الشاعر «جورج صيدح» الذي حمل عشق دمشق بين جناحيه وطاف به العالم

31 تشرين الأول 2013

أين هو في كتبنا في أغانينا في قصائد طلابنا وأبنائنا؟

لا يذكر أدب المهجر دون أن يكون الشاعر الدمشقي جورج صيدح بين الأسماء الأولى التي تذكر، وإن تكونت الجمعيات الأدبية في المهجر، فرفعت هذا وذاك، فإن جورج صيدح كان جماعة وحده، فكان المؤسس للجمعيات، وكان الصوت الذي يخرج من روحه وفؤاده الذي لم يبرح دمشق مذ ولد في أزقتها، فقد تغلغل نسغ دمشق الشام في شرايينه مع ولادته في دمشق سنة 1893 م.

لم يكن شاعراً بل كان تاجراً، ومن هنا تنبع أهميته الكبرى، وفضله يرتفع أكثر فأكثر، إذ حوله حبه لمدينته دمشق، وحنينه إليها إلى شاعر يصوغ أبدع الأشعار، ويستذكر المعالم التي افتقدها، فبانصرافه إلى التجارة، غادر صيدح إلى القاهرة ليمارس تجارته هناك، وبقي في القاهرة ثلاثة عشر عاماً حتى عام 1925 وكان قد وصلها عام 1912، وعلى الرغم من التشابه، واللسان العربي، والانشغال بالتجارة والمال كانت دمشق حاضرة في وعي الشاعر جورج صيدح، ولم تنتقل إلى الذاكرة. وفي القاهرة أخذ شعر الحنين يشتعل في قلب الشاعر وقافيته، إذ عرف في قاهرة المعز أهمية شام الأمويين وقيمتها، واشتاق لمرابعها ومتنزهاتها وأنهارها ومساجدها وكنائسها وإنسانها. هذا ما كان من شأنه، وهو بين قومه وأهله، فماذا سيكون حاله عندما يهاجر من مصر إلى فرنسا، ثم إلى فنزويلا ليستقر ويصبح واحداً من المهجرين، وناطقاً باسمهم.

حمل صيدح على عاتقه همّ العربية والوطن، لذا توجه إلى الصحافة، فأنشأ مجلة في فنزويلا تعتني بالأدب والشعر والثقافة بالعربية، وتجمع الأدباء العرب لتكون مستراحاً لهم، ووطناً يصلهم بوطنهم الذي فارقوه، حتى يزول حاجر الغربة، وتبقى العلاقة وطيدة بين المهاجر ووطنه، وبذلك كانت مجلته التي أنشأها «الأرزة» ذات قيمة كبيرة، وإضافة إلى مجلته، فقد آمن صيدح بأن المجهود الفردي قد لا يصنع شيئاً ذا قيمة وحده، ومن هذا الإيمان قام جورج صيدح بتأسيس الرابطة الأدبية في فنزويلا، وأراد لها أن تجمع الأدباء العرب هناك، وتشكل رابطة للكتاب العرب، وفي كل ذلك لم يتخل الشاعر عن عمله الأساس في التجارة ليقوم على تأمين أشيائه، ولا يكون تحت إلحاح الحاجة لأحد، وبذلك كان الشاعر تاجراً وصحفياً ومؤسساً للرابطة الأدبية، صدرت أشعاره في مجموعات منها: «النوافل» و«حكاية مغترب»، وأشعاره كلها انتماء وحنين لدمشق والمواطن العربية، وواقعه التجاري سمح له أن يعود إلى وطنه، فعاد إلى بيروت حيث استقر وأقام مختتماً رحلة طويلة مصبوغة بصبغة الوطن وحبه والحنين إليه، والانتماء إلى كل فاصلة من فواصله، وشعر صيدح شعر متين ومعبر عن أحاسيس المغترب كما توحي حكايته عن اغترابه، وقد آثرت أن أختار لهذا الشاعر الكبير الذي لم يأخذ حقه من أشعاره التي قاله في دمشق، وتمثل هذه الأشعار ذروة من ذرا الحنين والعاطفة.

في عام 1951 أريد للشاعر صيدح أن يكون مع مندوب الجنرال بيرون في مهمة لدى رئيس الجمهورية العربية السورية في دمشق، فجاء الشاعر بعد أربعين عاماً من الغياب، وكانت هذه القصيدة التي نشرها في مجموعته «حكاية مغترب»:
هشت سماء الشرق للمغرب
ولوحت بالشمس للموكب
جلالة تسعى إلى أختها
من أفق رحب إلى أرحب
حتى إذا الغوطة ضمتهما
صفقت الأركان في يثرب
من مبلغ بيرون عن جلق
تحية الأطياب للطيب
وأنها قصر له أخضر
عن قصره الوردي لا يختبي
عيّدت الشام لوفد أتى
من أبعد الأقطار عن يعرب
لكنه الأقرب من قلبها
والقلب حنّان إلى الأقرب

في القصيدة نرى شاعراً ناقداً محباً لعروبته وأرضه، ساخطاً على أن أوضاع البلاد لم يغيرها الاستقلال بعد خمس سنوات، متألماً لأن هذا الواقع يجعل العرب غير قادرين على نجدة استغاثة فلسطين الصارخة تريد عوناً ومعيناً، ويعيد كل ذلك إلى الفساد، والزعامات التي تريد الأوطان لها وحسب، غير عابئة بما يجري على أرض الواقع.

وربما كان لهذه القصيدة ما يسوّغ النقد الجارح فيها، فهو في مهمة رسمية، لذلك كان أقرب إلى السياسة والنقد، مع بروز حبه وحرصه على بلاده، وشوقه إليها، وشوقها له، ولكن قصيدته الشهيرة «بردى» التي كتبها عام 1947 في كاراكاس في فنزويلا متشوقاً إلى دمشق تظهر ذلك التعلق والحنين الذي لا تشوبه شائبة وهو في الوقت ذاته يرنو إلى وطن قوي وثّاب:
حلمت أني قريب منك يا بردى
أبلّ قلبي كما بلّ الهشيم ندى
ونصب عيني من البلدان أبدعها
سبحان من أبدع السكان والبلدا
دمشق أعرفها بالقبة ارتفعت
بالمرجة انبسطت بالشاطئ ابتردا
بالطيب يعبق في الوادي وأطيبه
في تربة الأرض غذاها دم الشهدا
تغوص في لجة الثرثار ذاكرتي
على الأغاني التي أسمعتني ولدا
فأنثني وربيع العمر عاودني
كأنني لم أضعه بالنزوح سدى
أهواك في قلبك الشفاف لاح به
ظلّ المآذن والأشجار مطردا
أهواك كالليث وثاباً ومقتحماً
كالأفعوان تلوّى كالغزال عدا
أهواك في يقظتي أهواك في حملي
أهواك مقترباً أهواك مبتعدا

ومن رائعته «حنين إلى دمشق» نختار عزفه على أوتار القلب وذلك عام 1925، ويبدو أنها نظمت في القاهرة يرثي ويحن ويبكي لما فعل المحتل:
ذكرتها نائياً والدمع هتّان
أمٌ تناست بنيها حالما بانوا
دمشق إن قلت شعراً فيك ردده
قلبي كأن خفوق القلب أوزان
أنا وليدك يا أماه كم ملكت
ذكراك نفسي وكم ناجاك وجدان
أنا عليل النوى لا برء ينعشني
إلا نسيم عليل منك ريان
عهد الشباب وعهد الشام إن مضيا
فكل ما أعطت الأيام حرمان
يا جنة الأرض غاصت في خمائلها
منابع الرزق هل يرضاك جنّان؟
أم العروبة عين الله تحرسها
عند الشدائد إن أبناؤها لانوا
تطل من ربوة الأزهار هامتها
كأنها من كتاب الحسن عنوان
سريرها غوطة في مهدها اضطجعت
وألقت الرأس فاستلقاه حوران

وعندما قصفت دمشق سنة 1945 بقنابل الفرنسيين أنشد في اجتماع الجاليات العربية في كاراكاس:
هتكوا الستر وهمّوا بالصفيّه
أكذا يستام عرش الهاشميه
ليس هذي أمة بل أمويه
ذات خدر عصمته المشرفيه
إنها تأبى وتأبى البشريه
أن نراها للفرنسي مطيه
وطني المنكوب إن تحصِ الضحايا
أحصني إني جريح في حشايا
لست أرثيك بترديد الشكايا
بل أهاديك سلاحاً وسرايا
جنة الدنيا أقريك السلاما
وعلى الغوطة نار تترامى
صيّرت أروقة العز رغاما
وجرى في بردى دمع اليتامى
عائماً حيث دم الآباء عاما..

هو الشاعر، هو ابن الشام جورج صيدح الذي عاش الشام مقيماً ومرتحلاً، حمل همها بين جوانحه وكأنه لم يغادر! كيف غادرنا؟ كيف أهملناه؟
أين هو في كتبنا في أغانينا في قصائد طلابنا وأبنائنا؟
شاعر في الانتماء والمجد والحب له المكانة العليا التي إن بخلنا بها فالشام أهدته مآذنها وصلبانها قبل أن يخلق التاريخ!


إسماعيل مروة

الوطن السورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

    اسمك

    الدولة

    التعليق

    ياسمين:

    مقطع نثري النهاية القصيدة وطني للشاعر جورج صيدح

    سوريا