الكاتب والاديب بشار بطرس: لم يخترع الناس أفضل من الفن لخدش جلودهم

18 تموز 2013

أنا فخور بأنني قاص بالفطرة أكثر من أنني صرت سيناريستا! القصة عشيقتي لاقتني ولاقيتها باتحاد كيمياء الدم، ساقتني إلى حيث توجد قصص جميلة وتجارب خارجة عن المألوف، فصرت أهدس بها،وألوم نفسي حين أنساها وينشغل دماغي بكتابة السيناريو ، وأسر حين يبدي قارئء ما أو جمهور إعجاباً بقصة أكثر من إعجاب الناس بمسلسل عملت فيه.

انطلاقا من هذا الكلام الذي يحدد علاقة الكاتب والسيناريست بشار بطرس بالقصة القصيرة والتلفزيون الذي قدم له أعمالا عدة ينتقل بطرس في حوار مع سانا للحديث عن الفن بشكل عام قائلا ان الفن ، مثل العلم، بحث في النفس البشرية لاستجلاء غموضها ونزواتها وتطوراتها، والأدب كأي فن آخر، لا يبتعد عن ذلك، وربما كان من أقدر الأجناس الفنية على الغوص في مكنونات النفس، لذلك فالشجعان هم الذين أماطوا اللثام عن الحقائق قبل غيرهم، لقد كان لدويستويفسكي الريادة في الغوص في نفسية المراهق، كما قال فرويد بأفضل مما فعل المحللون النفسانيون، وعلى سيرة فرويد فقد نصح الكتاب بأن يكتبوا كما لو أنهم يحلمون، على الرغم من إقراره بوجود مقاومات تمنع الحالم بأن يحلم بما يشاء، ومع ذلك فإن كثيراً من أحلامنا تخيفنا، وتوقظنا من نومنا، وتجعلنا ننكرها أحياناً، وهذا كله لايلغيها.

ويضيف بالنسبة لي، لا أفكر بالحواجز والموانع، كما لو أنني أحلم، لا أخاف الجرأة ، فالناس تحب الجريء، وتدهش له وتتقمصه، حين لا تستطيع أن تأتي بمثله فأصدق الكتاب أكذبهم على الورق، وأكذبهم أشجعهم، وأشجعهم من يترك العنان لأحلامه متفلتاً من رقابتها!! وبين بطرس إن قصتي تأتي مشاكسة، وهذا ما أورثتها إياه، وما علمتني إياه بدورها. بين القاص والقارئ حرب من نوع ما، ويجب على القصة أن تربحها، وإلا لا تكتمل المتعة، أنا أكتب لقارئ ذكي ، هذا ما سمعته كثيراً ، وقيل لي إنني اقتصادي جداً في الكتابة، وإن وإن ... إذا كانت المشاكسة تدغدغ قيمة من قيم الجمال فأهلاً بها، أما إذا كانت كلاسيكية ، من حيث أن لها مقدمة وحبكة ونهاية وهذا أيضاً لا يتناقض مع مضمونها فما المانع من أن تكون جميلة؟ المضمون في النهاية ليس جديداً المهم كيف نكتب بشكل جميل ، ألا توجد امرأة مشاكسة وجميلة وذكية في الوقت نفسه.

للكاتب بشار البطرس مجموعتان قصصيتان هما على البخار وشجرة التوت الشامي وهو يعترف بأنه صاحب ذائقة نزقة إلى حد التطرف متحيزة دائماً نحو الغريب والغرائبي، بدأ الكتابة في الثمانينيات من القرن الماضي، ونشر أولى مجموعتيه في التسعينيات، وظهرت مجموعته الثانية أوائل هذا القرن وقد ترك بصمته فعلاً في مجاله.

وردا على سؤال حول الكتاب الذين تركوا بصمة في عالم القصة القصيرة أجاب بطرس.. حقيقة لا أعرف إذا كان لي بصمة شخصية في مجال الكتابة! فما بالك بمعرفتي ببصمة غيري؟ يعزيني أن من يقرؤني حين يقول إن لي بصمة في الكتابة أرجو أن يكون لي بصمة في يوم من الأيام، لكنه قيل لي منذ أول قصة نشرتها في صفحة إبداعات الشباب في صحيفة تشرين إن المكتوب معروف من عنوانه! ويتابع.. المهم في البصمة أن تكون حقاً كبصمة الأصابع، التي لا تشبه إلا صاحبها، فنحن لم نخرج من معطف أحد كما يدعون، لأن لكل معطفه الذي يكون على قياسه.

من جانب اخر وعلى صعيد موقع القصة بين الرواية والشعر اجاب بطرس.. قيل إن الشعر ديوان العرب، ثم قلب الروائيون الطاولة على الشعراء، وقالوا إن الرواية ديوان العرب، أما القاصون فلم يقلبوا الطاولة على أحد بسبب نرجسيتهم الهادئة مقارنة بالروائيين والشعراء أو بسبب أن دورهم لم يأت بعد على الرغم من أن شهرة تشيخوف لا تقل عن شهرة كويلهو! ومن قال إن الانتشار مقياس للنجاح؟ فشعبية الرواية لا تؤدي إلى اضمحلال القصة، كما أن لعبة كرة القدم لا تلغي لعبة كرة الطاولة، وقصة جميلة خير من رواية فاشلة، وهنالك لا تزال مسابقات تقام للقصة.

القصة لم ينسها كتابها.. بشكلها البسيط الشفاهي اليومي وهي برأي بطرس أكثر ما يتداوله الناس من أجناس أدبية، ويأتي لاحقاً تجسيدها على الصعيد التخييلي لإعطائها شكلها الفني لافتا إلى أن القصة لن تموت.

أما موضوع الرواية ونجاحها، فلا علاقة لصعود الرواية بموت القصة، الناس بحاجة لما تجده في الساحة من أجناس أدبية ، وستضيف عليه أجناساً أخرى على مر الزمن، مثلما يضيفون ألعاباً رياضية جديدة في كل دورة ألعاب أولمبية جديدة.

وتابع بطرس أريد أن أمايز بين الرواية والقصة اللتين تبدوان قريبتين فالقصة وخزة دبوس، أو سيلان لعاب طفل لرؤيته قطعة حلوى، أو نظرة عاشق من خلال ثقب الباب على عشيقته، أو حياة بكتريا في مجرور المدينة....إلخ ، أما الرواية فهي شيء آخر ، ولا أريد أن أنظر فيها لأن لا علاقة لي بالموضوع.

وأوضح بطرس.. استورد نقادنا الحداثة في جملة ما استوردوه من عدة شغلهم، الحداثة مفهوم أوروبي ارتبط بتاريخ أوروبا.

مقارنة مع النموذج الأوروبي، نحن متخلفون عنهم وبصفتي مهندساً، فقد استخدم أجدادنا البازلت نظرا لوجوده في الأرض ولقساوته ولعازليته الجيدة، بينما الأوربيون استخدموا الحديد للأسباب نفسها في البناء، المفارقة هنا أنهم معجبون ببازلتنا بينما نحن أصرينا على البيتون والحديد الذي استوردناه من عندهم.

حداثة أوروبا مسروقة من غيرها من الأمم، من السومريين والإغريق واليونان والفرس والعرب ، لذلك لا داع للتغني بسرقة حداثتهم، لمجرد أن نموذجها مغر، لنا حداثتنا في كل نص جديد، يجدد صاحبه نفسه فيه، ويلهث وراء همومنا ، بشكل يكسر فيه أشكاله وأشكال غيره! بهذا المعنى كل قصة جديدة هي قصة حداثية بمعنى ما على صعيدي الشكل والمضمون، لأن الحياة تتطور، والحداثة هي التعبير عن نبض الحياة، أو عن صعوبة الحياة كما يجري عندنا الآن.

وبرأي بطرس فان الأدب لاحق للسياسة، إنه تدوين انفعالات النفس البشرية حين تعاندها الظروف، التي تحول دون سعادتها وتكرس أحزانها! الأدباء هم عرابو الفرح الإنساني، ومصلحو ما أفسده السياسيون.

وحول كيفية تعاطي الادب مع ما يجري في هذه المرحلة قال بطرس ان ما يجري يلزمه وقت ، حتى يهضمه الأدب، ولكي يتمثله الأدباء بشكل صحي ومفيد، وأرجو من الجميع عدم التسرع، كي تتاح رؤية الكوني في الذاتي، وكي لا ترمى نصوص بسبب أن ما كتبت عنه قد مضى وولى.

القص مثل الفنون الأخرى أفضل من تنبأ بالشر الكامن في الإنسان! ألم تشر قصة الخلق على خيانتنا لله وعوقبنا من أجل ذلك، هذه قصة الخلق تتكرر كل يوم بمعنى أن الناس تصطرع مختلفة على وجهة نظرها للعالم.

لم يخترع الناس أفضل من الفن لخدش جلودهم ، والنفاذ إلى أرواحهم، ولروءية أحلامهم في مراياهم، وحكوا عما في أنفسهم من لؤم وحقد وفساد وكره، في مقابل ما فيهم من طيبة وتسامح وشرف وحب على الترتيب ولم ينتهوا ولن ينتهوا من القول إلا بدمار الكرة الأرضية عندها قد يأتي النمل أو الفئران لتكتب قصة ساخرة عن غبائنا.

وختم بطرس ان القصة القصيرة الناجحة لا شك أنها قادرة على التعويض عن صفة تفقدها بالتركيز على صفة أخرى.

نعم ستتحمل وتحمل وتحمل نفسها هموم الناس، لأن هموم الناس مصدرها،سأكتب ويكتب غيري أنفسنا، لأن قصص الناس لا تموت إلا بموتهم.

وحول الغموض في الادب قال بطرس الغموض مسألة خلافية، فإذا كان الغموض قاتلاً للقصة حيث لم يفهمها أحد فهذا حتماً ليس من الفن في شيء، لا بد أن يفهم الناس ما يقرؤون، وإن بدرجات مختلفة حسب وعيهم وذائقتهم، المهم نقل لعبة الكاتب إلى قارئه، ولا أظن أن الغموض يساعد في ذلك، إثارة الإحساس تتم بالملموس وليس بالغامض، هل لي أن اقول إن الغموض غير مريح للعقل البشري، الذي يريد أن يفهم، فالسبب إحدى طرائق الفهم لديه.

أحياناً يكون الغموض من باب استعراض عضلات الكاتب، بينما ما يريده القارئ ابتسامة رقيقة أو دمعة حزن أو فرح، لا عضلات كتف متورمة بفعل هرمونات اصطناعية.

ويتساءل لماذا نصر على الغموض والفبركة والتكلف، بينما بإمكاننا الوصول إلى النتيجة نفسها بالوضوح والبساطة؟ قال الشاعر رسول حمزاتوف أجمل الجرار تصنع من الطين العادي.

كتب بشار بطرس للتلفزيون وأبرز أعماله في هذا المجال الخبز الحرام وقد تحدث عن هذه التجربة قائلا.. الكتابة للتلفزيون تجربة مختلفة جداً عن الكتابة القصصية، ولو أنه يبدو للوهلة الأولى، أن المشهد التلفزيوني قصة قصيرة من حيث الفكرة، وأن العمل التلفزيوني هو مجموع هذه المشاهد، لكن العمل التلفزيوني بتركيبته العامة أقرب للرواية هنا نعود لحقل ألغام المقارنة وللهروب من هذه المقارنة أعتقد أن كتاب الأدب أقدر على هضم لعبة التلفزيون، لأن أدواتهم منهن وفيهن هذا لا يعني أن من كتب للتلفزيون من غير الأدباء لم ينجح، لكنني حين قررت الكتابة للتلفزيون، وجدت أنني أتوفر على أهم شروط الكتابة له وهو الشخصية! عندها أزحت جانباً ما كنت أقروءه وبدأت الكتابة.

يعترض البطرس على تسمية الاعمال التلفزيونية بالدراما قائلا ان هذا التعريف مسروق من المسرح الإغريقي وأضاف ان الدراما منتج حديث العهد، وقد جاءها النقاد من حقلي الأدب والسينما بأدواتهم لمحاكمتها ومحاسبتها، لذلك فالدراما مظلومة من هذه الناحية، لأن ما نشاهده مزيج من الفنون كلها ، وللأسف فإن نقادنا، لا يفهمون بالإضاءة والصوت وزوايا وضع الكاميرا، هذا لصالح الدراما من حيث إنهم يحملونها أكثر ما تستطيع، عدا عن أن النقد بشكل عام كان لاحقاً بفترة زمنية طويلة على وجود الأجناس الفنية، وهذا يحيل إلى التسرع في الحكم على الدراما، من جهة ثانية كنا في وضع سوري ليس فيه ما يميزنا على جيراننا، فوجدنا في الدراما ما يبرر عقد نقصنا ، فهللنا وطبلنا وزمرنا على هوانا، لمجرد أن الناس ترى ما نصنع، والناس بشكل عام سترى ما يبث لها، لأن ليس لديها البديل، فالسلعة كما قال كارل ماركس، تصنع المستهلك وليس العكس، ونسينا في هذه الجلبة، أن صناعتنا ليست بالضرورة جيدة ، من مقياس سعة الانتشار،و أن ليس لها تقاليد، وليست مدعومة من الحكومة كما تدعم كل حكومات العالم منتجاتها الوطنية. إن الذين باعوا أغنامهم وجاؤوا للمتاجرة بالعقار ، هم أنفسهم الذين أسسوا شركات إنتاج، وصاروا يقرون النصوص ويوجهون الدراما، ووضعوا في مراكز القرار، كما في كل شركة عائلية، أقرباءهم ممن قد لا يجيدون حتى القراءة.. وهذه النتيجة التي وصلنا إليها،الدراما كانت في أزمة قبل الأزمة، فما بالك بها بعد الأزمة.

عندنا كتاب ممتازون، ومخرجون جيدون على الرغم من وجود مخرجين صاروا كذلك لأن أجير البلاط سيصير بلاطاً بالضرورة وعندنا ممثلون قديرون، لكن أين تضع هؤلاء كلهم كي يعملوا، هل تنشئ معملاً في العراء.

إن أجمل ما في الدراما السورية هو دراماها نفسها، حيث تستطيع أن تشاهد مسلسلاً ناجحاً وسط هذه اللوحة السوداء، والحقيقة أن من يعش كواليس الدراما يستغرب ما يشاهد على التلفزيون.

الدراما السورية صادقة، لذلك تأثرت بما يحصل تراجعت وهذا امتحان لها على مستوى المضمون والتسويق، لكنها ستفيق من كبوتها، على الرغم من عدم وجود تقاليد راسخة لها، لكنها أمسكت بروح المشاهدين، حين دخلت غرف النوم، وكشفت الغطاء عن مواضيع جريئة بفضل جرأة كتابها وكاميرتها، جربت وشكلت دليل حيويتها، لذلك فهي تلاقي مزيداً من أذواق الناس، طيفها عريض من بقع الضوء والمرايا إلى الحلقات المنفصلة المتصلة إلى المسلسلات الطويلة.

لا داع للمقارنة بإنتاج الآخرين، فالساحة تتسع للجميع، والجميل سيثبت نفسه، فلندع الناس تقرر!! وأكمل بطرس كتبت للتلفزيون ما اعتقدت أنه يشبهني وبالتالي سيشبه من يشبهني، لأنني كاتب ومن حقي التجريب في حقول الكتابة.

إن الكتابة عما يجري اليوم مهم جداً لكن دون الوقوع في فخ التسرع، ما يلزم هو جرعة جرأة مضاعفة، خصوصاً أن نتائج الفساد قد ظهرت دفعة واحدة على السطح، لقد تنبأ كتابنا بمرضنا وها نحن اليوم نرى المرض ونلمسه لمس اليد، من باب الطرافة أن بعض الناس لاموني على سوداوية مسلسل الخبز الحرام، فقلت لهم حينها أن في الواقع السوري ما هو أسوأ من ذلك قبل الأزمة اليوم أرجو أنني لم أخطئء في التوصيف! القارئ ذكي، بينما مشاهد التلفزيون خامل ،وأنا أكتب لقارئ ذكي، أحترم فيه مشاركته القصة في إعادة كتابتها، وأعرف تمام المعرفة من هم المستهدفون في مشاهدة التلفزيون، ما يخلق لي أحياناً صراعاً في الخلط بينهما، فأخفف الجرعة لمشاهد التلفزيون بينما أزيدها لقارئ القصة! أنا بحاجة لنوعي الكتابة ، كليهما يعطيني متعة مختلفة تماماً عن الآخر.


سانا

Share/Bookmark

صور الخبر

كتاب على البخار لبشار بطرس

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق