ملك مفاتيح القصيدة.. عمر الفرّا يرحل بصمت

24 حزيران 2015

.

ويرحل عمر الفرّا… مبدع من قماشة مختلفة
مبدع حمل رمل الصحراء في روحه وصوته وقافيته…

حمل نكهة الصحراء بقصيدة محكية لا تضاهى، وقدّم قصيدة ذائعة الصيت، اخترق فيها الحدود والحواجز، ووصل إلى أصقاع لم يكن غيره ليصل إليها بقصيدة محكية… وقد يكون الشاعر السوري الوحيد الذي طارت قصيدته إلى الصحراء الممتدة، فشدت بها الصحراء، وملأت نغماتها الربع الخالي…

وحمل نكهة الصحراء وعضويتها فخرج علينا بقصيدة فصيحة من المستوى العالي، قارب فيها كبار الشعراء، فغنى وتغنى بقصيدة فصيحة، وأخرى من الشعر الشعبي، وقد يكون من القلة الخبيرة بخفايا الشعر، فحقّ له أن يقول وأن يخرج عن القوالب، لأنه ملك مفاتيح القصيدة بشكل مذهل تماماً…

لا أقول هذا لأن الفرّا غادرنا، بل أقوله لأننا لم نعط الشاعر حقه كما هي عادتنا مع أغلب مبدعينا، وكل ما حصل عليه عمر الفرّا من مكانة حصل عليه من جهده وشعره وصبره…

شاعر المنابر

شهدت سورية في مرحلة متقاربة شاعرين مجيدين، لكنها لم تحتفِ بهما لأسباب كثيرة ليس المكان لمناقشتها هما عمر الفرّا وعيسى أيوب، وإن تهيأ للثاني الذيوع لعلاقته الوطيدة بالأغنية والإعلام، فقد اكتفى الفرا بجهوده وشعره وصولاته، لكن عيسى أيوب رحل وتنكر له الجميع، ونسوا أنه صاحب «يا نهر الشام» وتنكروا للفرّا منذ سنوات، ونسوا أنه صاحب «قصة حمدة» هذه القصيدة الملحمة التي قلدها شعراء في سورية وخارج سورية… رحل أيوب، ورحل الفرا وتركا شعراً يستحق الاحتفاء، ولا أزال أذكر في ثمانينيات القرن العشرين مشاركات الفرا في الأمسيات، وفي الإعلام، وفي أمسيات الجامعة، وكانت أمسيات الفرّا هي الوحيدة بين الأمسيات التي تكتظ بالحضور، كان اسم عمر الفرّا كافياً ومن دون إعلان مسبق لتمتلئ القاعات والمدرجات في الجامعات والمراكز الثقافية لمتابعة الشاعر الأسمر القادم من الصحراء بنكهة لغتها، وصدق انتمائه إليها، وتواضعه الكبير.

جهد نشر الشعر
كان الموقف من طبع الشعر المحكي متشدداً، وعانى عمر الفرا لتقديم شعره مطبوعاً، فقدم قصيدة «قصة حمدة» وحدها منفردة، ومن ثم طبع حمدة، الأرض إلنا، وعدا تشجيع بعض محبيه بطبع كتبه كانت كتب الفرا تطبع بجهده ومتابعته، وقد التقيته أول مرة عام 1994 في مكتبة دار البشائر بدمشق، وذلك بعد أن حضرت أمسيات عديدة له، وفي ذلك اللقاء تهيبت الحديث معه لذيوع شهرته وقصيدته حمدة، لأفاجأ بشخص غاية في اللطف والدماثة والتواضع، كان يراجع مجموعاته التي يقوم على نشرها بنفسه، ولا يلقي بالاً إلى التكاليف والعوائد الممكنة، كل ما كان يعنيه أن تصدر هذه الأشعار.

الشعر الشعبي السوري
عدا الشعراء الكبار في الفصحى لم يتمكن شاعر آخر من اجتياز مناطق أخرى، ولكن عمر الفرا استطاع أن يصل بشعره الشعبي إلى عقر دار المفاخرين بالشعر الشعبي والنبطي، وقد وصل إلى مرحلة كبرى في تحكيم مسابقات الشعر الشعبي، وهناك من قلد أسلوبه الحكائي في صياغة القصيدة المحكية، ويكاد المتابع يعثر على عشرات القصائد التي حاولت محاكاة قصيدته الأشهر «حمدة» وأذكر لقائي الثاني مع الأستاذ عمر الفرا في الإمارات العربية المتحدة عندما دعي لإحياء أمسياتٍ شعرية في جامعتها، وكانت المفاجأة في نسبة الحضور العالية،/ ومن كل المستويات، فكان الفرا فارس المنبر، والقاعة الغاصّة بالحضور تردد معه قصائده التي تحمل حكايات الصحراء والبداوة، ولكن الفرا لوّن تلك الأمسيات بقصائد فصيحة ذات محتوى يتغنى بالأرض والمقاومة، وكان له الاحترام الكبير.

