النحات عبد الله السيد: الإنسان يبحث عن قبلة حب تجعله يستمر في الحياة

20 01

الحجر عنصر ثابت للوهلة الأولى لكنه بالنسبة لي هو مرآةٌ لذاتي

حدث ذات مساءٍ دمشقي طاعن في الياسمين، أن عرفني عليه الرائع فاتح المدرس في مرسمه، معتقاً بأريج دمشق المحروسة، وحين تعرفت على عبد الله السيد، منذ أن انفتحت شبابيك الروح على أشدِّ اتساعها، وبعد العيون ولغتها التي لا تخون، أدركت في ذلك اللقاء أنَّ حاسة السمع أصدق الحواس، وإن للأصابع واليد بحركاتها مداليلٌ تدخل أعماق النفس لتقرأها صحيحاً، منذ تلك اللحظة التي عبرت تابعت مسيرتي مع إبداعات النحات السوري عبد الله السيد الذي كثيراً ما جعلني اعتز بكوكبة أبناء بلدي سورية.
يحمل الدكتور عبد الله السيد إجازة في النحت من كلية الفنون الجميلة ويحمل دبلوم نحت نصبي المؤهل العلمي لمعادل الدكتوراه باريس ـ فرنسا ـ «D.E.A» دكتوراه في علم الجمال من جامعة السوربون بباريس عام 1977، أستاذ نحت في كلية الفنون، وكان لجريدة تشرين الحوار التالي معه:
للقبلة أسرار أي سرٍّ يكمن في تلك القبلة الرائعة في منحوتتك «شرخ المحبة» في اللاذقية؟
مثلما رأيت في شرخ المحبة في تلك القبلة التي تسألني عنها ثمة توحدٌ إنساني ومعاناةٌ عميقة لعلاقةٍ ثنائية إنسانية، تغلف قلق تجربةٍ إنسانية وجودية، لا يمكن للقبلة بكل ما فيها من تلامس حسي وروحي وإنساني أن تغلفها، لأن في النفس بذرةً عميقة الغور، ترشح دائما ًالحزن العميق والقهر الإنساني، فالإنسان معزول وما من شيء يهبه نسمة دفء في صقيع أيامه ولا من نسمة بردٍ في صحراء أيامه الساخنة جداً، في النهاية هو يبحث عن قبلة حبًٍّ صادقة نفحة حب تجعله يستمر في هذه الحياة.
الخشب حميمي وعاطفي ومبعث الدفء، الرخام خامة نحتية راقية وشفافة، الصلصال خامة هشة، الجبس بارد، البرونز مخادع، البوليستر محتال، ما السر وراء عشقك للحجر؟.. هل يحمل أية أسرار؟
لقد حاولت ممارسة النحت في كلِّ هذه الخامات، إضافةً إلى أضعفها وهو الخيش والليف، كما مارست العمل بأصلبها وهو الصاج المعدني، وفي الواقع ليس المادة هي التي تفرض نفسها عليّ، بل الموضوع الذي يتخلق في أفكاري، والذي يبحث عن تجسده، ويطرح علي مادته، والمادة أو الخامة، تقوم بعملية عكسية، فتقترح عليّ تطوير موضوعي، حين تكشف عن خصائصها، وتمارس عليّ حضورها وشخصيتها، مع ذلك.. أقول لك، أن شيئين يحركان مخيلتي: الغيوم، والحجر، وقد تتفهم معي أنَّ الغيوم تخضع لصيرورة مستمرة بالحركة بشكلٍ دائم التغير، في حين أن الحجر عنصر صلب وثابت، نعم إنَّه عنصر ثابت للوهلة الأولى، لكنه بالنسبة لي هو مرآةٌ لذاتي، أرى أنَّه رحمٌ لأشكالٍ لا نهاية لها، ومتعتي الحقيقية هي في هذه اللحظات التأملية، حيث يبدو لي في تخلق مستمر، فأعيش حضوراً مدهشاً ومذهلاً، في عالمٍ متحرك، متغير، متجدد، بداية العمل في الحجر، هي اللحظة الأصعب، هي لحظة الاختيار، هي لحظة الاقتناص، هي لحظة الاستبعاد، هي لحظة فيها شيء من السقوط، وفيها شيء من التمزق النفسي.
هل هي عملية ولادة؟
يخيل إليّ أنها كذلك، أثناء العمل، تظهر متعة أخرى، هي متعة الإيجاد، متعة الإبداع، فتعوض إلى حدٍ ما، عن متعة التأمل والحوار، بعد انتهاء العمل، توجد حول العمل هالة من الإضافات غير المنظورة إلا لصاحب العمل ففي النحت من الصعب استدراك الخطأ على الحجر، لذا.. تبدأ هذه الإضافات بالغليان والفوران، بالتقاطع والتراكب والتحلل، وكل هذا يشكل الوعد بالعمل الآتي، بالعمل الجديد، بما لم يستوف حتى الآن، ويبدأ الحلم يستطيل ويكبر، ويغلف حياتك اليومية، وكأنك تسكن بالوناً هوائياً.
اعتقدت أن النحت يحتاج إلى القسوة، كأني بك تكتب شعراً؟
لاشك أنَّ النحت قديماً، كان يحتاج جهداً عضلياً كبيراً، إلا أنَّه اليوم، بعد ابتكار الأدوات الكهربائية، أصبح أقل صعوبة، وأسلس ممارسة، واعتقادك بقسوة النحات ناتجة عن مقارنة ضمنية، فاعتقادك بقسوة الحجر يتطلب من هو أقسى منه لتطويعه، لكن الأمر ليس كذلك، فحين تتفهم من هو أمامك، وتقدر محاور تكوينه وتراعي شروط وجوده واستجابته، فإنك تتناغم معه، ويصبح الأمر بينكما حواراً، وليس جدالاً، الحوار هو الذي يجعل الأمر شبيهاً بالشعر وبالعشق، والجدال هو الذي يجعل الأمر قتالاً وصراعاً، تعسفاً وسيطرة.
في الواقع يبدو أني استعملت الكلمة غير المناسبة، أي القسوة، وأنا كنت أعني الطاقة الجسدية، فنحن لا نجد امرأة نحاتة مثلاً؟ أليس الأمر كذلك؟
إلى حدٍ ما، لأنَّ هناك نحاتات عدة، فهناك النحاتة الإنكليزية «هيبو ورث» والنحاتة الروسية «ليبيدوفا» ونحاتات أخرى، وقد درست في فرنسا مع مجموعة من النحاتات، وربما كنت ستفاجأ إن قلت لك، أن نصف خريجي قسم النحت في كلية الفنون الجميلة في دمشق، هو من الفتيات، وقد أثبت عددٌ كبير منهن جدارته وقدرته وانفتاحه، بل وتفوقه على الشباب، فالمسألة إذاً ليست مسألة طاقة جسدية، بل شروط وأوضاع اجتماعية.
لكن ألا يتدخل العقل والوعي في فعل النحت على حساب شفافية الروح والعاطفة؟
لا أوافقك على هذا الرأي، ولا على هذا التعميم، لأن هذا يتعلق بطريقة العمل، بكيفية الانطلاق، بكيفية التعامل مع المادة الخام، أنا شخصياً حين أبدأ عملي على الحجر، لا أضع تصميماً ثم أنفذه، والنتيجة في الغالب هو عمل تعبيري مشحون بالانفعال وبالعاطفة، إن تلقائيتي في التعامل مع الخامة، واحترامي لشخصيتها ومطالبها تعطياني النتيجة المرغوب فيها، ثم انظر تماثيل ميكيل أنجلو مثل «العذراء الآسية» أو «الشفقة» هل تنقصها شفافية الروح أو العاطفة؟ والأمر لا يختلف سواء كان العمل كلاسيكياً أو حديثاً، الكلاسيكي يحمل شخوصه الانفعال والعاطفة، والنحات الحديث يحمل ضرباته وخطوطه وسطوح أعماله التجريدية هذا الانفعال والعاطفة، وما قلته حتى الآن، لا يعني أبداً استبعاد الوعي والعقل عن العمل النحتي، لأن هناك لحظات تنظيمية، تتعلق بالتكوين العام، وببعض النظم الجمالية، مثل الفارغ والمليء، ونسب المساحات، وحوار الخطوط وعلاقات هذه النظم بعضها مع بعض.
واسمح لي الآن «وقد ذكرت ذات مرةٍ في «تشرين» تكهني لمدينة دمشق»، أن أتكهن بمنطلقاتك النفسية وآلياتك العقلية، من خلال هذه الأسئلة الأخيرة، فأنت رجلٌ ذكوري حتى العظم، تعتقد أن الذكر قاس، ولذا يناسبه النحت، في حين أنَّ المرأة ناعمة، ولذلك فهي غير مناسبة لفنِّ النحت، وللذكر الوعي والعقل، وللأنثى شفافية الروح والعاطفة، وبالتالي فإن النحت تنقصه شفافية الروح والعاطفة. أية مغالطة هذه، أما علمت بما قدمه لنا علم نفس الأعماق من أن في نفس الإنسان نقيضه، أي لكلِّ ذكر «أنيما» تمثل الأنثى في تكوينه النفسي، ولكل أنثى «أنيموس» تمثل الذكر في تكوينها النفسي؟ أما علمت بأن الأعماق النفسية هي التي تقود صاحبها في غالب الأحوال، وليست سطحيات الوعي وفزلكات العقل؟
برأيك هل يمكن التعامل مع البازلت بكفاية ملائمة في هذا العصر، وما تصورك لمعالجة الإنسان القديم في سورية لتلك المادة فنياً؟
النحت ابن بيئته، ابن مواد هذه البيئة، في سورية، لا يتوفر إلا الحجر الكلسي والحجر البازلتي، الرخام منذ العهود القديمة كان يستورد من قبرص أو تركيا وبالتالي يمكننا القول أنَّ النحت فيه كان مكرساً للأغنياء، أما الحجر الكلسي والبازلتي فهما لمن ليسوا من الأغنياء، أي لمتوسطي الحال، أما الفقراء، فلا شأن لهم بهذا الأمر مطلقاً اللهم أعطني خبز يومي.
وبهذه المناسبة سأقول لك أنني سعيد جداً، أن أرى اليوم ثلاثةً من النحاتين المتمرسين جيداً بحجر البازلت، وقد كانوا من طلبتي، إن لم أقل أنهم من المريدين، وهم النحاتون: فؤاد نعيم، أنور رشيد، وفؤاد أبو عساف، فهؤلاء يسكنون المنطقة الجنوبية من سورية، الغنية بحجر البازلت، وينجزون منحوتاتهم بهذه المادة، وهي مطواعة بين أيديهم، ويكونون منها أعمالاً تنافس الفن القديم وتفوقها اتقاناً ودراية، ولكن بصيغٍ حديثة أقدرها كثيراً، أما بالنسبة للفن السوري القديم، فقد أنجز بها الحثيون والآراميون وعرب ولاية بصرى الرومانية أعمالاً تُثير الإعجاب، فقد منحتهم هذه المادة لطبيعتها الفيزيائية وتركيب ذراتها ولونها القاتم أسلوباً نحتياً مميزاً، تجلى بمواصفات من البساطة، والبحث عن الجوهري، والهيكلية الهندسية، وهذه المواصفات يسعى إليها النحت الحديث، ويكرسها في أكثر أعماله شهرة.

أنجزت إضافة إلى نصب صلاح الدين الأيوبي عام 1992، تمثالاً للشاعر أبي تمام عام 1983، وبورتريه للشيخ محي الدين بن عربي عام 1979، ورغبات جلجامش عام 1977، وحلم ليلة صيف عام 1976، وسفينة نوح الدمشقي الأولى عام 2001، وسفينة نوح الدمشقي الثانية عام 2002، وشرخ المحبة، ونصباً للشهداء والطوفان، وراهوم جنين، إلخ، إلى أي حد تقرأ، تتقاطع، تتفاعل، مع تلك الشخصيات، وما الأقرب منها إليك، وإلى روحك وذاتك؟
كل ما ذكرته وعددته، هو مساحة للروح والذات، وليس هناك من قريب وبعيد، فهي أشعة ذاتية متساوية البعد عن مركزية الذات، إلا أنَّها تتلون بلحظاتٍ عارضة زمنية، وتتفاعل، وتتقاطع مع همومٍ اجتماعية وإنسانية تحيط بي.
أعمالك احتلت مكانةً مرموقة، ولك موقعٌ خاص على المستوى الشعبي، وحولك هالة من المريدين والطلبة والزملاء والمثقفين، عملك صلاح الدين وضع على العملة النقدية لفئة 200 ليرة في سورية، وصدر طابعٌ بريدي يحمل صورته، إلخ.. إلخ، هل تعتقد أنك نلت ما يتناسب مع إبداعك؟
لم يطلب أحد مني أن أكون نحاتاً، وعندما اخترت هذا المجال كان اختياراً شخصياً، أرضيت نفسي، ونلت متعتي من عملي، وحقق عملي الاستجابة من المجتمع فماذا أريد أكثر؟


أحمد عساف

تشرين

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    صور الخبر

    بقية الصور..

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    د.باسم فاضل:

    اشكركم كثيرا على هذا الجهد الرائع لتعريفى بالنحت السورى الذى لا نعلم عنة شيئا
    برجاء ارسال ما يمكن من صور و معلومات عن الفنانين السوريين ووسيلة للتواصل معهم
    علما باننى نحات
    خالص تقديرى

    مصر

    ايمن درنة:

    السلام عليكم دكتور
    في الحقيقة انا اقراءة في سيرتك الذاتية وعلمة انك رائيس قسم الفنون وانا طلب في نفس الخصص وزجتي كذلك ونحن الان موجودين في ابريطانيا لدراسة الماجستير في النحت سوالي دكتور ان كان هذا التخصص موجود في جامعتكم اقصد الماجستير فنحن نرغب في ان ندرس في سورية اذا كان ذلك في الامكان وشكراً ارجو ان تصل الي الدكتور

    ليبية