي المزعج، فأرى أمي واقفة أمام سريري مضطربة تهدهدني، وتسكن من روعي، حتى أهدأ قليلاً. فإذا عدت إلى إغفاءة بعد جهد رأيت بيتنا ينهار تحت قصف القنابل وأنا وأمي نتراكض بين الدخان والغبار. ثم تعاودني رؤية الجثث ولكنها كانت هذه المرة لجنود فرنسيين أعرف بينهم ضابطهم اللئيم الذي كان يضحك بوقاحة ويشير بيده إلى الجثث، فأشعر بشيء من ارتياح الشماتة.
عندما بزغ الفجر كانت أعصابي قد تعبت تماماً فاستسلمت لنوم عميق ثم صحوت على صوت ناعم ندي ينادي في أعلى الحارة: حليب.. حليب. كان للصوت نفس النغمة الممطوطة والجرس الحنون، ولكنه كان ينتهي بأنّة مرتجفة حزينة: عرفت الصوت حالاً، كان صوت صديقي حامد الابن الأكبر للحلاب الشهيد!. فعضضت على شفتي من الغيظ ورحت أتصور رفيقي المسكين المتفوق في دراسته علينا جميعاً كيف يتحتم عليه الآن أن يترك مدرسته قبل الأوان ويودع آماله الحلوة ليعيل أسرته الكبيرة!. فيضطر أن يخلع عن كتفه محفظة الكتب ليحل محلها وعاء الحليب الكبير الذي ربما لازمه طول حياته كما لازم أباه من قبل!.
وتنهمر من عيني دمعتان ساخنتان، منذ ذلك الحين راح ينمو في أعماقي حقد كبير مرير.

المراجع


1) رحلة إلفة الإدلبي مع القصة السورية، تأليف: سحر شبيب (دراسات عليا – الجامعة اللبنانية، 1996)، بإشراف: أسعد ذبيان.
2) الأدب والإيديولوجيا في سورية، تأليف: بو علي ياسين ونبيل سليمان.
3) الخطاب القصصي النسوي، نماذج من سورية، تأليف: د.ماجدة حمود.
4) غادة السمان، إعداد: نبيل سلامة.
5) الحب في الفلسفة اليونانية والمسيحية، تأليف: أنطون مقدسي.
6) الرمزية والتأويل في فكر ابن عربي، أوراق العمل المقدمة في الندوة الدولية المنعقدة أيام 22-24 حزيران 2005، تنسيق: د. بكري علاء الدين.
7) وداعاً يا دمشق، تأليف: إلفة الإدلبي.
8) مواقع إلكترونية.

الدوريات


1) مجلة الأسبوع الأدبي، ملحق شهري في آذار 1990، تضمن دراسات عن أعمال إلفة الإدلبي كتبها كل من: د.سمر روحي الفيصل، د.حسام الخطيب، د.عبد الله أبو هيف، د.بثينة شعبان، والأديبين ملاحة الخاني وعيسى فتوح.
2) مجلة الثقافة الصادرة في دمشق، عدد خاص عن حفل تكريم الأديبة إلفة الإدلبي في تشرين الثاني 1993، برعاية وزيرة الثقافة السورية، وقد ضم دراسات غنية عن مسيرة الأديبة وما قدمته من أعمال أدبية خلالها، كتبها كل من: د.شاكر فحام رئيس المجمع اللغوي في دمشق، د.عبد السلام العجيلي، د.بديع حقي، الأديبة أميرة الدرة، الكاتب يوسف عبد الأحد، الأديب عيسى فتوح.


نبيل سلامة

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

لينا الرفاعي:

شكراجزيلا على هذه المعلومات القيمة عن هذه الاديبة الرائعه عندما كنت في سوريا بحثت كثيرا عن كتبها ولم اجد فقط اريد ان اعرف دور النشر التي ترعى مؤلفات الاديبة

امريكا

احمد:

عرفتها منذ ان كنت طفلا كانت جارتنا في المهاجرين لن انسى ما حييت لطافتها وحسن لقائها كانت تقص علي حكايا اهل زمان وتغدق علي السكاكر والحلويات كم تاءثرت حين سمعت خبر موتها يا ما احلى حديثها وقصصها اعلم ان لها حفيدة من ابنتها تعيش في بلاد الغربة تعذف البيانو برقة مثل جدتها

سوريا

سامر اسماعيل:

شكرا جزيلا على المعلومات القيمة التي نحتاج اليها لمعرفة مسيرة الاديبة العظيمة التي نسعى لان نمشي على خطى الادب والثقافة التي مشت عليه الاديبة العظيمة

سورية حماة بسيرين

زينة عبد:

اشكركم جدا على هذه المعلومات ..كنت ولا زلت من محبي هذه الرائدة والروائية الكبيرة ولقداسترعى انتباهي منذ خمسة وعشرين سنة عندما قراءة رواتها دمشق يابسمة الحزين..قدرة هذه الكاتبة في وصف الضمير والذات والانا..وللحق ما زالت هذه الرواية ترن كلماتها بين جوانحي.

SYRIA