تدمر في عمارة وعمران القرون الميلادية الأولى

02 آب 2007


جانب من الشارع المستقيم ومعبد بل في تدمر

العمارة التدمرية:
شبه أحد المؤرخين المشهورين العمران خلال الأزمنة القديمة بهرم قاعدته الديانة التي تحمل البناء كله، ثم تأتي الاعتبارات العملية، ثم يأتي الفن. واعتقد أن هذا الرأي يشمل العمران في تدمر وأن العمارة التدمرية لا تخرج عنه، لذلك فإنني آخذ به، واسمح لنفسي أن أقسّم بحثي فيما يلي إلى:
1ـ الديانة التدمرية
2ـ الاعتبارات العملية
3ـ البديع العمراني

1ـ الديانة التدمرية:
تتألف المعتقدات الدينية التدمرية من الأفكار الدينية التي كانت سائدة في سورية وبلاد الرافدين وشبه جزيرة العرب، لذلك فإنه لم يعثر خلال الحفائر التدمرية المتعددة على أي معبد مخصص لإله من الآلهة الإغريقية ـ الرومانية ولا إلى أي إمبراطور، ولا لأي إله كانت تعبده الفرق العسكرية الرومانية. وذلك لأن التدمريين القدماء عبدوا آلهتهم الخاصة دون غيرها، وفي معابد عديدة. ووزّعوها في أطراف مدينة تدمر لحمايتها من كل أذى، وزودوها بأبنية حجرية جسيمة، ومنحوها الأولوية التامة، على بقية منشآتهم المدنية الأخرى وعلى منازلهم الخاصة، وبدؤوا العمل منذ النصف الثاني منذ القرن الأول قبل الميلاد، وأنهوها نحو منتصف القرن الثاني بعد الميلاد.

وأكبر معبد تدمري على الإطلاق مخصص للإله (بل) وهو من منشأ بابلي. وأشرك معه (يرحبول) وهو إله شمسي ورب نبع أفقا و(عجلبول) وهو إله قمري. وقد بني هذا المعبد في شرقي المدينة غير بعيد عن واحة النخيل، ووجّه شرقاً ـ غرباً وشمالاً ـ جنوباً بدقة هندسية تامة، ويحتمل أن القبائل التدمرية الرئيسية الأربع (بنو كمرا وبنو ميتابول وبنو المعازين والميتون) أسهمت في نفقات البناء، ذاكرة التحالف المعقود بينها لدى اتفاقها على تشييد تدمر.

وتوجب على مخطط معبد (بل) أن يمكن من إقامة الطقوس الدينية العربية الجاهلية ابتداءً من تأليف المواكب التي تحمل الأصنام، ويتقدمها ممثلو القبائل على نظام خاص والكهنة والنسوة الهازجة، ثم الطواف حول المكان المقدس، فتقديم الأضاحي، ثم الصعود على منحدر إلى الحرم، ثم الوصول إلى سقف الحرم، وإحراق البخور في المحارق حيث ينزل الإله من السماء ويقترب من عباده. مما يذكر بما كان يمثل معتقدات سكان بلاد الرافدين لدى إقامتهم الزقورات.

ويعني كل ذلك بلغة العمارة تنظيم بوابة المعبد الخارجية بأبهة، وتسوية باحة فسيحة الأرجاء للطواف، فيها حوض ماء للتطهير، ومذبح لنحر الأضاحي وقاعة للمآدب الدينية، وخاصة حرم يحوي محرابين جنوبي وشمالي وثلاثة أدراج للصعود إلى السقف ولتقديم البخور ويتوجب أخيراً إحاطة الباحة الفسيحة بأروقة تمكن الناس من حمايتهم ضد الأعراض الطبيعية.

ويظهر أن عمليات البناء بدأت منذ النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد وأنها كانت مصممة ومدرجة ضمن مخطط عام جرى تنفيذه بدقة واندماج كلي في البيئة التدمرية الطبيعية من قبل المهندسين التدمريين الذين ابتكروا الحجوم والأشكال المعمارية التي تصلح للتعبير عن تقاليد القبائل التدمرية بلغة العمارة المعاصرة المتطورة ووفق متطلبات المستقبل. ومن الطبيعي أن الأعمال المذكورة بدأت ببناء الحرم الذي يشبه حرم المعابد الهلنستية المحاطة بـ 8×15 عموداً. وبلغ ارتفاع الأعمدة التدمرية المخددة 15 متراً وكانت مزينة بتيجان كورنثية معدنية مذهبة. وأجمل ما في الحرم التجويفان (التالاموس) الجنوبي والشمالي المتقابلان اللذان تزينهما مواضيع ميثولوجية وزخرفية من أبدع وأثمن ما صاغه النحاتون في بداية القرن الأول الميلادي.

ولزم أن تسوى أرضية باحة (التيمنوس) حول الحرم من جهاته الثلاث الشمالية والشرقية والجنوبية وذلك لكي تقام أروقة المعبد على تخطيط شبه منحرف 210م×105م. وهذه الأروقة مزدوجة في الأضلاع: الشمالي والشرقي والجنوبي ويبلغ ارتفاع أعمدتها 12 متراً. أما الضلع الغربي فرواقه منفرد إلا أن أعمدته يبلغ ارتفاعها 17 متراً.

ومن اللازم أن نعرف أن الأروقة في العهد الهلنستي كانت مخصصة فقط لإحاطة (الآغورا) الساحة العامة ثم شملت وظيفتها إحاطة الشوارع التي كانت صالحة لتنظيم المواكب. ومعنى قيامها حول (اليتمنوس) في معبد (بل) أنه اكتسب وظيفة أخرى تستهدف اجتماع الجماهير وبقائهم فيه لغايات أخرى تقتضيها حياتهم اليومية. والتطور المذكور مهم جداً في حياة المعابد لأنه يمكنها من التأثير المستمر على تعلق المتعبدين بها.
وتمكن الأثري دانيال شلومبرجيه بعد دراسة تيجان معبد (بل) الكورنثية ومقابلتها بما يماثلها بالمباني التدمرية الأخرى وكذلك بعد دراسة الكتابات التدمرية على أعمدة المعبد أن يقسم هذه التيجان إلى ثلاث مجموعات: تعود المجموعة الأولى منها إلى منتصف القرن الأول وهي التي تزين الرواق الشمالي، والمجموعة الثانية إلى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني وهي تيجان الرواق الشرقي والرواق الجنوبي، والمجموعة الثالثة إلى منتصف القرن الثاني وهي التي تختص بالرواق الغربي وبوابة المعبد.

وكان انتهاء الأعمال في معبد (بل) حدثاً معمارياً هاماً جداً في منتصف القرن الثاني لإشاعته التاج الكورنثي خلال القرنين الأول والثاني في كل المباني السورية ولتقديمه معبد (بل) كمثل يحتذى على صعيد العمارة الدينية المحلية في تدمر، وعلى صعيد العمارة الدينية والإقليمية في الشرق السوري.

وفي الواقع انتصر التاج الكورنثي الكلاسيكي أخيراً على منافسيه التيجان الأيونية والطوسكانية والنبطية، وأشكال التيجان الكورنثية الابتدائية الأخرى، وعمت أشكال التاج المذكور المباني الرومانية في الأقطار الآسيوية والإفريقية والأوروبية. وكان لسورية الفضل الأكبر في هذا الانتصار وتعميمه، ونقله عبر القرون حتى عصرنا الحاضر.

أما تأثير معبد (بل) في تدمر فكان واضحاً في تجديد عمارات المعابد الأخرى وفي تزيينها وإضافة محاريب تزيينية في حرمها، وإحاطة مبانيها بأروقة وتمكين جماهير المتعبدين من التجمع تحت ظلالها، وتوسيع إمكاناتها في تنظيم المواكب الدينية.

ومن ذلك أن معبد الربة العربية (اللات) الذي بني في المنطقة الغربية من تدمر ويعود عهد بنائه الأول إلى قبل الميلاد، جدد مبنى حرمه خلال سنوات 148ـ188م، وزوّد محرابه بظلة لحماية تمثال الربة، وأضيف إلى مدخله بوابة جميلة وأحيط بأروقة تعتمد على أعمدة كورنثية، وإن معبد (بلحمون) الرب الفينيقي أضيف إلى المعابد التدمرية في سنة 89م في أقصى جنوبي تدمر على جبل المنطار. وبني معبد (بعلشمين) وكان يمثل الإله (حدد) إله العاصفة والمطر الذي كان يعبد في سورية. وقد ابتنته قبيلة المعازين بانية معبد اللات وذلك شمالي تدمر وفي بداية القرن الأول، وكان حرمه شبيهاً بحرم اللات، وقد زوّد بباحة شمالية على شكل شبه منحرف وذلك سنة 67م. واستبدل حرمه بحرم جديد سنتي 130ـ131م، وزوّد بمحراب مستدير وزين بأغصان الكرم، وجعلت وراء الحرم قاعة للمآدب الدينية، وأخيراً مدّد رواقه الأوسط برواق جنوبي على شكل شبه منحرف وذلك سنة 149م.

ويقع معبد (نبو) إله الحظ والحكمة جنوبي قوس الظفر وغربي معبد (بل). وقد كشفت عنه المديرية العامة للآثار والمتاحف سنتي 1963ـ1964، وكلفت د. عدنان البني بدراسته وتبين أن قبيلتي بلشوري وإيلابيل كلفتا ببنائه خلال سنوات (80ـ180). ويختص مخططه أنه أيضاً على شكل شبه منحرف (40 متر جنوباً × 100 متر شمالاً × 85 متر شرقاً × 86 غرباً)، وحجومه شبيهة بحجوم جاره معبد (بل) وتتقدمه بوابة بشكل شبه منحرف أيضاً. أما باحته فتحيط بها جنوباً وشرقاً وغرباً أعمدة على جذوعها حمائل لعرض التماثيل.

ويقوم حرم معبد (نبو) على بوديوم (منصة)، وهو موجّه من الجنوب إلى الشمال، وفي صدره (أديتون) المحراب المقدس الذي يحيط به من الشرق والغرب غرفتان على شاكلة (التالاموس) الشمالي من حرم معبد (بل).

وتأثير معبد (بل) التدمري على معابد المدن السورية الأخرى عظيم جداً، ويتجلى باللجوء إلى إنشاء مجموعة دينية معمارية ضخمة تتألف من البوابة التي تتصدر سطوحاً مدرجة ومتعالية بعضها فوق بعض، ويحيط بكل منها أروقة قائمة على عمد تيجانها كورنثية، وتتضمن أحياناً متاجر تزدحم بالزبائن، وتصلح لاجتماع الناس في غايات شتى. أما الحرم في هذه المعابد فيقوم شأنه في كل المعابد الرومانية على (بوديوم) وتتصدر داخله نفس التجويف المقدس (ثالاموس). ونذكر عن هذه المجموعة أمثلة:
يتألف (الأرتيميزيون) معبد الربة أرتميس (اترغاتيس) عند الكنعانيين، في جرش (جيرازا) من بوابة بثلاث فتحات لرواق محمول على عدد من الأعمدة الكورنثية، ودرج يصعد حتى 10 أمتار، وباحة ذلت شكل شبيه بالمنحرف ببعدين 100م×70م، ثم من ثلاثة أدراج أخرى في كل منها سبع درجات تؤدي إلى الباحة الحقيقية المقدسة (التيمنوس) (161م×121م)، المحاطة بأروقة نظمت تحتها الحوانيت. ووسط (التيمنوس) يقوم الحرم على بوديوم وتتصدره ستة أعمدة كورنثية رشيقة. وفي صدر الحرم ما يشبه (التالاموس) الشمالي في معبد (بل). وثاني المعابد السورية الكبرى ذات الحجوم الضخمة معبد جوبيتر في دمشق. وكان هذا المعبد مخصصاً لـ (حدد) رب العاصفة والمطر. وهو يشغل مساحة ذات شكل شبيه بالمنحرف ببعدين 380م×310م، ويبلغ طول أضلاعه الداخلية 1200 متر، ويحد خارجه من الجهة الغربية صفان من الدكاكين التي تتابع في طرفيه الجنوبي والشمالي مؤلفة سوقاً واسعة، وفي طرفه الغربي بوابة واسعة وكذلك في طرفه الشرقي وهي البوابة الرئيسية المقابلة للآغورا.

ويعود البدء في أعمال بنائه إلى عهد الإمبراطورين سبتيموس سيفيروس وكراكلا ويعود الانتهاء منه إلى منتصف القرن الثالث بعد عهد الإمبراطور فيليب العربي.

وأخيراً يمثل معبد جوبيتر (حدد الكنعاني) في بعلبك القمة التي بلغتها العمارة الدينية السورية الضخمة. ويبدأ بالبوابة ذات 14 عموداً التي بناها سبتيموس سيفيروس، ويتقدمها درج ذو 42 درجة. ثم باحة سداسية (كان يمكن أن يكون شكلها شبه منحرف) ضلعه 60 متراً، وباني هذا الشكل السداسي هو الإمبراطور فيليب العربي، فباحة ثانية (تيمنوس) (113م×135م) بأروقة شمالي وشرقي وجنوبي تتابع تحتها القاعات المستطيلة ذوات الأعمدة والمحاريب المزينة بمواضيع زخرفية سورية رومانية.

وأخيراً يأتي الحرم على (بوديوم) ارتفاعه 14م، وهو محاط من خارجه بأعمدة 10×19 بقي منها قائمة (6) أعمدة، وداخله مزين بزخارف غنية جداً وفي صدره (الأديتون) التقليدي.

2ـ الاعتبارات العملية:
منح التدمريون الأولوية من اهتمامهم إلى إعمار معابدهم الدينية بالحجر وأوشكوا على إنهائها عندما زار الإمبراطور هادريان مدينتهم وأطلق عليها اسم: "هادريانا المدينة الحرة" سنة 129م.

وكان ذلك يعني أحد الأسباب التي تبرر اتخاذ برنامج عمراني بغاية توسيع المدينة مما أدى بالتدمريين إلى توجيه اهتمامهم أيضاً إلى بناء عماراتهم المدنية ومنازلهم الخاصة بالحجر، ويجب أن نذكر لكي نتفهم المخطط الجديد الذي اتخذ آنئذ، أن استيطان أرض تدمر جرى في أقدم الأزمان حول محورين بـ 1) نبع المياه العذبة غرباً، و2) نبع أفقا قرب جبل المنطار شرقاً.

ويذكر أيضاً أن أقدم معبد للربة اللات كان أقيم في المنطقة الغربية التدمرية بواسطة قبيلة المعازين، ويظهر أن البرنامج العمراني الجديد شمل شق شارع عريض جداً وجه من الجنوب إلى الشمال بدلاً من مسلك قديم كانت تسير عليه القوافل القادمة من حمص ودمشق عن طريق وادي القبور في طريقها إلى الفرات أو إلى الخليج العربي.

ويبلغ طول هذا الشارع المستعرض 2300 متراً وعرضه 21 متراً. ويحده من كل من طرفيه الشرقي والغربي رواق، ويبدأ جنوباً بباب دمشق ذي الفتحات الثلاث وتمتد مساحة بيضوية وراءه تعرف باسم الفوروم البيضوي،ويشبه هذا الفوروم فوروم جيرازا (جرش) الذي يقع في نهاية (كاردو) المدينة ويشرف على معبد زوس وتنتهي به طريق صحراوية باتجاه مدينة البتراء. والمعتقد أن الفوروم البيضوي التدمري أقدم من فوروم جرش ومتقدم عليه.

وتبين أن للشارع المستعرض التدمري من الكتابات التي وجدت على أعمدته وظيفتين: تجارية تؤيدها الحوانيت العشرون الممتدة شرقي الفوروم ومن بداية الشارع، ودينية من الكتابات المهداة إلى الإلهة شمس واللات ورحم. مما يجعل الباحثين يعتقدون أن القوافل القادمة من بلاد الشام كانت تنظم مواكب دينية تتجه إلى معبد اللات لكي تسترحم حماية الربة قبل إزماعها على اجتياز بادية الشام.

ولما كانت منطقة السكن الغربية محددة بالمدافن والمرتفعات الصخرية لذلك فإن سكانها من أفراد قبيلة المعازين، لم يجدوا لتوسيع مساكنهم إلا الاتجاه شرقاً. ولما كانوا مضطرين إلى البقاء بسبب نبع المياه العذبة، فقد فكروا بجر مياه هذا النبع بواسطة قناة تحت الأرض. وقد أبانت الصور الجوية المؤيدة بأعمال الأسبار أن تخطيطاً اتخذ لرسم جزيرات عشر بأطوال مختلفة وموازية للشارع المستعرض أي أنها موجهة شمالاً ـ جنوباً وتفصل بينها طرقات عرضها 4.5 متر. وتكمل هذه الجزيرات جنوباً جزيرات خمس أخرى لها تقريباً نفس الاتجاه إلا أنها أعرض من الجزيرات الأولى. والمعتقد أن كل الجزيرات خططت نحو منتصف القرن الثاني بعد تعبيد الشارع المستعرض وقبل تخطيط الشارع الرئيسي.

والمنطقة التدمرية الثانية التي زرعت فيها مبان حجرية نحو عهد هادريان تقع شرقاً في نقطة ملتقى القوافل القادمة من الشرق بالقوافل القادمة من بلاد الشام في الوادي المحاذي لجبل المنطار. وهي المكان الذي شيدت فيه (الآغورا) الساحة العامة وملحقها مستودع البضائع.

وكانت الآغورات في المدن الهلنستية تحاط بالمعابد. إلا أن (آغورا) تدمر ليس يجاورها إلا معبد واحد هو معبد (آرصو) الذي اكتشف حديثاً. وهي من النموذج الأيوني أي نموذج آغورات مدن مانيزيا ودمشق ودورا أوربوس. ويحدها أربعة أروقة على شكل مستطيل (84م×71م)، وكان فيها نحو 200 تمثال مرتكزة على أعمدتها وتمثل أعضاء مجلس شيوخ تدمر وقواد فرقها العسكرية وموظفيها الكبار وآمري قوافلها خلال القرن الثاني.

وكانت تبادل البضائع يتم في (آغورا) تدمر. ويضاف إلى وظيفتها التجارية وظيفة سياسية واجتماعية، وكذلك استبقت وظيفتها الدينية القديمة حيث احتفظت في جنوبها الغربي بقاعة المآدب الدينية. أما ملحقها مستودع البضائع فإنه يتبع اتجاهها، وليست فيه أروقة وهو غير مبلط. ويتصل بالآغورا عن طريق أبواب ثلاثة. ويظهر أن وظيفته الرئيسية هي أنه المكان الذي تؤدى فيه المكوس المفروضة على البضائع الواردة إلى تدمر والصادرة منها حيث وجدت قرب بابه الرئيسي التعرفة الجمركية التي أخذها أمير روسي من تدمر في آخر القرن التاسع عشر. وهي محفوظة في متحف الأرميتاج حالياً في مدينة سان بطرسبورغ. ومن المستحسن أن يعاد هذا الأثر إلى تدمر.

ويقع مبنى مجلس الشيوخ شمال الآغورا وملحقها هو الثالث في هذه المجموعة وقد بني أيضاً على نفس المحور وهو مكان مدرج يستوعب 30 شيخاً، وتتقدمه باحة ذات عمد.

ولا أماشي من يعتقد أن القسم الغربي من الشارع الرئيسي يعود أيضاً إلى زمن هادريان وذلك لأن هذا القسم صمم ودون شك مع القسم الأوسط والقسم الشرقي من نفس الشارع. وهما من عهد السلالة الإمبراطورية السيفيرية. ومن جهة أخرى ما كان بالإمكان أن يوجد هذا القسم الغربي قبل نشوء حي الجزيرات.

وقد ابتغى التدمريون من شق الشارع الرئيسي أن يكون في مدينتهم شارع شبيه بـ (كاردو) جيرازا (جرش) أو الشارع المستقيم (فياريكتا) في دمشق، أو الشارع الرئيسي في أفاميا، وكل هذه المدن مدن قوافل، وكذلك كانوا يأملون من العمليات اللازم إجراؤها أن تتوفر لهم أمكنة تصلح ليبنى عليها عدد آخر من المباني المدنية التي لا توجد بعد في مدينتهم. وأخيراً كانوا يستهدفون منها أن تصل معابدهم الرئيسية بعضها ببعض وأن تصلح لسد حاجات تجارتهم الدولية المتزايدة.

وشبه أحد المؤلفين المعاصرين هذه العملية العمرانية بالعملية التي قام بها (هوسمان) عمدة باريس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأدت إلى شق أشهر الشوارع الباريسية. وقد امتدت العملية التدمرية على مسافة 1200 متر، وشملت ثلاثة أقسام:
القسم (ا):
يبدأ من الساحة المسواة شمالي الشارع المستعرض، ويتجه تقريباً غرباً جنوباً على مسافة قدرها (600 متر) حتى ساحة بيضوية فيها مبنى (التترابيل) الذي أعادت المديرية العامة للآثار والمتاحف بناءه اعتباراً من عام 1964. وتشير الكتابات التدمرية على أعمدة أروقة هذا القسم إلى تواريخ (152، 193، 211). والغاية من تنظيمه تجارية ويدل على ذلك الحوانيت الستة القائمة شمالي الساحة البيضوية. ويتفرع من جنوبي الساحة المذكورة شارع منحرف يتجه نحو معبد الإله (آرصو).
القسم (ب):
يغير اتجاهه قليلاً بعد الساحة البيضوية نحو الجنوب الشرقي ممتداً على مسافة قدرها (300 متر) وينتهي بقوس الظفر (التريبيلون). ويحده رواقان قائمان على أعمدة كورنثية محددة ارتفاعها (17 متر). ويبلغ عرضه 25 متراً خصص للشوارع منها (11 متر) وهي غير معبدة لكي لا تتأذى منها قوائم الجمال التي تسير عليها، ولكل رصيف (7 أمتار) تحت كل رواق. ويتفرع من بداية هذا القسم شارع متوسط يؤدي إلى معبد بعلشمين، كما يتفرع من جنوبه فرع يقود إلى مبنى (السيزاريوم) وعلى حد القسم الأوسط الجنوبي يقوم مسرح المدينة، وهو أجمل المسارح الرومانية في سورية وقد بنيت منصة التمثيل فيه على محور موازٍ لمحور السيزاريوم، وهي متصلة بالشارع الرئيسي بواسطة ثلاثة أبواب. أما المدرج نصف المستدير الذي يجلس عليه المتفرجون فيحوي 12 درجة ومدخلين جانبيين. وأخيراً يقع شرقي المسرح بناء بنفس المحور يظن أنه كان قصراً لأحد سادات تدمر.

ويلاحظ أن مجموعة الآغورا المعمارية ليس لها محور مجموعة المسرح، ولكي ينسق بين المجموعتين عمل المهندسون التدمريون على إيجاد ساحة نصف دائرية حول المسرح وأقاموا في أطرافها رواقاً بأعمدة، ثم شقوا شارعاً منحرفاً من وسط الساحة وجعلوا اتجاهه يتبع نفس محور الآغورا وأوصلوه إلى أحد أبراج المدينة الجنوبية. ويظن أن هذه الساحة الكبرى كانت تستخدم لتجمع المواكب الدينية التي تقصد معبد (بل) أو لتجهيز القوافل قبل مغادرتها المدينة أو لاستعراض من الفرق العسكرية التدمرية.

وفي شرقي القسم (ب) من الشارع الرئيسي يوجد معبد (نبو) وكان الخاسر الوحيد من العملية العمرانية الكبرى إذ اقتطع من شماله جزء هام. وقد عوض على كهنته بتمكينهم من بناء واستثمار صف من الدكاكين مفتوحة على الشارع الرئيسي. وهذه الدكاكين الأحد عشر تشبه (23 دكاناً) بنيت تحت الرواق الجنوبي و(29 دكاناً) بنيت تحت الرواق الشمالي مما أكسب القسم (ب) وظيفة سوق تجارية هامة لعرض وبيع البضائع المستوردة من الشرق والغرب.

ويقع شمالي (التريبيلون) حمامات ديوقليسيان بأقسامها: المشلح والبارد، والدافىء والساخن.
القسم (ج):
يتجه بعض الشيء إلى الجنوب نحو بوابة معبد (بل)، ويعود عهد بنائه إلى فاتحة القرن الثالث، ويعتقد أن انجازه توقف ولم ينه.

3ـ البديع العمراني التدمري:
لا نعتقد أن البديع العمراني لتدمر كامل. إذ تنقصه عدة معالم. لأن الحفريات الأثرية التي جرت -على كثرتها- لم تؤد إلى الكشف عن كل المباني المعروفة في المدن السورية المعاصرة، كقاعة الاجتماع والمحاكم (البازليك) وقاعة الاستماع (الأوديون) والملعب (الجيمناز) وملعب السباق (الهيبودروم) ومسرح المصارعة والقتال (ضد الوحوش) (الأمفيتياتر) وغيرها. ولعل السبب أن مثل هذه المباني لم توجد أصلاً في تدمر أو أنه لم يعثر عليها حتى يومنا هذا.

وكل الباحثين الذين عملوا في تدمر مدة طويلة يشعرون شعوراً خفياً أن هذه المنطقة الأثرية الفريدة مازالت تحتفظ بقسم وافر من أسرارها وأنها تهيئ كثيراً من المفاجئات للمستقبل.

والنتيجة أن العمران التدمري هو من الحقائق المعقدة جداً، لأنه ليس هلينستياً ولا رومانياً بل مزيجاً من العمرانين مع أصالة سائدة بوضوح ما بعده وضوح يرجع السبب فيها إلى تأثير تدمر المدينة الصحراوية الواقعة على تخوم سورية الشرقية.

وقد أظهرت هذه المدينة كثيراً من المرونة لدى انصرافها لبناء مبانيها العامة الدينية والمدنية والخاصة، وذلك إزاء القواعد العمرانية العالمية التي احترمها كثير من المدن الأخرى. أما هي فكان يشوبها شيء من النقد نحوها لأنها اتخذت لبيئات غير بيئتها ولم تقبل أن تتخذ المخطط المتعامد على الطريقة الشطرنجية باتجاهين نحو الجهات الأصلية وتبعاً لمحاور للسير المميز على الطريقة الرومانية. إذ أنها لو فعلت ذلك كجارتها دورا أوروبوس لنالها كثير من الأذى بسبب شدة الحرارة وهبوب الرياح العاتية والتضاريس الطبوغرافية. ثم لاضطرارها لأن تبقى ملتصقة بواحتها وألا تبتعد عنها ـ وتفسر كل هذه الأسباب أن محاور مبانيها كانت كثيرة. ولا يشكل هذا عيباً لأن معظم المدن الإغريقية ـ الرومانية تكثر فيها الاتجاهات العمرانية حتى في روما نفسها.

أما ما يتعلق بالانتظام الهندسي الذي انتقد بعضهم فقدانه فيها فإن المهندسين التدمريين آثروا وفقاً للآراء التي شرحناها أن يجزئوا المناظير ويعالجوا على حدة كل جزء من الفراغ وذلك بتحديد النظر عن طريق تعدد المباني والعناصر الزخرفية. وهو ما يؤلف باعتقادي أصالة العمران التدمري الأولى.

ونضرب مثلاً عن ذلك بالشارع الرئيسي إذ أن قطاعه (آ) ينتهي بمنظور المعبد الجنائزي، وقطاعه (جـ) ينتهي ببوابة معبد (بل)، أما الانحرافان اللذان وصفناهما فإن المهندسين التدمريين ابتكروا مبنيين أصليين في منتهى الجمال لتبريرهما. الأول (التيتراكيون) الذي يشبه (التيترابيل) في مدن جيرازا وأفاميا واللاذقية وأنطاكية إلا أنه يتألف من أربعة زوايا في كل منها أربعة أعمدة في وسطها تمثال. والثاني قوس الظفر (التريبيلون) ذو الواجهتين لمقابلة اتجاهين منحرفين. ولا أعرف مثيلاً له إلا في مدينة جيرازا يتجلى في قوس الظفر لهادريان، وفي مدينة لبتيس ماغنا الطرابلسية خلال مجموعة الفوروم والبازليك من عهد سبتيموس سيفيروس. والمثلان المذكوران يقلان جمالاً عن المثل التدمري.
وتتعدد المواضيع الزخرفية الأخرى في الشارع الرئيسي. كسقايات ثلاث في بدايات القطاعات (آ) و(ب) و(ج) وكل منها يتألف من بناء نصف مستدير يحيط به محرابان وأمامه أربعة أعمدة ويضاف إلى كل ذلك غابة من التيجان الكورنثية القائمة على ما يزيد عن (375) عموداً في كل من الرواقين الشمالي والجنوبي. وكلمة الانتهاء أتركها للمؤرخ (فولني) الذي ذكر عن تدمر في القرن الثامن عشر "ويجب أن نعترف أن العصور القديمة لم تترك لا في بلاد اليونان ولا في ايطاليا ما تمتاز به أطلال تدمر من بهاء"


سليم عبد الحق أندريه عبد الحق

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق