معبد بل
أصل بل
تم تكريس معبد بل، هذا المعبد الصامد إلى الآن، في عام 32م في عهد الإمبراطور تيبيريوس.
في المكان نفسه وعلى ارتفاع أعلى من باحة المعبد في العصر الروماني، كان يتوضع معبد أكثر قدماً. وقد توارى هذا المعبد القديم نهائياً أثناء أعمال تشييد المعبد الجديد.
وبين اللقى والكسر العديدة المكتشفة في المعبد تم إيجادُ نقشٍ يحتوي على ذكرى تكريسٍ قام بها كهنة بل في عام 44ق.م.
بعد سنوات قليلة، وفي عام 33 ق.م قام تدمريّان بتكريس معبد صغير خارج أسوار دورا أوروبوس، مخصّصٍ للإلهين بل ويرحِبول.
هذه هي أقدم المعطيات التي نملكها عن عبادة بل الإله التدمري.
وبكل الأحوال يمكننا الاعتقاد بأن الإله بل كان له حضوره في تدمر منذ نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، فيما إذا كانت الوثيقة التي تم التعرف إليها صحيحةً، وفيها ذكر لرجل تدمري كان قائداً للقوافل العربية لأنطيوخوس الثالث في معركته في رافيا عام 217 ق.م. هذا الرجل يدعى «زبدي بِلْ» ومعناه «هبة بل» وهذا الاسم لم يكن معروفاً إلاّ في تدمر، حيث كان اسماً شائعاً.
إن الأمور الخلافية بالنسبة لتدمر منذ بداية الألف الثاني قبل الميلاد، لا تنحصر بنشوئها وقِدَم العبادات فيها فقط، وإنما بعدم عثورنا على أية آبدة حتى الآن تعود لتلك الفترة نستطيع من خلالها معرفة ما كان عليه الحال في تلك الأزمنة الغابرة.
إن اسم بل ليس سورياً، بل هو أكادي، ويشير أولاً إلى بل-مردوخ، كبير آلهة بابل. وكان التدمريون «على الأرجح» يطلقون هذا الاسم الشهير على إلههم المحلي، كما يتبدى ذلك أيضاً في حالة بعض العبادات السورية الأخرى لبل. وفي تدمر، كان هذا الإله على الأرجح يدعى بول.
لم يستمر استخدام اسم «بول» في تدمر إلاّ ضمن أسماء العلم، وفيما بعد أصبح يُذكر بشكل متزامن مع إسم «بل» مثل: زبْدي بول وزبْدي بل... الخ.
ومع ذلك حافظت عدة آلهة تدمرية على اسم «بول» مثل: يرحِبول وعجلبول، وبولاستر، وبورّواونوس.
ما يزال أصل اسم «بول» مثار نقاش، ولكن من المؤكد أن وجوده كان سابقاً لفترة قدوم الآراميين إلى تدمر في حوالي نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد.
هيئة بل
إن بل، رب غير ملتحٍ مثل جميع آلهة تدمر، باستثناء بعلشمين وشدرافا ذوي اللحى، والمرجّح أصلهما الأجنبي. وقد كانت الآلهة ملتحية في بلاد ما بين النهرين وفارس، حتى خلال العصر الهيلنستي.
ينتمي الوجه الأمرد للآلهة في تدمر إلى الأسلوب السوري، حيث أن جوبيتر الشمسي هو أيضاً غير ملتحٍ، دون أن نميز بوضوح منبت هذا التقليد.
يبدو بل على الدوام واقفاً ومدرعاً ومنتعلاً جزمة، ومتدثراً بمعطفه المنسدل، ويعتمر قبعة في أغلب الأحيان، وشعره متوج بإكليل تتوزع ذؤاباته بشكل عام على رأسه يميناً ويساراً. وهذا الأمر مرده إما لمفهوم مرتبط بالتصوير الجبهي، أو أن وثنه كان يضع إكليلاً معدنياً حظي توزيع ذؤاباته بالإعجاب، ويحيط برأس بل أحياناً هالة منبسطة ويحمل سيفاً على جنبه ويستند بيمناه على صولجان، وأحياناً يمسك كرة بيسراه.
ماهية بل
تُصوَّر بعض «التيسيرا» (وهي بطاقات الدعوة للمشاركة في الولائم المقدسة) الإله بل يحمل بيده غصناً أو غصنين من أوراق الشجر، وتعطيه صورة الإله مشحيا إله ثروة الزيتون، كما تصور تيسيرا أخرى، أرسلها كهنة بل، شجرة جذعها كثير العقد، وورقها مليء بالحبات، وهي ليست سوى حبات زيتون، ولابد أن هذه التيسيرا كانت ترسل لاحتفالات لها علاقة بالزيتون. ونلمس هنا مظهراً عميقاً للغاية، وبالغ القدم بكل تأكيد من دنيا الواحة. ولكن هذه التيسيرا هي الوحيدة التي تدل على بقايا مماثلة من عبادة بل. إذ إن جميع الأوابد الأخرى، أظهرته كإله كوني مطلق يحكم آلهة الشمس والقمر، فالمنحوتات التي تزين عرش وثنه، تصوره سيداً للنباتات وللسماء المرصعة بالنجوم والأبراج، وبالنتيجة سيد القدر الذي يقود العالم. والنصوص الإغريقية تمنحه اسم زيوس، وربما استعملوا له الصورة الذي عرفها في أفاميا بيلوس. ولهذا على الأرجح جرى جمعه مع نيميسيس، التي أصبحت في ذاك الوقت سيدة المصير الكوني. يبدو أن هذا المفهوم الممجد للإله قد أخفى كل ما كان يمكن أن ينبئنا عن طبيعته الأصلية.
ثالوث بل
ظهر الثالوث للمرة الأولى في عام 32م في النقش الكتابي التذكاري لتكريس المعبد المنذور إلى بل ويرحبول وعجلبول. وما تزال جميع صور الثالوث هذه تبدو أحدث من وقت تكريس المعبد. ولاشيء يبرهن إذاً حتى هذه الساعة، أن تشكيله أقدم من المعبد.
على كل حال، يبدو جلياً أن الثالوث المكون بصورة منطقية، وكذلك القوائم الفلكية المتناغمة جداً، والتي كانت تستخدم كزخرفة لمعبده، تعكس عقيدة عميقة. وكانت اللاهوتية النجومية التي تلهم المتعبدين هلنستية المنشأ، وهذا يشهد أيضاً على المجازفة التي ربما اختطها الثالوث في القرون السابقة حيث كانت سوية المعارف أقل.
يبدو أن الثالوث قد ظهر في التاريخ ما بين عامي 33 ق.م و32م. وهذه الفترة التي دامت 65 عاماً في تدمر، شهدت بكل تأكيد حدوث تغيرات عميقة. والمدينة كما كانت قبل القرن الأول، لم تترك أي أثر آبدي، ما عدا الأجزاء المتواضعة، وبالأحرى القروية، من المعابد القديمة لبل وبعلشمين ونبو، كما لم تكن تحتوي بالتأكيد على أية صروح مبنية من الحجر. وقد استهل النشاط الآبدي لمعمارييها من خلال معبد بل الجديد، والذين كلفوا مباشرة بمهمة بناء هذا المجموعة الفخمة. وتدلُّ الموارد التي استنفذها هذا المشروع كلياً، على منافع التجارة القوافلية وعلى طابعها الفجائي. فخلال فترة زمنية قصيرة من السنين، وجدت تدمر نفسها، وبفضل السلام الروماني وشهية العالم الغربي المتنامية تجاه المنتوجات الشرقية، قادرة على تحقيق هذا البرنامج الطموح. إنما لا يكفي وضع مشروع معماري لبناء معبد، إذ يستلزم الأمر أيضاً وضع مشروع ديني على القدر نفسه من الطموح، لا يشتمل فقط على رجال الدين العديدين والطقوس التي سيستلزمها الهيكل الجديد، بل أيضاً على الأوثان التي قد يحتويها، والزخرفة الرمزية المحيطة بهم. على الأرجح يرجع هذا النظام اللاهوتي النجومي الخاص، إلى هؤلاء الكهنة المكلفين بوضع توجيهات جديدة. فأولئك هم من قرر إلباس العبادة العامة بمظهر الثالوث، كي تأخذ شكلاً متوافقاً مع الكون الفائق التنظيم، كما تصوره العالم الهلنستي. وهذا ما حصل عندما توصلوا لبناء هيكل جديد، إذ أحس التدمريون بضرورة تكريس أنفسهم لعبادة حديثة جديرة بإشعاعهم الجديد ومتواءمة مع معارف زمنهم. فالفكر الذي يتبدى هنا هو الفكر الذي تشهد عليه الموضوعات الفلكية في القبر الملكي في مقاطعة كوماجين. وهذان العملان متحدران من نفس الإلهام.
وتكتسب هذه الفرضية، التي يرقى فيها ثالوث بل إلى القرن الأول تقريباً، بعض المصداقية حينما نتأمل إبداعاً لاهوتياً تدمرياً آخر، ألا وهو ثالوث بعلمشين.
بل والشمس
اشتهر بل أيضاً في بعض الأعمال بأنه إله شمسي، بكله أو بجزئه. وعدا استثناء وحيد، فإن الأوابد العديدة لعبادة بل، لا تعطيه رموزاً شمسية، فالإله ليس له أبداً الهالة المشعة، حتى عندما يميز هذا التزيين قرائنه، ولم يدعَ أبداً بالاسم الشمس أو هيليوس. وتبين تيسيرا وحيدة عليها اسم بل وشَمَش، على وجهها الخلفي، تصويرين يمثلان النصف العلوي لشخصين، لهما هالة مشعة، متقابلين في القاعدة، بحيث تشبه الهيئات الموجودة على ورق اللعب في أيامنا، واحدة منها تصور النصف العلوي لشَمَش، والأخرى على الأرجح لبل. ولكن هل ينبغي التصديق أن عقيدة مهمة كهذه، ستكون مكنونة على هذه التيسيرا؟! وأمام صمت الكثير من الأوابد، سيكون ممكناً، أن لا نرى في الأمر سوى مسألة حرية نقاش، وربّما كان صانع هذه القطعة مأخوذاً بأسلوب التناظر. وثمة نتائج قليلة حول هذا الموضوع لها طبيعة خاصة، وبالنسبة لهالة بل الملساء عادة، وهي القطعة التي لا يوجد حولها الكثير من النتائج، وطبيعتها خاصة، فيمكن أن يرمز لها بأشعة.
ولن نعلق كثيراً على مصداقية رسالة أورليان المذكورة في « تاريخ أوغسطس»، والتي يقول الإمبراطور فيها، أنه سيكتب لمجلس الشيوخ الروماني، يستعجلهم لإرسال حَبْر إلى تدمر لتكريس معبد مبني لإله الشمس. إنه بالتأكيد معبد بل، والذي أعاد بناءه أورليان بعد أن قام الجنود بتدنيسه، وكاتب هذه الرسالة «المشكوك فيه» يخلط بين الإلهين بل والشمس. ولكن هنا أيضاً، تطعن الشهادة السلبية للأوابد على الأرجح بشهادة نص متأخر، مصدره كاتب واسع الاطلاع عن تأسيس عبادة الإله الشمس الخالدة، وعن تكريس جثث المتوفين في تدمر في معبده. وسنتذكر أن «زوزيسم» عدّد بصورة منفصلة صور كل من بل والشمس من بين النصب التذكارية.
مرافقون آخرون لبِلْ
إن النقوش الكتابية والمنحوتات والتيسيرا، تجمع بل بعدد كبير من الآلهة، وبآخرين غير رفاقه الاعتياديين، ولكن لاشيء يتيح الحديث عن سبب هذه اللقاءات المنوه عنها في هذه التيسيرا وظروفها، والتي تدلل بحق على وجود قربان ووليمة جنائزية مقدمة إلى هذه الألوهيات بصورة مشتركة، ولكن لا نعرف مناسبة هذه الاحتفالات ولا طبيعتها العامة أو الخاصة، والتي أقيمت خارج الهيكل الكبير.
لنقل مع ذلك، أن منحوتتين تدمريتين وفسيفساء من دورا متوافقان لجهة جمع ثالوث بل مع الإله أرصو، والذي على ما يبدو ظاهرياً، جدير بهذا الشرف الخاص. وأرصو هو إله الصحراء، إله قوافلي، معادل لما كانت عليه الإلهة رودا بالنسبة لسكان البادية الصفائية. وربما فسّرت نوعيته كإله عربي، سبب تم اختياره ليرافق هذا الثالوث أحياناً. وفي الواقع، نلاحظ أن الآلهة في المؤسسة التدمرية القديمة وهم: يرحبول وعجلبول وملكبل، قد تم تكريسهم لدى تأسيس العبادة الرسمية، بينما بدت الآلهة العربية حديثة العهد، أو أنها وفدت بعد فوات الأوان، ولعل إضافة أرصو إلى الثالوث لتعويض هذا النقص، وقد يكون جمع شَمَشْ في الغالب مع بل على الكسر، للسبب عينه.
قليلاً ما فسحت الديانة التدمرية مكانة للإلهات، والوحيدة بينهن التي تأكدت شخصيتها بصورة واضحة، هي اللات، الإلهة المحاربة عند العرب. ولكن اللات، بالرغم من أنها جمعت مرة بالثالوث وبأرصو، فهي لم تكن القرينة الرسمية لبل. والتي هي للأسف إلهة غير معروفة الاسم، مقطوعة الرأس، تحتل مكانة الشرف في زخرفة المعبد، برفقة يرحبول وعجلبول، ولا تحمل أي رمز. وقد حاولنا التفكير بأنها هي التي كانت تظهر في هذه المنحوتات الثلاث بجانب ثالوث بل، أحياناً باسم عشتارته، وهي تحمل أحياناً أخرى هالة مشعة، ولعلها حملت خلال بعض الأزمنة القديمة اسم عاشتور فجرى الافتراض أن اسم الإله بولا عشتور قد يعني «بول (زوج) عشتور». واسم عشتارته يصف أيضاً إلهة في منحوتتين من ثالوث بعلشمين. فالإلهة كانت تنتمي إذاً إلى عبادتين. ونجهل ما هي صلات عشتارته مع بلتي، والتي كانت عبادتها مشهورة في تدمر.
طاقم عبادة بل وطقوسهم
كانت هيئة من الكهنة مكرسة لخدمة عبادة بل، وهي أقدم مؤسسة معروفة في تدمر، باعتبارها وردت ضمن أقدم نص عن الموقع، والمؤرخ في عام 44 ق.م. وكانت الهيئات من هذا النوع تحمل بالآرامية اسم مرزح، والذي يترجم بشكل عام بـ ثياسوس. وفي بلاد الإغريق، كانت مثل هذه الهيئة الخاصة، يعينها فقط وببساطة كهنة زيوس بولوس. وكان زعيم الهيئة يحمل لقب «رب» «RB» بالآرامية، أما في بلاد الإغريق فيحمل لقب كبير الكهنة ورئيس الوليمة بين كهنة زيوس بولوس، حيث توضح أيضاً دوره الأساسي كزعيم للوليمة المقدسة، إن الوليمة في تعبير كهذا، لا تعني فقط ما نفهمه من هذه الكلمة، إنما يقصد بها بالتحديد اجتماع الكهنة. ورئاسة الوليمة هي مهمة باهظة الثمن على الأرجح ويبدو أن طابعها كان سنوياً، وهي مؤكدة في عدد كبير من النقوش الكتابية والتيسيرا. ويجري تكريس الكهنة أنفسهم للآلهة ضمن احتفال، لابد أنه كان مكلفاً أيضاً، حسب نقش كتابي، يرد فيه ذكر امرأة تمتدح شقيقها لتحمله نفقات تكريس صهره.
وثمة نقش كتابي يمتدح كبير كهنة بل «لترأسه الكهانة على مدار العام». وقد تم إيلاء أهمية بالغة إلى وسيط الوحي لدى الإله. ونجهل بكل أسف، كيف تصرف لكي يصل للتكهن بالأمور؟ وهو الطقس الذي تمت ممارسته في بعلبك وهييرابوليس (منبج)، وهو ذو طابع تنبؤي، ويقوم على طواف موكب الوثن الذي يعبر عن نفسه بالحركات، التي يوحي بها لحامليه. ربما جرى ممارسة هذا الطقس في تدمر، حيث كان توزيع المعبد معداً لموكب الطواف.
و يبدو أن أولى علامات الكاهن، هي تسريحة شعر اسطوانية الشكل أو قبعة، ومحاطة أحياناً بتاج ذي وريقات، وربما علق عليها من الأمام رصيعة أو حجر كريم. ونجد أن رؤوس الكهان وشعر وجوههم محلوق بصرامة على الدوام، طبقاً لبعض الاختيارات الشعائرية المسبقة. ونلاحظ أن التيسيرا التي اكتشفت عليها ألقاب الكهنة في الولائم المقدسة، لم تكن تصورهم أبداً (سواء أكان الجزء العلوي منهم أو مستلقين أمام الوليمة) سوى كأشخاص حليقين ويعتمرون قبعات. إذاً فغطاء الرأس هذا يدل على منزلة دينية، وحتى وإن كان غير ضروري دوماً للكهنوت. ومع هذا فإن بعض المنحوتات تُظهر بعض الكهنة كثيفي الشعر، ولا يعتمرون قبعات. إنها بحق مسائل غامضة!!
الكهنة على الأرجح هم كهنة بل أنفسهم، حيث تظهرهم منحوتات المعبد وهم يقدمون البخور، معتمرين القبعة ومتدثرين برداء نصف طويل وبمعطف، ويضعون حزاماً أطرافه مزينة بحاشية، والذي لا يظهر سوى على معتمري القبعات، كما أنهم يترأسون الاحتفال الديني وهم حفاة. ويبدو أن تقدمة البخور كانت مسألة شائعة، ولكن التيسيرا تصور الحيوانات في أغلبية الأحيان كأضاحي باعتبارها صالحة للأكل. ولابد أن المذبح المشاد في باحة المعبد، كان يستخدم لتقديمهم كذبيحة. وهذا المذبح الضخم كان يمكن الوصول إليه من الجنوب عبر مصطبة، والكاهن كما في الهياكل الإغريقية، كان يقوم بالتضحية مقابل جهة الشمال، وربما بموجب اختيار تعبدي مسبق، ولكن غالباً قبالة جهة الشمال، إذ كان المرء يقوم بالتعريف عن نفسه أمام أوثان المعبد.
وكان للمعبد عدد معين من المستخدمين، المكلفين بمهام شتى، متصلة بالنظام والحراسة. وهم الذين جرى تعدادهم في نقش كتابي محفور، على غرفة عند مدخل المعابد. وللأسف يحول غموض هذا النص دون استخلاص نتائج دقيقة.
وكان هناك طريق ضخم يفضي مباشرة إلى داخل الهيكل نحو المذبح ، بحيث يتمكن موكب الأضاحي من تحاشي صعود الدرج الواصل لبوابات المعابد. ويدل عرض هذا الشارع الكبير، والعناية التي تم إيلاؤها لتقدم الموكب عبر سرداب مقبب واقع تحت رواق الباحة الكبير، على الحجم الكبير للمواكب وإلى عدد الأضحيات وإلى مساحة المذبح الواسعة التي تتيح القيام بالتكهن أيضاً. تبين تيسيرا معبد بل أو تشير إلى أن بين الأضحيات ثيراناً وأبقاراً وحملاناً وخرافاً، وتصور بعض التيسيرا جملاً قدم كأضحية وتم أكله أيضاً. لا نعرف شيئاً حول ماهية الأضحية، ونجهل بالتحديد فيما لو كان هذا الطقس يقام أحياناً للإله بل كما كان الأمر بالنسبة لبعلشمين.
لم تتح التيسيرا المجال دوماً للتمييز بوضوح بين الوجبات التي يتم فيها استهلاك الأضاحي، وبين عمليات التوزيع البسيطة للغلال، التي ربما كانوا يجلبونها من الخارج. فهي تذكر أيضاً حصص الخمرة والزيت والدهون. ولكن موضوعها الرئيسي، على وجه الخصوص، كان الوليمةَ حيث كان الكهنة يظهرون فيها مستلقين والأكواب في أيديهم. وبعض صغار الرتب يقدمون لهم الخمر، ويبدو أنهم هم أنفسهم يرتدون القبعات عموماً. والأهمية التي كانت للخمر في ولائم الأخويات هذه، مشار إليها ضمن إهداء مقدم على شرف كبير الكهنة «الذي كان قد أعطى الخمرة المعتقة من منزله على مدار العام، ولم يقم باستيراده من بلاد الغرب».
كما تصور تيسيرا سريراً نقش فوقه اسم بل، وهو بالتأكيد دعوة لحضور وليمة مقدسة مقدمة لبل وهذا الاحتفال وضَّحه نقش كتابي في عام 51م. جرى إكراماً لشخصية كانت قد قدمت للهيكل «آنية لإراقة الخمر إكراماً للآلهة ومجمرة عطور من الذهب، وأربعة أقداح مقدسة من الذهب، وغطاءً ووسادة للسرير». ويصوّر نقش كتابي غريب عن عبادة بل، الولائم المقامة أمام السرير المقدس، حيث يستريح الرب في حالة سكون. ويشير النقش إلى تأسيس مؤسسة دينية مخصصة لتوفير «توزيع اللحم لجميع من سيصلون في العشاء ( في يوم ما) بحضور الرب مانوس».
بالنسبة لباقي التيسيرا فهي لا تخبر سوى القليل من الأمور. وحينما أعطت بالصدفة اسم الوليمة، التي تدعو إليها، كان هذا عيداً استثنائياً مثل «تكريس المعبد» أو «البناء». أو أيضاً لعيد سمي بصورة مبهمة بعبارة « الغبطة» أو «بهجة بل»، وحتى إن كان صحيحاً أن الإشارات النادرة للأيام، لها صلة على الأرجح بأعياد من التقويم، فإننا نبقى محبطين من غياب المعلومات عن طبيعة هذه الأعياد. بالإضافة لعيد «تاج بل» الذي ربما كان موضوعه هو تتويج الرب بإكليل مصور على التيسيرا. وندرك أن المفاهيم المؤكدة أو المحتملة قليلة العدد.
ثمة حوض موجود بصورة متناظرة بالنسبة للمذبح في الباحة، وهو اليوم مهدم بالكامل، ولكن أجزاءه المائية تركت آثاراً غير قابلة للشك. وقد كانت هذه المنشأة مخصصة بالتأكيد، لتوفير المياه المطهرة، ولكننا نجهل من أين كانت تأتيها المياه وما كانوا يفعلونه بها. ولم يكن لدى القدماء أية وسيلة ميكانيكية لرفع المياه بسهولة من ينبوع تدمر إلى هذا المستوى، ولابد أنّ خدمة النقل على ظهر البشر أو ما شابهها وحدها، هي التي مكّنت من المحافظة على مستوى الماء وديمومته.
الخلاصة
في نهاية هذا التحليل لعبادة بل (وأيضاً لعبادة بعلشمين) سنلخص الفرضيات التي بدت لنا أنها تجيب بشكل أفضل على الأحداث التي تمت ملاحظتها.
1. لقد شكل إنشاء هذين الثالوثين، عملية لاهوتية مقصودة، ترقى ظاهرياً للقرن الأول الميلادي تقريباً.
2. مبدأ هذين الثالوثين ذو طبيعة فلكية، ويدفع للافتراض أن نموذج العملية اُستمد من الهلنستية الشرقية المعاصرة.
3. لقد كان قيام هذين الثالوثين يتطلب وجود إله الشمس وإله القمر. وإله القمر مستمد في الحالتين من المعبد، حيث تمت عبادته بصورة تقليدية. وفي ثالوث بل تم أخذ يرحبول إله الشمس، من هيكله القديم بالقرب من ينبوع أفقا. وفي ثالوث بعلشمين تم اقتباس الإله الشاب ملكبل من المعبد الذي كانت تتم عبادته فيه مع عجلبول، وربما تم إضفاء الطابع الشمسي عليه من خلال نظرية توفيقية، كانت بشكل عام تشبّه آلهة التجديد بإله الشمس.
4. لاحظنا بعض آثار صلة الأقنوم، التي تربط بين كبير الآلهة وإله الشمس الموصوف برسول بل (ملكبل).
5. ومن خلال ملاحظة وجود ديونيسوس في عبادة بل، وفي الزخرفة الجنائزية، فقد فسرناه كإشارة على توفيقية هلنستية، لم يكن ديونيسوس فيها سوى مظهرٍ لملكبل.
تأليف: هنري سيريغ
ترجمة: غادة الحسين
المصدر: المعابد التدمرية - الأوس للنشر
مواضيع ذات صلة: