تجار تدمر: وسيلة بين الحضر والبدو

26 08

في مفترق الطرق التي تربط بلاد ما بين النهرين والفرات بدمشق ومن هناك بالجزيرة العربية في الشمال، وكذلك أسفل العراق بحلب ومن هناك بالبحر المتوسط. كانت تدمر أثناء فترة استخدام الجمل، منطقة عبور للقوافل أُنشئت على سفوح ممرات الوديان، حيث الفجوات التي كانت تسمح بعبور الحاجز الجبلي الفاصل بين المنطقة الصحراوية وبين السهول الزراعية الكبيرة، إلى المدائن التي كانت واحاتها تمثل مرابط للقوافل التجارية.
لقد أسست تدمر ثروتها الكبيرة وزهوها بالاعتماد على التجارة بشكل كبير جاعلة منها عاصمة المملكة، وفي ذروة هذه التجارة شهدت سقوطها لأسباب أكثرها سياسية وعسكرية وليست اقتصادية. هكذا وعبر تاريخ تجارة القوافل فإنها كونت واحدة من مدائن الواحات في الصحراء السورية.
تعتبر المنطقة التدمرية، ويجب ألا ننسى ذلك، منطقة مراع طبيعية ثم أصبحت فيما بعد منطقة إنتاج رعوية، ولكن على ما يظن فإن هذه الوظيفة ثانوية وهي أقل قابلية للتغيير خلال فترة زمنية طويلة حيث كانت في الأصل من أجل سد حاجة المناطق الرعوية، فهي توضح لنا كيف أن تدمر استطاعت أن توجد قطعان الماشية من أجل تزويد القوافل التجارية والأدلاء والجمّالين والمحاربين الضروريين لحماية القوافل والسماسرة والتجار القادمين ضمن تنظيم هذه القوافل. ففي منطقة الرعي هذه تجتمع قبائل مربيي الماشية في الربيع وتبقى فيها حتى الخريف. ويوجد نوعان تقليديان للتطواف يتقاطعان فيها، أولهما للقبائل البدوية الكبيرة، الجمّالون قديماً الذين ترحلّوا أكثر من 2500 كم من شمال الجزيرة العربية حيث يتجمعون في الشتاء على الفرات أو في الشمبل Chombol (المنطقة الواقعة إلى الشمال الغربي من تدمر) حيث كانت لديهم مخيماتهم الصيفية وأراضي المزروعات. وثانيهما للقبائل البدوية الصغيرة وهم الغنّامون الذين تكون تنقلاتهم محدودة في سورية حيث يتوجهون بشكل تقليدي من الغرب إلى الشرق بما لا يتجاوز الأربعمائة كيلو متر.
لقد اختفى الجمل اليوم ومعه القوافل تقريباً من سورية وفقدوا الوظيفة التجارية، ونرى على العكس أن تربية الأغنام في اتساع عظيم منذ عشرين عاماً. فقطعان الغنم السورية تجاوزت ثلاثة ملايين رأس في عام 1961، وستة ملايين في عام 1969، وثلاثة عشر مليوناً في عام 1983 وهي تلبي الزيادة في الطلب على اللحم المتزامنة مع الزيادة في عدد السكان.
فالمدينة وارتفاع نسبة المعيشة في سورية وربما فيما بعد ارتقاء الملكية في البلاد البترولية قد جعل من غنم العواس ذي الذنب العريض المربى في البادية عاملاً مهماً ومتميزاً يؤمن إلى هذه السلالة شبه استقلالية في السوق التجارية في جميع بلاد شبه الجزيرة العربية.
ومن بين مدن المنطقة المزروعة حيث توجد الأسواق الكبرى للمنتجات الرعوية ومربي ماشية البادية هناك الواحات، مدائن الصحراء هذه ليست سوى محطات تسهل عملية التبادلات التجارية.
في أعوام الثلاثينات قام ألفرد دوبوشمان Alfred de Boucheman بكتابة مقالة متخصصة أصبحت مرجعاً عنوانها "السخنة مدينة قافلية صغيرة" "Suhné une petite cite caravanière" رسمت لوحة دقيقة عن نشاطات واحدة من هذه الواحات الواقعة على بعد 80 كم إلى الشمال الشرقي من تدمر وإلى الشمال من سلسة المنادر Manâder. ودراسته تخص فترة نهاية عصر الانتقال بواسطة الجمل وكذلك القوافل التجارية الكبيرة والتي شهدت تطور السكك الحديدية والآلات المجهزة بالمحركات. لقد رأى بوشمان بنفسه الانحدار الذي أصابها والذي لا تستحقه، فثلث سكان هذه المدينة النشيطين كان مؤلفاً من الجمالين أو رجال القوافل والتي شهدت بشكل تدريجي اختفاء مصادر الرزق التي كانت متوفرة فيها بالقرن التاسع عشر الميلادي.
كانت تلك في البداية سبب السوق السنوية الكبرى للجمال حيث يعمد أهل السخنة الحضر الذين لم يساهموا في تربيتها إلى شرائها من القبائل البدوية وتكون من الذكور الفتية لاستئجارها أو لبيعها ثانية.
كانت السخنة تؤمن كذلك بالاشتراك مع المنادرة Manader الآخرين (تدمر والقريتين) الجمال لباشا دمشق من أجل تجهيز قافلة الحج السنوية الكبيرة التي كانت تتجهز في هذه المدينة. ولقد كان أهل السخنة يقدمون بشكل خاص حيوانات الرحّل المخصصة لنقل الأمتعة والمؤن، وكذلك المدبرين الضروريين لمرافقة القافلة. كانت هذه الوظيفة منذ عهد قريب مصدر ثروة زعمائهم الذين كانوا يتعاملون باسم مواطنيهم، وقد انتقلت المدينة في عام 1880 لتبعية الملتزمين الدمشقيين الذين أصبح أهل السخنة خاضعين لهم.
إن دور محطات التوقف في الواحات ينهار أيضاً شيئاً فشيئاً ومعه تجارة القوافل. فقناة السويس، وتطور وسائل الاتصال البحرية بين إيران والعراق مع حوض البحر المتوسط ثم السكك الحديدية فيما بعد منذ أوائل القرن قد عدلّت الطرق التجارية وطرق موجات الحجيج السنوية فافتتاح الخط الحجازي في عام 1903 ثم تمديد طريق بغداد نحو البصرة قد حوّل قوافل الحجاج القادمة من العراق وإيران فانقطعت عن التعريج على إقليم تدمر بعد عام 1913. وكذلك فإن الأسواق التجارية المعدّة على عجل والتي كانت ترافق تعريجهم على تدمر قد اختفت. أما بعد عام 1914 فقد انتشرت بسرعة استخدامات الشاحنات الكبيرة والسيارات، وأصبحت طرق مواصلات المركبات التي تربط المدن الكبرى تلف البادية. ومع ذلك فإن نقل الحرير من الموصل إلى حلب كان يتم عن طريق القوافل في عشرينات هذا القرن على حد قول الرواية التي قدمت لنا من قبل أحد أحفاد علي سويف، وهو تاجر قافلي من السخنة، كان يملك حمولة عشرين جملاً من الحرير وأكثر من ذلك لوقت طويل. وفي عام 1935 أعاد السيد س. غرانت C.Grant من جديد مرور آخر القوافل التجارية الكبيرة عبر دمشق ومنذ ذلك الحين لم يستخدم الجمل إلا لنقل البضائع والسلع والمنتجات المحلية، ووجد الجمّالون ورجال القوافل أنفسهم دون عمل. من جهة ثانية فإن الانفتاح الاقتصادي الممارس من قبل سلطة الانتداب قاد إلى الانحطاط التدريجي لكثير من الصناعات المحلية وإلى انهيار المواد الأولية التي كانت مخصصة لهم، فلقد توقفت تجارة عمال الصابون في حلب بسبب عدم استطاعتهم منافسة الأجانب شيئاً فشيئاً. وبالنتيجة فلقد تدهورت تجارة النشادر والملح والبوتاس التي مصدرها إقليم تدمر وكذلك فقدت السخنة وتدمر أيضاً مصدراً كان حتى ذلك الوقت أساسياً ونظامياً. لقد كان النشادر يستخرج من الأشنان، وهو نبات منتشر بكثرة في إقليم تدمر وأهل السخنة كانوا يجمعونه في الصيف. فكانوا ينظمون قوافلهم عدداً من المرات في كل عام للتوجه به إلى حلب أو نحو الفرات.
وأخيراً فإن طريق التقدم في هذا الإقليم بدأ بالمضي به نحو تمدن البدو، واختفاء عالم البداوة. لقد كان أثر الحدود الجديدة التي تقطع البادية بين عدد من الدول الخارجة عن الإمبراطورية العثمانية قوياً في تحديد تحركات القبائل التي وجدت أرضها تحت السلطة العسكرية وتنقلاتها خاضعة للإزعاج نتيجة مراقبة البدو. لقد كان تمدن البدو بشكل كبير يلقى التشجيع من قبل سلطات الانتداب التي كانت ما تزال موجودة حيث بدا أنه من الواجب عليها جذب الرحّل إلى الزراعة وإلى التوقف عن الترحال.
هذا التطور كان يتسارع بسبب الحالة الاقتصادية الميؤوس منها للسكان البدو والخسارات الضخمة القاسية بسبب تعاقب مواسم الجفاف الاستثنائية. ففي بداية أعوام الثلاثينات من هذا القرن قضى نحو عشرات الألوف من الجمال نحبه وأضيف إلى ذلك هبوط أسعار الجلود والصوف بنسبة 35% منذ بدء الانتداب ونقصت قيمة النقود التركية الفضية بنسبة 40% حيث كانت ما تزال تستخدم في المصالح والعقارات مع البدو.
في عشية الحرب العالمية الثانية رسم بوشمان Boucheman من جديد معالم هذا التطور متنبئاً في ملخصاته السقوط الحتمي للمدينة الذي كان يبدو له، كما في العديد من العصور التاريخية، رؤية لا جدال فيها. وبعد خمسين عاماً، افتتح في عام 1982 طريق دمشق ـ تدمر ـ دير الزور الذي أحاطه حديثاً شمال إقليم تدمر، فعدنا لزيارة السخنة مرة ثانية ضمن بعثة عملت بين عامي 1985 و1989. لقد أصبحت السخنة منذ عام 1960 مركز ناحية تضم عدا عن قراها التابعة لها مثل (الطيبة، الكوم) مراكز استقرار البدو المتحضرين أو نصف الحضر إلى الشمال من إقليم تدمر، وأصبحت المدينة الصغيرة في نهضة كبيرة، فالنسبة السكانية التي كانت فيها مستقرة منذ ما يقرب القرن انفجرت في ازدياد من ثلاثة آلاف نسمة في عام 1960 وذلك حسب تخمين كل من بوشمان والسيد موسيل Musil وتجاوزت الستة آلاف في عام 1970 والاثني عشر ألف في عام 1985 والى 15 ألف في عام 1989.
إن الأشكال الحالية للتجارة وشبكة العلاقات التي نلاحظها فيها، تكتنفهما حيوية ومرونة التنظيم التجاري الدقيق حسب تعبير بوشمان. فكل شيء في سلام، والظهور الأخير ذو العناوين المتنوعة يقارن بذلك الملاحظ في جهة ثانية أو في عصور أخرى، في مدن أخرى من الصحراء أو الجبل، في الجزيرة العربية أو في المغرب وكلها تقع في محيط قاس ذي شروط مناخية قاسية.
1ـ تنظيم تجاري دقيق:
إذا لم يستخدموا غير لقب تجار، اللقب الأكثر نبلاً من أجل نشاطاتهم، فإن أهل السخنة يُلَّقبون بناس التجارة، أو الذين يعيشون على التجارة مع البدو وبطريقة وبأخرى فإن نشاطاتهم المتعددة وثيقة بالإنتاج وبالطرق وبأهل البادية، فحضر البادية أولئك هم صلة الوصل بين البدو العرب والمدينة فهم يتعاملون بكل المنتوجات الرعوية (لحم ـ صوف ـ سمنة) والكمأة وأحياناً نبات الأشنان وكل ما يستهلك في البادية ويستخدم حيث تتم مقايضتها بالقماش والألبسة ومواد وتجهيزات مختلفة تخص البدو وكذلك الحبوب والعلف وتجهيزات من جميع الأنواع ضرورية للحياة في البادية هذه الأيام مثل الماء من أجل الحيوانات والبنزين والزيت والدواليب وقطع غيار الشاحنات والتركتورات وسيارات النقل الصغيرة.
وتجارتهم بشكل تقليدي تتوجه نحو حلب وبشكل عرضي واستثنائي نحو حماه ومدن الفرات مثل الرقة ودير الزور والبوكمال ثم تنوعت ومدت شبكاتها نحو دمشق وحتى بلاد الخليج العربي فجعلت من المدينة مركزاً لما يحيطها من المناطق لتصريف المنتجات الرعوية. في مخيمات تقام في أسواق السخنة حيث يصدرون منها نحو المدن الكبرى أو البعيدة ثم يعودون من جديد جالبين معهم من حلب ودمشق أو من الخليج المنتجات المصنعة التي ستباع في السوق وفي البادية. ويلعب أهل السخنة ضمن اختصاصهم دوراً شبه امتيازي ويشغلون كل مراتب الوظائف.
إن الخاصية الأكثر بساطة والأكثر تميزاً، والتي يتمتعون بها، تتمثل في ظاهرة البائع الجوال الذي يسعى إلى رزقه عبر التنقل بين القبائل حيث كان ينصب خيمته البيضاء تحت حماية شيخ من القبيلة فتعتبر نوعاً من البازار المحلي. أما اليوم فنجده بالقرب من المراكز الحكومية. ومنذ عدة أجيال يزاول شباب المدينة التجول للبيع والنقل وهذا ما سنراه لاحقاً فيضيفون إلى معارف البادية والقبائل والى لهجاتهم المتنوعة ما تعلموه وزاولوه، متتبعين القبائل في تنقلاتها الموسمية. أما فيما يتعلق بلقب السخني فإنه عند البدو كالقبيسي في جهات العراق وكالرجباوي في جنوب العراق والذي يعتبر رديفاً لوظيفة "تاجر قبلي". إن هذا العدد الوافر من صغار الباعة المتجولين الذين ينتشرون في البادية مرتبط بسوق السخنة التي تعتبر السوق الإقليمية حيث يتموّنون، وعمال السوق من حانوتية أو تجار هم بمعظمهم شبه تجار بالجملة فلديهم الأسلوب الحضري حيث يذهبون فيشترون من المدينة البضائع ويعودون فيبيعونها من جديد.
إنهم يزوّدون ويموّلون شبكة من الباعة المتجولين والسماسرة بين خمسة إلى ستة وحتى إلى اثنتي عشرة ـ من أفراد أقاربهم... الذين يشترون أثناء عودتهم المنتجات المجمّعة في البادية لحسابهم. وإلى هؤلاء الحانوتية الذين لديهم بيوت خاصة ينضم في الأعوام الجيدة عدد غير محدد من التجار الذين يملكون رأس مال صغير للاستثمار، فيستأجرون مخزناً جامعين لحسابهم في بداية الموسم الصوف والسمنة آملين في زيادة الأسعار. وحانوتية السوق هؤلاء يهتمون بتوجيه السلع نحو حلب ومن هناك يتزودون بالحرير والحبوب والبذور، وأما المنتجات القابلة للتلف مثل الكمأة والمخصصة للتصدير فتذهب نحو دمشق والخليج، وهناك علاقات تتم أيضاً مع مدن الرقة وحماه من أجل الغنم. وفي المدن فإن تجار السخنة تربطهم علاقات مع الخانجية أصحاب الخانات وبائعي الجملة والذين هم غالباً مواطنون يمكن إرجاع استيطانهم المدني إلى عدة أجيال. فخانجية حي باب النيرب في حلب قرب سوق الهال الذين استقروا حديثاً في الرقة، وخانجية حي سخّانة في حماه قد امتلكوا مستودعات ومخازن حيث يضعون بضائعهم للبيع وهم وسطاؤهم لدى الصناعيين أو لدى كبار تجار الريف المصَّدرين.
فهم يحددون نسبة مئوية أو يقتطعون مبلغاً معيناً لكل قطعة من السلع التي يؤتمنون عليها، ويمكن للمودعين أن يكونوا أيضاً مشترين للسلع التي تخزّن معتمدين على تنوع البضائع. وفي جميع الأسباب فإنهم يدفعون سلفاً في بداية الموسم إلى زبائنهم عند تزويدهم المسبق بالبذور أو السلع المتنوعة، ولذلك فإن أصحاب الخانات يلعبون بالتناوب أدوار السماسرة والتجار المصرفيين.
ولإكمال دراسة وتحليل شبكات التجارة وإظهار كل تعقيداتها فإنه يجب إضافة دراسة السماسرة والنقالين والوسطاء كل على حدة الذين يتوسطون في كل مرحلة من المراحل فيمررون ويتداولون الأغنام والصوف والسمنة... الخ وكذلك الحبوب والعلف وكل السلع المجلوبة عبر الحدود وطرق البادية.
يعمل الدلال أو السمسار على إقامة علاقة بين البائع والشاري في السوق نفسه حيث يتواجدون متباعدين. وفي السوق يقود المزادات ويختار بمهارة الماشية أو السلع حيث توجد لبيعهم، مفاوضاً في الأسعار لحساب زبائنه (المشترين أو البائعين) ثم يكافأ بعمولة. فيما مضى كان الجمال والنقال والذي يشحن ربما والسائق البسيط المالك أو المستأجر لشاحنة صغيرة، مالكاً للحمولة أو مكلفاً لحساب جهة ما. أما في زمن القوافل فإن وظيفتي الدلاّل والجمّال كانتا تشغلان من قبل شخص واحد، ودليل القافلة يمكن له أيضاً أن يعمل كدلال فيها. واليوم هناك أنواع عديدة من العقود يمكن أن تعقد بين الناقل وشريك موصّى فالناقل هو عامل أو مسّهل معاملات لحساب تاجر مدني يزاول الاستيراد والتصدير. فإنهم تمركزوا في حلب وفي حماة مع موقع قدم في بيروت ـ في حي المسالخ وفي قبرص ومينائها ليماسول منذ عام 1975 وكذلك في الكويت أو شبه الجزيرة العربية ونجد حفنة من كبار التجار يزاولون استيراد وتصدير الأغنام وتجارة ثلاثية الأفرع ممتدة بين تركية وقبرص وشبه الجزيرة العربية.
في السخنة ذكر لنا أن خمسة أو ستة من الأهالي تركوا النساء والعائلات في المدينة وأقاموا في الغربة مكاتب تدار من قبل أحد أفراد عائلتهم في مختلف المدن التي توجد فيها السلع التجارية التي تناسب اختصاصهم إلى حد بعيد. أما بالنسبة للمتاجرة بالمنتجات الرعوية البعيدة جداً عن غاياتهم فتبقى المحطات تستخدم من قبل السخاخنة. أما الوظائف التجارية المختلفة فهي بعيدة عن التنافس إذ أنها مرتبطة بشكل ضيق بشبكات من القرابة والتحالف المتمثلة في الجماعة نفسها.
يرسل صاحب الحانوت واحداً أو عدة من أحفاده الشباب إلى البادية ويقوم بتشغيل الأخوات والأهل الذي يمدهم بآلة خياطة لصنع الألبسة البدوية التي يأخذ منها طلبه ويدفع لهم أجرهم بالطريقة المناسبة. يعتمد بدوره على العم أو ابن العم المقيم في المدينة. والتجارة هنا نشاط شخصي فكل واحد يظهر إمكانياته الشخصية ويبين قدرته مدفوعاً من خلال عقود الجمعية التي تسمح له بإيجاد تمويل ومكان ليقوم بتشغيل أو استثمار أمواله. وهذه الجمعية تتفق مع هذه التجارة غير المنتظمة. فالزبائن ـ 80% منهم بدو ـ يبقون هم الدافع. وهؤلاء الزبائن مكوّنين من القبائل التابعة لتدمر وتأتي في الصدارة تلك المسجلة في ناحية السخنة مثل السبعة - البطاينة والصاري وهم من اتحاد العنزة الكبير الجمّالين القدماء. وبدو صحراء النفود في الجزيرة العربية، الذين يستقرون في اسريّه حيث يقيمون مخيمهم الصيفي، واليوم أراضيهم الزراعية، والعمور الغنّامون الذين أقاموا في الجبل المطل على الواحة، ويضاف إليهم الحديديون والموالي وبنو خالد وهم جماعات قبلية مسجلة في الدوائر الواقعة إلى الغرب ولكن مسارات ترحالهم تمتد حتى إقليم تدمر. وهي تحافظ على علاقات نظامية جيدة مع أهل السخنة فيما يتعلق بتربية الماشية أو الزراعة، وقبائل الرولة الكبيرة إلى الجنوب وقبائل الفدعان إلى الشمال وجماعة من المربين شبه البدو أو شبه الحضر الذين يقيمون في قرى المنطقة المتصلة مع أطراف البادية وهي منطقة زراعية ـ رعوية تمنح المراعي الخصبة الحرة لإقليم تدمر. إنهم يأتون من منطقتي الباب ومنبج التابعتين تقليدياً لمحافظة حلب.
إن النشاط المحلي هو نشاط موسمي يبلغ الذروة في فصل الربيع ويشهد فترة ثانية من النشاط في الخريف عندما تتجدد خضرة المراعي بعد الهطولات المطرية الأولى ومجيء البدو للقيام بتحضير مؤنهم للشتاء. فتنتعش السوق وتتضاعف عمليات البيع والشراء عند أصحاب الحوانيت بنحو عشرة أو عشرين مرة. وبعد انقضاء الموسم عندما يتيبس العشب وترحل الجماعات نحو المناطق المزروعة فإن سوق المدينة يتوقف نشاطه، أما بائعو المفرق الجوالون الملتصقون بالبدو فيقيمون في المخيمات التي تنصب في محيط قرى الجزيرة هناك حيث تمضي هذه الجماعات الصيف، ويرافقهم كذلك عدد من الصناع والحدادين والميكانيكيين الذين يكلفون بصيانة شاحنات وتركتورات وصهاريج مربي الماشية والبعض أقاموا فيها بصعوبة دكاكين لبيع التوابل والبهارات ثم استقروا فيها وسكنوا تاركين عائلاتهم في السخنة، بينما هناك تجار آخرون مخصصون أكثر لتجارة القماش يقومون بجولات بين المخيمات ضمن السيارات. أما النشاط التجاري في البادية فإنه خاضع لمنتجات البادية التي بدورها تتأثر بالعوامل الجوية إلى أقصى الحدود حيث تشهد تنوعات كبيرة بين عام وآخر. فهذه التجارة ذات الأرباح البسيطة تقتضي المخاطرة الكبيرة وذلك ناتج عن عدم استقرار السوق والتمهيد المستمر لعقد السلف أي فتح اعتماد متفق عليه للزبائن البدو؛ وحسب هذه الطريقة التي تعتمد على وفاء الزبائن تمنح البضائع في بداية الشتاء أو شيئاً فشيئاً حسب الطلب حيث يتم دفع 20% على الحساب والباقي قابل للدفع في الموسم أي في الربيع.
عندما يحين موعد بيع اللبن والأعلاف والصوف، والتاجر الذي يبيع للبدو بالدين لا يأخذ فائدة على ذلك بل يزيد أثمانه من 20ـ30%. واليوم تتموّن القبائل بالأعلاف الاصطناعية والمواد الغذائية المتنوعة أثناء الشتاء، حيث تكمن أهمية المبالغ المرهونة للشراء. ولاسيما ما يُتاجَر به مشافهة حيث يسجل التاجر ضمن دفتره الذي يقوم مقام الميثاق كل المواضع الجوهرية للعقد مثل النوعية، الكمية المزودة، التاريخ، السعر المتفق عليه، اسم المشتري، اسم الكفيل، أما الصلات بين التاجر وزبونه فتمليها العادة حسب عادات التاجر الاجتماعية نفسها. فهي مبينة على الثقة والمعرفة التي تعتمد على علاقات شخصية مقامة مع الزبون البدوي الذي يوصف بالصديق، وهي أحياناً مصانة منذ أجيال عديدة لدى العائلات التجارية التي تحافظ بدقة على دفاترها التجارية والتي غالباً ما تحتوي على علاقات الضيافة المتبادلة بين التاجر وزبونه البدوي حيث يقيم التاجر عند صديقه أثناء جولاته في القبيلة بينما يجد البدوي بيتاً له في السخنة، أثناء زياراته للسوق. وأي من هذه الصلات لا تنفي قطعاً أموراً تتعلق بالتجارة مثل المساومة على الأسعار وتقدير مدى إمكانية انتظار دفع الديون الممنوحة لهم من قبل التاجر. فالتاجر الأفضل هو الذي يملك الصبر الأكثر.
تمتد شبكة الزبائن حسب مبدأ الكفالة المقدمة من قبل الزعماء أو الزبائن الأصدقاء إلى أهل هؤلاء التجار وذويهم الأكثر هيبة. أما أثناء الهجرات الموسمية فإنهم ينتشرون في كل الجزيرة إلى ما وراء نهر الفرات وإلى الجنوب في حوران وفي الأردن هناك حيث تصل الطرق الصحراوية والى بلاد الخليج حيث هاجر زبائنهم البدو.
في السنوات الماطرة يزهو الجميع، يعود البدوي إلى السوق فتنتعش أسواق المنتجات الرعوية، أما في الأعوام الجافة عندما لا تشهد البادية الربيع فإن إيفاء الديون يصبح صعباً ويجد مربو الحيوانات أنفسهم مضطرين لبيع الماشية التي لا يستطيعون إطعامها؛ ويرغمون على الاعتماد على اللبن والحليب والسمنة... الخ وتنهار الأسواق. وبسبب هذا التقييد يغادر الزبائن البدو إقليم تدمر مما يضطر التاجر للقيام برحلات مرهقة وأحياناً غير مجدية وراءهم حيث اختفوا وانتشروا في المناطق المزروعة للعثور على مديونيه وإذا وجد أحدهم فسيكون مرغماً على إسقاط جزء من الدّين منتظراً موسماً أكثر ازدهاراً بعد أن يتم التفاوض من جديد بشأن صيغ العقد حيث يتم إعادة النظر في خفض الأثمان. هذه الطريقة هي من عادات البادية في الشرق الأوسط كما في الغرب إنها ترتقي إلى تقليد التضامن عند أهل البادية في فترات الضيق وإلى الأفكار المشتركة بينهم تجاه الحوادث المحتملة. مما يدفع بالتاجر إلى تجاوز الحدود مع الزبون البدوي ليحافظ على عدم الانقطاع النهائي للعلاقات معه.
يرتبط الرخاء والجدب هنا أكثر من أية جهة أخرى بما تجود به السماء فيرتبطان بالأمطار ويتعاقبان بطريقة غير متوقعة فلا يبدوان كثمرة عمل في البداية، وفي هذه الظروف والشروط تبدو الديون المترتبة على الزبائن البدو غير محرجة قطعاً.
وعدا عن البدوي والخانجي فإنه يوجد طرف ثالث يتعامل مع التاجر بطريقة السلفة إنه المواطن المدني، ومع ذلك فإن وضع التاجر السخني الوسيط يبقى غير مؤكد أو مريح، فهو يزدهر في الأعوام الممطرة ولكن رأس ماله يذوب في الأعوام الجافة عندما تهبط الأسعار أثناء الموسم، أما إذا كانت المواسم الجافة متلاحقة فإن التجارة المحلية تتوقف ويجد الضعيف نفسه بسرعة مستديناً ومجبراً على الهجرة إلى البعيد أما الذي يستطيع إنقاذه وتخليص رأس ماله فإنه يرسله للاستثمار في المدينة.
2ـ الانتقال:
بمواجهة الصعوبات وتقلبات الجو فإن أنجع وسيلة عند حضر البادية هؤلاء هو تنوع الموارد والتحرك السريع، فالتنويع قاعدة عامة، والتجار السخنيون لديهم كل الفوائد في تربية الحيوانات وزراعة الشعير. إنها نشاطات يقوم بها عدد من الاختصاصيين لحسابهم مستمدة من أسلافهم بالاشتراك مع رعاة أو ملاكين بدو لكنها نشاطات مرتبطة بشكل ضيق بالبادية وهي بشكل عام خطرة تعيق الموارد. أما الانتقال من وضع إلى آخر فهو أيضاً عام عند هؤلاء الحضر الذين يبقى لديهم مستوى المعيشة آنياً. ويشكل عامل مرن للتوافق مع البيئة أو مع الضرورات. فتأخذ أحياناً شكل هجرة موسمية أو هجرة الرجال لمدة غير طويلة إلى المناطق البعيدة وهجرة جماعية للمجموعات العائلية نحو المدينة في الظروف القصوى.
حملت أعوام الخمسينات مفاجآت عديدة فيما يتعلق بهذه القضية وخلال الأعوام العشرة الممتدة بين عامي 1960ـ1970 حدثت أهم الهجرات والنزوحات بعد الأعوام القاسية التي ارتبطت بالجفاف الذي توالى بين أعوام 1958ـ1961، وكذلك الرحيل الكثيف المفاجئ للبدو في عام 1965، الذين هربوا من شدة الإجراءات الاشتراكية بشأن تنظيم قانون الإصلاح الزراعي. أما أهل السخنة المتعلقون بزبائنهم فكانوا مرغمين على إيجاد أماكن يلجؤون لها في المدن، فأعمال سد الطبقة ومشاريع الإرواء التي بدأت على الفرات قدمت الرواتب والأمل المرجو لنشر التجارة مما جعل الرقة مقراً لسيل المهاجرين.
إن الهجرات والنزوحات لا تؤدي إلى تفتيت وإضعاف الأرض وتشتت المجموعات الأسرية في هذه الواحات، فالهجرات تتم حسب العلاقات القائمة على صلة القرابة والنسب، وشخصية أهل السخنة محافظ عليها بواسطة التجارة، إنها تقودهم إلى ضواحي المدن الكبرى على أطراف البادية، هناك حيث أقاموا في أحياء منذ عدة قرون ومواطنوهم الذين يتاجرون في نفس أفرع النشاط يحتفظون بالخانات التي تخدمهم بشكل اعتيادي كمحطات وصل. كما نجد في بعض المدن أحياء أو مساجد تحمل اسم السخانة كما في حي الميدان بدمشق وكما في جهة حي الحاضر في حماه وبالقرب من باب النيرب في حلب، وفي دير الزور وحديثاً في الرقة، في هذه الضواحي حيث احتفظوا بطابع ريفي واضح جداً يجد المهاجرون المساعدة كرؤوس أموال وعمل في الاختصاصات التي تناسبهم.
إن المصاهرات والأعمال تنشط الحياة في هذه الشبكات والزواج المبني على صلة القرابة طريقة متبعة يحافظون من خلالها على العلاقات مع المدينة الأم حيث يقوم المهاجرون باتخاذ زوجاتهم وتزويج بناتهم. يساعد على توحدهم شخصية السخني المتجددة النشاط كما في الرقة حيث وجدوا في نفس الحي، كما أن أهل السخنة يعودون إلى هجرات متنوعة فأهل السخنة الذين هم من السخنة يجاورون أهل السخنة الذين هم من الكوم والسفيرة حتى في حلب حيث تركت عائلاتهم المدينة الأم السخنة في بداية القرن أو أقدم بقليل.
لقد طافت الهجرات المتوالية الحدود منذ عام 1970 وخاصة في عام 1973 فإن الترحال قاد الرجال إلى الأردن وبلاد الخليج العربي والى ليبيا واليونان ولبنان حديثاً والى كل مكان يجدون فيه إمكانية العمل كمستخدمين بالأجرة.
ومع رؤوس الأموال التي يعودون بها فإن أهل السخنة قد أعادوا من جديد تنشيط التجارة في الواحة مغيّرين فيها كل الأساليب القديمة التي عمل بها كبار التجار المدنيين في أعوام الخمسينات في الجزيرة والفرات، أما اليوم فإن تجار السخنة يستثمرون أموالهم في بادية إقليم تدمر فيمولون عمليات تربية الماشية وزراعة العلف مثل الشعير فأصبحوا بذلك مقاولين زراعيين وفي بعض الأحيان مربي ماشية مستفيدين من تشجيع الجمعيات التعاونية التي شكلتها الدولة والتي سمحت بتقليل المخاطر، فضاعفوا العقود المشتركة مع البدو، واعتمدوا على الأسواق. كذلك فإنهم استثمروا أموالهم بشكل خاص في مجال الشاحنات حيث أعادوا من جديد وظيفتهم القديمة في تجارة القوافل على طرق النقل الصحراوية في النقل المحلي والإقليمي أو إلى المسافات البعيدة. تعتبر قدرة الشاحنات اليوم عنوان ازدهارهم، كتلك التي كانت للجمال قديماً، والتي تكفل لهم بعض الطمأنينة. ويحصى في السخنة في عام 1989م أكثر من 120 شاحنة ذات حمولة ثقيلة تزاول النقل العالمي. إن أصحاب الشاحنات من أهل السخنة والرقة أو من السفيرة، وبسبب الاستثمار في النقل، وهو ظاهرة تتقاسمها مختلف الجمعيات في السخنة، يأتون للتسجيل في مكتب الشحن في حلب كل شهر من أجل الاشتراك في المواكب الكبيرة التي تتوجه إلى الخليج، أما العودة من الخليج فتكون بعدة طرق مستقلة فهي بالنسبة لهم مناسبة للتجارة الشخصية، تجارة القطع القماشية الصغيرة وبعض الأحيان حسب الفصل والمناسبات. إنهم ينقلون أغنام المربين من إقليم تدمر نحو الجزيرة العربية أو نحو حوران والأردن في وقت ارتياد الماشية للكلأ والصوف في فترة اجتزاز الصوف والسمنة والشعير والقمح المحصود (الحنطة) ثم يرجعون معهم لاحقاً التبن والعلف من الجزيرة إلى إقليم تدمر أما محصول القطن فإنه يجمع على الفرات وفي كل منطقة حلب مشتغلين أحياناً بالمواكب الشبيهة بالقوافل الكبيرة وأحياناً بشكل شخصي وبإيقاع متسارع يباشرون من جديد مهنة أجدادهم.


فرانسوا ميترال

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

rachat de credit:

Obtain and select some good things from you and it helps me to solve a problem, thanks.

- Henry

Deutschland