«حادثة النصف متر» فيلم يروي مشكلاتنا اليومية وهمومنا المعاصرة

31 كانون الأول 2014

.

يعود بنا فيلم حادثة النصف متر إلى ستينيات القرن الماضي الحقبة الملهمة لكثير من صناع الأفلام والدراما المحليين كلما ادعت الحاجة إلى الوقوف على أطلال نهضة الفكر القومي وما تبعه من انفتاح اجتماعي أو إلى اجترار الارتكاسات التي تصيب الواقع السياسي العربي بتواتر وهو ما اعادت تشكيله عدسة المخرج سمير ذكرى راجعة إلى عام النكسة 1967.

فلا ينفصل حال بطل الفيلم صبحي الحلوجي عبد الفتاح مزين عن واقعه الذي يعيش فيه ضمن حي قديم بدمشق إذ يبدو هذا الموظف الحكومي المجاز مسلوب القوى ومكبلا بقيود المجتمع وفقاً للصراع التقليدي الذي كان موضوعاً رائجاً في معظم الأعمال الفنية العربية والمتمثل بحقه في الزواج والاستقرار من جهة وواجبه في إعالة عائلته من جانب آخر.

ويظهر صبحي كشخص انهزامي خاضع لسلطة والدته يقدم على محاولة انتحار بسبب العجز الذي يعيشه لكنه يفشل في اتخاذ هذه الخطوة إلى أن يتعرف على حبيبته ندى جيانا عيد في حافلة بحادثة النصف متر والتي تستلم زمام المبادرة في عملية التعارف بينهما وبذلك تحدث انعطافة في مجرى الفيلم الذي يأخذ بالتصاعد ولكن وفقاً لرتم بطيء.

ويكثر الفيلم من إيراد البيانات التقليدية التي ما تزال تسمع إلى اليوم في وسائل الاعلام الرسمية وعلى لسان الشخصيات خلال العمل في المكتب بإحدى المؤسسات الحكومية ناهيك عن أخرى تسمع في الراديو إذ تدخل هذه الشخصيات بنقاشات حول الوضع السياسي والاقتصادي فتعكس المزاج العربي وما يدور في البيوت التي اعتادت على عقد جلسات عن الوضع السياسي والأزمات المتعاقبة.

وما يحرك الركود العام للفيلم على مستوى الأسلوب والمضمون أسئلة إشكالية ما زالت تلح على المواطن العربي إلى يومنا ليبدو أن التاريخ يعاود تكرار ذاته مع تفاقم التردي الاجتماعي لأننا نجد في الفيلم أن المجتمع في حقبة الستينيات اكثر تقليدية ولكن أقل تزمتا وتشددا إذ يصلح الفيلم ليكون وثيقة تاريخية توضح كيف ازدادت حدة التناقضات في وقتنا الراهن بين التشدد من جهة والانحدار القيمي من جهة ثانية .

وفي صورة المرأة يعكس الفيلم وجود أنثى وحيدة في مكتب العمل مقابل أربعة رجال كنسخة مصغرة عن تمثيل المرأة الصوري فتبدو الموظفة فيلدا سمور امرأة محافظة تبدي آراء خجولة حول ما يحدث لكن دون اكتراث المحيط بها كما تبدو تواقة للزواج إلا أن أحدا لا يراها كامرأة في إشارة إلى رفض المجتمع حينها لعمل النساء خارج المنزل وينتقد الفيلم نظرة المجتمع للزواج عندما قارن صاحب المكتب العقاري بين المرأة والبيت.

إلا أن المشهد المجاني للجارة فاتن شاهين التي تبدو راغبة ببطل العمل يعطي توجهاً آخر في النظرة إلى المرأة إذ يكرس فكرة تمحورها مع الرغبة سواء أكانت عزباء أم متزوجة ويسخرها بشكل أو بآخر لتعزيز مظاهر الفساد الاجتماعي التي تغزو المشهد العام.

أما بطلة الفيلم فتبدو جريئة فهي التي تختار الوقت الذي تسمح به لصبحي باقامة علاقة معها وهي تقف فيما بعد موقفا حازما منه بعد أن تخلى عنها دون أن تعير اهتماماً للمجتمع وعواقب تصرفها فنجدها تمارس ما تشاء لكننا لا نعرف أن سلوكها ينبع عن رغبة شخصية ام أنه سلوك يتمرد على الأعراف.

وظهر التركيز على السقوط الأخلاقي في المجتمع في عدة أحداث عبر الفيلم “الرمي المتكرر للقمامة من الشرفة و تسهيل إقامة علاقة خارج إطار الزواج” والتركيز على وجود جوانب ظاهرية وأخرى مبطنة في العلاقات العاطفية بالمجتمع حيث تجد دائما مخرجا سريا لها ولكن في لبوس يساير العرف العام.

يطرأ تحول بشخصية صبحي بعد تواصله مع صديقه من أيام الجامعة الذي يعمل بالتجارة ويمثل الشخص البراغماتي ذا الثقافة المادية الاستهلاكية والذي يوفر مكاناً ليلتقي فيه صبحي وندى فيبدو سلوكه مجانيا يهدف فقط لتكريس الفساد كما يؤثر فيما بعد عليه دافعاً إياه للتخلي عن حبيبته بعد ان تورطا بحمل غير شرعي ورغم ذلك نجد صبحي تعين مشرفا على الدفاع المدني في المؤسسة التي يعمل بها في إشارة إلى ترابط الفساد الأخلاقي مع الفساد الإداري.

وتبلغ الأحداث الذروة قبيل انتهاء الفيلم بدخول ندى المشفى بالتزامن مع إلقاء بيان عاجل حول العدوان الإسرائيلي 1967 لينتهي الفيلم كما ابتدأ من المكان ذاته الحارة في لقطة مركزة على باب المنزل وفوقها عبارة دينية وكأن المخرج أراد أن يتم الثالوث الذي تعرض له في فيلمه الثقافة الاستهلاكية والمنصب وبعدها الغطاء الديني.

أما الجانب الرمزي فقد حضر على طول العمل الذي يتضح اقتباس بعض جوانبه من المسرحية الانكليزية الشهيرة في انتظار غودو فالمشفى يدعى الأمل ويقوم موظفوه بالأرجاء المتكرر للبطل على التلفون بحجة أن الوضع العام لا يتحمل وأيضا في لجوء صبحي إلى الحبال لينتحر مأخوذة أيضا من نفس المسرحية إضافة إلى شخصية العسكري المنهار نفسيا بسبب النكسة.

إن تضافر المضمون والأسلوب في عمل أنجز قبل أكثر من 30 عاما بطرح فيه جرأة وصدق رغم الضعف التقني الذي أثقله وبعض المباشرة في العرض يمكن أن يجعل من حادثة النصف متر وثيقة تأريخية هامة ترصد المجتمع في الستينيات ناهيك عن إمكانية إعادة إنتاجه ولا سيما أن هموم الشارع العربي ما زالت ذاتها.

يذكر أن الفيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما سنة 1980 من سيناريو واخراج سمير ذكرى عن رواية صبري موسى وحاز الجائزة البرونزية لأحسن فيلم في مهرجان فالنسيا بإسبانيا.


رشا ملحم

سانا

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق