تدمر والتجارة العالمية في العصر البرونزي: الخلفية التاريخية

21 أيلول 2007

اعتمدت أهمية تدمر كمحطة مشاركة في التجارة الإقليمية على عوامل داخلية وخارجية، وتوجب أن يتوفر الغذاء والماء لتزويد التجار والقوافل، وتوجب على السلطات المحلية أن تضمن السلامة داخل المدينة وعلى الطرق المجاورة. ومن جانب آخر تمكنت التجارة الإقليمية على طريق تدمر من التطور في ظل وجود ولايات أو مراكز مدنية كانت بحاجة ماسة لبضائع تنتج في بلدان من الجانب الآخر من الصحراء.
وبالرغم من أن المقدمات قد ظهرت منذ فترة تطور بلاد ما بين النهرين وسورية إلى بلاد مدنية ومنظمة اجتماعياً، فإننا لا نعلم تقريباً أي شيء حول الحالة الداخلية لتدمر إلى أن أصبحت مشهورة كمدينة قوافل خلال الفترة الهيلنستية. إن المادة النصية الفقيرة المتوفرة لدينا عن العصر البرونزي والحديدي المبكر لا تسمح بكتابة تاريخ تدمر من البداية حتى الحكم السلوقي. إن ذكر تدمر في المأثورات المكتوبة من العصر البرونزي، ومعرفة ما حدث في البلدان التي تحد الصحراء السورية، قد استطاعت بدون أي شك أن تغير على الأقل في المناقشة الجارية لتصور الدور الذي لعبته تدمر قبل أن يحتل الإسكندر الأكبر سورية.
إن المصادر الكتابية الأولى المتصلة بتدمر تعود للعصر البرونزي الأوسط، لأن محفوظات إيبلا المبكرة وآلاف النصوص المسمارية من المدن والممالك السومرية في بلاد الرافدين ماتزال صامتة حول تدمر. إن طريق اللازورد من أفغانستان إلى مصر، والذي يقطع بوضوح سورية مروراً في الألف الثالث قبل الميلاد لم يمر خلال الصحراء السورية ولكنه يغادر وادي الفرات قرب إيمار / مسكنة لأراضٍ تقع شمال سورية. وليس واضحاً إن كانت الحملات العسكرية وعلاقات التجارة لولايات المناطق في بلاد ما بين النهرين، مملكتا آكاد وأور الثالثة، قد استفادت من طريق عبر الصحراء ومن المحتمل أنه كان يلامس واحة تدمر. ولكن بعد وقت قصير من سقوط السلالة الثالثة لأور، أعني في بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، تبدو تدمر لأول مرة في نص مكتوب. هناك وثيقة شرعية من العصر الآشوري القديم نرى فيها بين الشهود اسم بوزور عشتار التدمري وختم هذا الشخص مطبوع على مغلف الرقيم، وهو أول ساكن في واحة تدمر عرفناه باسمه السامي، ولكن يبقى الاحتمال مفتوحاً إن كان هذا الشخص تاجراً يمثل الاهتمامات التجارية لتدمر أم لا. وهناك نص آخر من العصر الآشوري القديم يشير إلى رجل من تدمر يسلم /21/ مينا (480 غرام) من الفضة. كما تربط أسماء الأعلام الوثيقة إلى النص الذي أشرنا إليه سابقاً، يمكن الافتراض أن الإنسان التدمري كان هو بوزور عشتار نفسه ولعل اسمه يدل على أنه كان جزءاً من سكان واحة تدمر كانوا ينتمون إلى نفس السكان الذين يتكلمون اللغة السامية قبل سكان بلاد الرافدين الشمالية المعاصرة.
من الممكن تعزيز ما سبق بدليل من محفوظات ماري، أعني النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد. فهناك وثيقة إدارية من قصر ماري تشير إلى وجود رجل من تدمر (أويل تدمر) اسمه إيللوري، هذا الاسم العلم يظهر عدة مرات في نصوص أخرى من ماري بالرغم من أن التطابق مع الرجل التدمري يجب أن يستنفذ بتأكيد في معظم الحالات. وخلال القرون الأولى من الألف الثاني قبل الميلاد انتقلت منطقة التبادل التجاري العالمي من الخليج إلى المشرق، بالتأكيد كان هناك أكثر من سبب لهذا التجديد في التجارة في الشرق الأدنى باتجاه البحر الأبيض المتوسط. لقد تميز التطور السياسي والاقتصادي في منطقة الخليج بانحدار الأهمية الاقتصادية للشركاء في منطقة ما وراء الخليج وانخفاض مماثل في الاتصالات، وانعكس ذلك بانسحاب الأفق الجغرافي للنصوص المتعلقة بالموضوع. من جانب آخر كان هناك ظهور شركاء في التجارة في الغرب وخصوصاً في قبرص وكريت.
إن التمدن المتنامي للمناطق في غرب الصحراء السورية يمكن اعتباره حافزاً ومؤثراً في هذا التبدل في التجارة الإقليمية والمواصلات.
إن الطريق الطبيعي بين بلاد الرافدين والمشرق يسير خلال أراضي شمال سورية باتجاه إيمار وحلب ويصل إلى الطريق الشمالي الجنوبي باتجاه قطنة وحاصور أو إلى موانئ بحرية كأوغاريت وجبيل. من جهة أخرى فإن مخطوطات ماري تعطي دليلاً على وجود طريق يعبر الصحراء السورية ومن المؤكد تقريباً بأن الطريق يتصل بواحة تدمر. ويبدو أن الخصومة بين بلاد الرافدين العليا ومملكة آشور التي يحكمها شمشي أدد الأول وحكام يمخاض (حلب) في شمال سورية قد أعطت هذا الطريق بعض الأهمية الخاصة. هناك رسالة مرسلة من قبل شمشي أدد الأول إلى ابنه يسمع حدد /أدد/ الذي حكم منطقة ماري، وتشير محفوظات ماري الملكية إلى ثلاثة طرق محتملة بين وادي الفرات عندما كان شمشي أدد وابنه مسيطرين عليه، وقطنة عند الحد الغربي للصحراء السورية. يشير شمشي أدد إلى طريق أعلى ينطلق من أباتوم، وطريق أوسط يغادر عند حلبية، وطريق أسفل ومباشر يبدأ عند دور يهدونليم وإذا قبلنا بما افترضه ج.م. دوران من أن هذه النقاط الثلاث عند جعبر وجوارها وعند حلبية ودير الزور فتكون هذه الطرق قد التقت بوضوح عند السخنة وبقرب واحة تدمر وتصل أراضي وسط سورية عند قطنة (المشرفة). وبشكل مقرب متتبعين المسالك القديمة والحديثة شمالاً أو جنوب جبل البشري.
وكما يبدو كان هناك مفترق قريب إلى عين البيضا يقود إلى ناشالا (القريتين) وربما إلى منطقة دمشق. هذا الطريق يستفيد من الينابيع الجوفية على سفح الجبال (جبل البشري، جبل أبوروجين... الخ) وربما قباقب، بيرمحيفير، السخنة، أرك، وعين البيضا ويبدو أنه ويصح أن نضيف إلى هذه المسالك مسلكاً آخراً يغادر عند ترقا (تل العشارة) وينضم فيما بعد إلى المسلك الأدنى إلى تدمر وقطنة ربما كان قد استخدم من قبل التجار القادمين لمجرى الفرات الأعلى من أرض سوهي منطقة عامة وبابل. على أية حال إن الاحتكاك السياسي والتجاري بين بلاد الرافدين (ماري) وسورية (قطنة) مؤكد بوضوح في نصوص محفوظات قصر ماري، والتي تذكر مسافرين وتجاراً عبروا البادية السورية إلى أراضي قطنة، جبيل وحاصور في جنوب فلسطين، قبارة أشنونا وعرقا شرق نهر دجلة، بابل وعيلام في جنوب غرب إيران.. الخ وثمة بقايا رسالة ذات أهمية خاصة مرسلة، من شمشي أدد الأول إلى يسمع أدد تتعلق بمؤونة قافلة تغادر إلى قطنة، بطعام اعتبر كافياً لعشرة أيام متضمناً يوماً للراحة على الأقل، ربما في تدمر؟ هذا يتصل بالمسلك والمسيرات اليومية كما أشير إليها من قبل. يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه خلال فترة محفوظات ماري للقوافل تم استخدام الحمير للحمل وليس الجمال حيث أنها تحتاج ليس للماء فحسب وإنما لماء من نوعية خاصة. وإن هذه المياه كانت مشكلة للمسافرين على المسلك الصحراوي وهذا مؤكد بالرسالة (محفوظات ماري الملكية) حيث أن شمشي أدد ينصح يسمع أدد أن يبحث بانتباه عن أمكنة المياه على المسلك إلى قطنة، خصوصاً عند العبور مع جيش يصل تعداده إلى 2000 رجل.
فنوعية أمكنة المياه ليست ذات أهمية ماسة لمواصلات الصحراء فحسب، ولكن لسلامة الطريق أيضاً. وفي رسالة محفوظات ماري الملكية يذكر شمشي أدد بأن نصف البداة المنتمين إلى مجموعة قبلية معينة يعرفون المسلك الصحراوي مع مواضع المياه فيه. هذا يقودنا إلى مشكلة أخرى تتعلق بتدمر خلال فترة نصوص ماري ألا وهي: نمط الناس المسيطرين في تدمر.
هناك رسالة أرسلت إلى يسمع أدد (أ.ر.م 237) تقول بأن ألفي سوتياً اجتمعوا واتجهوا للقتال ضد أقوام ومعسكرات في سهل أرض قطنة. مجموعة أخرى مؤلفة من 60 سوتياً بدؤوا قتالاً ضد تدمر وناشالا. خلال هذه الحملة هناك سوتي من تدمر قتل. تبدو الرسالة أنه لم يكن قصد المهاجمين أن يفعلوا ذلك. كما يبدو فإن سكان تدمر كانوا قادرين أن يتفادوا نهب السوتيين ويؤمنوا على قطعانهم قبل أن يصل اللصوص.
هل القرية المسماة تدمر كانت تمتلك مسبقاً جداراً أو نظاماً دفاعياً آخر؟ إنه لمن المثير للاهتمام أن القبائل التي تقوم بالغزوات ورجل من تدمر قتل في معركة كانوا ينتمون إلى نفس المجموعة القبلية، وهم السوتيون. هؤلاء معروفون جيداً من نصوص الفترة البابلية ومصادر أخرى. لقد عاشوا في منطقة واسعة على طول وجنوب الفرات، من منطقة جبل البشري حتى حدود بابل. يبدو أنه في فترة محفوظات ماري فإن الاسم سوتي يتضمن مجموعات قبلية أخذت تتطور على شكل بدو رحّل. حوالي عام 1500 ق.م، عندما هرب أمير حلب إدريمي من إيمار إلى كنعان، قضى ليلة عند السوتيين في البادية، وقضى ليلة بضيافة شيخ مجموعة بدوية، وثمة نصوص أحدث عهداً، حيث يطلق اسم السوتيين على كل البدو الذين يعيشون في البادية السورية وبالتأكيد أيضاً في إقليم تدمر، بينهم قبائل آرامية وعربية. إن وجود تدمر كبلدة في البادية السورية ليس له أثر في النصوص التي تعود للزمن الذي كان فيه الحثيون والمصريون يتقاسمون السيطرة على سورية. وهذه الفترة بين 1350 و1200 ق.م تسببت في امتداد مملكة الآشوريين الوسطى إلى وادي الفرات، لأنه كان هناك وجود حثي قوي على الفرات عند كركميش وإيمار واتبع الآشوريين بشكل رئيسي طريقاً عند أسفل الخابور إلى الفرات وبذلك تفادوا سورية الشمالية.
ومن المحتمل أيضاً أن طريق التجارة من سورية إلى المشرق قد استخدم وتقدم إلى بلاد الأموريين باتجاه تدمر. وفي الاتفاقية المعقودة بين توداليا الرابع ملك الحثيين وشاشكاموا ملك بلاد الأموريين في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، أن حاكم أمورو يمنع أي تاجر من بلاد آشور بالدخول أو العبور في بلاده التي كانت منفذاً إلى البحر المتوسط. يجب أن لا ننسى أيضاً بأن هذا المسلك الذي كان يمتد من أمورو والساحل والذي يجتاز البادية السورية، كانت تدمر إحدى محطاته. هناك دلالة مباشرة عن تدمر من أواخر العصر البرونزي الحديث إن الرقم من إيمار /مسكنة/ تشير على الأقل في نص واحد إلى تدمر كموقع أو بلدة، موطن شاهدين شهدا على دفع كمية من الفضة "وفق العيار الآشوري"، واسمهما جيري وشاكينو. النص يشير إلى وجود أناس من واحة تدمر في إيمار ولا شيء آخر، وثمة نص آخر من إيمار أشار إليه د. أرنو، رقيماً له علاقة بتدمر، عبارة عن رسالة مرسلة إلى مسؤول عال تتضمن معلومات عن حملة سوهي في أراض قطنة. لم يكن واضحاً إن كانت عربات وقوات الجيش مرت بتدمر في طريقها إلى منطقة قطنة التي تمتد بعيداً في الصحراء. من المحتمل أن الجنود قد سلكوا الطريق الذي يسير مباشرة من أرض سوحي قرب عانة إلى تدمر عن طريق بير حميم، بير أم الرباع، بير الحوجل وبير المنبطح. أي على مسار خط البترول الحالي تقريباً.
تظهر تدمر كموقع له بعض الأهمية في نص الملك الآشوري تغلات بلاصر الأول (1115ـ1077 ق.م) اكتشفت عدة نسخ منه في آشور. فعندما كان هذا الملك يقاتل الآراميين هزمهم في مدينة تدمر من أرض أمورو وكافة من أرض سوهو حتى رابقو كاردونباش وهناك نسخة من النص تضيف من سفح جبل لبنان قبل الإشارة إلى تدمر، بينما النصوص الأخرى تذكر جبل البشري في السياق نفسه، ويظهر أن الجبال التي تؤدي إلى الفرات شمال تدمر يمكن أن تعتبر على الأقل من وجهة نظر بلاد الرافدين كمرتفع من جبال لبنان.
وكانت غنائم وممتلكات شعب هذه المنطقة قد جلبت إلى مدينة آشور. لقد اعتبرت تدمر تابعة لبلاد واسعة تمتد من ساحل البحر المتوسط إلى إقليم تدمر، وكانت تقع في منطقة تسكنها قبائل آرامية موسمياً على الأقل، ومع الآراميين الذين كانوا يسمون أخلامو في كتابات تغلات بلاصر، وهم قبائل نصف بدوية. نصادف شعباً عاش في هذه المنطقة عدة قرون. على أية حال عندما قاتل الآشوريون العرب، تحاموا بذلك أيضاً في منطقة تدمر بالرغم من أن تدمر نفسها ليست مذكورة في الكتابات الملكية. إن عروبة الصحراء السورية خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد ليس متناقضاً مع إطلاق مصطلح (سوتو) على هذه المنطقة، ولكن هذه المرة كان مصطلحاً اجتماعياً يعني نصف بدو. ولا يشير إلى وحدة قبلية خاصة. ومايزال ينقصنا شاهد مباشر على تدمر كمدينة قوافل فترة في الإمبراطورية الآشورية، ولكن استخدام الجمل كحيوان نقل كان آنئذ أحد الأسباب التي جعلت تدمر تكتسب أهمية خاصة كمدينة قوافل، كان الجمل قادراً على أن ينقل أربعة أضعاف ما يحمله الحمار، وكان أقل احتياجاً لكمية الماء ونوعيته، وهكذا فإن تدمر قد تطورت إلى مكان مركزي للتجارة والمواصلات التي تسير في البادية السورية، وفي الفترة الهيلنستية المبكرة كانت تدمر قد أصبحت مدينة قوافل معروفة جيداً، وعند وضع الكتاب الثاني من سفر التقويم التوراتي بعد 300 ق.م فإن اسم قلعة تامارا والتي تقع إلى الجنوب من البحر الميت والتي أعيد بناؤها من قبل سليمان، استبدل اسمها باسم تدمر لإعطاء عظمة أكبر لحكم الملك سليمان، والمؤرخ يوسيفوس تأثر بشكل واضح بالدور المهم الذي لعبته تدمر وذلك خلال فترة حياته ولم يتردد في اتباع الرواية الخاطئة الموجودة في الكتاب الثاني لسفر التقويم، لكن مع يوسيفوس نصل فترة تتخطى حدود هذا البحث.


هورست كلينغل

الحوليات الأثرية العربية السورية|المجلد الثاني والأربعون|1996

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق

سلطان:

مشكورين ع موضوعكن الحلو والجميل

فلسطين

رامي:

هذا المضوع جيد

SYRIA

:

شكراااااااااااااااااااااااا