السياسي فخري البارودي: محبوب دمشق ومحجة الفنانين

08 كانون الأول 2013

.

كلما اقتربت من دمشق قديمة.. كلما اقتربت من حي القنوات.. تعبق بين ثناياك رائحة الفل والياسمين، ويطل عليك فخري البارودي مرحّباً ومؤهلاً..

هل منا من يتذكر فخري بك البارودي!؟ لا يكاد يعرفه في دمشق ربع من كانوا يعرفونه يوم وفاته «على حد قول دعد الحكيم» ومن يعرفه الآن قد يعرفه بالاسم فقط! في يوم ما وزمن ما كان فيه فخري البارودي مالئ الدنيا، وشاغل الناس غنيّهم وفقيرهم، سادتهم وصعاليكهم..

فخري البارودي ظاهره لم تتكرر في تاريخنا، تحتار أين تصنفه هل هو سياسي، عسكري، صحفي، شاعر، موسيقي!؟ تضيق عليه كل الأوصاف ولكنه كان يحب لقبه الذي كنَاه به أهل الشام «شيخ الشباب».

هو فعلاً شيخ الشباب والوطنية والإبداع.. أعطى الوطن الكثير من ماله وجهده ونضاله وعذاباته، ولم يأخذ منه سوى الانتماء وهذا ما كان يحلم به، أن يكون جزءاً من ورد الشام وعبق ياسمينها وأريج زهر ليمونها..

في ذاك الزمن قيل في هذا الزعيم الوطني الكثير وتحدث عنه الكثير الكثير، الشاعر العربي الكبير معروف الرصافي قال: «من شاء أن يعز بلاده فليسمع سعي معزها البارودي»، وسليم الزركلي الشاعر المعروف قال: «يا فخر جلق يا إنسان عالمها، يا نسراً في مراقي العز والشان»، في حين قال الشاعر عبد الرحيم الحصني: «فخري! وأية نفس أنت حاملها، وهل تلمها في الناس إنسان»، ورثاه أحمد الجندي فقال: «سأذكر ما بقيت وداد صدق، نعمت به وقلباً كان براً وعلماً يملأ الأجواء نهماً وآداباً مزوقة وفكراً»..

فخري البارودي
معتدل القامة، يميل إلى النحافة، بني الشعر والعينين، أحمر الوجه، وسيم، سمح الملامح، لا تفارق البسمة وجهه، ولا السخرية الفكهة حديثه هذا هو فخري بن محمود بن محمد حسن بن محمد الظاهر الملقب البارودي الذي قدم إلى دمشق في سنة 1775 م من فلسطين، أما نسبه من جهة والدته فهو ابن نظيرة ابنة أمين بن سليمان العلمي المعروف «بالكيلار أميني» وهو من القدس.

ولد فخري بدمشق يوم الخميس 30 آذار سنة 1886 م، وهو الذكر الوحيد لوالديه إلى جانب ابنتين إحداهما هي سانية البارودي، تربى فخري الطفل على الدلع والدلال، ونشأ تحيط به هالة من الأرستقراطية والترف، تعلم في مدارس دمشق وسافر إلى فرنسا سنة 1911م للتخصص في الزراعة فلم يتابع الدراسة وعاد إلى دمشق واشترك في الجمعية العربية «الفتاة»، وكان من أهم رجالات الكتلة الوطنية، ساهم في الحرب العالمية الأولى برتبة ملازم ثان في الجيش التركي، وأسر في بئر السبع، ونقل إلى مصر، والتحق بجيش الشريف حسين، وعين مديراً للشرطة وقائداً لموقع المقر الأميري، ورافق الأمير فيصل في تنقلاته، وزار الهند لتأليف فرق من المتطوعة لمعاونة الثورة العربية على الحكم العثماني، وعاد إلى دمشق فانتخب نائباً عنها في الجمعية التأسيسية سنة 1928م، وفي المجالس النيابية من سنة 1936م إلى سنة 1943م، ونائباً عن دوما في سنة 1947م، تزوج من ابنة أحمد الدالاتي عام 1911م واستمرت حياته الزوجية اثنين وأربعين عاماً.

حين تسلمت الكتلة الوطنية الحكم في سورية في عام 1936، قام فخري البارودي بتأسيس فرق القمصان الحديدية أو الحرس الوطني، وهي منظمة شبه عسكرية، ويعاونه في ذلك عدد من المثقفين، وكانت على غرار منظمات الفتوة العسكرية في العالم، أُريد لها أن تكون دعامة الجيش السوري المقبل. وكانت تدريبات هذه الفرقة تجري في شوارع دمشق وتقابل بالترحيب والهتاف. ومن مآثر البارودي أيضاً دعوته إلى «مشروع الفرنك» الذي يقضي بأن يدفع كل مواطن فرنكاً سورية واحداً كل شهر، يُنفق في سبيل الدعاية للقضية العربية في الخارج. وكان من أعماله البارزة الأخرى دعوته إلى مقاطعة البضائع الأجنبية مقاطعة تامة.

ساهم بأوفر قسط في كل حركة وطنية، وشارك في النهضات الاقتصادية والاجتماعية والفنية والأدبية في البلاد، وعرف في جميع الأوساط بلقب «شيخ الشباب» أو «زعيم الشباب»، اصدر مجلة فكاهية كاريكاتورية باسم «حط بلخرج»، اعتقل عدة مرات ونفي خارج دمشق نتيجة لمواقفه الوطنية ضد المستعمر الفرنسي، انفق ثروته الطائلة في سبيل بلاده، ونال رتبة رئيس من الجيش العربي، ورتبة مقدم في الدرك السوري، ورتبة عقيد فخري في الجيش السوري، كما نال عدة أوسمة عثمانية وسورية ولبنانية، كتب كثيراً من المقالات وألف عدة كتيبات في مواضيع أدبية وفنية وتاريخية واجتماعية وسياسية منها كارثة فلسطين، رسالة ابن غوريون إلى حزب الماباي، السفور والحجاب، اقرأ وفكر واحكم، إضافة لمؤلفات عديدة، شعرية ونثرية، تشهد على ثقافته الواسعة.

وفاته
«مات وجه دمشق، مات كرم دمشق، مات أناقة دمشق، مات وفاء دمشق، مات ظرف دمشق، مات إنسانية دمشق، مات المساهم الأكبر في استقلال سورية، والمساهم في استقلال البلاد العربية، مات المتفقد للمعوزين والمستورين من دمشق، مات العطف واللطف في دمشق، مات محبوب دمشق، مات كعبة الظرفاء، مات محجة الفنانين، مات مقصد الأدباء، مات من لا تموت ذكرياته، مات من لا ينتهي الكلام عن مزاياه، مات زعيم الشعب، مات حبيب الأكابر والصعاليك، مات من لا تموت ذكرياته، مات من لا تكفي الدموع لبكاه، مات في دمشق، مات فخري البارودي»، بهذه الكلمات ودع الشاعر العربي الكبير أحمد صافي النجفي زعيم الشباب يوم امتدت يد القدر لفخري البارودي يوم الإثنين الثاني من أيار عام 1966 م.

مرض البارودي في أوائل سنة 1966 م، فنقل إلى مشفى المواساة وبعد فترة زمنية توفي ودفن في مقابر الأسرة في مقبرة باب الصغير عن عمر يناهز الثمانين من العمر، وقامت دمشق عن بكرة أبيها تودع شيخ شبابها وزعيمها وظريفها، ويصف نجاة قصاب حسن ذلك اليوم الحزين الذي عاشته دمشق: «تجمع الألوف من أبناء دمشق أمام جامع بدر في أبو رمانه في انتظار قدوم الموكب من دار شقيقته في حي المهاجرين، وحملت جنازته لا على الأكف بل على رؤوس أصابع العشرات من الشباب من أبناء وأحفاد الجيل الذي قاده فخري البارودي، خشعنا وأحسسنا أننا على وشك أن نواري قطعة من نفوسنا ومن ماضينا، بهية محببة - ودمعت عيون كثيرة كان الدمع فيها جف من زمان طويل».

صلي على جثمانه في جامع بدر وصلي عليه مرة أخرى في الجامع الأموي، وما حدث قط أن صلي على أحد قبله صلاة الجنازة مرتين.

وليس بسر أن هذا الزعيم الوطني ولد مليونيراً، ومات مفلساً تماماً، ففي أيامه الأخيرة من سنة 1966 كان يعيش على حساب الدولة.


شمس الدين العجلاني

الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق