تلمّس المشترك في السرديات المختلفة والمعنى الإنساني فيها 27/تشرين الأول/2008
كان أول من صاغ مفهوم أدب العالم الألمان، وتحديداً غوته الذي كان يحلم بـ «welt-litteratur» كما نادى بضرورة تطوير هذا المفهوم في حين راح الأنغلوسكسون يدافعون عن «world literature» فيما أمنيات الفرنسيين كانت بـ«LitteraTure-monde». هذه العالمية التي تبدو كلمة رائعة غير أنه من الصعب تلمّس مضمونها. ذلك ما توصل إليه الكاتب الفرنسي كلود كوست من خلال محاضرة له في المركز الثقافي الفرنسي مؤخراً حول أدب العالم بمناسبة عيد القراءة وهي تظاهرة تطلقها وزارة الثقافة الفرنسية في خريف كل عام في نحو مئة وخمسين بلداً.
لكن ورغم صعوبة تلمس مضمون أدب العالم فقد وجد كوست عدداً من المقاربات لهذا المفهوم، منها إن الأدب العالمي هو المشترك بين الإنسانية كلها والتي لا تزال لديها أسئلة واحدة عن الموت والألم والسلام وغير ذلك، والأدب العالمي هو ما حقق جملة من الشروط التي تسمح بالتقارب هذه الشروط أو الآثار قد تكون في المشترك بيننا في ما ورثناه أو في ما قد نبتكره مستقبلاً؛ وإذا كان كل كاتب يكتب واقعه المعيش فإن حاصل هذه «المعيشات» قد تكون أدباً عالمياً وحتى الخيال والتخييل الذي يجده ديكارت أقرب إلى الكولاج يمكن أن يكون إنسانياً ومن ثم أدباً عالمياً وحتى أيضاً عندما يشتغل الأديب على المعيش من الحياة اليومية ومن ثم يعيد تصنيعها من جديد كل ذلك يفتح أبواباً لآداب عالمية.
من هذه المقاربات قرأ كوست الأدب الفرنسي والأدب الفرانكوفوني والعلاقة المريبة بينهما بين الانفتاح والانغلاق والهيمنة، وبين الأدب العالمي الذي يخرج عن السياقات المحلية وينتمي إلى الآداب العالمية ويخاطب الإنسانية قاطبة.
يذكر كوست أن ثمة من يأخذ على الفرنسية أنها تمارس تمييزاً بين أدب فرنسي وآخر فرانكفوني، وهناك سيطرة وهيمنة للأول على الثاني!! ففرنسا كما يؤخذ عليها تمارس هيمنة على الفرانكوفونية وتريد إطالة تاريخاً استعمارياً هو في الأساس بائد رغم أن ما كتبه كاتب جيبوتي ذات مرة من أن الأدب في فرنسا ليس إلا جزيرة تنشد وسط أرخبيل من اللغة الفرنسية؛ هذه حقيقة لكن الحقيقة التي يقر بها كوست أن الكثير من الفرنسيين يجهلون غالبية الأدب الفرانكوفوني، وإذا كانت فرنسا قد اتهمت بالقومية المحتقرة فان هذه التهمة يجب أن توجه للعوائد الفكرية التي أنتجتها سوء النوايا، ويعود ذلك لأن فرنسا كمركز قوى اقتصادية واجتماعية متفوقة على الدول الفرانكفونية، وذلك قبل أن تكون واقعاً أيديولوجياً، إذ احتلت فرنسا موقعاً متقدماً لأن ما يجده الفرانكوفوني في باريس أقوى بكثير مما يجده في بلده والأمر يشبه بريطانيا في عالمها الانكليزي مع دول الأنغلوسكسونية، وهذا ما يمكن أن تفعل فرنسا ما يعاكسه، أي أن تبادر لمساعدة الثقافة الفرانكفونية، غير أن «الجناة» ليسوا دائماً من فرنسا ـ يضيف كوست ـ فثمة كتاباً فرانكوفونيين انغلقوا ضمن جماعات ونادوا بها بعيداً عن الفرنسية والفرانكفونية ومن هنا كان اختزالهم للآداب إلى تراثية وفلكلورية.
الآداب سواءً كانت فرنسية أو فرانكفونية ليست توثيقاً وحسب بل هي انفتاح الآداب الفرانكفونية من الجزائر إلى كندا إلى فرنسا على بعضها ومن ثم على الأدب العالمي كله
وهذا ما يطلبه كوست من الآداب كافة في عدم النكوص إلى الجذور وحسب أو الانغلاق ضمن التراث فقط ورولان بارت على سبيل المثال يسخر من كتّاب أسطوريات أيديولوجية من أن الإنسانية هي وعاء واحد، غير أن البحث في الطبيعة الإنسانية موجود في الآداب العالمية كلها قديمة ومعاصرة ومنذ تراجيديات أرسطو، ويرى كوست أن الإنسان يحكي القصص ولا يضعها، والمشترك بين السرديات حتى الموغلة منها في القدم هو قدرة الإنسان على إضفاء المعنى على ما يسرده.
وإذا كان ثمة كتّاب لا يكتبون إلا ما عايشوه فان هذه المعيشات أيضاً يمكن أن تضع أدباً عالمياً، وإذا كان العالم اليوم يتعولم فإن الأمة لم تمت أيضاً. من هنا فإن كوست يقر بضرورة عدم التضحية بالأدب الفرنسي لكن دون إغلاق الأبواب تجاه الكتابة المعاصرة من أية جهة قدمت، وهنا لابد من التوازن الصائب بين الحفاظ على التراث مثلاً والانفتاح على الحقول الإبداعية.
العالمي هو إذاً المشترك بيننا، والإنسان لا يمكن أن يوجد خارج ثقافة ما، فيها ثمة شيء مشترك مع الآخر.
|