إنه الشاعر الشعبي السوري الوحيد الذي استطاع أن يثبت مكانته داخل سورية وخارجها، وأن يكون رسول الشعر الشعبي السوري، وأن يكون صوت رمال صحراء سورية العظيمة.

فطرية الشعر
ردد العامة أشعار الفرّا، وحفظ الخاصة بعض شعره، وصارت كلمته: ما أريدك، ولد عمي، ماتت حمدة، صارت هذه الكلمة تتردد على ألسنة المتحدثين، والتفت كثيرون، لكن الكتابة كانت أقل، إلى شعر الفرّا وفطريته وطزاجته، فهو يقدم شعراً رائقاً عذباً بعيداً عن الصنعة والتصنع، وحتى في شعره الفصيح كان الفرّا من ناظمي الأبحر البسيطة، التي تتلاءم مع حياة البداوة، وبقي عمر الفرّا ذلك البدوي بأخلاقه العالية وتواضعه وحسّه العالي، وإن تجول في مدائن العروبة بلباس مدني، وها هو بقامته ينحني ليصل إليك، ويجيبك، ويوقع لك مجموعة شعرية، وربما ليشرح شيئاً أردته، ولكنه يترك الشرح الأهم لاستجابتك للشعر على المنبر لهجة ولغة ومعنى… وأثبت الفرّا قدراته وطاقاته وتمكنه بسبب منبته البدوي الأصيل، فلم تؤخذ عليه هنة لغوية أو لهجية، وأدلّ دليل على فطريته أنه كان يقول قصيدته، وينتظر السامع أو القارئ، من دون أن يسمح لنفسه بإزاحة كبرياء حرفه النابت من الصحراء.
قضايا المجتمع

تغنى الملقون بقصيدته «حمدة» وهي ليست وحيدة في شعر الفرّا، ولكن ما يجب أن نقف عنده أن شعر الفرّا كان صورة لمجتمعه، فحمدة لا يكفي أن نقرأها ونحزن لمصير حمدة عندما ماتت، بل يجب أن نقف عند التقاط الشاعر لظاهرة مجتمعية قبل عقود من الزمن، وهذه الظاهرة ما تزال ماثلة، تتعلق بزواج الأقارب، وهذه الظاهرة المجتمعية وقف لمجابهتها العنصر الأضعف، المرأة، ودفعت لذلك حياتها ثمناً لوقوفها الإيجابي السلبي بآن معاً، فهي تدرك تماماً أن مصيرها الموت بسبب رفضها العادات الاجتماعية التي لا تتجاوب مع عاطفتها، وسنرى من خلال النماذج أن الفرّا تناول مجموعة من القضايا الاجتماعية، وشرّحها ببراعة شعرية مؤثرة.
وفي «الأرض إلنا» نجد الفرّا أمام القضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية، ليقول شعراً رافضاً وأبيّاً، وبذلك زاوج في الرفض والمقاومة بين أمرين من الصعوبة بمكان أن يتم الجمع بينهما، لذلك كان الفرّا متصالحاً مع نفسه وشعره وطريقة حياته.

حصاد الصمت
منذ سنوات عدة والفرّا يعتزل، وأظنه يفعل ذلك لأسباب صحية، ولم نصل إلى شعره الذي قاله في ظل ما تعيشه المنطقة العربية منذ سنوات، وسأل كثيرون عن شعر الفرّا، فهل أنجز شيئاً في مرحلة الصمت والابتعاد؟

والمطلوب من خلفائه وورثته أن يقوموا بجمع ما تفرق من شعر ألقاه ولم ينشر، ومن شعر نظمه ولم يلقه، وأن يقوموا بجمع تراث عمر الفرا الشعري الفصيح والعامي في الوقت نفسه، فما في شعر الفرا يمثل صورة لنصف قرن من حياة سورية وأحداثها فهل يقوم أهله بذلك؟ وهل تعمل الدوائر الثقافية على نشر شعره ودراسته؟

أظن أن أدب الفرا، حتى العامي منه يتفوق كثيراً على بعض ما يتم نشره في مطابعنا، وأن صيحاته الاجتماعية الرافضة صرنا بحاجة إليها أكثر من الوقت الماضي، خاصة بعد أن عادت العجلة الحضارية عقوداً وقروناً إلى الوراء.

منذ مدة سألت عنه لزيارته فلم أحظَ بجواب إلا أنه متعب ومريض، وها هو يرحل بصمت صائماً عن المنبر والشعر والناس في شهر الصوم!!

ستذكرك باديتك
ستشتاقك المنابر
وستبقى لكنتك المميزة حاجة مجتمعية لا تتكرر.


إسماعيل مروة

صحيفة الوطن السورية

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق