جوزيف حرب الشاعر في غيابه الثالث..أجمل ما في الأرض أن نبقى عليها

11 شباط 2016

.

“كم جميلاً كان أن تحيا قليلا، بعد.. شهراً أم سنة. ولماذا رغم ستينك لم توح لنا، أنك قد أصبحت في سن العصافير، وعمر السوسنة…” كلمات كان كتبها الشاعر جوزيف حرب مخاطباً رفيقه الراحل محمود درويش لكنها اليوم هنا نكتبها له في ذكرى رحيله الثالثة فصاحب “شجرة الأكاسيا” كان من هؤلاء الشعراء الكبار الذين لم يخضعوا الشعر لموجات الحداثة بقدر ما ظل وفياً للغته العربية ومواقفه الحاسمة من المقاومة فكان يحضر قبيل رحيله لمؤتمر عربي كبير حول القضية الفلسطينية في دمشق.

والشاعر حرب الذي كرمته سورية فقلدته وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لمواقفه القومية وإبداعاته الأدبية المتميزة على مستوى الوطن العربي كان الهاجس القومي عنده هماً شخصياً في استنهاض مقدرات الشعب العربي وطاقاته وهذا ما يفسر قرب حرب الدائم من كتابات الشباب وبحثه الدائب عن إصداراتهم الجديدة ومحاولته المستمرة في الإحاطة بما يكتبه الجيل الجديد لذلك يمكننا أن نعثر على الكثير من تلك الكتب الشعرية التي قام حرب بتقديمها أو كتب مدخل نقدي لها معززاً تلك النشوة في لقاءات تجمعه بالشعراء الجدد في دمشق أو بيروت وسواها من المدن العربية التي أسهم بغزارة في مؤتمراتها حول مستقبل القصيدة والشعر العربي عموما.

كما أن حرب لم يتنازل عن “محبرته” التي كان أهداها بكل وضوح إلى الموت مسجلاً أكبر ديوان شعري في التراث العربي من 1750 صفحة حفر عميقاً في لجة الشعر بغنائيته منذ أن كتب لفيروز أجمل أغانيها وما برح يأتي إلى بر الشام كي يشرب القهوة مع أصدقائه فتغني سفيرتنا إلى النجوم قصيدته.. “لبيروت من قلبي سلام” وتزنر جنوب لبنان ب “إسوارة العروس” التي كتبها بشفافية وصدق ضيعته الجنوبية “المعمرية” المطلة على بحر صيدا.

من هناك كان يأتي صاحب “أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها” بمحكيته التي تخلع القلب على أنغام “حبيتك تانسيت النوم” و”طلعلي البكي” و”أسامينا” فصاحب “رخام الماء” و”مقص الحبر” و”شيخ الغيم وعكازه الريح” لطالما كان شديد الالتصاق بأمه الطبيعة فكتب الشاعر يوميات أشجاره ناجزاً في صباحاتنا لطيفاً وحميماً كأسراب من رسائل دهرية فهو الشاعر الذي بقي وحيداً عندما كانت نار الاحتلال الإسرائيلي مفتوحة على لبنان في تموز2006 مخاطباً الشعراء العرب بقصيدة لن تنسى قال فيها..”ما خنتكم يوماً..لماذا لم يراسلني أحد…”.
في غيابه الثالث يظل الشعر يفتقده بقامته المديدة وحضوره الشعري الآسر وحكمته التي لا تنضب في قراءة الواقع العربي والإصرار على الكتابة كملاذ أخير فيبكي بحر صيدا كلما سمع “اللي حامل ع كتافو زيتون وسنابل” فحرب شاعر المقاومة كان مؤمناً أن إنسان هذه الأرض لن يعرف الهزيمة.

ترأس صاحب “سنونو تحت شمسية بنفسج” عام 2004 اتحاد الكتاب اللبنانيين مسجلاً أجمل قصائده بينما كتب معظم أغاني السيدة فيروز التي قال عنها مرةً “غناء فيروز لكتاباتي هو اعتراف مني بقيمة فيروز ولا تزال لدي رغبة في كتابة الأغنية ولاسيما إذا ما تسنى وجود ملحن كبير وصوت راق لكن المطربين والمطربات الذين يحتلون الساحة الفنية اليوم لا أستمع لأحد منهم على الإطلاق وفيروز لم تتغن بأشعاري وإنما تغنت بقصائد غنائية كتبتها للغناء وليس للقراءة”.

وكان الراحل الكبير يرى أن هناك صراعاً دائماً بين الفصحى واللهجات المحلية وهو القائل “أكتب الفصحى والمحكية، وأعتقد أنني لم أنتصر للهجة اللبنانية على الفصحى فقد لازمت بينهما منذ بداية كتاباتي وربما انصرفت للفصحى وجاءت طباعة دواويني بالمحكية متأخرة قليلاً وهناك قلة من الشعراء يتقنون الكتابة الشعرية بالفصحى لكنني أرى أن الفصحى لا تزال لغة المعاني الأدق والمشاعر الأعمق وكثيرا ما تنعكس صيغة الكتابة الجمالية في الفصحى على صيغة الكتابة الجمالية في المحكية فتبدوان وجهين لعملة واحدة”.

سعى الشاعر دائماً إلى تخليص الصورة الشعرية من ميوعة المعاصر ومخادعته مبتكرا طريقته في التطبيب الشعري واقتناصه من وجومه الطويل أمام مرايا اسودت من كثرة ما تماهت مع ضيوفها العابرين فالصورة لديه لم تكن تتدفق من قصد شعري زائف بل كانت تتطلع صحيحة معافاة من مقدماتها واستهلالاتها وتقادمها للوصول إلى ذروة جديدة فيكون الشعر عنده فن الإصغاء للعميق في النفس واشتغل حرب في أعماله الشعرية على تباريح من وجد خالص فالمقطعية التي كانت تنتظم فيها قصائده تقترب من أسلوب الهمس الخافت الرخيم والمشافهة عبر موسقة المفردة وتشذيب بياضها المحيط وارتكابها تماماً في سطر السكون المناسب كأنما الحركات في نصوصه لها هيئة أجنحة تصيغها جمل الشاعر وتخيطها بأناة متناهية القصيدة الكلمة لدى هذا الأديب العربي الكبير كانت تبزغ دوماً من أتون خيط ماء ومن المفردات المتصاعدة لإتمام شكلها اللغوي الخاص بها إذ يقول..”أخبرني المطر.. لا شيء، إلا، وله أثر، حتى الصدى، يحرك الشجر، وقطرة الندى، تحفر في الحجر”.

اللغة المتقشفة لدى شاعر الجنوب لم تكن اقتصاداً لفيض من دلالة فحسب بل كانت موهبة عتيقة في احترام كياسة الكلمة وموهبة في تدوين الصمت وإبرامه لمصلحة البنية الكلية في القصائد يقول الشاعر الراحل: “مرات،أطبع نسياني على المرآة، للبعيد أجعل نسياني صندوق بريد، وأرسل المرآة” هذه الملكة في توزيع اللغة على أوركسترا هائلة بصياغاتها الفنية لا تستجدي خصوصيتها من التصاقها بالطبيعة فحسب فالطبيعي كان لدى شاعر المقاومة أصيل وجذري وسريالي بقدر ما هو بعيد عن اعتباطيته وعشوائية تقلباته.

جوزيف حرب التي لم يتوقف في كل إصداراته الغزيرة عن إعادة الحياة إلى نسغ القصيدة العربية فليس عارضاً هذا التجلي المستمر للشاعر في نصوصه وهذا الابتعاد عن التكلف واصطناع النبرة فخير طريقة كانت لدى صاحب “شجرة الأكاسيا1986″ لوصول الشعر هي عدم التورط في ركام الشعراء وما تركوه بل كان الاندماج بماهية الشعر نفسه وطبيعته العصية على التعريف.

في ديوانه “دواة للمسك” تبدو القصيدة المكتوبة بهيام واضح لتعيد ترتيب أحاسيس الأشجار ونعمة التآخي مع نباتات المخيلة فالأصيل لا يمكن وراثته ولا تقليده وهو كان في قصائد الشاعر نعيم يفرط في عنايته للشعر لكنه أبداً لم يستبح عزلته أو يزعج نومته فحلوله في معادن الشيء وأجسامه يجعله دائماً على تصالح معه يقول حرب.. “وحلولي، فيك، ذهابي في الكون إليك، مليئاً بذهولي، لا تغلق بابك في وجهي، أغلق بابك بعد دخولي”.


سامر إسماعيل

sana.sy

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق