الفن والجنون لؤي كيالي نموذجاً

26 02

محاضرة لسعد القاسم في الثقافي الفرنسي بدمشق

ضمن سلسلة محاضرات «بين الفن والجنون» التي يقدمها المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، ألقى الصحفي والناقد التشكيلي سعد القاسم محاضرة عن الفنان السوري الراحل لؤي كيالي، مؤكداً فيها على العلاقة الوثيقة بين الفن والجنون تاريخياً، وأن الجنون الإبداعي ليس هو الجنون المتعارف عليه بين أوساط العامة إنما هو غرابة الأطوار، وأن أزمات المبدع الحقيقي تكون شديدة الحساسية تجاه كل ما يحيط به من حياة الآخرين.

استعرض القاسم بدايةً ثلاثة نماذج من الفن التشكيلي العالمي، ممن عرفوا بغرابة أطوارهم، وهم: فان غوخ، وسلفادور دالي، وفرانشيسكو غويا. وعن فان غوخ يقول القاسم: «في عام 1990 وبمناسبة مرور 100 عام على رحيل فان غوخ نشر أحد الباحثين الأمريكيين دراسة يؤكد فيها أن حادثة قطع فان غوخ لأذنه لم تكن إلا لإصابته بالتهاب في الأذن فأراد أن يتخلص من ألمها، ما أثار ردة فعل عنيفة عند الناس ممن رسخت في ذهنهم صورة غوخ المبدع الذي قطع أذنه وأهداها لفتاة يحبها، لأنه كان يعيش حالة جنون إبداعي وقلق نفسي دائم، وهذا بالفعل ما يظهر من خلال لوحاته وضربات ريشته».


ويعتبر القاسم أن دالي افتعل غرابة الأطوار طلباً للشهرة، واستعرض هنا مراحل حياته ليؤكد وجهة نظره، فدالي بدأ واقعياً، ثم انتقل إلى التكعيب، وبعدها إلى التجريد، ليحط رحاله في السيريالية، والسيريالية أتت رغبةً من دالي في لفت الانتباه إليه.

وعن غويا يقول: «انتقل غويا من حياته الأنيقة وطريقته الواقعية في الرسم إلى شيء من الهذيان الفني والنفسي الذي ساد لوحاته أخيراً، نتيجة تأثره بمحاكم التفتيش المقامة في أوروبا ذاك الزمن، وخسر غويا مكانته كرسام البلاط الملكي الإسباني مما أجبره على الهرب نتيجة لمواقفه».
يستعرض القاسم حياة هؤلاء الفنانين الثلاثة مع مجموعة من أعمالهم، مشدداً على أثر الظروف الاجتماعية في مسيرة حياتهم الإبداعية، كمقدمة للدخول في تجربة لؤي كيالي.


كيالي، الحياة الكثيفة

استعرض القاسم حياة لؤي كيالي منذ الولادة في حلب سنة 1934 وظهور الميول الفنية لديه في سن مبكرة قبل بلوغه العاشرة. ففي عام 1952 أقام كيالي معرضه الأول والتحق بكلية الحقوق بعد نيله الشهادة الثانوية، لكنه تقدم إلى منحة لإيفاد الطلاب إلى روما عام 1956 وحصل عليها عام 1957. التحق كيالي بكلية الفنون الجميلة وانضم بعدها إلى نادي البندقية لينال عن لوحته «البندقية» إحدى أرفع الجوائز في إيطاليا، وتُظهر لوحة كيالي كما استعرضها القاسم مدى الاستقرار والبساطة التي كان يطلبها ويرغب بها كيالي.

اصطدم كيالي في إيطاليا بأحد أساتذته ما أدى إلى انتقاله من قسم الرسم إلى قسم الزخرفة الذي تخرج منه ليعود إلى سورية عام 1961 ويبدأ التدريس في مدارس حلب ودمشق ثم في كلية الفنون الجميلة.

أحب كيالي إيطاليا التي درس فيها وبنى مع الوسط الفني التشكيلي فيها مجموعة علاقات أتاحت له إقامة عدد من المعارض خلال الأعوام 1963- 1964 -1965، وكانت لوحاته في تلك المرحلة تمثل تعبيراً إنسانياً بشكلها المطلق المجرد إذ اشتهر برسم الوجوه وبالذات الوجوه النسائية الجميلة.


واعتبر القاسم في حديثه أن مرحلة الستينيات هي المرحلة المفصلية في حياة كيالي، إذ أقام معرضه في سبيل القضية عام 1967، وهو عبارة عن 30 لوحة مرسومة من الفحم تُلخص المعاناة الفلسطينية، وقد جاب بهذه اللوحات محافظات سورية كلها، وشاءت الأقدار أن تشتعل حرب حزيران والمعرض لا يزال قائماً، ما أثر في نفسية كيالي فأحرق اللوحات كلها وأحرق أرشيفه الصحفي، ودخل في أزمة نفسية أدت إلى تركه التدريس، وانتقاله إلى بيروت لمواصلة العلاج الذي استمر قرابة سنة ونصف، عاد بعدها إلى حلب ليستقر فيها وهو مجروح من بعض النقاد الذين اعتبروا تحوله إلى الرسم في القضايا الوطنية تحولاًً انتهازياً متناسين القيمة الفنية العالية التي تركتها تلك اللوحات.

استمرت تداعيات الأزمة النفسية على حياة كيالي حتى قيام حرب تشرين عام 1973، فاستعاد بعدها صحته النفسية وعاد لرسم لوحات مختلفة عما رسمه في مراحل سابقة، واستطاع التوصل إلى تقنية جديدة في الرسم وهي الرسم على الخشب المضغوط، كما انتقل خلال تلك الفترة إلى الاهتمام بالمساحات اللونية الشاسعة والاهتمام برسم الوجوه وتفاصيلها، واستعرض القاسم بعض لوحات كيالي التي تنتمي لهذه المجموعة ومنها:

«مرممو الشباك» و«ماسح الأحذية» و«حلاق القرية» و«عازف الناي» و«عازف العود» و«بائع اليانصيب».


وحسب القاسم فإن الناقد صلاح الدين محمد يعتبر أن الفترة من 1973 إلى 1976 هي الفترة الذهبية في حياة كيالي، إذ رسم فيها كثيراً من لوحاته الهامة، واهتم بالمشاهد الجميلة، والزهور، والطبيعة، والعناية بالتفاصيل عارضاً كدليل على هذا لوحة «الشقيقتان».

بعد هذه المرحلة عاد كيالي ليدخل أزمة جديدة لأن المجموعة الفنية المحيطة به انفكت عنه، فهاجر بعضها وترك بعضها كيالي لأسباب أخرى، ففكر بالعودة إلى إيطاليا وعاد فعلاً إليها في عام 1977، لكنه اكتشف أن ما تركه هناك لم يبق على حاله، فالوسط الثقافي والتشكيلي تغير ودخلت التجارة إلى العمل الفني بقوة، هنا دخل المرحلة الأخطر من أزمته النفسية وبدأ في تناول الحبوب المهدئة، وبعد إصابته بحروق خطيرة نتيجة احتراق مرسمه عام 1977، توفي كيالي بعد حياة كثيفة استمرت ما يقارب 44 عاماً قضاها مبدعاً وفناناً ذا حساسية عالية.


عمر أسعد

اكتشف سورية

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق