من الرواق إلى الشارع ذي الأروقة: الشوارع ذات الأعمدة في تدمر ضمن إطار تخطيط المدن الروماني الإمبراطوري: أصالة ومماثلة

12 08

تعدّ الشوارع ذوات الأعمدة في تدمر جزءاً من عناصر المدينة الأكثر روعة، لكنها ليست الأكثر أصالة. فالشوارع ذوات الأروقة تشكل في الواقع عناصر أساسية وثابتة في المواقع ذات التخطيط المدني في الإمبراطورية الرومانية وذلك في حالتها الأثرية الأخيرة، والتي نلاحظها حالياً في تدمر وكذلك أيضاً في أفاميا، جبيل، أنطاكية، اللاذقية، سرهوس ، حلب، بصرى، فيليبوبوليس، دمشق، البتراء، فيلادلفيا (عمّان)، حماه، جدرة، جرش، سولوي، أفسس، برغام، بيرجيه، هيرابوليس.
إن التساؤل حول مكانة الشوارع ذات الأروقة في تدمر ضمن تقليد الشوارع ذوات الأعمدة في التخطيط العمراني الأثري يفيد تاريخ تدمر من جهة وتاريخ هذا التخطيط العمراني من جهة أخرى. إن هذا البحث الذي لا يتعلق فقط بالتسلسل الزمني لبناء الأروقة ولكن بتطور إنشائها وبوظيفتها أيضاً، يستلزم مقارنة مع الشواهد التي زودتنا بها مدن أخرى من الإمبراطورية ومع عناصر أخرى مميزة من العمارة التدمرية.
مراحل تطور البناء:
فيما يخص مراحل بناء الشوارع ذوات الأروقة في تدمر، فإننا نعتمد على المعلومات التي تقدمها الدراسة المعمارية والآثارية للمباني من جهة، وعلى الكتابات المنشورة سابقاً من جهة أخرى ومن بينها تلك الكتابات التي تتزين بها الأعمدة والتي تتبع قيمتها في التسلسل التاريخي إلى وظيفتها.
الكتابات
إن بعضاً من الكتابات معاصر أو شبه معاصر لبناء الجزء الذي يحملها من الرواق والتي تؤرخه الكتابات. وهذا يتعلق بإهداء للتذكير بإتمام الأعمال المتعلقة بعمود أو بمجموعة أعمدة. إن مثل هذه الكتابات قد وجد على طول الشارع المعمّد المعترض، وفي القطاع A من الشارع الكبير.
وقد طرحت إحدى الكتابات في القطاع B في الشارع الكبير مشكلة خاصة: فهي مؤرخة حسب المعايير العلمية لقراءة النصوص القديمة من منتصف القرن الثاني، وتؤرخ ذكرى بناء مذبح ورواق، وقد اعتبر الباحث ج.كانتينو أن هذا الرواق المرتبط مع مذبح ذو وظيفة دينية قبل كل شيء وبذلك ميز أعمدته بشكل كامل عن باقي أعمدة الشارع. أما دراسة ك. دونان فقد أظهرت على العكس، أن التعبير المستعمل للإشارة إلى هذا الرواق ممكن أن يستعمل في كل نماذج الأروقة، وهذا ما يؤدي للتساؤل حول الوضع الصحيح لهذه الكتابة التي تهمنا وحول علاقتها مع بقية الشارع المعمّد.
وتشكل أيضاً بعض الكتابات التي تكرم أشخاصاً قد اشتركوا بإشادة جزء من الرواق عناصر تأريخ دقيقة نسبياً. إلا أن معظم كتابات الأعمدة، هي كتابات تكريميّة، لا تزودنا بأية مؤشرات حول الظروف التي نظمت بها، وهي بالتالي ليست ذات قيمة كبيرة في التسلسل التاريخي: إذ كان من الممكن دائماً نقش كتابة على عمود ما في فترة لاحقة لإشادته، فهذه الكتابات بالتالي لا يمكنها تزويدنا إلا بحدود زمنية ولا يمكنها إعطاؤنا إلا نتائج عامة على الأغلب.
ومع هذه التحفظات جميعها فالشواهد الكتابية تسمح لنا بالكشف عن الحركة العامة للتطور. إن أول كتابة مؤرخة ومنشورة من مجموعة الأعمدة في الشارع المعترض تعود إلى شهر تشرين الثاني من عام 110. وقد تسبقها بعدة عقود كتابة أخرى غير منشورة، وتعود آخر أعمال مؤكدة في هذا القطاع تعود إلى شهر آذار عام 179، كما تعود أقدم كتابة مؤرخة ومنشورة في القطاع C من أعمدة الشارع الطويل إلى عام 158: إذاً فإن إشادة القطاع C قد بدأ قبل انتهاء بناء الشارع المعترض. وسمح انتهاء قسم من الأعمال في عام 279ـ280 لظهور بعض كتابات الإهداء التشريفية.
ويعود القطاع B حسب الكتابات التكريمية الموجودة فيه إلى النصف الأول من القرن الثالث، مع ذلك، فإن الشارع والأروقة يشكلان حقيقتين منفصلتين ويثبت وجود قاعدة تمثال تحمل إهداءً تكريمياً مؤرخاً في عام 51 وجود طريق مزين بالتماثيل التشريفية قبل ظهور الأروقة، إلا إذا كان هناك إعادة استعمال: إذاً ربما كان هناك طريق ذو أهمية كبيرة في موضع القطاع B من الشارع الكبير منذ النصف الثاني من القرن الأول. وتوجه بعض الدلائل لاقتراح ظهور الأروقة على طول هذا الشارع قبل القرن الثالث: وهذه هي حال الرواق المرافق للمذبح والمهدى في منتصف القرن الثاني والمشار إليه في الكتابة رقم (XII, 30) المذكورة سابقاً، أو حال رواق واجهة الحمامات المؤرخة في القرن الثاني. وكذلك فإن وجود رواق مؤلف من عشرة أعمدة أمام معبد نبو في شكله الأصلي، لا يمكن تفسيره إلا من خلال افتراض وجود شارع مهم في هذا الموضع.
أما القطاع A بمجمله فقد يكون كما هو حال القوس الذي يصل القطاع A مع B، لاحقاً لعام 212. وهناك كتابة تعود إلى عام 218 تحتفل بذكرى انتهاء بناء الرواق، وهي مقدمة من ابن البنّاء الذي بدأ بهذا العمل قبل 212 بقليل على الأغلب. وتحتفل بعض الكتابات بذكرى ترميم الرواق المعترض عام 229 (Inv. V, 6)، وبوقت لاحق في القطاع C من الشارع الكبير عام 328 (Inv. III, 27)، ويظهر الشيء نفسه بالكتابة المؤرخة بعام 279ـ280 والمشار إليها سابقاً، فسقوط تدمر إذاً لم يحد من استمرار صيانة الأروقة. مع ذلك فالترميمات المنفذة عام 328 تبدو مرتبطة بحاجات قديمة لكنها تأخرت لأسباب اقتصادية وسياسية.
فالشكل المتكامل الذي نراه في يومنا هذا، هو حصيلة مسيرة طويلة، تمت على مراحل متقطعة واتجهت عموماً من الغرب إلى الشرق.
إن عدم الاستمرار في إشادة الأروقة والمترافق مع تجزئة التنفيذ مثبت بواسطة علم الكتابات: حيث تشير الكتابات إلى بناء عمود، اثنين، ستة، سبعة، ثمانية أعمدة، ثمانية تباعدات، فظاهرة التقطع هذه بدت واضحة بسبب عدم إتمام إشادة بعض الأجزاء من صفوف الأعمدة: فمع أن الجزء الغربي من القطاع C للشارع الكبير بدا محاطاً بالأروقة بشكل مستمر، لكن أعمدة القسم الشرقي لم يتم بناؤها بشكل كامل أبداً.
إسهام علم الآثار:
لقد أثبتت الدراسة المعمارية المقدمة من قبل السيد أوستراش على طول القطاع B من الشارع الكبير ظاهرتي عدم الاستمرارية وتجزئة التنفيذ. ففي هذا القطاع، تظهر الأروقة على طرفي الشارع مستقلة الواحد عن الآخر، فلا تتوضع الأعمدة مقابل بعضها وكذلك عرض الشارع يتغير كثيرا لأن عرض الأروقة غير ثابت على طرفي الشارع ضمن قطاع محدد.
وتسمح لنا دراسة أوستراش أن نميز هذا التتابع على طول الشارع وفي كل طرف على حدة لعدة أجزاء (عددها إجمالياً أربع عشرة) من بينها أروقة المباني العامة كالمسرح والحمامات التي تتناوب مع أعمدة الشارع البسيطة والتي تشكل بين بعضها مجموعات تستقل الواحدة عن الأخرى وتزداد على طول الشارع.
إذاً يظهر بشكل واضح تجزئة أروقة الشارع إلى قطاعات متعددة، مبنية في أوقات مختلفة، وتكون غير متناظرة بالنسبة لجهتي الطريق. مع ذلك تشكل بعض العناصر فيما بينها وحدة ضمن الأروقة، فرغم بعض عمليات التضييق نرى أن الشارع يخضع بشكل بسيط لعملية تعريض متتالية من الشرق إلى الغرب. ويظهر من قسم إلى آخر المحاولة المبذولة للإبقاء على وحدة ما، وكان من المحتمل أيضا تجميع الأجزاء بوحدات أكثر أهمية. وهكذا فالضلع الجنوبي يتمفصل من وحدتين كبيرتين، وتحوي الأجزاء 1, 2, 3 أروقة ضيقة نسبياً (بعرض 7.50 إلى 7.80م)، أما الأروقة التالية فهي أعرض بكثير (9.70م). وفي القسم الشمالي من الشارع يعطي عرض الأروقة مع عرض قارعة الطريق وحدة للأجزاء 3C و4، وتتعلق هذه الوحدة بالرغبة في إقحام مبنى الحمامات في فراغ الشارع ذو الأروقة، وبعد انقطاع الأعمدة في القسم 5، يأتي القسم 6 لتتوافق فيه العروض مع تلك المطبقة في الأقسام 3 و4. بالإضافة إلى ذلك فإن دراسة طرز البناء تبين التقارب بين هذا القسم والجزء 2، فالقسم 6 يتألف من سبعة أعمدة منتهية بدعامة على الطرفين، ويمكن أن نحلل القسم 2 إلى مجموعتين من سبعة أعمدة متممة بدعامة على الطرفين، وتتساوى نوعاً ما التباعدات بين الأعمدة في كل من المجموعتين (2.80 ـ 2.85م)، ويكون لها الاستقامة نفسها. وربما يكون هذان القسمان قد تبعا إلى مشروع واحد رغم المسافة الواسعة التي تفصلهما عن بعض.ويبين لنا القسم 5 الخالي من الأعمدة أن عملية إنشاء الأروقة على طول الشارع لا تتم بالضرورة بشكل متتابع ومستمر. إن هذه المحاولة لإيجاد وحدة من خلال عدم الاستمرارية وتجزئة تنفيذ العمل تتناسب مع السعي لمشروع شامل. ويؤكد أيضاً هذا التنازع بين تجزئة تنفيذ العمل وبين الميل إلى توحيد المشروع في الشارع المعترض، حيث يتم تنفيذ العمل أيضاً على عدة مراحل، مع وجود مشروع مركزي موحد ومؤكد بواسطة كتابة تعود إلى عام 129 "لقد بني.... في هذا الرواق ستة أعمدة مع كل ما يعلوها من عناصر معمارية وكذلك السقف".
مقارنات
إن معبد بعلشمين في تدمر مزين بعدة أروقة يمتد بناؤها حسب النقوش والكتابات من عام 23 إلى 104ـ105 م، فإشادة أروقة هذا الصرح سابقة لفترة بناء أروقة الشارع. وتتوزع الكتابات فيها على قسمين: إهداء لعمود منفرد أو لمجموعة من اثنين إلى خمس أعمدة (بين عام 23 و700 إلى 100) وأرشيتراف يحمل نصوصاً لتقدمة أروقة بحيث كان يعتبر فيها كل رواق كوحدة مستقلة (بين 67 و104ـ105). ويظهر بذلك أن مسيرة بناء أروقة الشوارع تماثل مسيرة بناء أروقة معبد بعلشمين الأقدم زمنياً.
وتتشابه بشكل كبير أيضاً الشوارع ذات الأروقة في تدمر مع مثيلاتها في مواقع أخرى في الشرق الأدنى القديم.فعدم تناظر الأروقة الجانبية بالنسبة لطرفي الشارع والتي تشكل فيما بينها وحدات معمارية مستقلة موجود أيضا في عدة مواقع: ففي أنطاكية وحسب حفريات لاسوس، تبدو أساسات صف الأعمدة الشرقي أقل صلابة وضخامة من مثيلاتها في الصف الغربي. وهذا ما نصادفه في مدينة هيرموبوليس مانيا في مصر، حيث يشير النص المؤرخ عام 263 والذي ينظم أعمال البناء على طول الشارع الأساسي إلى اثنتي عشرة وحدة، عرف منها ستة أجزاء فقط حسب مساراتها، مما يدعو للتفكير بأن كل وحدة كانت تتبع لجزء على كل من طرفي الشارع.
وكذلك فإننا نجد ظاهرة اتصال عدة أجزاء في مواقع أخرى، ففي أنطاكية أعطتنا الأسباب مجموعة نتائج، لو جمعت لتشكيل صورة شاملة للشارع ذو الأروقة لوجدنا أنها لن تختلف عن بعضها بالتفاصيل. وقد لاحظ سوفاجيه في اللاذقية، نموذجين من الأعمدة وتباعداتها للشارع نفسه ذو الأروقة: الأعمدة الغرانيتية المصنوعة من حجر واحد والمتباعدة بمسافة 3.35م عن بعضها، والتي ربما كانت تشكل أعمدة الشارع. والأعمدة المنحوتة من الأحجار الكلسية والمتباعدة بمسافة 4.20م والتابعة غالباً لأروقة مبان خاصة. وكذلك الأمر في جرش فالوحدة الشاملة لا تمنعنا من تمييز الأروقة التي تتقدم المباني الهامة كهيكل الماء في الجنوب حيث تشكل ثمانية أعمدة رواقاً متميزاً. ونلاحظ في مدينة أم قيس (جدرة) انزياحاً في العناصر المعمارية الشاقولية إلى الشمال من المنطقة V, IV.
إذاً لا تشكل ظاهرتا عدم استمرارية العمل وتجزئة التنفيذ خاصية تدمرية، فهذه الصفات تعكس طريقة التمويل ومراحل القرارات التي أشرفت على تنظيم وتنفيذ الشوارع ذات الأعمدة.
البناء، التمويل، مراحل القرارات:
غالباً ما كان تمويل تنظيم الشوارع يتم بتقسيم النفقات على المواطنين والذي يكون على شكل اكتتاب عام، ولم يحدد تخصيص كل مبلغ مدفوع بدقة وعلى الأقل بالنسبة للكتابات التي تحتفظ بتذكار (إذاً فهناك أشغال كانت تتم بالتمويل المشترك وهذا لا ينفي وجود تنفيذ مركزي موحد) وكان ذلك يتم بتجزئة فعلية للأعمال التي تنفذ على مراحل تبعاً لتوفر الأموال، ويفسر هذا النوع من الحلول ظاهرة تقسيم الشوارع ذات الأعمدة والملاحظ في عدة مواقع. ويمكن أن تتحقق تجزئة الأعمال هذه بشكل ملموس بطريقتين فقد تتداخلان أحياناً ليحصل بعض التنافس على الموقع نفسه.
إن تمويل أروقة المباني الخاصة والمكونة لجزء من صف أعمدة الشارع قد شكل فرضية سبقت غالباً الشرح المقدم من الأعمال الأثرية وخاصة في تدمر، أنطاكية واللاذقية، وهو مثبت في الكتابات التي وجدت في سيانيس وأفاميا.
ويبدو أن عملية تجزئة صفوف الأعمدة إلى مجموعات من الأعمدة المستقلة عن المباني التي تجاورها والتي تسمح بتنفيذ أو بتمويل مقسم على مراحل لعدة شرائح كانت شائعة بشكل كبير. ففي اللاذقية كما هو الحال في تدمر، حُددت مجموعة الأعمدة الواحدة بعدد الأعمدة أو بعدد تباعداتها. وقد أثبتت نفس طريقة التقسيم في مدينة جدرة في بداية القرن الثالث وكذلك في برغام. وتلاحظ في مواقع أخرى طريقة من التقسيم مختلفة قليلاً، ففي هيرموبوليس ومن عام 263، توجد حسابات لعضو مجلس الشيوخ أوليوس أبيانوس والذي وزع بطريقة دقيقة جداً وبين عدة مواطنين مجموعة أعمال للتنفيذ في الشوارع ذات الأعمدة: وقد حُدد كل جزء من الشارع وبدقة بالإشارة إلى نقطة بداية ونقطة نهاية. كما اعتمدت الطريقة نفسها في سارديس (بين القرن الرابع والسادس الميلادي) وفي أفسس وأبولونيا رينداكوس وأيضاً في جرش وذلك في أعمال محدودة تتعلق بتنظيم وضع البلاط الحجري بين عامي 200 و250. وتعد صيغة هذه الكتابات ثابتة بشكل كبير وتشير دائماً إلى نقاط البداية والنهاية للأعمال. وقد تصل تجزئة التمويل إلى حد يسمح فيه بتمويل أعمدة فردية كما هو الحال في جرش، أفسس وتدمر.
كيف كانت تصل مجموعة الشرائح هذه لتشكل وحدة كاملة؟ حول مسيرة القرارات التي تسمح بالإدارة الجماعية للجهود الخاصة والمرتبطة بهذا النوع من التنظيم، توجد لدينا شواهد من ديون البروسي، تمكننا من خلالها الخطابات رقم 40، 45 و47 من إعادة تخيّل المراحل الأساسية لبناء رواق في بروس في بيتينا وذلك خلال السنوات الأولى للقرن الثاني. حيث يبادر ديون كريزوستوم إلى هذا المشروع بصفة خاصة وبتشجيع إمبراطوري وموافقة الوالي الروماني الذي يدعو لانعقاد الجمعية. وما إن يوافق على المشروع من قبل الجمعية والمجلس حتى يصبح قابلاً للتنفيذ، ويرتبط هذا المشروع أيضاً بالهيئة الوطنية المعنية بتقرير توقيف الأعمال. ويتولى "ديون" مراقبة التنفيذ المجزأ بسبب طريقة التمويل. وتتعلق مهامه بالأعمال الطبوغرافية، الحسابات وتأمين المواد الأولية.
تدفعنا شواهد ديون كريزوستوم لتأكيد ظاهرة التنفيذ المجزأ لمشروع مصمم بطريقة موحدة. فهل نعتبر هذه الشواهد كمثال؟ لقد ثبتت في هيرموبوليس مانيا في عام 263 خطوة مختلفة، حيث تبدل المشروع العام وبشكل تدريجي عند تنفيذ الأروقة، عندما أصرت الشركة المسؤولة على تحويل شارع مزين ببضعة أروقة إلى شارع بصفوف أعمدة مستمرة. ويؤدي حشر شارع ضمن النسيج العمراني إلى صراعات، كما هو حال القسم B من الشارع الكبير الذي تعدى على جزء من باحة معبد نبو، وهذه الصعاب كانت كثيرة: ففي بروس حيث لا يشكل الرواق إلا جانباً من مشروع واسع للتنظيم العمراني، كان يسمح لإنشائه باستبدال المساكن المتداعية بصروح ضخمة تليق بمدينة كبيرة. وكان بناء الأروقة في أنطاكية وفي القرن الرابع الميلادي يلحق ضرراً بالمنازل وتشير كتابة من سارديس في العصر نفسه إلى أعمال تهديم وردم أصبحت ضرورية بسبب تنظيم الشارع ذو الأروقة.
كانت الأضرار اللاحقة بالمباني بسبب هذه الأعمال تؤدي إلى مصاعب كبيرة في بروس، ودفعت إلى عدد من المحادثات من ديون أدت لإيقاف مؤقت للأعمال. وكان يتم تلافي هذه الأضرار في بعض الحالات وذلك بتنظيم ملائم للشارع: ففي أحد التنظيمات للشارع الرئيسي في أنطاكية، تم تعريض الأرصفة المحمية بأروقة ـ وعلى الأقل في بعض الأماكن ـ بالتعدي على عرض الشارع بدلاً من المباني المحيطة.
وفي بروس لم تؤثر إشادة الأروقة على المساكن وورشات العمل فحسب بل على عدد من القبور، مما يقودنا إلى حالة مشابهة كثيراً لحالة معبد نبو. ويبدو أن هذه الظاهرة كانت متكررة، إذ يذكر ديون على سبيل المثال تارس ونيكوميدي وبطريقة افتراضية أنطاكية: حيث يشير طول الأروقة إلى وقوع هذه المشاكل وبشكل حتمي في القرن الرابع.
أخذت معالجة هذه الأعمال في بروس وقبل كل شيء طابعاً سياسياً، فهذا أمر مرتبط بالصفة الوطنية للمشروع وبتنفيذه الذي برز بالإضافة إلى ذلك في فترة كانت فيها بروس على وشك استرداد منشآتها المدنية. وقد تم حل قضية أماكن الدفن في تارس وفي نيكوميديا ضمن إطار وطني أيضاً حيث قرر المجلس بغالبية الأصوات تغيير مكانها. ويبدو أن الإطار القضائي والإداري الذي تمت فيه أعمال بناء القطاع B من الشارع الطويل في تدمر قريب جداً من الإطار الذي عرفتنا عليه النصوص المذكورة سابقاً: بروز مشروع شامل يتضمن سن قوانين للتقيد بها حسب الإمكانيات ويتضمن فعاليات المشرف، مرونة المشروع، إمكانية إعادة النظر في المشروع، التنفيذ على أجزاء تبعاً للمناسبات ولإمكانية التمويل.
ويشكل الشارع ذو الأروقة محصلة توضعات متجاورة لعدة أعمال منفذة بشكل مجزأ، ويأخذ هذا التجمع وحدته من وظيفته. لذلك فعند التمعن في ظاهرة الشوارع ذات الأروقة يجدر التمييز بين وظيفة كل واحد من الأروقة من جهة وبين وظيفة رواق الشارع بمجمله من جهة أخرى.
الوظائف:
من أروقة الشوارع: إن معظم الكتابات المكتشفة على طول الشوارع ذات الأروقة هي كتابات تكريمية، إذاً فإن أروقة الشوارع ذوات الأعمدة في تدمر تلعب دور حامل للإهداءات التكريمية، كما هو حال الأروقة المزينة للآغورا أو لباحات المعابد وبشكل خاص معبد بعلشمين حيث ازدهرت فيه الكتابات التكريمية بدءاً من القرن الأول وحتى القرن الثاني، وكذلك معبد بل الذي ازدهرت فيه من القرن الأول وحتى الثالث.
إن التشابه مع أروقة المعابد مؤكد وذلك بوجود وظيفة دينية، إذ وجد عدد كبير من المذابح ومن الإهداءات المقدمة لمذابح أو لمدافن وبخاصة على طول القطاع B من الشارع الطويل، ويبدو أن بعض هذه الإهداءات سابق للحركة الكبيرة في بناء الأروقة. وكنا قد تكلمنا سابقاً عن كتابة مؤرخة حسب مقاييس علم الكتابة بمنتصف القرن الثاني وهي تحتفل بذكرى بناء مذبح وبناء رواق والذي يبدو أنه شكل نقطة انطلاق لتطور بناء صفوف الأعمدة.
لقد كرست بعض الأروقة إما بمجملها أو كل عمود فيها على حدة: ففي عام 129 كرست أعمدة من الشارع المعترض لثلاثة آلهة، وكرس جزء من أعمدة الشارع الطويل والقريب من معبد آرصو لهذا الإله. وحسب ناشر الكتابة فربما كان هذا يعني وبكل بساطة أن عائدات مخازن الرواق كانت تدفع لمعبد آرصو. وقد أثبتت تقدمات مماثلة لهذه التقدمات في كل من جرش وأفسس وبرغام.
هناك صلة قرابة قوية إذاً بين أروقة الشوارع التي تعتبر معزولة وبين أعمدة المعابد وذلك فيما يتعلق بالمفردات المستعملة، بمسيرة العمل وبالوظائف التكريمية والوظائف الدينية. والحالة هذه فإن باحات المعابد ذوات الأروقة سابقة في تدمر للشوارع ذوات الأروقة، وقد يكون الشارع ذو الأروقة إذا محصلة لانتشار باحة المعبد ذات الأروقة المحيطة بالفراغ العمراني. وقد أخذ الشارع ذو الأروقة وظيفة خاصة بارتباطه مع هذا الفراغ العمراني بالذات.
إلى الشارع ذو الأروقة: يتألف الشارع الطويل من أجزاء كبيرة متمفصلة بواسطة قوس النصر أو التترابيل، وقد عرف في تخطيط المدن الرومانية في الشرق الأقصى تغيير الاتجاه كعنصر مميز، فهذا ملاحظ على سبيل المثال في كل من أنطاكية، بصرى، دمشق، فيلادلفيا، إذ يقوم الشارع الرئيسي بالربط بين النقاط الهامة في الفراغ العمراني ويشكل بذلك العمود الفقري للفراغ العمراني. أما في تدمر فكما وضح أ. فيل، لم تكن وظيفة الشارع الطويل تشكيل بنية الفراغ العمراني فحسب، بل أيضاً تشكيل قطب ينظم توسع المدينة الناجم عن نمو أحياء سكنية جديدة والتي عجل تنظيمها بنقل مركز ثقل المدينة من الجنوب وباتجاه الشمال، وذلك بعد أن نهبت المدينة من قبل أورليان. ولدينا مثال آخر لمدينة توسعت وبقي الشارع ذو الأروقة فيها يشكل هيكلها الدائم وهي أنطاكية.
وتؤلف الشوارع مع صفوف الأعمدة عناصر لها بنية في الفراغ العمراني، ولكنها تشكل أيضاً عناصر لإبراز البنى العمرانية الأخرى. وفي الواقع فإن الكتابات التكريمية هي نتاج أعضاء مجلس الشيوخ أو بعض القبائل، إذ تتوزع كتابات هذه القبائل على بضعة قطاعات من الشارع ذو الأروقة. فالقبيلة المرتبطة بالشارع المعترض هي قبيلة بني زبديبول، وتوجد كتابات بني مايتبول في القطاع الغربي من الشارع الطويل (القطاع C).
ونحن هنا بصدد اثنتين من القبائل الأربعة التي ربما كانت تشكل الهيكل الوطني لتدمر، والذي كانت طبيعته إقليمية جوهرياً، على العكس من القبائل العائلية الأكثر عدداً والتي كانت تترأس دون أن تختلط مع القبائل الأولى وذلك حسب التبعية للإمبراطورية الرومانية. لقد وجدت إعادة التنظيم السياسي للمدينة عند الدخول في الإمبراطورية الرومانية صيغة ملموسة وذلك من خلال عنصر جديد في الفراغ العمراني والذي سيوجه بوضوح إعادة تكوين البنية العمرانية: وهو صفوف الأعمدة في الشوارع.
وقد ارتبطت كتابات قبيلة ثالثة من هذه القبائل وهي قبيلة بني معازين بمعبد بعلشمين، فقد سمحت الاستمرارية بين وظيفة أروقة المعابد ووظيفة أروقة الشوارع بلعب أدوار مكملة وبالتالي بتشكيل نظام.
أما القطاع B من الشارع الطويل فهو على العكس شبه خال من كتابات القبائل باستثناء قاعدة تمثال مهداة عام 51 من بني تيمي ومن المدينة، أما باقي الإهداءات فهي مقدمة إما من شخصيات مستقلة، وإما من أصحاب المهن وإما من أعضاء مجلس الشيوخ ومن الشعب. وقد تميزت هذه الكتابات التكريمية بتركيز زمني كبير، فجميعها تقريباً مؤرخ بالفترة بين 242ـ271. ويوجد من بين الكتابات الأربع عشرة (من أصل ثماني عشرة) المتعلقة بفترة أمراء تدمر (251ـ272) إحدى عشرة كتابة تعود لفترة حكم أذينة. وقد ترافق هذا التركيز الزمني أيضاً بتركيز في الشخصيات المكرّمة: فأربع كتابات مكرسة إلى سلالة تدمرية (حيران، أذينة، زنوبيا)، وسبع أخرى تكرم الملازم الأول أذينة ورود، واثنتين الفارس الروماني عوجا. وتترافق الوظيفة التكريمية هنا مع وظيفة سياسية واضحة، مرتبطة بشكل كبير مع التاريخ السياسي ومع تاريخ الأحداث.
إذاً قد تشكل الشوارع ذات الأروقة وسيلة لإظهار التنظيم العمراني ولإظهار اللحظات الهامة من حياة المدينة: فهذه الشوارع تؤلف مرآة المدينة. وما الوحدة التي تشكلها الشوارع ذات الأعمدة في تدمر بنظرنا إلاّ المرحلة الأخيرة لمسيرة طويلة. وتلاحظ التجزئة في تنفيذها على ثلاثة مستويات: إذ تتمفصل أجزاء كبيرة لتشكل الشوارع ذات الأعمدة وهذه الأجزاء منظمة في فترات مختلفة من تاريخ المدينة، تنمو الأروقة على كل طرف من قارعة الطريق وبشكل مستقل، وأخيراً يمكن تحليل الطرف ذاته وعلى طوله إلى مقاطع متتالية. فالتمفصلات الثلاثة المكتشفة موجودة في معظم المواقع المدنية في الشرق الأدنى، وهي تعكس طريقة التمويل ومسيرة القرارات التي وجهت تنظيم الشوارع ذات الأعمدة. وعلى الأقل ففي تدمر كان لأروقة الشوارع ولأروقة المعابد أو الآغورا كل على حدة وظائف متشابهة وبشكل خاص تكريمية، إلا أن الاختلاف الجوهري بين رواق المعبد أو الآغورا على سبيل المثال وبين رواق الشارع هو أن الأول يستخدم كحاجز يفصل الفراغ الذي يحيط به عن الفراغ العمراني، بينما يؤمن الثاني على العكس الاتصال بين مختلف نقاط الفراغ العمراني، سامحاً بذلك للمدينة بتأمين وظيفتها الجوهرية والتي هي بالنسبة لأصحاب النظريات الحديثة، كما بالنسبة للخطباء القدامى مثل ليبانيوس وديون كريزوستوم وظيفة تأمين الاتصالات. ويبدو أن صفوف أعمدة الشوارع في تدمر تؤلف امتداداً لصفوف أعمدة المعابد الأقدم منها بشكل عام وذلك عبر الفراغ العمراني.


كاترين ساليو

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

الامين الشاوي:

بحث حول الفراغ العمراني

algerie