جمال سليمان يقدم دوراً جديداً على الدراما العربية
06 أيلول 2010
يمتلك حساسية عالية ويمثل بطريقة يمكن أن نقول عنها مدرسة
أطلّ علينا الفنان جمال سليمان في «مسلسل ذاكرة جسد»، المقتبس عن رواية للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي بذات الاسم، والذي أخرجه نجدت أنزور في دور خالد ابن طوبال الرسام الذي شارك في حرب تحرير الجزائر؛ ضمن عوالم متداخلة، وعلاقات مركبة، وخيبة أورثتها الحرب، وحبّ ضائع بين ركام من الأسئلة، وسطوة التاريخ الذي يورث بحروبه تشوهات في أجسادنا.
ومن الواضح أنّ سليمان يكاد يشبه البحار المتمكن الذي اختبر الأمواج وتقلباتها جيداً، وقد بدا أنّه الأكثر ثباتاً في مسلسل «ذاكرة جسد»، فهنالك نوع من الأداء قلة من الممثلين يستطيعون الوصول إليه، وخصوصاً في الشخصيات المركبة والتي تحمل خليط من التناقضات في طياتها، وتحديداً إذا كانت مقتبسة عن الأدب؛ حيث يواجه الممثل مخزناً هائلاً ومتنوعاً من ذاكرة جمعية كبيرة هي ذاكرة الجمهور والنقاد الذين قرؤوا الرواية أو المسرحية المقتبس عنها الفيلم السينمائي أو المسلسل التلفزيوني، فالجمهور والنقاد لن يرحموا هذا الممثل فيما لم يقنعهم أدائه في تجسيد هذه الشخصية.
جمال سليمان كسب الرهان مرةً أُخرى وأثبت أنّه ممثل متنوع يستطيع أن يؤدي أكثر الشخصيات تعقيداً، فقد استطاع سليمان أن يقدم أداء ممتع وجميل، وأن يصل إلى أعماق شخصية ابن طوبال في ظل سرد بارد وإيقاع بطيء في محاولة لرصد العوالم الداخلية للشخصيات في الرواية. هذه النقطة تحديداً شكلت أكبر تحدي أمام أبطال المسلسل، وبالذات أمام سليمان، فشخصية ابن طوبال من أعقد الشخصيات التي ممكن أن يؤديها الممثل ومن أكثر لأدوار صعوبة، وذلك لعدة أسباب، أهمها: أنّ الشخصية مليئة بالانفعالات الداخلية التي لا تظهر بسب طبيعة وقسوة هذه الشخصية، فالممثل أمامها لا يسطيع أن يستند على متكئات حركية أو لفضية لتظهر قدراته التمثيلية، ومن ثم السرد البصري الذي اعتمد على الفوتوا مونتاج والفلاش باك، والذي ينعكس بالضرورة على أداء الممثل وعلى الشخصية الرئيسة فيه، في حديثها وحركاتها، مما يوقع بهوة الأداء المممل والمنفر، وبعيداً عن قدرة المسلسل خلق معادل بصري يستطيع أن يجسد عوالم الرواية الداخلية، في ظل سيطرة هذا النوع من السرد الذي يحاول أن يتتبع الحكاية، إلا أن سليمان استطاع أن يتغلب على تلك المصاعب وأن يقتنص لحظات عميقة ويقدم شخصية بطريقة حيوية بالرغم من الجو والإيقاع العام الذي وصفه بعض النقاد بالمنفر.
ثمّة مسألة أخرى مهمة مثّلت تحدٍّ لسليمان، ولجميع أبطال المسلسل، وهي اختيار اللغة الفصحة، والفصحة هنا تختلف عن الفصحة في المسلسلات التاريخية التي عادة ما يتقبلها الجمهور لأسباب كثيرة، أهمها اقترانها بالتاريخ عموماً. وقد استطاع سليمان أن يقدم أداءً جميلاً بلغة عربية بسيطة تلقائية لا تبدو أنّها قادمة من فترات تاريخية بعيدة، ولا متأثرة بلهجة محلية لبلد ما، على العكس فقد خلق سليمان بأدائه شعوراً بأن هذه اللغة الفصحة في المسلسل هي ضرورة، بغض النضر عن نجاح بقية الممثلين في أداء هذه اللغة. وهذا ما يتطلب حساسية عالية تجاه النص، وإدراك عميق للشخصية وأبعادها، شخصية إشكالية مثل شخصية ابن طوبال.
جمال سليمان يمتلك حساسية عالية تجاه الشخصيات التي يؤديها، يظهر هذا واضحاً في شخصية ابن طوبال، وفي شخصيات عديدة جسدها في الدراما التلفزيونية والسينمائية التي أداها واستطاع أن يلتقط روح الشخصية ويعرف مفاتيحها، وتحديداً في المسلسلات التاريخية. ويبدو أنّ شخصية ابن زيدون في مسلسل «ملوك الطوائف» أحد الشواهد الرائعة على حساسية سليمان وعبقريته، فلقد استطاع أن يجسد سليمان الشاعر المعروف في شبابه وفي كهله، ببراعة هائلة، حتى يكاد المشاهد يشعر أنه أمام ممثلين مختلفين. وهذا لا يقتصر على شخصية ابن زيدون، فمن منا لا يتذكر روعته في دور أبو صالح في «التغريبة الفلسطينية»، وعبد الرحمان الداخل في «صقر قريش» والنوري في «فنجان الدم» والعديد من الأدوار العبقرية التي لا يسعنا الحديث عنها في إطلالتنا هذه.
سنختلف كثيراً حول مسلسل ذاكرة جسد وقدرته على ملامسة عوالم الرواية، ولكن أعتقد أنّ الجميع سيجمعون على الأداء الجميل والممتع لسليمان، الذي يكاد يكون قدم دوراً جديداً في الدراما العربية وأسلوب تمثيل مختلف كلياً، وأنّ أهم سمات سليمان كممثل هو القدرة على التقاط روح الشخصية بحساسية عالية، تجعل الجمهور يستسلم لأداء ساحر ممتع، وتمثيل نستطيع أن نقول عنه أنّه مدرسة قائمة بذاتها.
عروة المقداد
اكتشف سورية