الإجراءات الأمنية في تدمر في القرنين الأول والثاني ميلادي

15 09

ـ1ـ
كانت الدول التي تقيم جماعات بدوية داخل حدودها، تلقى الأمرين في تعاملها معها؛ ذلك أن الحياة البدوية، التي تعتمد على التنقل وراء المرعى، لم تكن تجد ما يكفي السكان من حاجات المعيشة. ومن ثم فقد كان من الطبيعي، عندما ينظر إلى المسألة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أن يحاول هؤلاء الحصول على مورد للعيش إضافي، ولكن على حساب الجماعات المستقرة. وكان هذا مما يؤذي العمل الحكومي الإداري. إذ أن المجتمعات الريفية والمدينية كانت تتعرض للنهب، كما كان المسافرون، تجاراً كانوا أم حجاجاً يتعرضون للسلب.
إن الدول القديمة في الشرق القديم أو الدول التي أدارت شؤونه مثل الفرثيين (البارثيين) والرومان وخلفائهم الساسانيين والبيزنطيين، استغلت هذه القبائل البدوية التي كانت تقيم ضمن حكمها أو في مناطق قريبة منها، في خلق "دول ـ حدودية". وكان يدير شؤونها زعماؤها الذين كانوا على علاقة باطنة أو ظاهرة مع الدولة الكبرى. ومن هنا فإننا نجد، عبر الأزمنة الطويلة، وخاصة خلال القرون الثلاثة قبل الميلاد والقرنين اللاحقين له، أن عدداً كبيراً من "المدن ـ الدول" عربية أو آرامية عربية، كانت تقوم في المنطقة، ولها كل مظاهر الاستقلال المحلي، ولكنها كانت دويلات متعاهدة مع واحدة من الدول الكبرى.
وعندنا من هذه المدن أمثلة حترة (الحضر) والحيرة شرقي الفرات، وتدمر والبتراء في الجهة المقابلة.
وقد لجأت السلطات إلى وسائل مختلفة للتعامل مع القبائل البدوية وحل مشكلاتها في العصور الحديثة. فالدولة العثمانية مثلاً جربت في القرن التاسع عشر، وخاصة في نصفه الثاني، أن "توطن" البدو بحيث يستقرون. ولجأت الدولة إلى القوة، فأرسلت الحملة تلو الحملة. ولكن هذه المحاولة فشلت، وظل البدو عنصر شغب وإزعاج للدولة. ولذلك سبب اقتصادي أصلاً، ذلك أن الأرض التي أرهقتها الحروب وأتلفتها المعارك وأدى تخريب القنوات إلى تحللها بعد جفافها، لم تزود البدو بحاجتهم من المادة الغذائية الأساسية. ثم إن البدوي عندما يشعر بأنه سيغلب على أمره يطلق ساقيه للريح إلى أعماق الصحراء. والقوى المنظمة لم تكن تستطيع اللحاق به.
ـ2ـ
في أوائل القرن الحالي (القرن العشرين) جربت الحكومة وسائل أخرى. إن البدو في صحراء سينا كانوا دوماً عنصر إزعاج للحكومة المصرية. فلما عين جارفس بك محافظاً لسيناء أنشأ فرقة شرطة هجانة، واختار عدداً من أبناء البدو للعمل فيها. ولأن هذه الفرقة المنظمة كانت تعرف مداخل الصحراء ومخارجها، فقد نجحت في توطيد الأمن. وعندئذ انصرف الكثيرون من حياة التنقل المستمرة إلى حياة فيها بعض الاستقرار، فأحيوا الأرض التي كانت قد ذبلت بسبب الإهمال.
وقد حدث في العراق والأردن شيء من هذا، ولعل النتائج في الأردن كانت أجدى. بدأ الاهتمام بهجانة من البدو بعيد ثورة 1920 في العراق. وقد أدى ذلك إلى أن استتب الأمن في بعض المناطق وكان ثمة بعض الاستقرار.
كان جون غلوب، المعروف باسم أبو حنيك، قد عمل في العراق لما جاء إلى الأردن ليتولى الشأن العسكري هناك. كان سلفه فريدريك بيك قد بدأ بتدريب فريق من الهجانة للمحافظة على الأمن في الصحراء. وقد توسع غلوب في أعماله وأنشأ مع ضباط بريطانيين ما عرف باسم قوة الحدود الأردنية. وكان أفرادها مع الهجانة من الشباب البدوي. وهكذا بسبب اجتماع الأمن والعمل، ساد شيء من النظام في هذا المجتمع.
ـ3ـ
هذه المحاولات والتجارب الحديثة لها سوابق في العصور القديمة ـ وخير مثلين على ذلك الأنباط والتدمريون.
إن سكان المنطقة التدمرية هم عرب هبطوا على هذه الرقعة لمّا هاجروا من جنوب غرب بلاد العرب. ومثل ذلك يقال عن الأنباط سكان البتراء. وقد كانت القبائل الأم ـ أي التي كانت تقيم في جنوب غرب الجزيرة ـ تتعامل مع التجارة وتهيئ القوافل وتنظم حمايتها لعصور طويلة.
وقد أصبح الأحفاد، من الأنباط والتدمريين، أيضاً تجاراً لأن بلادهم تفتقد الطرق الرئيسية في المنطقة.
وقد أدرك الأنباط أنه خير لهم وأجدى، على طول المدى، أن يحموا القوافل ويحضروا لها وللتجار مخازن ومنازل، من أن يهاجموا هذه القوافل وينهبوها.
كانت تدمر، على ما تبدى لنا من الكشف الأثري والوثائقي، مركزاً تجارياً مهماً حتى لمدة ألف سنة قبل الميلاد. ولمّا اتجهت طرق تجارية عديدة إلى "عروس الصحراء" فقد ازدادت القوافل عدداً والتجارة كماً، بحيث أنها أصبحت، في القرن الأول قبل الميلاد، المركز الأول لتجارة المنطقة. ولما احتل تراجان البتراء (106م) أخذت أهميتها التجارية تضمحل، وتحولت طرق التجارة عنها إلى تدمر.
وقد ارتأت السلطات التدمرية أنه من المصلحة أن تؤمن للتجار جميع أنواع الضمانة لسير أعمالهم. وقد بدأ هذا في أمرين: الواحد هو اللوح الجمركي (يعود إلى سنة 137م) الذي يحدد أنواع الرسوم الجمركية التي يتوجب على التجار دفعها عن كل سلعة، سواء في ذلك ما يدخل المدينة، أو ما يخرج منها؛ والثاني هو الحماية.
وقد تم ذلك عن طريق إنشاء فرق من الهجانة لتضبط الأمن في منطقة واسعة. ذلك أن التدمريين كانوا يعتبرون أن مسؤوليتهم في حفظ الأمن تشمل المنطقة الممتدة من الفرات إلى حماة ودمشق. ولنتذكر أن دورا أوروبوس (الصالحية) على الفرات كانت ميناء لتدمر.
والذي قامت به البتراء، بلغت فيه تدمر الذروة في الإتقان. فقد كانت فرق الهجانة تدرب تدريباً تاماً، وكان أفرادها يختارون اختياراً خاصاً. كانت المراكز الرئيسية للفرق تقوم في تدمر؛ لكنها كانت تذرع مئات الأميال، وكانت تلجأ إلى أبراج أو إلى قصور مسورة محصنة للإراحة والتبديل. وقد كانت سرعتها ونشاطها يساعدها على ضبط الأمن والحؤول دون الإخلال بالأمن.
ويبدو أن تدمر رتبت أمر إشراك الفقراء في المدينة ببعض الأرباح. لعل هذا لم يكن أمراً رسمياً أي حكومياً، ولكنه كان يتم.
وبهذه المناسبة، وعلى سبيل المقابلة، فإن قريش التي كانت لها الصدارة في تجارة مكة قبل الإسلام، جعلت جزءاً من الأرباح يجد سبيله إلى المحتاجين؛ ولو أنه هنا كان يتم على أيدي أشخاص معروفين وبطريقة رسمية وتعنى بها مؤسسات متفق عليها.


نقولا زيادة

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق