ديوان النثر العربي: جديد أدونيس وبحث عن القارة المجهولة في اللغة

09 أيار 2012

.

بعد تجربته في «ديوان الشعر العربي» بأجزائه الأربعة، يعود أدونيس في بحثه عن القارات الجديدة في اللغة العربية ليصدر «ديوان النثر العربي» الذي يصدر عن دار «بدايات» في أربعة أجزاء أيضاً.

في مقدمة «ديوان النثر العربي» يقول أدونيس:

-1-

أزعم أن النثر العربي، خصوصاً في جوانبه الفنية، لا يزال قارةً شبه مجهولة.

لا يعود ذلك إلى هيمنة الشعر وحدها، يعود كذلك إلى سبب موضوعي: بنية النثر أقرب -تاريخياً- إلى مفهوم الكتابة. بنية الشعر أقرب -تاريخياً- إلى مفهوم الشفاهة. لا نستطيع مثلاً، أن نضع النثر في قوالب أو تفاعيل تسهل حفظه وروايته، كما هي الحال في الشعر، وهكذا لا نستطيع أن نتناقله كما نتناقل الشعر.

هناك مقولة راسخة في مؤسساتنا العربية الثقافية تتحكم بعقولنا وآرائنا وأحكامنا، قليلاً أو كثيراً، وتبعاً للحالة. أصوغ هذه المقولة كما يلي: «لا معنى لما يأتي من بعد، إلا إذا كان مطابقاً لما كان من قبل».

هذا الديوان الذي هو استمرار لما قمت به في هذا المجال، إنما هو توكيد آخر على ضرورة الخروج كلياً من إسار هذه المقولة إلى نقيضها، الذي أصوغه كما يلي: «لا معنى لما يأتي من بعد، إذا كان مطابقاً لما كان من قبل».

في «لسان العرب» أن «الديوان» كلمة فارسية معربة، وتعني -كما جاء فيه-: «مجتمع الصحف، والدفتر الذي يُكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء».

ويضيف معجم «محيط المحيط» قائلاً: «الديوان الجريدة، مأخوذ من قولهم: دوَّنَ الكتبَ إذا جمعها، لأنها قطع من القراطيس مجموعة. ويقال: فلان من أهل الديوان، أي ممن أُثبت اسمُه في الجريدة. ويطلق الديوان أيضاً على مجلس الوالي الذي يجتمع فيه للمفاوضة في الأمور السياسية، وعلى الكتاب الذي تُجمع فيه قصائد الشاعر. وربما أُطلق الديوان على كل مجلس يُجتمع فيه لإقامة المصالح، أو للنظر فيها. وسمي الشعر ديوان العرب، لأنهم كانوا يرجعون إليه عند اختلافهم في الأنساب والحروب وإجراء الأرزاق من بيت المال، كما يرجع أهل الديوان إلى ديوانهم عند اشتباه شيء عليهم، أو لأنه مستودع علومهم، وحافظ آدابهم، ومعدن أخبارهم».

-2-

انطلاقاً من هذا الاستشهاد الطويل، عمداً، يمكن الزعم أن في أصل كلمة «ديوان» وفي تنوع استخداماتها ودلالاتها، ما يتيح لنا أن نستخدمها بمدلول جديد آخر: «ديوان النثر العربي»، استناداً إلى دلالة «الجمع» على الأقل.

يقدِّم هذا العمل شهادةً على غنى التراث النثري العربي، وعلى تنوعه وعلوه، جمالياً ولغوياً، وأرجو أن يدفع المعنيين إلى القيام بقراءات أخرى لهذا التراث العظيم وتقديم شهادات أخرى، من زوايا أخرى مختلفة.

يصدر النثر العربي، كما يبدو في هذا العمل عن ثقافة مركّبة وصفها الجاحظ بأنها «ثقافة الأذهان اللطيفة، والتدابير العجيبة، والعلوم الغريبة». هو إذاً ظاهرة مدينية-مدنية.

يتجه النثر أساساً إلى القارئ، فلئن كان الشعر من حيث نشأته، طبيعةً أو فطرةً، فإن النثر من حيث نشأته، صناعةٌ. لكنْ في التطور، أصبح كلٌّ منهما طبيعة وصناعة في آن.

هذا العمل يُخرج النثر من سلطان الشعر، بحصر الدلالة، ومن معاييره، بحيث يوضع النثر والوزن على طاولة واحدة، هي الكتابة، ولا يعود التفاضل يُلتمس إلا في مستوى الكتابة، نثراً ووزناً.

في النثر كما يقدمه هذا العمل، ما ينهي فكرة النموذج، وما يقدم الارتباط العضوي بالحياة والتجربة، على الذاكرة. وهذا يعني أن النثر ثقافة، بالمعنى العميق والواسع لهذه الكلمة، وهو ما تشير إليه عبارة الجاحظ. وهكذا، لا تقوم علاقته مع المجتمع على الحفظ، كما هي الحال في الشعر، وإنما تقوم على القراءة.

إلى القراءة أدعوك، أيها القارئ الصديق.

-3-

أما بالنسبة الى «النثر الصوفي»، فإن المختارات التي انتقيتها منه تساعد على التحرر من الأحكام الشائعة عن التصوف، وهي إجمالاً أحكام سطحية، وبخاصة تلك التي يطلقها باسم العقلانية بعضُ المفكرين العرب، وتلك التي يطلقها باسم الدين المتدينون السلفيون، وتلك التي يطلقها باسم التقدم بعض الكتّاب ممن يعمل في الحقل السياسي. كلا، ليس التصوف سحراً أو شعوذة، كما يرى أهل العقلانية، وليس كفراً أو مُرُوقاً أو زندقة، كما يرى أهل السلفية والأصوليات، وليس انعزالاً أو دروشة كما يرى أهل النضال والسياسة.

التصوف حركة تضع أصحابها في حالة انعتاق كامل، على جميع المستويات.

إنه في المقام الأول، نظام قائم على التناغم والحب، يكتشفه كل فرد بنفسه، لا بالوساطة. وهو نظام قائم على رفض مبدأ السلطة وكلِّ مثال أو نموذج مسبق جاهز. إنه مناخ معرفي لهدم سلطة الخارج وبناء سلطة القلب. والمعرفة هنا نقيض للمعرفة في تحديدها الوثيق العلاقة بإنتاج السلطة، ذلك أن المعرفة في التصوف إنما هي تجسيد للحرية، بينما السلطة تجسد الاستبداد. هكذا يعمل التصوف على تغيير الحياة بدءاً من تغيير الفرد، فتغيير الحياة-الموضوع مشروط بتغيير الحياة-الذات.

وفي هذا الأفق، يبدو التصوف حركةً فنيةً، إلى جانب كونه حركةً معرفيةً-فكرية.

والإبداع الفني هو أساساً إبداع معرفي، كمثل التصوف. إنه تجربة في المعرفة والكشف، وإذاً تجربة في الحرية والتحرر، فأنْ نُبدع هو أن نمنح حياةً لما لم يولد بعد، فيما نتحرر من أنواع الإكراهات جميعاً. هو أن نبتكر خارج الطرق المعروفة، وأن نفتتح طرقاً جديدة بقوة المخيلة لاكتشاف أقاليم معرفية جديدة.

ولئن كان كل إبداع بدايةً، فإنه رفض بدئي لكل سلطة، سواء كانت دينيةً أو فكريةً، سياسيةً أو اجتماعيةً. كل مبدع بادئ: لا قواعد ولا مسبقات.

في هذا الإطار، ينبغي أن نقرأ النثر الصوفي، وسوف يكتشف القارئ أن النثر أكثر صعوبةً من الشعر، وأنه أوج الفن الكتابي، كما يقول فلوبير، وأنه يمثل مدى جمالياً متنوعاً قلما نعثر عليه في الشعر.

النثر الصوفي انفجار لغوي داخل الكتابة العربية، فيه كيمياء أدت إلى ابتكار أشكال من التعبير لا نراها في الشعر، إنه كيمياء تجعل من النثر فضاءً مفتوحاً بلا نهاية على مجهول الأشياء والأشكال.

هكذا يبدو النثر الصوفي كأنه في آن عمق إحساسي، وجدة فكر، وإتقان تحول.

وهو في ذلك يؤكد لنا أن موزون الشعر العربي ليس هو وحده الذي يجسد معنى الشعرية العربية على نحو كامل ومغلق، وإنما يشكل كثير من المنثور الأدبي العربي جزءاً جوهرياً من هذه الشعرية. ولا أبالغ إذا قلت إنّ في هذا المنثور الصوفي شعراً لا يضاهيه إلا القليل مما نعرفه من الموزون، بل إن ثمة نماذج من هذا المنثور يمكن أن تكون من الينابيع الأولى للكتابة الشعرية العربية.

ونعرف أن شعرية الموزون تقوم على مصطلح العروض، وهو مصطلح لاحق، أي أن الشعر سابق عليه. وقد ساد هذا المصطلح طول المرحلة التاريخية السابقة، لأسباب يمكن تعليلها وتأويلها على الصعيد التاريخي الحضاري. غير أن لغلبته أيضاً سبباً ذاتياً يكمن في مطابقته للواقع المعطى، نفسياً واجتماعياً. لكن هذا المصطلح لا يستنفد الشعرية فنياً، وهو بالتالي لا يَحُول، تجريبياً وعلمياً، دون نشوء مصطلح آخر يجاوره ويكمله.

نعرف كذلك أن التجديد، إبداعاً وكشفاً، جوهر الإنسان والحياة، فهو طبيعة ثانية تلازم طبيعتنا الأولى. ومدار التجديد هو، على صعيد النظرة، اكتشاف عوالم مجهولة أو ارتياد مناطق مجهولة في عوالم معروفة. وعلى صعيد التعبير، اهو بتكار أشكال وبنى جديدة، أو مزج تكويني غير مألوف.

والتاريخ الفني لدى جميع الشعوب إنما هو هذه الانقطاعات وهذه المؤالفات: انقطاعات عن المعروف تكشف المجهول، ومؤالفات جديدة بين ما ألفناه وما لم نألفه. وتاريخ الإبداع الإنساني هو في هذا التفجر المكتشف، المنقطع المتآلف.

-4-

نعرف أيضاً أن الممارسة الكتابية الشعرية التي بدأت تؤسس الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، تكشف عن القضايا التالية:

أولاً - العروضية التي حددت النوع الشعري الذي ورثناه، تفقد مسوغاتها ميدانياً وتجريبياً، فثمة لدى الشعراء العرب اليوم ميل كياني للكتابة شعرياً بالنثر، وميل كياني لإهمال العروضية، أو لتجاوزها، وبدلاً من التوكيد على المفهوم التقليدي للقصيدة، يتجهون إلى التوكيد على مفهوم النص، وبدلاً من قالبية الوزن، يتجهون نحو حركية النثر.

وبدءاً من ذلك، أخذوا يميزون بين النظم والشعر بدلاً من أن يميزوا -مثل التقليديين- بين الشعر والنثر. أصبحت طريقة استخدام اللغة المقياس المميز.

ثانياً - النثر كما يمارسه هؤلاء الشعراء، إنما هو نثر آخر، ما نزال ننتظر الناقد البصير الخلاّق الذي يكشف لنا عن أسسه الفنية وآفاقه الجمالية. وإذا كان بعضهم يقول بإصرار إنه ليس شعراً، فمن الممكن القول باليقين نفسه، إنه كذلك ليس نثراً عادياً، وإنما هو نوع كتابي جديد.

ثالثاً - نتاج هؤلاء الشعراء آخذ في إرساء مصطلح جديد، هو مصطلح الكتابة، وهو مصطلح عربي خالص، أُهمل بسبب من طغيان العروضـــية. والكتـــابة إنشاء، أي خلقٌ لا على مثال. وليست الإنشــائية صفة من خارج تميز الكتابة الشعرية، وإنما هي أيضاً صفة من داخل: أن تنشئ هو أن تكتب نصاً تتحقق في بنيته مجموعة من الخصائص تميزه عن الكتابة العادية، وتضفي عليه خصوصية الكتابة الفنية-الشعرية.

رابعاً - هناك نتاج راهن لا أتردد في وصف بعضه بأنه شعر، ومع ذلك لا يمكن إدخاله في الأنواع الأدبية التقليدية: ليس نثراً كالنثر، وليس وزناً كالوزن، وإنما هو كتابة مغايرة. وهذا النتاج هو اليوم الأكثر إثارةً للتساؤل، والأكثر انغراساً في الحقل الكتابي-الأدبي. ثم إنه يخلق عالماً جديداً من العلاقات بين اللغة والأشياء، وبين اللغة والإنسان. وبما أن هذه العلاقات هي ميدان التعرف على حداثة النص٬ فإن الشعر الذي لا يخلق مثل هذه العلاقات الجديدة قديم، وإن يكن مكتوباً في لحظتنا الحديثة الراهنة.


الحياة

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق