محاضرة عن البيئة المائية في دمشق

20 05

مقدمة


تستمد مدينة دمشق مكانتها التاريخية المرموقة من بيئتها المائية، ويأتي نهر بردى بالذات في رأس مقوّمات هذه البيئة المائية. في الواقع، إن القادم إلى دمشق من أنحاء المشرق العربي، مروراً بالصحاري والبوادي الجافة المترامية الأطراف، كان يجد في هذه المدينة وفي الغوطة عقدِها البرَّاق، الطبيعة الخضراء والبيئةَ المائية النظيفة، مما يعكس لديه شعوراً ببلوغ جنة الله على الأرض.
البيئة المائية تعبير حديث مرتبط بعاملين اثنين: أولهما، توفر المياه السطحية أو الجوفية أو كليهما معاً، وبطاقة تختلف في الوسط الحيوي المقصود عنها في الأوساط المحيطة. وثانيهما، تطوير نظم الانتفاع بهذه المياه وجدواها الاجتماعية والاقتصادية والايكولوجية وغيرُها. وفي عصور محدَّدة السمات الفكرية والعلمية، يتكامل العاملان وصولاً إلى ما يسمَّى بـ «توازن البيئة المائية»، فتصبح البيئة المائية تقليدية. ويتواصل هذا التوازن على مدى الأزمان إلى أن يتعرَّض إلى الاضطراب في أعقاب الثورات العلمية العالمية، وما ينبثق عنها من تطورات في البنى التحتية، التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية.
هذا، وفي العصر الحديث، يشكل اختراع الآلة وانتشارُها في العالم مع ما لحق بها من تقنيات، عاملاً حدِّياً في تحرك البيئة المائية من طورها التقليدي إلى طور بديل متكافئ مع متطلبات العصر. وقد تجسَّد ذلك، وبشكل خاص، في واحة دمشق التاريخية التي تحتضن مدينة دمشق وغوطتها والمروج المحيطة بهما. وجاء الانفجار السكاني الذي داهم مدينة دمشق خلال العقود الأخيرة، عاملاً آخر من شأنه شحذ الهمم إلى تدارك الموقف والبحث عن متغيرات في البيئة المائية التقليدية وتحقيقها قبل فوات الأوان.


البيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق


1 ـ مصادر المياه
مصادر المياه في مدينة دمشق سطحية وجوفية، وتشكل بمجموعها طاقة مائية وفيرة نسبياً آخذين بالاعتبار كون المنطقة نصف جافة، هذا بالإضافة إلى الجودة العالية للمياه.
1-1 ـ المياه السطحية
نهر بردى هو مصدر المياه السطحية في مدينة دمشق، إذ يتوسطها مروراً بالمسار الأخفض من مساحتها، مشكلاً بذلك الشريان المغذي للمدينة والغوطة والمروج المحيطة بهما، ولولاه لما كانت دمشق. يقدر متوسط التصريف السنوي لنهر بردى بـ (475) مليون متر مكعب موزعة كما يلي:
ـ 100 مليون من نبع بردى، الذي يشكل رأس نهر بردى.
ـ 265 مليون من نبع الفيجة.
ـ 35 مليون ينابيع متفرقة في سرير النهر.
ـ 75 مليون من السيول والفيضانات الموسمية.
يلاحظ من خلال هذه الأرقام، أن نسبة تصريف نبع الفيجة إلى نبع بردى تبلغ ضعفين ونصف، وأن نبع الفيجة لوحده يشكل 55% من متوسط الإيراد السنوي للنهر. يصب نهر بردى في منخفض بحيرة العتيبة أقصى شرق واحة دمشق.
1-2 ـ المياه الجوفية
تنتشر تحت مدينة دمشق طبقة مائية جوفية معطاء، تجري في مسام ركام عميق من اللحقيات النهرية العائدة للحقب الرابع الجيولوجي. يتراوح السطح البيزومتري للمياه بين عشرة إلى عشرين أو ثلاثين متراً بحسب ارتفاع الأرض. وتتغذّى الطبقة المائية جوفياً وبالتفاغر، من الجريانات الجوفية الواردة من المرتفعات المحيطة بالمدينة، وعلى الأخص من السلسلة الجيرية (الكلسية الصخرية) المتكهفة. وقد أمكن بلوغ مياه هذه السلسلة غربي المدينة بآبار عميقة نسبياً.
2 ـ تقنيات نظم الانتفاع بالمياه

2-1 ـ المنطلقات الرئيسية
اختار الأقدمون موقع دمشق القديمة على مقربة من مخرج نهر بردى من السلسلة الجبلية نحو السهل (واحة دمشق حالياً)، بما يمكنهم من الانتفاع بمياهه العذبة الرقراقة للتوطُّن ولممارسة الزراعة المروية ضمن شريط محيط بالمدينة. ومع نجاعة هذه التجربة الاجتماعية-الاقتصادية، وتوسع المدينة الصغيرة، وتزايد السكان. ومع ظهور المهندس المائي في عهد الآراميين، وتقول المراجع التاريخية الهندسية والمعمارية بأنه من أعرق مهندسي الكرة الأرضية. دخلت مدينة دمشق عصر تقنيات نظم الانتفاع بالمياه، فتطورت بيئتها المائية تدريجياً مع التوسع إلى الصورة المشرقة التي سنراها فيما بعد. لقد هدف المهندس المائي القديم من هذه النظم إلى ما يلي:
ـ تأمين مياه الشرب والاستعمالات المنزلية.
ـ وتنظيم صرف مخلفات السكان، المعبَّر عنه بالصرف الصحي.
ـ وتأمين الخدمات البيئية المختلفة للمدينة.
ـ وتنظيم الري الزراعي في الغوطة المحيطة بالمدينة، وفي حدود مياه نهر بردى المتاحة خلال مواسم الشُّح والتحاريق.
وهي خطة هندسية متكاملة، اقترنت بنشوء بيئة مائية في مدينة دمشق، علمية وموضوعية ومتوازنة، بدليل استمرارها على مدى آلاف السنين.
وفي سبيل تحقيق مجموعة هذه الأهداف، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين السكان، وتحقيق البساطة في تأسيس النظم المائية وصيانتها، اهتدى المهندس المصمِّم إلى سلسلة بُنى تحتية متكاملة ومنسجمة مع الظروف الطبيعية الراهنة. وانطلق في ذلك من مبدأ إنشاء سدود تحويلية على مواقع مختلفة من مجرى النهر عبر السلسلة الجبلية، في حبسه الواقع ما بين الهامة وخانق الربوة في مقدم مدينة دمشق. يرتفع منسوب مياه النهر في موقع السد التحويلي، ليدخل قسم معيَّر منها إلى قناة جانبية صنعية تجر المياه إلى مواقع الاستعمال.
وعلى هذا الأساس، واعتباراً من منطقة الهامة، وعلى بعد 6كم من دمشق، تتفرع عن نهر بردى تدريجياً مجموعة من الأقنية الرئيسية. وتمر هذه الأقنية في خانق الربوة على مناسيب مختلفة، ثم تتباعد على شكل مروحة تغطِّي جميع أحياء مدينة دمشق. وبعد خروجها من المدينة، تنتشر هذه الأقنية في جميع مناطق غوطة دمشق، مشكلة بذلك شريانات شبكة ري الغوطة التاريخية.
2-2 ـ هيكل مجموعة الأقنية الرئيسية
تتفرع عن الضفة اليسرى لنهر بردى قناتان:
ـ قناة يزيد: تتفرع شمالي الهامة، وبعد أن تجري على طول أعلى المهاجرين فـالأكراد، حيث تروي البساتين، تتجه إلى أراضي القابون وحرستا ودوما.
ـ قناة تورى: تتفرع في موقع القصر بين دمر والربوة، وبعد أن تجري على طول خط أسفل المهاجرين، تتجه إلى سوق ساروجة فـالعمارة والقصاع، ثم تجتاز طريق دمشق-حمص في موقع جسر تورى متجهة إلى أراضي جوبر، عين ترما، حزة، زملكا، عربين، مسرايا، مديرة، دوما.
وتتفرع عن الضفة اليمنى للنهر، أربع أقنية:
ـ قناة المزّاوي: تتفرع بين قدسيا ودمر، وتتجه إلى أراضي المزة وكفر سوسة.
ـ قناة الديراني: تتفرع بين دمر والقصر، وتتجه إلى أراضي المزة ثم كفرسوسة والنصف الشمالي من أراضي داريا.
ـ قناة القنوات: تتفرع بين القصر والربوة، وتتجه إلى باب السريجة فـالقنوات والشاغور وباب المصلى، وتنتهي في بساتين الشاغور والقدم.
ـ قناة بانياس: تتفرع في موقع الربوة، وتجري جنوبي ساحة المعرض ثم تتجه إلى جامعة دمشق فـشارع النصر والسنجقدار، ثم تنقسم إلى فرعين يتجه أحدهما إلى الشاغور فـالميدان، والآخر إلى العمارة فـباب السلام، وتنتهي في بساتين الشاغور.
وتتفرع عن النهر داخل المدينة قناتان:
ـ قناة العقرباني: تتفرع عن الضفة اليمنى للنهر تحت ساحة المرجة، وتتجه إلى أراضي جرمانا وعقربا وبيت سحم.
ـ قناة الدعياني: تتفرع عن الضفة اليسرى للنهر في باب توما، وتتجه إلى أراضي جوبر، عين ترما، كفر بطنا، سقبا، حمورية، افتريس، بيت سوا، جسرين.
إن مناسيب مسارات الأقنية متوافقة مع طوبوغرافية المدينة والغوطة، بما يؤمن جريان المياه فيها بالراحة وبالتصاريف التصميمية. يبلغ مجموع استيعاب الأقنية الست المتفرعة عن النهر في مقدم المدينة 15 متر مكعب في الثانية، ويختلف المقطع والاستيعاب من قناة لأخرى مع تفاوت الاحتياجات التي صممت من أجلها هذه الأقنية. بنيت الأقنية بالحجر والمونة، ولها في بعض أجزائها جدران استنادية. وأقيمت على طول مساراتها أعمال صناعية من مآخذ وعبَّارات وسيفونات ونوافذ، بما يتلاءم مع توزيع المياه وتأمين جريانها، وبما يتلاءم مع أعمال الاستثمار والصيانة والإشراف.
2-3 ـ الأقنية مصدر مياه الشرب والاستعمالات المنزلية الرئيسي
من القواعد السائدة في العصور القديمة، المحافظة على مياه الأقنية نظيفة، وذلك بالتزام الفرد والجماعة بعدم طرح أية فضلات في هذه الأقنية. وجاء الدين الإسلامي ليكرس هذه القاعدة وليعطيها صفة الإلزام المطلق، تحت طائلة العقاب في الدنيا والآخرة. وبذلك فإن مياه الأقنية كانت المصدر الرئيسي لتغطية احتياجات الشرب والاستعمالات المنزلية في مدينة دمشق.
وهنا لقد برع المهندس المائي في تصميم شبكة مياه الشرب للمدينة، بما في ذلك تعميم نظم التوزيع على الأحياء والدور. ويأخذ هذا المرفق في مدينة دمشق حيِّزاً واسعاً واهتماماً كبيراً في المراجع القديمة والحديثة. محاطاً بكل بوادر الإعجاب؛ ويصفه البعض بالمعجزة الهندسية الخالدة. إن نظام المرفق، شاملاً مأخذ المياه من القناة، وخط الجر الرئيسي، وتفرعاته الثانوية وما يتفرع عنها من خطوط ثلاثية، وما يُقام على هذه الخطوط من نقاط توزيع (طوالع) على الدور، وجميعها دائمة الجريان ومعايَرة. كل ذلك أشبه ما يكون بالشبكات الحديثة من حيث الهيكل العام، مع فارق في مواد البناء وأسلوب المعايرة وأسلوب التوزيع على الدور وبعض التفاصيل، ومع عدم الحاجة لإنشاء خزانات عامة.
ولنا في هذا الصدد، وقفة أمام نظام التوزيع على الدور بواسطة (الطالع) وهو عبارة عن برج بارتفاع متر إلى مترين يتوسطه أنبوب غير معدني متصل في قاعدته بخط الجر الثلاثي، ومفتوح في أعلاه لتنساب منه المياه على عتبة حجرية محيطة بفتحة الأنبوب، حفر فيها عدد من المآخذ الأفقية المعايرة تنساب منها المياه إلى قساطل أخرى مثبتة ضمن البرج لتجري إلى الدور المخصصة لها. ولقد لفت نظام التوزيع هذا أنظار الباحثين، باعتباره تقنية متميزة من تقنيات العصور القديمة مبنية على أسس علمية.
تجري المياه بالراحة في سائر مراحل الشبكة، كما وأن خطوط الجر بسائر مستوياتها عبارة عن أنابيب فخارية معزولة ومقاوِمة.
2-4 ـ الآبار المكشوفة مصدر إضافي للاستعمالات المنزلية
إلى جانب شبكة المياه المتفرعة عن الأقنية، انتشرت في المدينة أعداد كبيرة من الآبار الخاصة والعامة، نظراً لقرب مناسيب المياه الجوفية من سطح الأرض الطبيعية، ووفرتها، وجودتها. وعلى العموم، كان استعمال الآبار مقتصراً على مواسم الصيف لبرودة مياهها بالنسبة لمياه الأقنية.
2-5 ـ أهمية مياه الأقنية في سلامة بيئة المدينة
إضافة إلى التزويد بمياه الشرب، فإن مرور الأقنية بالمدينة يتيح لها مجموعة من الخدمات الحيوية التي تعكس أحسن الآثار على البيئة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ تنظيف المدينة: وقد روعي في مسارات الأقنية عبر المدينة، إنشاء مواقع مؤسسة ومجهزة لإملاء الحاويات المعدة لتنظيف الشوارع والأزقة.
ـ ري الحدائق والبساتين المتداخلة مع دور السكن أو المحيطة بها: وقد روعي لهذا الغرض إنشاء مآخذ خاصة على الأقنية.
ـ نشر الرطوبة النظيفة في جو المدينة: وبالتالي توفير المناخ المحلي (ميكرومناخ) اللطيف. وقد روعي لهذا الغرض كون الأقنية مكشوفة خارج المجمعات السكنية.
ـ درء الفيضانات عن المدينة: وفي هذه الحالة، كانت بوابات مآخذ الأقنية على النهر تُفتح على مصراعيها لتخفيف الضغط على مجرى نهر بردى والمشاركة في درء كوارث الفيضانات عن المدينة. وثمة هدف إضافي، وهو الجرف الذاتي للرسوبات المتوضعة في قيعان الأقنية.
ـ توفير أماكن النزهة والاستجمام للسكان: وقد حرص المهندس المائي المصمم على كون الأقنية مكشوفة لهذا الغرض. كما روعي في التصميم إمكان غرس الأشجار والنباتات التزيينية على ضفاف الأقنية. وقد كرَّس البحتري ذلك في البيت المعروف: 
                             العيش في ليل داريا إذا بردا      والراحَ نمزجها بالماء من بردى


والمقصود ببردى هنا هي قناة الديراني على اعتبارها متفرعة عن نهر بردى.
3 ـ ماذا عن الصرف الصحي في المدينة؟
لم يكن اهتمام المهندس المائي بتصميم نظم الانتفاع بالمياه داخل المدينة، بأقل من اهتمامه بتصميم شبكة الصرف الصحي بما لا يسيء إلى البيئة. في الواقع، تدل الشواهد على أن التصميم والتنفيذ لكلا القطاعين، كان يسير جنباً إلى جنب وبشكل متكامل مع تنظيم المدينة وتوسعها.
لقد راعى المهندس المصمم أن تكون الأقنية مغطاة في مساراتها تحت الدور في المدينة القديمة، لتتحول إلى محاور رئيسية لتلقِّي المخلَّفات الواردة من شبكات المجاري المنتشرة تحت دور السكن. كما راعى أن يكون تصميم الأقنية في أحباسها الكائنة تحت الدور، بمعاملات أمان مرتفعة. كل ذلك بهدف سلامة بيئة المدينة وديمومتها.
وبالإضافة إلى استخدام الأقنية لصرف المخلفات، كان لابد من طرح المخلفات أيضاً في مجرى نهر بردى في أحباسه الأخيرة من المدينة.
ولم يكن بمقدور المصمم معالجة مياه الأقنية والنهر مباشرة بعد خروجها من المدينة، وقبل وضعها بالاستعمال لري أراضي الغوطة، وذلك نظراً للافتقار إلى وسائل المعالجة المعروفة الآن. إلا أنه انتبه إلى عامل طبيعي معروف، وهو تعرض المياه الملوثة إلى معالجة تدريجية بطيئة من جراء تماسها بأوكسجين الهواء خلال الجريان. وعلى هذا الأساس، حرص على أن تكون الأقنية مكشوفة وأن تكون مقاطعها عريضة نسبياً بعد خروجها من المدينة.
اضطراب توازن البيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق في العصر الحديث
من المسلَّم به في الأوساط العلمية والفنية، أن توازن البيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق لابد وأن يتعرض للاضطراب في أعقاب الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، وهو ما تشهده المدينة وبشكل متصاعد منذ مطلع الأربعينات. فما هي العوامل الرئيسية الكاملة وراء ذلك؟
1 ـ تطور جذري في أسلوب تزويد المدينة بمياه الشرب والاستعمالات المنزلية
في عام 1932 تم تدشين مشروع جر مياه نبع الفيجة إلى دمشق وتوزيعها بواسطة شبكة أنابيب معدنية غطت سائر أنحاء المدينة. وبذلك أُسدل الستار على تزويد المدينة بمياه الأقنية، وهو تدبير موضوعي لا بديل له في العصر الحديث. لقد تم جر مياه النبع إلى المدينة عبر نفق جبلي باستيعاب يمكن من نقل 300 ألف متر مكعب في اليوم، أي 3.5 متر مكعب في الثانية، وهو أقصى ما كان متصوراً لاحتياجات المدينة في المستقبل البعيد، وفي حدود طاقة النبع تقريباً في التحاريق.
ومع بوادر الانفجار السكاني المتسارع للمدينة، تم حفر نفق جديد لجر مياه نبع الفيجة إلى دمشق، ووضع بالخدمة في عام 1980. يُمكِّن هذا النفق من نقل 900 ألف متر مكعب في اليوم، أي ما ينوف عن 10 متر مكعب في الثانية. وقد حُسب الاستيعاب على أساس تنظيم استثمار النبع بطريقة التخزين الجوفي خلال التحاريق، مضافاً إليه ما سيمكن استجراره عبر النفق من المصادر الأخرى مستقبلاً.
هذا، وقد بلغ الآن متوسط استهلاك المدينة اليومي من المياه 550 ألف متر مكعب، أي حوالي 6.5 متر مكعب في الثانية، وهو ما يتجاوز طاقة نبع الفيجة في التحاريق. ولهذا الغرض، بادرت المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي في مدينة دمشق، ومنذ سنوات، إلى تدارك العجز من المياه الجوفية المتاحة في المدينة. وقد حفر في المدينة حتى الآن ما يقرب من 120 بئراً أنبوبياً آلياً، موزعة على خمسة حقول استثمار واقعة في أطراف المدينة، تنتج حالياً في الصيف والخريف 115 ألف متر مكعب يومياً، أي 1.35 متر مكعب في الثانية.
هذا، وإن مجموع ما يُستجرّ الآن من نبع الفيجة ومن حقول الآبار، هو دون احتياجات المدينة في مواسم شح المياه. وعليه فإن المدينة تشهد تقنيناً متزايداً في تزويدها بالمياه منذ سنوات، وتسعى المؤسسة بذات الوقت إلى البحث عن مصادر إضافية لسد العجز.
وإذا كنا نرحِّب بالأسلوب العصري في تزويد المدينة بمياه الشرب، إلا أن استجرار كامل طاقة نبع الفيجة قلب كل الموازين كما سنرى.
2 ـ انعكاسات استجرار كامل مياه نبع الفيجة على القبة المائية في المدينة
لقد استنفذ مرفق مياه الشرب كامل مياه نبع الفيجة من مواسم شح المياه وفي التحاريق، في حين أن المدينة كانت تكتفي في الماضي بجزء من مياه النبع ليصب الباقي في نهر بردى لصالح شبكة ري الغوطة. وبذلك فإن أقنية الري، في مساراتها عبر المدينة وكذلك النهر، تعاني الآن من العجز المائي صيفاً، ومن تزايد المطروحات السكانية، مما يجعلها أشبه بالمجاري. وعليه، لقد انعدمت الرطوبة النظيفة التي كانت تنتشر من نهر بردى ومن الأقنية صيفاً، وحلت محلَّها الرطوبة الكريهة الملوثة، مما ألحق الضرر بالبيئة المائية النظيفة التي اشتهرت بها دمشق.
وكان هذا الوضع المتردِّي مبرَّراً لأوساط محافظة دمشق لاعتماد سياسة من شأنها تغطية أجزاء من نهر بردى ومن الأقنية، كلما حانت فرصة عمرانية لذلك. وقد عبَّر عن ذلك بحق أحد الكتاب المعروفين مؤخراً بقوله: «يستحيل أن نستطيع السكوت بعد الآن حين نرى نهرنا الحبيب بردى، ولد هذه المدينة العريقة، يُقتل ويُنحر بقسوة وبلا رحمة وأعيننا تنظر... صورة موت مأساوية لنهر كان يتغنى به أهله والزائرون منذ آلاف السنين».
وكان هذا الوضع المتردي أيضاً، مبرِّراً لإهمال صيانة الأقنية المعتادة، والاستهتار بالمحافظة على مساراتها النظامية، مما أدى إلى تراجع طاقتها في درء الفيضانات عن المدينة.
3 ـ انعكاسات طرح المخلفات الصناعية والبشرية في نهر بردى
أقيم على ضفاف نهر بردى في مقدم المدينة الكثير من الصناعات المتنوعة، والتي تطرح فضلاتها الكيميائية والعضوية المؤذية في النهر دون معالجة مسبقة. كما وإن القرى المتاخمة للنهر على طول مجراه حتى المدينة، تطرح ناتج شبكات المجاري الحديثة الخاصة بها في النهر دون معالجة. وإن محطات رصد التلوث القائمة على طول مجرى النهر والعائدة لمديرية مكافحة تلوث المياه العامة في وزارة الري، تشير إلى أن مواصفات مياه النهر تسوء تدريجياً مع النمو السكاني والصناعي. مما يلحق الضرر بالبيئة المائية للمدينة، فضلاً عن أخطار التلوث الكيميائي والجرثومي على السكان.
4 ـ اضطراب توازن البيئة المائية التقليدية في غوطة دمشق
من الطبيعي أن يضطرب هذا التوازن، وبالتوازي مع اضطراب توازن البيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق. وإن العوامل الرئيسية الكامنة وراء ذلك هي على سبيل المثال لا الحصر:
ـ تناقص كميات مياه الأقنية من جراء تزايد جرّ مياه نبع الفيجة لتأمين مياه الشرب للمدينة.
ـ تزايد التلوث الجرثومي للمياه مع تفاقم الانفجار السكاني في المدينة، وطرح ناتج مياه المجاري في النهر وفي الأقنية دون معالجة. وكذلك تزايد التلوث الكيميائي والجرثومي الناتج عن طرح المخلفات الصناعية في النهر دون معالجة.
ـ تسابق المزارعين في استنباط المياه الجوفية من الآبار الأنبوبية الآلية، للتعويض عن العجز المائي في الأقنية، وللتوسع الزراعي المروي. مما يؤدي إلى تهابط مناسيب الطبقة المائية الجوفية في مواسم الشحّ والتحاريق.
وعلى العموم، تعاني غوطة دمشق الآن من اضطراب في دورات الري الزراعي، ومن تدنِّي خصوبة التربة. ويؤكد الزراعيون أن الغوطة التاريخية تتدهور. ومن المعلوم أن تدهور البيئة المائية في الغوطة، من شأنه إلحاق الضرر بمدينة دمشق، نظراً للتلاحم بين الوسطين.
البحث عن توازن بديل للبيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق
في البحث عن هذا التوازن، وفي ضوء المعطيات التي سبق ذكرها، يمكن تلخيص عناصر التوازن المبحوث عنه بما يلي:
ـ تنظيم استثمار الطبقة المائية الجوفية.
ـ وضبط مجاري دمشق ومعالجة المياه.
ـ ومعالجة المخلفات الصناعية.
ـ والبحث عن مصادر إضافية من المياه، لرفد المدينة على المدى البعيد.
والمحافظة على الأقنية المتفرعة عن نهر بردى في مساراتها عبر المدينة.
وفيما يلي لمحة عن الصيغة التنفيذية لهذه العناصر، بما في ذلك المحاولات والإجراءات الجارية من قبل السلطات بهذا الصدد.
1 ـ تنظيم استثمار الطبقة المائية الجوفية
أكدت الدراسات أن استثمار الطبقة المائية الجوفية من خلال الآبار الأنبوبية الآلية، عمليةٌ إيجابية كان من شأنها تنمية الطاقة الإنتاجية لمياه الطبقة بشكل ملحوظ. وذلك من تحريض واستجرار المياه، جوفياً، من مصادر التغذية الجوفية المحيطة. على أنه من المفيد استجرار المياه من آبار المدينة ضمن معدَّلات حدِّية، للحيلولة دون إلحاق الضرر بآبار الغوطة، وللحيلولة أيضاً دون تعريض المنشآت الكبرى في المدينة إلى الخلل في توازنها السكوني من جراء تهابط مناسيب المياه الجوفية.
2 ـ ضبط مجاري دمشق ومعالجة المياه
مع مطلع السبعينات، ومع بوادر الانفجار السكاني في مدينة دمشق، وانطلاقاً من التصور العام الموضوع في وزارة الإسكان والمرافق لضبط مجاري دمشق ومعالجة سوائلها لوضعها بالاستعمال في الري الزراعي على وجه سليم. تعاقدت الوزارة في عام 1976 مع أحد المكاتب الاستشارية العالمية، على القيام بدراسة أولية، فنية-اقتصادية لإيجاد حلول بديلة لطرح مياه المجاري في نهر بردى وفي الأقنية المتفرعة عنه، وسوقها في خط مجمِّع ينتهي في محطة للمعالجة.
وبعد انتهاء الدراسة الأولية ومراجعتها واعتمادها، تعاقدت الوزارة في عام 1982 مع المكتب الاستشاري على إعداد الدراسة الفنية للمشروع. وفي عام 1984، انتهت الدراسة الفنية وتمت مراجعتها بعدئذ من قبل لجان محلية ومن قبل مصادر التمويل الخارجية لإقرارها واعتمادها جاهزة للتنفيذ. تتلخص الصورة النهائية للمشروع في إنشاء خطوط أنابيب مجمِّعة رئيسية تنطلق من جميع أنحاء المدينة والضواحي السكنية العائدة لها، وتنتهي في موقع عين ترما شرقي المدينة، ليصار بعدئذ إلى سوقها في خط أنابيب مجمِّع عام ينتهي في موقع محطة المعالجة شمال شرقي المدينة. وتتزامن إقامة محطة المعالجة مع إنشاء خطوط التجميع. هذا، وقد تم تشكيل لجنة للإشراف على تنفيذ المشروع، لها من الصلاحيات ما يمكِّن من التنفيذ بأقصر مدة ممكنة. ويجري الآن تقديم العروض للأعمال المدنية وللتجهيزات الميكانيكية للمشروع. ومن المفروض أن تكون وزارة الري قد أخذت دورها الآن، وبحسب الاختصاص، لطرح مشروع خاص يقضي بالتصرف بالمياه الصادرة عن محطة المعالجة، لسوقها إلى مقدم مدينة دمشق لرفد الأقنية، مما يؤدي إلى جريانها على مدار السنة لخدمة المدينة، ولإعادة الحقوق المكتسبة لمزارعي الغوطة للانتفاع بالمياه.
3 ـ معالجة المخلَّفات الصناعية
تتنوع المخلفات الصناعية المؤذية، الكيميائية والعضوية، التي تطرحها المعامل في نهر بردى، بتنوع الصناعات. مما يجعل التخلص منها في محطة معالجة موحّدة، أمراً يفتقر إلى الجدوى الاقتصادية. وعليه تسعى وزارة الري منذ سنين إلى إلزام كل من المعامل القائمة على النهر أو على الأقنية المتفرعة عنه، بإقامة وحدة لمعالجة مخلفاتها قبل طرحها في المياه العامة.
4 ـ البحث عن مصادر إضافية من المياه، لرفد المدينة على المدى البعيد
تقوم المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحفي في مدينة دمشق، ومنذ سنوات خلت، بمحاولات جادَّة لاستطلاع إمكان رفد المدينة بمصادر إضافية من المياه من السفوح الجبلية المحيطة بالمدينة. وتنطلق في ذلك من الدراسات الجارية في وزارة الري للحوامل المائية الجوفية الكائنة في هذه السفوح.
وفي قناعتنا، أن هذه المحاولات لن يُكتب لها النجاح لسببين رئيسيين: أولهما، أن ظهور المياه بوفرة في الآبار الاستكشافية المحفورة في السفوح، لا يعني بحال من الأحوال أنها من فئة الاحتياطي الطبيعي، بل إنها تجري جوفياً باتجاه مركز حوضها المائي في واحة دمشق حيث تقوم استثمارات موسعة للمياه الجوفية كما هو معلوم. وثانيهما، ضرورة الحرص أصلاً على عدم المساس بهذه المياه، لكي تبقى متاحة، جزئياً، للمجتمعات الريفية القائمة في السفوح والآخذة بالنمو.
وفي هذا الإطار أيضاً، اتجهت الأنظار إلى الاستعانة بمياه نبع بردى، على أساس استثمار مياهه صيفاً بطريقة التخزين الجوفي. وفي قناعتنا، إن هذه المحاولة لن يكتب لها النجاح أيضاًَ، في الواقع، إن الإقدام على هذه الخطوة، من شأنه إلحاق الضرر بالشريط الأخضر الثمين العريق وقراه، على طول وادي نهر بردى في حبسه الجبلي الممتد ما بين التكية والربوة، وبمسافة تزيد عن ثلاثين كيلومتراً.
وبناء على ما تقدم، لم يبق لنا من حل منظور، لرفد المدينة بالمياه على المدى البعيد، سوى جر المياه من نهر الفرات، وهو حل نظري بحت. في الواقع، إذا اعتمدنا هذا الحل، فسيكون علماء البيئة لنا بالمرصاد رافعين المبدأ البيئي العالمي الشائع: «تنمية بلا تدمير»... إن رفد المدينة بمياه إضافية وفيرة، يعني القبول باستمرار الانفجار السكاني في واحة دمشق، وحشر الملايين في مدينتها وفي أرجائها، في حين أن طبيعة الواحات لا تسمح بذلك لأسباب تتعلق بسلامة البيئة.
وبناء على ما تقدم، نرى الاكتفاء بالمصدرين اللذين يغذيان المدينة الآن، أي نبع الفيجة والمياه الجوفية المحلية، وتنظيم استثمارها كما هو ملحوظ لدى المؤسسة. هذا إلى جانب العمل على تراجع معدلات الانفجار السكاني. وفي ذات الوقت، ترشيد استهلاك المياه، وتخفيض معدلات فواقد شبكات التوزيع، ومكافحة جميع مظاهر التعدي على مياه هذه الشبكات بفرض أقصى العقوبات.
4 ـ المحافظة على الأقنية المتفرعة عن نهر بردى في مساراتها عبر المدينة
إن هذه الأقنية هي الشريانات الرئيسية لري أراضي الغوطة بالراحة وهو أسلوب في الري قائم حتى يومنا هذا، على أساس التفرع المباشر من النهر الجاري. وإن مجموعة الأقنية هذه، هي من أقدم نظم الري في العالم، كما وأن تصميمها كان معجزة فنية رائدة بدليل استمرارها من النواحي الهندسية والوظيفية. وإن المساس بها سيكون بمثابة تنكر للتراث العظيم الذي تركه لنا الأجداد. وعليه يقتضي الأمر الآن المبادرة إلى ترميم هذه الأقنية وتدعيمها، بغية تحسين دورها الوظيفي في بيئة المدينة وفي ري الغوطة.
خاتمة
في إطار البحث عن التوازن البديل للبيئة المائية التقليدية في مدينة دمشق، تنعم المدينة الآن بمرفق لمياه الشرب يعمل من خلال منظومة نموذجية وحديثة في سائر القطاعات، من حيث تنظيم مآخذ المياه السطحية والجوفية وحمايتها، وجر المياه، والتخزين والضخ، وشبكات التوزيع، ووسائل التشغيل والصيانة، والتحكم الآلي بالتشغيل والتوزيع... يقوم على هذه المنظومة جهاز بشري، فني وإداري، متقدِّم ومؤهَّل.
هذا على عكس مرفق الصرف الصحي. مع أنه استفاق مؤخراً لدفع عجلة تنفيذ مشروع ضبط المجاري ومعالجة المياه، إلا أن هذه الصحوة جاءت بعد تراكم سنوات من التأخير، كانت تشهد المدينة خلالها تسارعاً في تردي البيئة. وعليه أضحى حشد الجهود والطاقات والإمكانات لسرعة إنجاز المشروع، أمراً لا جدال فيه. ولا نبالغ إذا قلنا بأن الأمر يستدعي إعطاء المشروع الأفضلية الأولى في سلم الأولويات، لا بالنسبة للعاصمة دمشق فحسب، بل للقطر بأكمله. تحتضن واحة دمشق الآن، ومدينة دمشق بالذات، أعداداً هائلة من المواطنين، والمفروض توفير البيئة السليمة لتسعد بوجودهم على أرضها الطيبة.
وفي سياق البحث عن مرفق الصرف الصحي، واستكمالاً لعناصر توازن البيئة المائية، فإن الأمر يقتضي المبادرة إلى طرح مشروع رفد الأقنية بالمياه الصادرة عن محطة المعالجة، وترميم وتدعيم هذه الأقنية. كما يقتضي الأمر أن يسير المشروع بالتوازي مع مشروع المجاري، نظراً لتلاحم وتكامل القطاعين.
إن السير بتنفيذ المشروعين يشكل عبئاً كبيراً، غير أنه يجدر بنا أن نأخذ العبرة من المشاريع المعجزة التي حققها لنا الأجداد لنبرهن للعالم أجمع أننا أحفاد صالحون. والله من وراء القصد.
دمشق في 30/4/1991


محمد شفيق الصفدي

دمشق أقدم مدينة في التاريخ|ندوة آذار الفكرية في مكتبة الأسد|دمشق-سوريا-1991

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    صور الخبر

    بقية الصور..

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    الحربي :

    يسعد مساكم ويعطكم العافيه ع الموضوع

    السعوديه

    احلام:

    الموضوع جد جميل واتمنى ان يوفقكم الله لاعطاء المزيد

    المغرب