1- وضع المسألة:
عبر مناقشة مسألة تاريخ الفنون، بحديها المتناقضين، بين نظرية «روح الفن»، وبين نظرية «تطور الفن»، حيث تعتمد الأولى، على التقاليد المثالية عند «أفلاطون» الذي يرى «كل فنان وكل عمل فني نسيج وحده، ولا سبيل إلى مضاهاته بغيره، فهو إنتاج مصدره الوحي الإلهي»، وهو مفهوم انتقل إلى الفكر الأوروبي عبر «كانت»، وارتبط ارتباطاً وثيقاًن بالمعتقد الرومانتيكي، الذي يرى «أن الفن شيء روحي بحت خارج نطاق التنازع الطبيعي من أجل البقاء»، والتي يترتب عليها، أن روح الفن كامنة في عمل الفنان العبقري، وهي تستعصي على كل تحليل، ولا يستطيع تمييزها، إلا ذوو الأذواق الرفيعة من الأشخاص، أما ما كان متأثراً بالثقافة المتراكمة، فهو عمل غير فني، أي «فن زائف» حسب تعبير «تولستوي»، مما يجعل المسألة مسألة تقييم اعتقادي أو شخصي، لا مجال فيه للمناقشة الموضوعية.
وأما الحد الثاني فهو نظرية تطور أو تراكمية أو تواصل الفنون والتي تجد سندها، من خلال ما تم في ميدان الدراسات الأنتروبولوجية عند الشعوب، والتي تعتبر حديثة الوجود، إضافة إلى ما تم في دراسة الفنون الغربية، وبعض الفنون، التي أتيح لها الحفظ والتصنيف والدراسة والتحليل، مما جعل البعض يخلصون إلى كون «كل فن، وكل أسلوب، وكل تعاقب من الأساليب تراكمياً إلى حد»، وأن كثيراً من الفنانين «لا يبنون على المنجزات السابقة بصورة شعورية متعمدة، كما أنهم غالباً ما يحبون أن يتصوروا أنفسهم على أصالة كاملة، وقد شجعهم على ذلك نظريات جمالية زائفة، على أن المشاهد الخبير، لا يرى أن هناك شيئاً اسمه فنان كامل الأصالة، أو عمل فني كامل الأصالة».
عبر استعراض هذا الجدل بين الحدين ـ النظريتين، يسوق الفيلسوف الجمالي «توماس مونرو» ملاحظة عابرة، مؤيداً الاتجاه التواصلي، ويقدم دليله بالمثال التالي:
«لقد كشفت أبحاث علم الآثار القديمة بالشرق الأدنى عن العديد الذي لا حصر له من المدن المدمرة، وهي تقوم في طبقة من الحفائر فوق طبقة، واقترن هذا التدمير على الأرجح بقتل معظم السكان أو أخذهم عبيداً. على أن كثيراً من المنتجات الفنية المتينة كالنحائت الحجرية أو العاجية ظلت موجودة بين الأنقاض، أو حملت فيما حمل من مغانم، لكي تقوم بدورها الصامت في فن الفاتحين. ومن ثم كان هناك تواصل أو استمرار عظيم للتقاليد الفنية بمناطق أرض الجزيرة وسورية أثناء الآلاف الثلاثة الأولى من السنين قبل الميلاد».
إن هذه الملاحظة: الشاهد ـ المثال، من قبل الباحث الجمالي «توماس مونرو»، لا ترد، إلا بعد اعترافه بوجود الانقطاع في تاريخ الفنون أحياناً، وأن في هذا التاريخ الكثير من الثغرات و«أن جميع الفنون وعدداً كبيراً من العلوم، اضطرت فعلاً إلى الابتداء من جديد إلى حد كبير»، إلا أنه يحلل هذه الثغرات، ويعيدها إلى عطل أصاب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أو تعود إلى تمزق واسع النطاق، أصاب المجتمع بمنطقة معينة، ولكن إذا كان التمزق ضئيلاً، وكان أصحاب الثقافة أو الحكام الجدد متشابهين في خلفياتهم السلالية أو الثقافية، وإذا بقي قلة من مهرة الصناع على قيد الحياة، فإن تواصل الفنون يبدو ممكناً، من خلال التقاط الأجزاء واعتبارها نماذج للمنتج الجديد.
2- الإيديولوجية والمنهج:
1- تنطلق معظم الدراسات الغربية، إن لم نقل كلها، والتي تتعرض لتاريخ الفنون في منطقة الشرق الأدنى، من خلفية نظرية، تعتمد التمييز بين الساميين والآريين، وهي النظرية التي استندت إلى مصطلح «السامي» الذي ابتدعه العالم الألماني أ. ل. شلوتر، في مؤلف له، نشره عام 1781، حيث أعطاه عنواناً «فهرس الأدب التوراتي والشرقي». وإذا كان هذا التقسيم، قد أريد به التمييز بين اللغات السامية، وبين اللغات الهند وأوروبية، فإنه تحول إلى تمييز عرقي بين الشعوب.
وعلى الرغم من أن هذا العنوان يبدو ملتبساً؛ لأنه يميز الشرقي عن التوراتي، فإن مصطلح «السامي» هو توليد من أرضية أسطورية تتعلق بأسطورة نوح وأبنائه.
إن ابتداع المصطلحات هو جهد فكري لتملك الواقع، وهو لا يخلو من الإيديولوجية، مما يجعل بالإمكان نقده. ومع ذلك فقد تحتجب هذه الحقيقة عن بعض الباحثين، حتى يصبح المصطلح لديهم ـ وهو صورة ذهنية ـ هو الواقع، وليس الإشارة إليه.
2- يعتمد أكثر الباحثين عند الحديث، عن الحقبات التاريخية للشعوب التي تقطن منطقة الشرق الأدنى إلى التحليل عبر منطق التجزيء حتى الوصول إلى العناصر، التي شكلت هذه الشعوب، دون أن ترى التحامها الثقافي عبر التاريخ، من خلال البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعبر هذا التجزيء إلى سومريين وبابليين، وكلدانيين، وآشوريين، وآراميين، وعمونيين، وموآبيين، وعرب، يريدون أن يجدوا مكاناً للعبرانيين.
3- إن علم الآثار في هذه المنطقة، بدأ به المستشرقون توراتياً، أي أنه كان بحثاً، عما روته التوراة، ولذا... كان موجهاً مسبقاً، لا للكشف عن حقائق، وإنما لتصديق روايات أسطورية، مما دعا «بيير روسي» ليقول «إن اليوم الذي يتوقف فيه العهد القديم عن تغذية علمنا التاريخي يغدو فيه شرحنا لأمور الشرق محرراً من إمبراطورية الأفكار المسبقة».
4- في القرن الثامن عشر، أي في قرن الأنوار، قرن العقل، ولدت خرافة «النقاء العنصري». ولئن كانت هذه الخرافة قد جرت على البشرية الكثير من الويلات، إلا أنها اخترقت بعض نظريات الفن، وبعض الفلسفات، وانعكست على دراسة الحضارات القديمة.
5- إن نظريات العلماء، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية، تنطلق في غالب الأحوال من قناعات ومعتقدات خفية أو لا شعورية لدى أصحابها، هذا إن لم نقل أن هؤلاء العلماء يخضعون لأيديولوجيات مؤسساتهم ومموليهم، مما استدعى قيام «علم اجتماع العلم» للبحث في المؤسسات المنتجة للعلم والأحوال الاجتماعية المترتبة عليها، وتقول «جانيت وولف» توصل بعض علماء الاجتماع وفلاسفة العلم إلى نتائج تتسم بالنسبية المسرفة، وهي بذلك تضع مزاعم الموضوعية (والحقيقة) التي يدعيها العلماء موضوع التساؤل». «بل.. إن ما يشابه هذا التوجه قد تناول علماء بالدراسة، مثلما فعل أريك فروم» في كتابه «فرويد ـ تحليل لشخصيته وتأثيره» حيث كرس فصلاً فيه لبيان قناعات «فرويد» الدينية والسياسية. وانعكاسها على أفكراه، وذلك بعد أن أبان علاقاته الطفلية والاجتماعية.
وينتقد «كولنجوود» فرويد، قائلاً «ما فعله فرويد هو رد الاختلافات بين الحضارة الأوروبية، والحضارات غير الأوروبية إلى اختلاف بين المرض العقلي والصحة العقلية».
6- إن التحليل والتركيب عمليتان إجرائيتان في كل منهج، وفي كل مجال، ولكن بعض الباحثين، يتوهون في تحليلاتهم الدقيقة والذرية، بحيث تغيب عنهم الصورة العامة، فالحضارة تحت مجاهر هؤلاء، تتحول إلى حضارات إقليمية، ثم تتحول إلى تجمعات عرقية أو عشائرية، ثم تنقسم إلى ذرات طائفية أو عائلية، مما جعل «روسي» يقول:
«إن فن الانقسام قد ذهب بعيداً جداً، بحيث أن الحضارات تحت مجهرنا القاتل، قد انتهت بالانشقاق إلى فتات، لأنه في الوقت نفسه الذي كان فيه سيرنا التحليلي يتطور متقدماً، كان ذوق التركيب يتراجع، ذلك التركيب الذي لا يمكن بدون أن يكون هناك تاريخ ممكن».
7- تسيطر على الباحثين رؤية أحادية الجانب، حسب مواقعهم الأيديولوجية، فقد يميل بعضهم إلى التحليل لإبراز جوانب الاختلاف بين البؤر الحضارية، وهو ما يقع به بعض الباحثين الغربيين، في حين أن الباحثين العرب وبعض الغربيين، يميلون للتركيب لإبراز جوانب التشابه والاتفاق. وكلا الطرفين يقوم بإسقاط تطلعات الحاضر على الماضي، مما يحجب جزءاً من الحقيقة والواقع.
8- إن الإيديولوجية الغربية، التي تخترق الدراسات الحضارية، ومن خلال إحساس بالمركزية، تبدأ تاريخها بالإغريق والرومان، متجاهلة الدول الرافدي والمصري والسوري في نشوء الحضارة الإيجية والإغريقية، كما تتجاهل دور الجزء الشرقي في كيان الإمبراطورية الرومانية.
إن تواشج محاور هذه الأيديولوجيا مع المناهج في الدراسات الإنسانية، ومنها التاريخ العام، ينعكس على تاريخ الفن في العالم، كما ينعكس على تاريخ الفن في منطقة الشرق الأدنى، وعلى ما يمكن أن نسميه تاريخ الصورة في بلاد الشام.
3- معطيات:
1- يطرح بعض الباحثين الغربيين والسوريين صورة عامة وتركيبية للحضارة التي عرفتها منطقة الشرق الأدنى فتارة تتوسع حدودها، وتارة تضيق.
ـ ففيلسوف الحضارة «اشبنغلر» الذي يسمي هذه الحضارة بالحضارة المجوسية أو السحرية، يقول عن أديان هذه المنطقة «فهذه المجموعة تشكل وحدة من روح وتطور، لا يمكن أبداً العزل أو الفصل بين عناصرها... الأديان تتبدل ولكن الروحانية واحدة».
ـ أما «بيير روسي» والذي يسمي هذه الحضارة بالحضارة العربية، فهو يرى أن «بين النيل والقوقاز واليمن والسند تلاقت وتقاطعت وعاشت خلال نسيج متلاحم تيارات صوفية روحية متمازجة أحياناً إلى حد يبدو معه من العبث التفتيش عن خطوط القسمة الجغرافية فيها».
ـ أما «يوسف الحوراني» في دراسته للبنية الذهنية للحضارة في شرق المتوسط، فيقول «لقد شملت هذه الحضارة شعوباً متعددة بثقافة واحدة، فتعددت في ظلها اللغات، ولكن لم تختلف المفاهيم الأساسية للدين أو للكون أو لنظام المجتمع. دمجت التنظيمات الاقتصادية والمسؤوليات السياسية بالدين وطقوسه وعقائده، فنتج عن ذلك وحدة اجتماعية متماسكة عرف التاريخ من استمراريتها ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة».
ـ أما «أسد الأشقر» في تاريخ سورية ونشوء العالم العربي، فيرى أن الحضارة السورية كانت «المسيرة التاريخية الفريدة، المعقدة والمتشابكة، لا يجوز النظر إليها كمجموعة أجزاء يستقل الواحد منها على الآخر، لأنها كل حضاري متنام متفاعل، تجربة تاريخية متماسكة».
2- إن هذه النظرة التركيبية للمظاهر الذهنية والثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية، للحضارة السورية في بلاد الشام، تتجلى بوضوح من خلال محاولات اختراع الألفباء حوالي 1500ق.م، فهذا الاختراع يشير ـ مادياً ـ إلى النزوع للالتحام، والحاجة إلى تفاهم الشعوب والمجتمعات.
3- إذا كانت الحروب والهجرات قد أدت إلى التمازج، فإن «الأنبياء مثل التجار والعرائس الملكية وآلهة هذه العرائس، كان باستطاعتهم أن يجتازوا الحدود السياسية» للدول والإمارات والمدن، ولكن الأهم من ذلك، وقد ذكره «توينبي» بوضوح هو دور «الفن المنظور» في التواصل والتمازج، بين الديانات والشعوب، فبين عام 48-220م وهي فترة تعتبر «زمن توطيد سياسي وسلام نسبيين كان ايكومين العالم القديم في حال من التواصل غير عادية».
4- إن هذه الرؤية التركيبية لجوانب الحياة الحضارية لبلاد الشام، هي التي تعيدنا إلى ملاحظة «توماس مونرو» لنتساءل عن واقع التواصل والاستمرار فعلاً، وعما إذا لم يكن تاريخ الصورة في بلاد الشام، يتناظر، أويتوازى مع الجوانب الحضارية الأخرى إمكاناً أو احتمالاً.
ـ أو ما يواجهنا ضمن هذا التوجه، هو أن وثائق تاريخ الصورة غير مكتمل، ففي القرن الماضي، تمت معظم المكتشفات في أوغاريت، وماري، وتدمر، وإبلا، ودورا أوروبوس، وتل برسيب، ودير مار موسى الحبشي، ومعرة صيدنايا، وقصر الحير، وقصير عمرة، الخ... علماً أن بلاد الشام ما زالت خزاناً ضخماً للخزين التصويري ولذا... فإن تاريخ الصورة، يبدو مؤجل الاكتمال.
ـ إن الصورة كانت في غالب الأحوال وسيلة تحت تصرف الأديان، وبالتالي.. فقد كانت تقوم بوظيفتين، أو تستجيب لدافعين وهما: الجمالية والسحرية، ولا يتحقق السمو بهذه الصورة إلا بالتوافق المطلق بين الدافعين أو الوظيفتين.
أما ما يقصده «كولنجوود» بالسحري، فهو «استحضار انفعالات معينة دون غيرها لإطلاقها في أمور الحياة العملية».
ـ يرى «توينبي» أن كل مدنيات ايكومين العالم القديم (أي بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي) قد ورثت عدداً من «الصور الأولية» التي تعود إلى ما قبل المدنية في تاريخ البشرية. وأقدم هذه الصور، صورة الأم، وصورة الطفل، وصورة المخلص، وصورة الإله المتجسد كائناً بشرياً، وصورة البذرة، (أي المبعوث بعد الموت).
فالأم هي الموضوع لأقدم تمثيل منظور للشكل البشري. ولا تتعارض فكرة الأمومة مع «العذرية» كما يبدو أن فكر «الأبوة» لم تكن بدائية، وإنما جاءت لاحقاً، لكن الأمومة ارتبطت بالطفل، وسيطرت عليه، أما الذكر فربما تحاشاها، وهذا ما جعل بعض الآلهة الذكور يظلون عزاباً (أتون، آشور، مترا).
إن صورة الأم قد تكون حانية، وبانية، ومخصبة، ومغذية، الأم المشتركة للحياة، وقد تكون صورة الأم مخربة، وهادمة، وطاغية (عشتار، عشتروت، أتارغيتس، سيبيل).
أما الأب فقد يكون عادلاً مثل (شماش) يمنح نوره ودفئه لكل الكائنات، يرى ويسمع كل ما يصنع على وجه الأرض، لكنه قد يكون طاغياً، متقلباً، جشعاً مثل الطقس (حدد) فيتلف المزروعات، وبسبب الفيضانات، ويثير العواصف، ويأتي بالجفاف.
أما البذرة بموتها وبعثها، فيتخذ صورة المبعوث بعد الموت، صورة القائم والمنتظر «وهذه القدرة الإنباتية هي التي يعيش المؤمنون من البشر بأكل لحمها وشرب دمها». تموز في سومر وأكاد، أتيس في آسيا الصغرى، أوزيريس في مصر الفرعونية، أدونيس في بلاد الشام، بعل في أوغاريت.
أما صورة المخلص فهي الصورة التي يحتاجها البشر، وخاصة في أثناء الأزمات والاضطرابات، في حين أن صورة الإله المتجسد تكون ولادته من أم دون تدخل ذكر بشري (الفرعون).
ويقول توينبي «إن الصور البدائية ليست متمايزة بالضرورة، فالإله المتجسد والمخلص والبذرة والابن قد تتوافق هوية واحدها مع هوية الآخر».
ـ جمعت «الزا ذايبرت» قرائنها من الأختام الأسطوانية، فوجدت صورة «الراعي الصالح» بأشكاله المتنوعة، فقبل 3000 آلاف قبل الميلاد، عرفت حضارة أوروك؛ الراعي الملك، والراعي والحمل، والراعي والشجرة.
ـ يمدنا «انطون مورتغارت» في كتابه «تموز» ومن الفترة السومرية، بستة من الأفكار المصورة، التي يسميها خالدة، وهي:
1- شجرة الحياة بين حيوانين.
2- البطل كقاهر للحيوان.
3- ثور وسبع والصراع بينهما.
4- مجلس الشراب.
5- جوقة الحيوانات.
6- مجموعة من المشاهد (العيد في العربات، الشمس المجنحة، الأشباح المجنحة، الحيوانات والمخلوقات الخرافية).
وقد تابع «مورتغارت» هذه الموضوعات عند الأخمينيين، والفينيقيين، والفرجيين، واليونانيين، وحتى عند التدامرة.
4- مقارنات:
د. عبد الله السيد