جورج طرابيشي

01 02

wiki->parse(

مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة (+(بنك:حلب)+) عام 1939. يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستر بالتربية من جامعة (+(بنك:دمشق)+). عمل مديراً لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة «دراسات عربية» (1972-1984)، ومحرراً رئيسياً لمجلة «الوحدة» (1984-1989). أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره، وقد فجعته حربه الأهلية، إلى فرنسا التي يقيم فيها إلى الآن متفرغاً للكتابة والتأليف.

تميز بكثرة ترجماته ومؤلفاته حيث أنه ترجم لفرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين، وبلغت ترجماته ما يزيد عن مئتي كتاب في الفلسفة والإيديولوجيا والتحليل النفسي والرواية. وله مؤلفات هامة في الماركسية والنظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية العربية، حيث كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها. من أبرز مؤلفاته: «معجم الفلاسفة» و«من النهضة الى الردة» و«هرطقات 1 و2»، بالإضافة إلى مشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات في «نقد نقد العقل العربي»، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري. ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي، إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي، وقد حاول فيه الإجابة عن هذا السؤال الأساسي: هل استقالة العقل في الإسلام جاءت بعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير، أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامى مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟

أهم ما يذكر في المسار الفكري لجورج طرابيشي هو انتقاله عبر عدة محطات أبرزها الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية لينتهي إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.

==من مقالاته==
- نبيّ بلا معجزة.
- من جرح الهزيمة إلى ضمادة التراث.
- العلمانية كجهادية دنيوية (1/2).
- العلمانية كجهادية دنيوية (2/2).
- الديمقراطية الناقصة.
- صناعة الأوهام.

==أهم أعماله==
'''مؤلفاته:'''
1- المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، دار الساقي، بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، 2008.
2- هرطقات (1): عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، دار الساقي، بالاشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، 2006.
3- هرطقات (2): العلمانية كإشكالية إسلامية- إسلامية، دار الساقي، بيروت، 2008.
4- نظرية العقل العربي: نقد نقد العقل العربي (ج1).
5- إشكاليات العقل العربي: نقد نقد العقل العربي (ج2)، 2002.
6- وحدة العقل العربي: نقد نقد العقل العربي (ج3).
7- العقل المستقيل في الإسلام: نقد نقد العقل العربي(ج4)، 2004.
8- مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة.
9- مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام.
10- المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، 1991.
11- شرق وغرب، رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، 1977.
12- عقدة أوديب في الرواية العربية، 1982.
13- الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية، 1983.
14- الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، 1973.
15- لعبة الحلم والواقع: دراسة في أدب توفيق الحكيم، 1972.
16- الأدب من الداخل، 1978.
17- رمزية المرأة في الرواية العربية، 1981.
18- أنثى ضد الأنوثة: دراسة في أدب نوال السعداوي، 1984.
19- النظرية القومية والدولة القطرية، 1982.
20- الماركسية والأيديولوجيا، 1971.
21- سارتر والماركسية، 1963.
22- الماركسية والمسألة القومية، 1969.
23- النزاع الصيني السوفياتي، 1969.
24- الاستراتيجية الطبقية للثورة.

'''ترجماته:'''
1- مؤلفات جان بول سارتر، بيروت.
2- مؤلفات سيمون دي بوفوار، بيروت.
3- مؤلفات روجيه غارودي، بيروت.
4- زوربا، نيكوس كازنتزاكي، بيروت.
5- موسوعة علم الجمال، هيغل، بيروت.
6- مؤلفات سيغموند فرويد، بيروت.

==من ترجماته==
===أولاً: المدخل إلى علم الجمال (هيغل)===
'''أ- في علاقة الجمال الفني بالجمال الطبيعي:'''
من جهة أولى، إن من حق كل علم أن يرسم لنفسه الحدود التي يشاء؛ لكن الفلسفة، من الجهة الثانية، لم يقع اختيارها على الجمال الفني دون غيره موضوعاً لها انصياعاً منها لقرار عسفي.

إن ما يحمل المرء على أن يعتبر الجمال الطبيعي استثناء تحديداً تعسفياً هو ما اعتدناه في حياتنا اليومية من الكلام عن سماء جميلة، عن شجرة جميلة، عن رجل جميل، عن عرض جميل، عن لون جميل، الخ. ويتعذر علينا أن نندفع في تمحيص المسألة المتعلقة بمعرفة هل يجوز لنا أن ننعت بالجمال أشياء الطبيعة، كالسماء والصوت واللون الخ، وهل تستأهل هذه الأشياء بوجه عام ذلك الوصف، وهل ينبغي بالتالي أن يوضع الجمال الطبيعي في مرتبة واحدة والجمال الفني. إن الجمال الذي يخلقه الفن لهو، بحسب الرأي الشائع، دون مستوى الجمال الطبيعي بكثير، وأعظم فضل للفن في هذه الحال هو الاقتراب في إبداعاته من الجمال الطبيعي. وإذا صح ان الأمر كذلك، فإن الاستطيقا، بوصفها علم الجمال الفني وحده، تدع خارج نطاق صلاحيتها جزءاً كبيراً من المضمار الفني. لكن في وسعنا أن نؤكد، على ما يخيل إلينا، أن الجمال الفني، بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة، أسمى من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح. فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن. لذا كان الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي، لأنه نتاج للروح. إن كل ما يأتي من الروح أسمى مما هو موجود في الطبيعة. وأردأ فكرة تخترق فكر إنسان أفضل وأرفع من أعظم إنتاج للطبيعة، وهذا بالتحديد لأنها تصدر عن الروح، ولأن الروحي أسمى من الطبيعي.

لو أمعنّا النظر في مضمون الجمال الطبيعي، الشمس على سبيل المثال، للاحظنا أنه يشكل آناً مطلقاً، أساسياً، في الوجود، في نظام الطبيعة، بينما الفكرة الرديئة محض شيء عابر وزائل. لكن إذا نظرنا على هذا النحو إلى الشمس من منظور ضرورتها والدور الضروري الذي تلعبه في مجمل الطبيعة، يغيب عنا جمالها، نضرب عنه صفحاً إذا جاز القول، كيلا نأخذ بعين الاعتبار سوى وجودها الضروري. والحال أن الجمال الفني لا يتولد إلا عن الروح، وإنما بصفته نتاجاً للروح يسمو على الطبيعة.

صحيح أن «الأسمى» نعت مبهم. وعليه، حين نقول أن الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي يجدر بنا أن نوضح ما نعنيه بذلك. إن اسم التفضيل «أسمى» لا يشير إلا إلى فارق كمي؛ أي أنه لا يعني شيئاً. فما يكون فوق شيء آخر لا يختلف عن هذا الشيء الآخر إلا من وجهة النظر المكانية، وقد يعادله ويساويه من سائر الوجوه الأخرى. والحال أن الفارق بين الجمال الفني والجمال الطبيعي ليس محض فارق كمي. فالجمال الفني يستمد تفوقه من كونه يصدر عن الروح، وبالتالي عن الحقيقة، بحيث أن ما هو موجود لا يوجد إلا بقدر ما يدين بوجوده لما هو أسمى منه، ولا يكون ما هو كائن عليه ولا يمتلك ما يمتلكه إلا بفضل ذلك الأسمى. إن الروحي هو وحده الحقيقي. وما يوجد لا يوجد إلا بقدر ما يشكل روحية. الجمال الطبيعي انعكاس إذن للروح. ولا يكون جميلاً إلا بقدر ما يصدر عن الروح. وعليه، ينبغي أن نفهمه على أنه كيفية ناقصة للروح، كيفية متضمنة بذاتها في الروح، كيفية مجردة من الاستقلال وتابعة للروح.

لا ينطوي إن التحديد الذي نفرضه على علمنا على أي وجه من وجوه العسف. فالجمال الذي ينتجه الروح هو موضوع الروح، خلقه، وكل خلق يصدر عن الروح موضوع يتعذر إنكار شرفه وعلو مرتبته.

سيكون لزاماً علينا أن نمحص عن كثب، في إطار علمنا، العلاقات بين الجمال الفني والجمال الطبيعي؛ وبالفعل، إنها لمسألة بالغة الأهمية مسألة العلاقات بين الفن والطبيعة. هنا يكفيني أن أنحي جانباً مأخذ العسف. فليس جميلاً إلا ما يجد تعبيره في الفن، بوصفه خلقاً روحياً؛ ولا يستأهل الجمال الطبيعي هذا الاسم إلا في نطاق علاقاته بالروح. وكل ما رمينا إلى قوله هو أن العلاقات بين كلا نوعي الجمال ليست محض علاقات جوار.

في وسعنا إذن أن نوضح موضوع دراستنا بالقول أنه يتألف من ملكوت الجمال، وإذا شئنا المزيد من الدقة، من مضمار الفن. وحين نريد أن نمحص موضوعاً لم يسبق له أن كان إلا مُتصوراً، فإنه يمثل أمامنا بادئ ذي بدء وكأنه يسبح في جو كدر غامض ونور غسقي، ولا نشرع بتبينه على حقيقته إلا بعد تحديد حدوده بفصله عن المضامير الأخرى. وعليه، سوف نبدأ هنا بالاهتمام ببعض التصورات التي يمكن أن تواجهنا أثناء دراستنا.

يتدخل الجمال في جميع ظروف حياتنا؛ فهو الجني الأنيس الذي نصادفه في كل مكان. وعندما نجيل الطرف حولنا لنتبين أين وكيف وبأي شكل يتجلى لنا، يتضح لنا أن يرتبط منذ القدم بأوثق الروابط بالدين والفلسفة. يتضح لنا بوجه الخصوص أن الإنسان لجأ على الدوام إلى الفن كوسيلة لوعي أسمى أفكار روحه واهتماماته. وقد صبت الشعوب أرفع تصوراتها في نتاجات الفن، وعبرت عنها ووعتها بواسطة الفن. إن الحكمة والدين يتجسدان عينياً في أشكال يخلقها الفن الذي يضع بين أيدينا المفتاح الذي بفضله نمتلك القدرة على فهم حكمة العديد من الشعوب وديانتها. فقد كان الفن، في الكثير من الأديان، الوسيلة الوحيدة التي استخدمتها الفكرة الوليدة في الروح كي تغدو موضوعاً للتصور. وهذه المسألة هي التي نبغي إخضاعها لتمحيص علمي، أو بالأحرى، فلسفي – علمي.

'''ب- نقطة انطلاق علم الجمال:'''
أول سؤال يمثل أمام ذهننا هو التالي: من أين نبدأ في عرض علمنا، وما ذا الذي سنعتمده مدخلاً إلى مثل هذه الفلسفة في الجمال؟ غني عن القول، بالفعل، أنه يتعذر عرض علم من العلوم بدون تحضير، لكن التحضير يكون لازماً مطلق اللزوم حين يكون بيت القصيد علوماً موضوعها ذو طبيعة روحية.

أياً يكن موضوع علم من العلوم، وأياً يكن العلم ذاته، فلا بد أن تأسر انتباهنا نقطتان: أولاً، كون مثل ذلك الموضوع موجوداً، وثانياً، كوننا نعرف ما هو.

في العلوم العادية لا تنطوي أولى تينك النقطتين على أي إشكال، بل قد يبدو من السخف أن نطالب بالبرهنة على وجود مكان، ومثلثات، ومربعات، الخ، في علم الهندسة؛ وعلى وجود الشمس والنجوم والظاهرات المغناطيسية، الخ، في الفيزياء. ففي هذه العلوم، التي تهتم بما هو موجود في العالم الحسي، يكمن أصل المواضيع في التجربة الخارجية، وبدلاً من البرهان عليها يُعتقد أنه يكفي بيانها. ولكن حتى في إطار العلوم غير الفلسفية يمكن أن تحوم الشكوك حول وجود مواضيعها، وعلى سبيل المثال في علم النفس، في مذهب الروح؛ وبالفعل، يسعنا أن نتساءل هل ثمة وجود لنفس، لروح، أي لكيانات ذاتية، لا مادية، مثلما يسعنا أن نتساءل في اللاهوت هل ثمة وجود لله. حين تكون الأشياء من طبيعة ذاتية، أي حين لا يكون لها من وجود إلا في الروح، فلا تدخل في عداد العالم المادي الحسي، نعلم أنها لا تمثل في الروح إلا بوصفها نتاجات لنشاطه الذاتي. وهنا قد تقوم عدة احتمالات: فإما أن نشاط الروح تجلى في تكوين تصورات وحدوس داخلية، وإما أنه بقي مجدباً عقيماً؛ وفي الحالة الأولى يمكن أن تكون تلك النتاجات قد اختفت أيضاً أو انحطت إلى تصورات ذاتية محضة، يستحيل علينا أن نعزو إلى مضمونها كينونة – في – ذاتها – ولذاتها. وتحقيق هذا الاحتمال أو ذاك لا يعود مرهوناً إلا بالمصادفة. هكذا يظهر الجمال، على سبيل المثال، في كثير من الأحيان في التصور، لا بوصفه ضرورياً في ذاته ولذاته، وإنما كمنبع عرضي لمحض متعة ذاتية. وكثيراً ما تكون حدوسنا وملاحظاتنا وإدراكاتنا الحسية الخارجية خداعة ومغلوطة أصلاً؛ فكم بالأحرى حال تصوراتنا الباطنة، وهي التي تنطوي على أكبر قدر من الحيوية بحيث تقودنا لا محالة إلى الهوى!

إن ذلك الشك الذي يحوم حول المسألة المتعلقة بمعرفة هل يوجد أو لا يوجد بصورة عامة موضوع للتمثل وللحدس الداخليين، وكذلك المصادفة التي تتحكم في تكوين هذا التمثل أو هذا الحدس في الوعي الذاتي مثلما تتحكم في مطابقته أو عدم مطابقته للموضوع في كينونته – بذاته – ولذاته، أقول أن ذلك الشك وتلك المصادفة يوقظان بحق تلك الحاجة العلمية السامية كل السمو التي تقتضي أن يقام البرهان على ضرورة هذا الموضوع أو ذاك حتى ولو كان موجوداً أصلاً.

حين تتم تلك البرهنة على نحو علمي حقاً، فإنها تستدعي بحكم ذلك جواباً على السؤال الآخر: السؤال المتعلق بمعرفة ماهية الموضوع. وقد يجرنا الإلحاح على هذه النقطة إلى أبعد مما ينبغي؛ لذا سوف نكتفي بالملاحظات التالية.

إن العلوم الفلسفية هي تلك التي تحتاج أكثر من غيرها إلى مدخل، لأن الموضوع والمنهج على حد سواء في العلوم الأخرى معروفان؛ فموضوع العلم الطبيعي مثلاً النبات أو الحيوان، وموضوع علم الهندسة المكان.

إن موضوع علم من علوم الطبيعة هو إذن شيء معطى، لا حاجة به لا إلى تعريف ولا إلى توضيح. وكذلك الحال فيما يتعلق بالمنهج الذي يجري تعيينه مرة واحدة ونهائية ويسلم به الجميع. أما العلوم التي تتعاطى، على العكس، في نتاجات الروح، فإن الحاجة إلى مدخل، إلى مقدمة، تكون أكثر إلحاحاً. فسواء أتعلق الأمر بالحقوق، أم بالفضيلة، أم بالخلقية، الخ، وأم كذلك بالجمال، فإن الموضوع هنا ليس من المواضيع التي تحظى بتحديدات ثابتة بما فيه الكفاية ومقبولة عموماً، بحيث تنتفي الحاجة إلى الانكباب عليه بمجهود خاص. بل على العكس، ففي علم الجمال، على سبيل المثال، تشتد الحاجة إلى تقليب النظر في مختلف تصورات الجمال الواحد تلو الآخر، وإلى استعراض مختلف وجهات النظر وشتى المقولات التي جرى تطبيقها على الجمال، وإلى تحليلها، وإلى محاولة استخلاص مفهومها بعد مقابلتها عقلياً بالوقائع والمعطيات التي بحوزتنا، للوصول بالتالي إلى تعريف للجمال. ويتوجب علينا، لهذا الغرض، أن نعمد إلى استعمال الأفكار التي بحوزتنا أصلاً، لنرى ألا يمكن للمفهوم الذي نجدّ في إثره أن ينبثق من تلقاء نفسه من ذلك المدخل بالذات.

إن ما يبرر هذه الطريقة في المعالجة هو أن التناول الفلسفي لموضوع من المواضيع، كما سبق أن قلنا، لا يمت بصلة إلى المحاكمة العقلية المعتادة بأقيستها، وتسلسل أفكارها، الخ. إن علماً من العلوم الفلسفية لملزم بأن يدع جانباً وجهات النظر والطرائق التي تتبناها العلوم الأخرى، لينشئ بنفسه مفهومه، وكذلك تبريره. وقد يحدث، إبان المعالجة الفلسفية لموضوع من الموضوعات، أن تبرز منظومات أخرى من الأفكار، وتمثلات وتصورات أخرى، لتتصدر المكانة الأولى ولتحل محل المنهج الفلسفي البحت؛ وحتى في هذه الحال، لا بد أن تحتوي تلك الأفكار والتمثلات والتصورات على عناصر من اللزوم، وإلا تكون محض نتاجات عسفية، عرضية، اعتباطية، لا قوام لها ولا غد. وحين تكون كذلك هي الحال، نستطيع أن نعزف عن البدء بالتصور الخارجي لنتناول الشيء ذاته مباشرة.

لكن يحدث أن يكشف لنا كل علم خاص، متى ما اعتبرناه علماً فلسفياً، عن روابطه بعلم سابق. فهو يبدأ بمفهوم موضوع محدد، بمفهوم فلسفي محدد، لكن لا بد أن يتجلى هذا المفهوم من الأساس على أنه لازم. فما هو مفترض لا بد أن يكون حقيقاً بأن يفرض ذاته بلزومه. ولا يسعنا فلسفياً أن نتعلل بتمثلات وأن نجعل نقطة انطلاقنا مبادئ لم تنجم أصلاً عن إنشاء سابق. إن المسلمات والافتراضات لا بد أن تمتلك لزوماً مثبتاً ومبرهناً عليه. ففي الفلسفة، لا يجوز القبول بأي شيء إذا كان لا يملك صفة اللزوم، الأمر الذي يعني أن كل شيء فيها لا بد أن تكون له قيمة نتيجة من النتائج.

تؤلف فلسفة الفن حلقة لازمة في مجمل الفلسفة. وإذا نظرنا إليها من هذا المنظور، ما أمكننا فهمها إلا على ضوء المجموع. فعلى هذا النحو فقط يمكن البرهان على وجودها وتبريره، لأن البرهنة على شيء ما إنما تعني إبراز لزومه. ولا يدخل في نيتنا أن نقوم هنا بهذه البرهنة، أن نعيد تكوين الفلسفة بدءاً من مفهومها. كل ما نريد فعله هو أن نرى إلى مفهوم الفلسفة بدءاً من مفهومها. كل ما نريد فعله هو أن نرى إلى مفهوم فلسفة الفن من منظور المفترض أو المأخوذ Lemme مثلما يتوجب أن نفعل ذلك مع كل علم فلسفي منظور إليه على حدة. إن الفلسفة في مجموعها هي وحدها التي تعطينا معرفة الكون بوصفها كلية عضوية، كلية تتطور بدءاً من مفهومها وتؤوب إلى ذاتها من دون أن تخسر شيئاً مما يجعل منها مجموعاً، كلاً واحداً ترتبط سائر أجزائه بعضها ببعض برابط اللزوم، وتؤلف من خلال ذلك الاتحاد بذاتها عالماً من عوالم الحقيقة. وفي الإكليل الذي يشكله ذلك اللزوم العلمي، يمثل كل جزء دائرة مرتدة على ذاتها، من دون أن يكف عن أن تكون له مع سائر الأجزاء علاقات لزوم؛ يمثل الهنا الذي منه يستمد أصله وفي الوقت ذاته الهناك الذي يصبو إليه من جديد، مولداً من باطنه الخصيب عناصر جديدة يغني بها المعرفة العلمية. وعلى هذا النحو، لن يكون هدفنا الراهن الاندفاع في البرهنة على فكرة الجمال، مستنبطين إياها كنتيجة لازمة من المسلمات السابقة للعلم اليت فيها تكونت، وإنما أن نقفو أثر التطور الموسوعي للفلسفة في مجملها وتطور فروعها العلمية الخصوصية. إن مفهوم الجمال والفن في نظرنا مسلمة تنبع من نسق الفلسفة. لكن بما أنه يتعذر علينا أن نمحص هنا ذلك النسق وعلاقاته بالفن، فإننا نبقى بعيدين عن وضع اليد على المفهوم العلمي للجمال، ويتوجب علينا أن نكتفي بمعرفة مختلف عناصره ومظاهره كما تمثل أو كما جرى تصورها سابقاً في مختلف تصورات الجمال الفني التي تدخل في عداد الوعي العادي. وإنما انطلاقاً من تلك التمثلات نأمل في الوصول إلى تصورات أمتن أساساً، مما سيتيح لنا بادئ ذي بدء أن نكوّن فكرة عامة عن موضوعنا وأن نستحصل، بفضل تحليل نقدي سريع، على معرفة مأمولة بالتعيينات الأعلى والأسمى التي سنتصدى لها في مرحلة تالية. وبهذه الصورة، سيكون تأملنا المدخلي الأخير مدخلاً إلى دراسة الشيء ذاته ووسيلة في الوقت نفسه للتوجه نحو الموضوع الذي يعيننا والذي سيستغرق من الآن فصاعداً انتباهنا كله.

وهنا، حيث نعزل ذلك العلم لذاته، نبدأ بداية مباشرة؛ فنحن لا نعتبر ذلك العلم نتيجة، لأننا لا نقيم وزناً للمقدمات. لذا لا نجد أمامنا في البدء سوى تصور واحد، هو تصور وجود أعمال فنية. وهذا التصور العام حقيق بأن يقدم لنا نقطة انطلاق أكثر مواءمة. وسوف نبدأ بالفعل بتكوين فكرة واضحة عن ذلك التصور وعن وجهات النظر التي كانت تُربط به آنفاً. وهذا سيتيح لنا أن نتحقق من التصور العام وأن نبرره، وأن تظهر للعيان العلاقات التي يقيمها مع مضمون الفن ومع جانبه المادي على حد سواء.

تواجهنا هنا في الفن كيفية خاصة لتظاهر الروح. الفن شكل خاص يتجلى فيه الروح، لأن في وسع هذا الأخير، كي يحقق ذاته، أن يتلبس أشكالاً أخرى أيضاً. والطريقة الخاصة التي يتجلى بها الروح تشكل في الأساس والجوهر نتيجة. والبحث عن الطريق الذي يسلكه ليتلبس ذلك الشكل والبرهنة على لزوم هذا الأخير يدخلان في نطاق علم آخر لا بد أن تكون قد تمت معالجته مسبقاً. وعلى هذا النحو فإن الفلسفة نفسها، حين تبدأ شيئاً ما، فإنها لا تفعله كما لو أنه بداية مباشرة، بل تبين أنه شيء مشتق، شيء مبرهن عليه، وهي تقتضي أن يُثبت أن وجهة النظر المأخوذ بها قد فرضت نفسها لزوماً. والفلسفة هي ذاتها التي تتطلب للبداية، لمفهوم الفن، مقدمة وسابقة، مثلما تتطلب أن يكون هذا المفهوم نتيجة مبرهناً عليها، نقطة وصول لازمة. وليس في العلم، إذا صح التعبير، بداية مطلقة. وغالباً ما يكون المقصود بالبداية المطلقة بداية مجردة، بداية لا يفترض فيها أن تكون سوى بداية. لكن بما أن الفلسفة كلية، فإن لها، بما هي كذلك، بدايتها في كل مكان. والحال أن هذه البداية هي في كل مكان، وفي الأساس والجوهر، نتيجة. ينبغي إذن أن نرى في الفلسفة دائرة مرتدة على نفسها.

لكن نظراً إلى أننا لا نضع نصب أعيننا هنا سوى جزء من الفلسفة، لا مقدماتها وسوابقها، فإننا لمضطرون إلى أن نوضح في هذا المدخل وجهة النظر التي نزمع الانطلاق منها. إن ما نستطيع هنا قبوله كمقدمات وسوابق هو تصورات لوعينا، وإنما بهذه التصورات سنربط ما نريد أن نقوله لتوضيح وجهة نظرنا؛ سوف نبدأ إذن بالتصورات التي في متناولنا.

سوف نبين في مدخل أول، بصورة عامة على الأقل، الطريقة التي ننوي أن نعالج بها موضوعنا، ولو كان السبب الوحيد لذلك تعارضها مع طرائق أخرى في معالجته. ثانياً، سوف نبحث في تصوراتنا عن تلك العناصر القمينة منها بأن تقدم لنا المواد، الأحجار، لبناء مفهومنا. وهذا معناه أننا لن نترك التصورات في الشكل الذي سنجدها عليه، بل سنقتبس من مضمونها كل ما هو لازم وجوهري لمفهومنا الفلسفي. غير أن الأجزاء الأخرى من الفلسفة هي التي ستشكل المدخل العلمي حقاً وفعلاً. سوف نعرض إذن في المقام الأول طريقتنا في معالجة الموضوع، كي نفحص في المقام الثاني التعيينات التي لها علاقة بالمضمون.

لقد كان الهدف مما قلته أن أبين كيف ينبغي أن يكون المدخل الذي يوضع لعلم فلسفي. فهذا المدخل لا يمكن أن يكون كاملاً، لأن المدخل الكامل يدخل في عداد الجزء الآخر، الجزء الإجمالي، من الفلسفة. والحال أن ما يعنينا هنا هو الجزء الخاص. ولتوضيح وجهة النظر هذه، ينبغي أن نتجه بأنظارنا نحو التصورات التي تحدد المضمون الممكن لمفهومنا، بحكم ارتباطها بموضوعنا.

لنعرض أولاً الطريقة التي نزمع أن نعالج بها موضوعنا. وإذا بحثنا، في تصدينا لهذه المهمة، عن التصورات التي يؤويها رأسنا بصدد الجمال، عن الأفكار التي يكوّنها البشر لأنفسهم عن الفن، لوجدنا أولاً أفكاراً وتصورات تقف موقف المعارضة من فلسفة في الفن وتزرع في طريقها الصعاب.

===ثانياً: الحلم وتأويله (سيغموند فرويد)===
'''عمل الحلم:'''

1- لفهم الحلم لابد من استحضار ذكريات الحالم حتى يتسنى لنا النفاذ إلى ركيزة الحلم واستبدال الرموز بدلالتها.

2- إن العلاقات القائمة بين الأحلام وبين ركائزها أربع: علاقة الجزء بالكل – المقاربة أو التلميح – العلاقة الرمزية – التمثيل اللفظي.

3- إن العملية التي تحول الحلم الكامن لحلم ظاهر هي عمل الحلم، أما العملية المعاكسة التي تريد أن تنفذ من الحلم الظاهر لتصل إلى الحلم الكامن تسمى عمل التأويل. وعمل التأويل يلغي عمل الحلم، حتى الأحلام الطفلية يطالها عمل الحلم، أما في الأحلام الأخرى فإن عمل الحلم يقترن بتحريف الحلم ولايمكن إلغاء هذا التحريف إلا بعمل التأويل.

4- إن أول مفعول لعمل الحلم هو التكثيف: أي أن محتوى الحلم الظاهر هو أصغر حجماً من محتوى الحلم الكامن، وهو ترجمة مختصرة له، وقد ينعدم التكثيف أحياناً.

5- ويتم التكثيف بواحدة من طرق ثلاث : 1 – إما بحذف بعض العناصر الكامنة 2 – أو يظهر الحلم الظاهر كنتف من الحلم الكامن 3 – أو تنصهر العناصر الكامنة ذات السمات المشتركة في الحلم الظاهر، تكثيف عدة أشخاص في شخص واحد، مثلاً شخص له مظهر (ا) ولباس (ب) وطريقة في التصرف تذكرنا ب (ج) ونحن نعلم أن هذا الشخص هو (ك)، ويكون القصد من هذا المزيج إبراز صفة مشتركة بين الأشخاص الأربعة.

6- يمكن تكوين منظر من عدة أماكن بشرط أن يكون للأماكن سمة مشتركة يبغي الحلم الكامن التشديد عليها. ومن تراكم عناصر منصهرة في كل واحد تنجم صورة مبهمة المعالم غير موجودة مسبقاً، وتظهر هذه الصورة المركبة في فلتات اللسان (الفتى الذي أراد أن ينافق سبدة في الطريق)، (كلمة مركبة من رافق ونافق).

7- إن خيالنا قادر على أن يركب عناصر لا صلة بينها في الخبرة الواقعية، مثل الحيوانات الخرافية في الأساطير القديمة (نصف إنسان ونصف حيوان).

8- إن عمل الحلم يضفي على الأفكار غير المستساغة شكلاً آخر، ويسعى إلى تكثيف فكرتين مختلفتين بأن يبحث عن لفظة ذات معان عدة يمكن أن تتلاقى بها الفكرتان كلتاهما.

9- إن التكثيف يشوش ويعقد العلاقات بين عناصر الحلم الكامن والظاهر. عنصر كامن يقف وراء عدة عناصر ظاهرة، أو عنصر ظاهر يقف وراء عدة عناصر كامنة، لذلك فالعنصر الظاهر لا يخضع للترتيب الزمني للعناصر الكامنة بل قد يتشابك من عدة عناصر كامنة لا تراعي الترتيب الزمني.

10- إن عمل الحلم مبرمج على الشذوذ لا يترجم كلمة بكلمة أو علاقة بعلاقة وهو لا ينتقي بعض العناصر ويحذف بعض العناصر طبقاً لقاعدة معينة، إن عمل الحلم قائم على العشوائية في انتقاء العناصر، كما أنه لا يقيم وزناً لبعض العناصر على حساب العناصر الأخرى، بل إن العناصر الثانوية قد تسيطر على خشبة المسرح.

11- ثاني أساليب عمل الحلم هو النقل: 1- استبدال عنصر كامن بشيء فيه تلميح 2- يتحول التشديد النفسي من عنصر هام إلى آخر غير ذي أهمية فيصير للحلم مركز آخر.

12- إن التلميح شائع في فكرنا في حالة اليقظة، لكن مع فارق هو إن التلميح هنا سهل فهمه، وخصوصاً في حالة النكتة المعتمدة على التشابه الصوتي أو تعدد معاني الكلمة، والنكتة لن تفعل مفعولها إذا تعذر على سامعها إدراك التلميح، والذي يعكس مضمون النكتة. أما النقل بالتلميح فله صلات بعيدة وضعيفة بالعنصر الملمح له. وإن رقابة الحلم لا تبلغ هدفها إلا إذا أفلحت في تمويه الطريق الذي يقود من التلميح إلى ركيزته.

13- نقل التشديد: هو الأسلوب الأكثر إتباعاً في عمل الحلم، وقد نلجأ إليه في حالة اليقظة، إليكم الحلم التالي: ارتكب بيطار في إحدى القرى جريمة خطيرة، فقررت المحكمة أن هذه الجريمة تستوجب العقوبة القصوى، ولكن بما أنه لم يكن في القرية بيطار غيره، وبالتالي لا غنى عنه، بينما يوجد بالمقابل ثلاثة خياطين، فقد شنق أحدهم بدلاً من البيطار.

14- ثالث الأساليب الذي يعتمدها عمل الحلم: تحويل الأفكار إلى صور بصرية «ولكن ليس جميع العناصر المكونة لأفكار الحلم تتعرض لهذا التحويل، فكثير من الأفكار تتبدى في صور معلومات في الحلم الظاهر» فالقالب الغالب هو الصور، كما يوجد التمثيل اللفظي.

15- والسؤال هنا: هل نستطيع استبدال لقاء ما مثلاً كافتتاحية لنشاط ما اجتماعي أو اقتصادي بطائفة من الرسوم والصور؟ هل الصور فعلاً تعبر عن مضمون هذه الافتتاحية. ولكن هل نستطيع تمثيل الكلمات المجردة والعلاقات بين الأفكار وحروف العطف (الأدوات الرابطة) برسوم تمثيلية. في الحلم يمكن تمثيل الصور المجردة بالصور. فالسيناريو يقوم على تطويع الرواية التي لا يمكن تصورها على خشبة المسرح إلى شكل بحيث يمكن تقسيمها إلى مشاهد بصرية وسمعية، وهذا ما يقوم به الحلم.

16- إن معظم الألفاظ المجردة كانت ألفاظاً عينية ثم جردت، مثلاً يمكن تمثيل امتلاك الشيء بمدلوله العيني وهو الجلوس عليه، وهذا ما يعمله الحلم. إن كسر العهد الزوجي (الطلاق) يمثل بكسر الذراع.

17- ومهما يكن الأمر فإن التمثيل الصوري لا يمكن أن ينحي التمثيل اللفظي.

18- إذا تعاقبت عدة أحلام في ليلة واحدة فغالباً ما تكون متماثلة الدلالة (وتم تذكرها)، إنها تعكس مجهوداً للسيطرة على تنبيه متزايد الشدة، كما إن العنصر المتميز بصعوبته يمكن أن يمثل في الحلم الواحد بعدة رموز.

19- يقول الأطباء إن الحلم يكون لا معقولاً، لأن النشاط النفسي والذي الحلم ثمرته يكون فاقداً القدرة على إبداء أي حكم نقدي. ولكن العكس هو الصحيح، يغدو الحلم لا معقولاً عندما يطلق حكم نقدي.

20- لابد من الإشارة إلى أن الأضداد في الحلم يعبر عنها بعنصر ظاهر واحد، فالعنصر الظاهر قد يشير إلى نفسه أو إلى ضده. مثلاً لا يوجد تمثيل لكلمة «لا» في الحلم. وهذا ما نجد له مقابلاً في تطور اللغة: ففي اللغة المصرية القديمة كانت كلمة كين تعني قوي- ضعيف وكان المصريون يلجؤون في لغتهم المنطوقة إلى قرن الكلمات بنبرات تتنوع بتنوع المعنى الذي يريدون إعطاءه للكلمة. وعند الكتابة فإنهم يكتبون كبن وصورة رجل منتصب (قوي) وإذا أرادوا كتابة كين بمعنى ضعيف تبعها صورة رجل مسترخٍ. ثم تفرعت الكلمة إلى «كين» (قوي) و«كان» (ضعيف). في اللاتينية:ALTUS = مرتفع وعميق، SACER = مقدس وملعون. في العربية: مقابل SACER نقول الحرَم، وهو ما يحميه الرجل وما لا يحل انتهاكه، والحرِم والحرام: هو ضد الحلال. فالمحرم هو ما كان مقدساً وملعوناً في آن واحد. في الإنكليزية: WITHOUT معناها الأصلي مع- بدون.

21- ما هو القلب في الحلم؟ قلب المعنى وإبدال المعنى بنقيضه، أو قلب العلاقات أو المواقف، فالأرنب هو الذي يطارد الصياد. وقد يتعرض تسلسل الأحداث لقلب، فالمقدمات تقع بعد النتائج، قد يسقط البطل صريعاً قبل أن تنطلق رصاصة من المفروض أن تقتله، لذلك إذا أردنا التأويل هنا لا بد لنا من الانطلاق من النهاية إلى البداية.

22- في رمزية الحلم: إن الغوص في الماء أو السقوط فيه كما الخروج منه يعني الولادة، وإن الارتفاع على سلم أو النزول منه له نفس المعنى.

23- إن أفكارنا تنشأ من صور ذات طبيعة بصرية (صور عينية) موادها الأولى تتألف من انطباعات حسية، وفي طور لاحق ترتبط بهذه الصور ألفاظ، ومن اقتران هذه الألفاظ بعضها ببعض تنشأ الأفكار، فعمل الحلم يخضع الأفكار لمسار نكوصي، تطور تراجعي. ما نستنتجه مما سبق أن الأفكار الكامنة أو عناصر الحلم الكامنة تكون مترابطة فيما بينها، ولكن عناصر الحلم الظاهر غير مترابطة وسبب ذلك هو التحريف الذي يقوم به عمل الحلم.

24- إن الحلم الظاهر أشبه بفسيفساء جمعت من قطع أحجار شتى، جمعت بعضها لجانب بعض. فانقطع الشبه بين الصور الناتجة وبين الأشكال الأصلية للحجارة. فالحلم الظاهر والذي هو لوحة فسيفسائية من عناصر الحلم الكامنة والذي لا يعكس الترتيب الزمني لتلك العناصر، هو مستغلق وعصي على الفهم.

25- عمل الحلم :
* التكثيف.
* النقل.
* التمثيل التشكيلي (تحويل نكوصي للأفكار إلى صور).
* ما النقد والاستنتاج والاندهاش إلا نتيجة انتقال نتف من الأفكار الكامنة إلى الحلم الظاهر كما هي دون تحريف (كل تحريف يحتاج إلى تأويل).
* التحريف: يكون من الكامن إلى الظاهر.
* التأويل: يكون من الظاهر إلى الكامن.
* إن الكلام الذي ينطق به الحالم في الحلم ما هو إلا كلام سمعه الحالم في اليوم السابق فاحتل مكانة بين الأفكار الكامنة ليكون منبهاً لها.
* الحلم هو نتاج عمل الحلم.
* الحلم لا يخرج إلى النور إلا من خلال أدوات (الحلم كما نعرفه).
* وإذا تغيرت الأدوات فإن بنية الحلم ذاته تتغير(الحلم كما لا نعرفه).

==من مقالاته==
===أولاً: العلمانية كجهادية دنيوية===
عندما يدور الكلام عن العلمانية فغالباً ما يتم تناولها بوصفها آلية - من طبيعة قانونية في المقام الأول- للفصل بين الدين والدولة، وبالتالي لتسوية العلاقات بين الأديان المختلفة، كما بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد. ولكن وجهاً آخر للعلمانية يمكن أن يكون مهماً كل الأهمية للعالم العربي-الإسلامي، وذلك من حيث أنها عنصر فاعل أساسي في جدلية التقدم والتخلف. فمن منظور هذه الجدلية حصراً، وبالعودة إلى الأصل الغربي للعلمانية كما للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسائر مذاهب الحداثة، نستطيع أن نطرح السؤال التالي: لئن تكن أوروبا الغربية هي التي سبقت إلى اجتراح مأثرة الحداثة، فهل مرد تقدمها هذا إلى أنها كانت مسيحية، كما يرى ذلك بعض فلاسفة الحضارة ومن طاب لبعض المستشرقين أن يصطاد أطروحتهم هذه في المياه العكرة لما سيسميه صمويل هنتنغتون بـ «صدام الحضارات»؟ أم أن مرد تقدمها ذاك هو إلى أنها كانت هي السباقة أيضاً إلى التعلمن كما نرى نحن؟

وبالفعل، وفيما يخص الإطار الجيو- ثقافي، العربي- الإسلامي، فإن لهذا السؤال أهمية قصوى: فلئن تكن أوروبا الغربية قد تقدمت لأنها كانت مسيحية تحت مظلة كاثوليكية- بروتستانتية مزدوجة أو متناحرة، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو- ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستظل معدومة إن لم يكن إلى الأبد، فلأجل غير مسمى من الزمن. بل أكثر من ذلك بعد: فبما أن الإسلام يرتبط ارتباطاً تأسيسياً باللغة العربية، فإن العالم الإسلامي العربي سيبقى مستبعداً من حلبة السباق الحضاري أكثر حتى من العالم الإسلامي غير العربي، باعتبار صميمية علاقته اللغوية بالإسلام، على عكس حال باقي القارة الإسلامية التي قد تستطيع أن تنجز «فطامها» بسهولة أكبر، كما يشهد على ذلك المثال التركي بالأمس والمثال الماليزي اليوم.

أما إذا كانت أوروبا تدين بتقدمها لعلمنتها، لا لمسيحيتها، فهذا معناه أن فرص القارة الجيو- ثقافية الإسلامية، العربية وغير العربية على حد سواء، في التقدم ستكون موفورة بتمامها إذا أنجزت هذه القارة نفس سيرورة العلمنة التي أنجزتها القارة الجيو- ثقافية الأوروبية الغربية، وربما في مسافة زمنية أكثر قابلية للانضغاط بحكم المفعول التسريعي لقانون التطور المتفاوت والمركب.

إذن ما الآليات التي تحكمت بمولد الحداثة الأوروبية؟ بل ما تعريف هذه الحداثة أصلاً؟

بين عشرات التعاريف التي يمكن أن تعطى للحداثة يستوقفنا من وجهة النظر التي تعنينا هنا التعريف الذي اقترحه مرسيل غوشيه عندما أقام بين التحديث والعلمنة علاقة ترادف: الخروج من الدين. ذلك أن القارة الجيو- ثقافية الأوروبية الغربية كانت مسكونة سطحاً وعمقاً بالدين، وما كان لها أن تشق طريقها إلى التحديث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي الديني للقرون الوسطى.

وهذه القطيعة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم العلمنة sécularisation التي يمكن لنا أن نعرِّفها بدورنا، بالتضامن مع تعريف مرسيل غوشيه ولكن بالرجوع هذه المرة إلى مفردات المعجم العربي الإسلامي، على أنها جهاد في سبيل الدنيا كخيار بديل عن الجهاد في سبيل الآخرة.

هذه الجهادية الدنيوية، التي لا نتردد في أن نقول بأنها أحدثت في مسار البشرية انعطافاً بمائة وثمانين درجة، تلبست شكل علمنة على مستويات عدة:

أولها- ومهما بدا ما في ذلك من مفارقة- هي العلمنة الدينية. فلوثر، بكسره احتكار الكنيسة الكاثوليكية للإيمان الديني، ردّ هذا الإيمان إلى الشخص البشري، وأوكل إلى عقله المتمتع بالسؤدد الذاتي مهمة تأويل النصوص المقدسة. وقد ترتبت على ذلك نتيجة خطيرة من منظور الحداثة: فالأب الذي صار هو المسؤول – لا الكاهن- عن التعليم الديني لأولاده، صار ملزماً بأن يتعلم قراءة النصوص المقدسة بنفسه وبأن يعلِّم هذه القراءة لأولاده بدورهم. وهكذا اقترن الإصلاح البروتستانتي بثورة حقيقية على صعيد محو الأمية وتحطيم احتكار رجال الدين لعملية القراءة والكتابة.

وثانيها العلمنة الثقافية. فمنذ بوكاشيو (مؤلف الديكاميرون) في القرن الرابع عشر إلى رابليه (مؤلف غرغنتوا) في القرن السادس عشر تطورت حساسية أدبية جديدة، ذات منزع دنيوي ومنعتقة من ربقة التصور الديني للعالم. وهذه الحساسية الجديدة هي التي تمخضت، مع سرفانتس ودونكيشوته في القرن السادس عشر، ودانييل دوفو وروبنسونه في القرن السابع عشر، عن ظهور نوع أدبي جديد هو الرواية التي هي بالتعريف فن متمحور حول الإنسان في مصائره الدنيوية.

وثالثها العلمنة اللغوية. فتلك الحساسية الأدبية الجديدة ترجمت أيضاً عن نفسها بالتمرد على لغة المقدس التي كانتها اللغة اللاتينية، وبتكريس اللغات العامية الدنيوية ورفعها إلى مستوى لغات قومية تكرس بدورها القطيعة، على مستوى الشعوب والدول، مع وحدة الكنيسة المسكونية وإمبراطوريتها المقدسة.

ورابعها العلمنة «الإنسانية». ونحن نضع هذا النعت بين مزدوجين للإشارة إلى أنه، وإن يكن مضافاً من حيث الاشتقاق إلى الإنسان، فهو مضاف في الدلالة إلى الإنسانيات Humanités؛ وهو الاسم الذي أُطلق، في سياق العلمنة الثقافية واللغوية، على دراسة الآداب اليونانية والرومانية القديمة. والواقع أن الإنسانيات بهذا المعنى تعادل عملية إحياء حقيقية للثقافة الوثنية للعصور القديمة، وردّ اعتبارها كاملاً إليها بعد أن كانت تمثل بالنسبة إلى الثقافة الدينية المسيحية للقرون الوسطى ما تمثله «الجاهلية» بالنسبة إلى الإسلام.

وخامسها العلمنة العقلية. في سياق هذه العودة إلى الجاهلية الوثنية أعيد اكتشاف الفلسفة اليونانية. والحال أن الفلسفة هي بالتعريف «التفكير بالعقل في العقل» من حيث أن العقل معطى أول ومطلق. ومع هذا الإعلان للسؤدد الذاتي للعقل كفت الفلسفة عن أن تكون خادمة اللاهوت لتعمل في إمرة العقل وحده وتحت سيادته. وقد لا نغالي إذا قلنا إنه منذ تلك اللحظة التي باتت فيها سلطة العقل لا تعلو عليها سلطة أخرى، بدأ تاريخ جديد للإنسان من حيث أنه، بين سائر الكائنات الحية، هو الكائن الوحيد الذي يصنع نفسه بنفسه ويعيد خلق نفسه بنفسه بقوة عقله.

وسادسها العلمنة العلمية. ففي الوقت الذي تغيرت فيه صورة العالم القديم مع اكتشاف كريستوف كولومب للقارة الأمريكية في نهاية القرن الخامس عشر، جاءت الثورة الكوبرنيكية لتسدد طعنة صماء إلى الصورة التوراتية للكون ولتحدث انقلاباً في المركزية بحيث فقدت الأرض حظوتها التي حبتها بها نظرية الخلق التوراتية/الإنجيلية/القرآنية وغدت مجرد كوكب يدور بصَغار وجبرية حول مركزه الشمسي، بدلاً من أن تكون مركزاً تدور حوله وتتعبد له سائر أفلاك الكون. وهذه الثورة الكوبرنيكية، التي عززتها «الهرطقات» الكوسمولوجية لغاليليو الذي اضطر إلى جحد اكتشافاته العلمية تحت ضغط محاكم التفتيش، وجدت تتويجها في الانقلاب الذي لا يقلّ ثورية الذي أنجزه داروين في القرن التاسع عشر، والذي أجهز بصورة نهائية على قصة الخلق التوراتية عندما ردّ –وقد استغنى عن أسطورة آدم كأب للبشر- أصل الإنسان إلى الحيوان. ورغم كل إدانات الكنيسة وسائر الأجهزة الدينية في العالم، فإن الثورة الكوبرنيكية/الغاليلية/الداروينية استطاعت أن تكتسح جميع المقاومات وأن تكرس حق العلم، وبالتالي العقل البشري، بالتحرر من الأساطير الغيبية وفي التثوير الدائم واللامتناهي للمعرفة الدنيوية.

وسابعها العلمنة الطبقية. فلأول مرة في التاريخ رأت النور طبقة دنيوية خالصة، حصرت جهادها بالأرضيات دون السماويات، ومَحْورت فلسفتها حول المادة لا الروح، هي البورجوازية. ففضلاً عن تثويرها لتقنيات الإنتاج وللعلاقات الاجتماعية، أرست شكلاً جديداً للحكم يتمثل بالديمقراطية التمثيلية التي تستند إلى مرجعية مباطنة، محورها المواطن، لا إلى مرجعية مفارقة مصدرها إلهي. ولئن أمكن للبورجوازية أن تكون سباقة إلى رفع شعار العلمانية وأن تستغني بقدر أو بآخر، وبكيفية ثورية أو تدرجية، عن خدمات الكنيسة، فلأنها ولدت من الأساس كطبقة منتجة، على عكس الطبقة الإقطاعية القديمة الطفيلية التي كانت طفيليتها بالذات تجبرها على التحالف مع الطبقة الكهنوتية تمويهاً لواقعها وشرعَنَةً لاستغلالها. أضف إلى ذلك أن أسلوب إنتاجها بالذات كان يفكّها من أسر التصور الديني للعالم، وذلك بالتضادّ مع الطبقة المنتجة القديمة –أي الفلاحية- التي كان أسلوب إنتاجها هي، يربطها بالسماء، أو بالأحرى بمطر السماء الذي كان البشر يرهوننه – قبل أن يتطور علم الأجواء العليا- بإرادة إلهية.

وثامنها العلمنة القانونية. ففي نهاية القرن الثامن عشر جاء إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الجمعية التأسيسية للثورة الفرنسية ليحوّل المركزية من الله إلى الإنسان، ولينقل مبدأ السيادة وحق التشريع من الله وخلفائه على الأرض إلى الأمة وممثليها في المجلس النيابي. وقد نصّ البند الثالث من إعلان حقوق الإنسان والمواطن أن: «مبدأ كل سيادة يكمن أساساً في الأمة، ولا يحق لأي هيئة ولأي فرد (ولو كان الملك) أن يمارس السلطة ما لم تكن منبثقة صراحة عنها». ومنذئذ بات التشريع وما يستتبعه من سنّ للقوانين موضع تطوير وعقلنة دائمين بالاستناد إلى مرجعية بشرية خالصة، وطبقاً لحاجات الزمان والمكان، ومن منطلق القيم التي يحددها البشر لأنفسهم بأنفسهم دونما تقيد بوثنية أي نص أول.

وتاسعها العلمنة السياسية. فتواقتاً مع العلمنة القانونية التي حصرت مبدأ السيادة بالأمة، واستتباعاً للعلمنة اللغوية التي كرست العامية لغة قومية، كان لا بد من اختراع وتكريس إطار جيوبوليتيكي جديد للدولة تمثل في ما سيُعرف لاحقاً باسم الدولة/الأمة أو الدولة القومية التي قدمت الثورة الفرنسية نموذجها الأول قبل أن تعممها في شتى أنحاء أوروبا الغربية والوسطى، وحتى الشرقية، ثوراتُ 1848 القومية والديمقراطية. وبديهي أن تبلور الدولة القومية جاء نتيجة مخاض طويل تمثل أولاً في تقلص السلطة الزمنية والرقعة الجغرافية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ثم في ظهور الممالك السلالية التي صادرت من بابا روما حق الحكم الإلهي، وبات ملوكها يصفون أنفسهم، أو يصفهم البابا نفسه تسليماً بالأمر الواقع، بأنهم ملوك المسيحية. ولكن رغم هذه المرجعية الإلهية المعلنة فإن الممالك السلالية قد مهدت لتَعَلْمُن ولتَقَوْمُن الدولة في أوروبا، وذلك بقدر ما مثلت انشقاقات دولانية عن الإمبراطورية البابوية المقدسة، وهي الانشقاقات التي تطابقت حدودها في أغلب الحالات مع الحدود اللغوية القومية. وإنما في إطار هذه الانشقاقات المُرْكِسة عن المركز البابوي أمكن، بين ثورتي 1789 و1848، اختراع وتطبيق مبدأ سيادة الأمة التي لا تعلو على مرجعيتها الدنيوية أية مرجعية أخرى حتى ولو كانت من طبيعة لاهوتية. ومبدأ الدولة القومية المعلمنة هذا هو الذي سيحيل إلى متحف التاريخ آخر الإمبراطوريات المقدسة في التاريخ، سواء منها الإمبراطورية الإسبانية-البرتغالية الكاثوليكية التي انفصلت عنها مستعمراتها الأمريكية لتؤسس نفسها في دول قومية، أو الإمبراطورية النمساوية الكاثوليكية أيضاً، أو الإمبراطورية البروسية البروتستانتية، أو الإمبراطورية العثمانية الإسلامية السنية. وحتى الإمبراطوريات التي حافظت على وحدتها ولم تتفكك، مثل الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية، والإمبراطورية الصينية الكونفوشية، فقد كفت عن أن تكون مقدسة، ونسبت نفسها ومبدأ الشرعية فيها إلى إيديولوجيا دنيوية خالصة هي الماركسية.

وعاشرها وآخرها العلمنة الجنسية. وربما تكون الكشوف التحليلية النفسية لسيغموند فرويد وحفرياته في قارة اللاشعور في مطلع القرن العشرين هي التي قدمت لهذه العلمنة ركيزة سيكولوجية مماثلة لتلك التي قدمتها للعلمنة العلمية الثورة الكوسمولوجية الكوبرنيكية والثورة البيولوجية الداروينية. وقد تفتقت هذه العلمنة عن تحرير مزدوج للحياة الجنسية البشرية من ربقة الجريمة وربقة الخطيئة معاً. فباستثناء ممارسة الجنس مع القصَّر أو بالاغتصاب، لم يعد أي شكل من أشكال هذه الممارسة يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. يصدق ذلك سواء أعلى العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج أم على الممارسات الجنسية المثلية أم تلك الموصوفة بـ«الشاذة». وبالإضافة إلى رفع يد الكنيسة عن الحياة الجنسية للإنسان وإقرار مؤسسة الزواج المدني، فقد جرى قانونياً استبعاد مفهوم الخطيئة عن شتى أشكال العلاقات الجنسية، وتم إقرار الحرية التامة في هذا المجال، بما في ذلك حرية الاعتقاد بالخطيئة لدى المؤمنين، شريطة ألا يحدّ هذا الاعتقاد من حرية الآخرين في الممارسة الجنسية. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن العلمنة الجنسية جعلت من الإنسان سيد جسده، مثلما جعلت منه العلمنة العلمية والفلسفية سيد عقله، بدون أية مرجعية مفارقة أو متعالية إلا لمن يريد أن يقيد ممارسته الجنسية عن طوع إرادة واختيار بمثل تلك المرجعية. وإنما ههنا، أي في مجال الممارسة الجنسية، يمكن أن نتحدث ليس فقط عن «خروج من الدين»، بل كذلك حتى عن «خروج على الدين». فالأصل في الجنس المعلمَن هو الإباحة، والإباحة تلغي الخطيئة ومفهومها. وغني عن البيان أن هذه العلمنة الجنسية هي التي اصطدمت ولا تزال تصطدم بأعتى مقاومة من الكنيسة، وبشكل خاص في البلدان ذات الموروث الطُّهراني، ومن سائر الأجهزة الدينية الأخرى في العالم، لأنه بدون مفهوم الخطيئة أو الحرام يفقد الدين –ومعه كل سلطة دينية- ركيزة حيوية من ركائزه.

إن هذه السلسلة المتتامة من أشكال العلمنة- مقترنة بالثورة الصناعية - هي التي آلت بأوروبا الغربية إلى اجتراح مأثرة الحداثة، وهذا قبل أن تجد سيرورة العلمنة هذه تتويجها القانوني ابتداء من مطلع القرن العشرين في الإشهارات الرسمية لمبدأ فصل الدولة عن الكنيسة كما حدث في فرنسا عام 1905.

هذا التمييز بين العلمنة كسيرورة تاريخية وحضارية وبين العلمانية كآلية قانونية ضروري لا لتفهم واقعة الحداثة الأوروبية وحدها، بل كذلك لتفهم واقعة تعلمن المجتمع بالتوازي والتواقت مع تعلمن الدولة في البلدان الأوروبية على خلاف ما حدث في روسيا البلشفية أو تركيا الكمالية حيث أجبرت الدولة المجتمع على اعتناق العلمانية وفرضتها عليه فرضاً كإيديولوجيا أو حتى كدين بديل.

[1] - لنا أن نلاحظ أن هذه الدعوى الفلسفية والاستشراقية معاً تستبعد من حلبة السباق الحضاري أوروبا الشرقية التي كانت متقاسمَة في حينه بين روسيا الأرثوذكسية والإمبراطورية العثمانية الإسلامية السنية.

[2] - كان تروتسكي هو من صاغ قانون التطور المتفاوت والمركب هذا عندما لاحظ في كتابه عن تاريخ الثورة الروسية أن الأمم التي قد تدخل متأخرة إلى حلبة السباق الحضاري تستطيع أن تستدرك فواتها التاريخي وتحقق تطوراً مركباً لا بسيطاً وفق مبدأ التوالي الهندسي لا العددي، فتنجز في عشرات من السنين ما أنجزته الأمم التي سبقتها إلى التقدم في مئات من السنين.

[3] - حذار من تفسير «الخروج من الدين» على أنه «خروج على الدين». فقولة مرسيل غوشيه التي ارتقت إلى نصاب المقولة الإبستمولوجية التأسيسية في السجالات حول الحداثة، لا تعدل إعلاناً على الطريقة النيتشوية بموت الدين، بل تلحظ فقط، من خلال استقراء واقع المجتمعات الغربية الحديثة، أن المجال العام في هذه المجتمعات لم يعد يتَبَنْيَن بالدين، وأن هذا الأخير قد باتت فاعليته محصورة بالمجال الشخصي. ومن هذا المنظور تحديداً فإن «الخروج من الدين» قد يكون ضرورياً حتى لعدم «الخروج على الدين»، لأنه السبيل الوحيد لعدم إقامة علاقة تعارض وتناف بين الإيمان الديني والحداثة، وذلك بقدر ما أن فصل الروحي عن الزمني، وبالتالي حصر الدين بالمجال الشخصي، يعتقان هذا الأخير من قيود التصورات الإيديولوجية المتقادمة بالضرورة مع تطور التاريخ والتثوير الدائم للعلم.

[4] - نؤثر هنا تعبير sécularisation المشترك بين اللغتين الإنجليزية والفرنسية على تعبير laïcisation الذي تنفرد به اللغة الفرنسية، لأنه أوضح دلالة منه على هذه النزعة الدنيوية.

[5] - بخصوص دور الإصلاح البروتستانتي هذا في الثورة التعليمية التي كان لها باع طويل في صنع الحداثة، راجع دراستنا عن كتاب عمانويل تود: اختراع أوروبا، في كتابنا هرطقات، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الساقي، بيروت 2007، ص 187-203.

[6] - كنموذج على سعة نطاق العلمنة التي نجمت عن الثورة الفرنسية وشملت بلدان أوروبا الغربية نذكر جملة التدابير والقوانين التي صدرت عن جمهورية الألب الغربية التي جسدت نسخة مصغرة من الثورة الفرنسية. فهذه الجمهورية الصغيرة، التي قامت سنة 1797 والتي ستصبح هي المملكة الإيطالية لاحقة، تجرأت على أن تقف موقفاً حازماً من الكنيسة في بلد يكاد يتطابق في الهوية مع المذهب الكاثوليكي، فرفعت أيدي الأساقفة عن التعليم ومالت إلى أن تجعل منه عاماً وإلزامياً تتولى الدولة الإنفاق عليه. وفضلاً عن أنها «ألغت امتيازات النبلاء، ومنعت التعذيب، وضمنت المساواة لليهود» فقد «جاهرت بطابعها الدنيوي، ففصلت فصلاً تاماً الدين عن الحقوق السياسية والمدنية، وصادرت وباعت أملاك الكنيسة، وسمحت بالزواج المدني، وأخضعت المواكب الدينية لرقابة مشددة، ومنعت قرع أجراس الكنائس ليلاً، ونزعت صور القديسين التي كانت تزين الشوارع، وأطلقت على الشوارع التي كانت تحمل أسماء القديسين أسماء علمانية جديدة» (نقلاً عن روبرت بالمر: 1798 : الثورة الفرنسية وامتداداتها، ترجمة هنرييت عبودي، دار الطليعة، بيروت 1982، ص 237).

[7] - كان الملوك لا يحكمون باسم الأمة أو باسم الشعب، بل باسم الله نفسه. وهذه الحاكمية الإلهية كانت تتمثل في ألقابهم. فعن ملك فرنسا كان يقال، رسمياً، إنه الملك المسيحي جداً، وعن ملك إسبانيا إنه الملك الكاثوليكي، وعن ملك إنجلترا إنه حامي الإيمان. وعلى جبهة الإسلام أيضاً كان الخلفاء العباسيون، ابتداء من الانقلاب المتوكلي، لا يلقبون أنفسهم إلا بالإحالة إلى الله: المنتصر بالله، المستعين بالله، المعتمد على الله، المكتفي بالله، المستعصم بالله.

[8] - لئن تكن الإيديولوجيا الماركسية قد شهدت سقوطاً مدوياً في العقد الأخير من القرن العشرين فليس من شك في أن هذا السقوط يعود، في أحد أسبابه، إلى أن الماركسية المطبَّقة أعادت تأسيس نفسها في ما يشبه أن يكون ديناً جديداً من طبيعة شمولية. ومن ثم نستطيع أن نقول إن هذا السقوط ترجم بدوره –ولو بعد طول تأخير- عن انتصار مبدأ العلمنة الذي يتعارض مع أي مبدأ مفارق للحاكمية، سواء أكانت حاكمية الله أم الحزب الواحد أم الزعيم الأوحد. وبمعنى من المعاني يمكن القول إن مبدأ العلمنة بات يتماهى سياسياً مع المبدأ الديمقراطي من حيث أن الديمقراطية ليست هي فقط حكم الشعب، بل كذلك حكم المتغير والمؤقت والنسبي والجزئي وما سوى ذلك من مفردات المعجم الأرضي، بالتعارض مع حكم الثابت والدائم والمطلق والكلي وما سوى ذلك من مفردات المعجم السماوي.

[9] - عن العلاقة العضوية بين هذه الثورات الثلاث انظر القصة الرمزية الرائعة: حكاية بلا بداية ولا نهاية لنجيب محفوظ كما حللناها في كتابنا: الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، دار الطليعة، ط. 4، بيروت، 1988.

[10] - هل يمكن أصلاً فصل الثورة الصناعية، التي انفردت أيضاً أوروبا الغربية وحدها بالسبق إلى إنجازها، عن سيرورة العلمنة الشاملة؟ فككل ثورة فإن الثورة الصناعية تمثل نوعاً من قطيعة، وكما في كل قطيعة فإن الدور الأول يعود إلى العقل البشري. ووحده العقل الذي حررته العلمنة من قيد السلفيات والغيبيات يمكن أن يثور ويثوِّر معه التقنية ووسائل الإنتاج.

[11] - أما أن العلمانية هي نفسها سيرورة تاريخية فإن فرنسا –وهي البلد الأكثر جذرية والأسبق إلى التعلمن في العالم- تقدم مثالاً على أنه ليس هناك صيغة واحدة وناجزة ونهائية للعلمنة. فعبثاً حاولت الدولة العلمانية الفرنسية أن تعيد تعميد مدنها وشوارع مدنها بأسماء دنيوية، ولكن الموروث الديني الضارب في القدامة كان ينبعث من رماده ويعيد فرض نفسه بقدر أو بآخر من النجاح. والشاهد على ذلك يقدمه مثلث الحي اللاتيني في باريس الذي لا تزال شوارعه تحمل أسماء قديسين: سان جرمان، وسان ميشيل، وسان جاك. كذلك لم تستطع الدولة المعلمنة الفرنسية أن تستبدل جميع الأعياد الدينية بأعياد مدنية. فإلى اليوم لا تزال فرنسا تعطل رسمياً إلى جانب عيد الثورة وعيد النصر وعيد العمل، بأعياد ذات طابع ديني صرف مثل عيد الميلاد والفصح وعيد صعود المسيح والعذراء وعيد العنصرة وعيد جميع القديسين. والعجيب أنه عندما أرادت الدولة أن تلغي عطلة عيد صعود العذراء (وهو عيد استحدثته الكنيسة الكاثوليكية عام 1905) اصطدمت بمعارضة الاتحاد العمالي والحزب الشيوعي اللذين دافعا عن مبدأ العطلة بحد ذاته وليس عن العيد من حيث هو عيد.

===ثانياً: الديموقراطية الناقصة===
إن العلاقة بين الديموقراطية والظاهرة الحزبية علاقة وجودية متبادلة: فلولا الأحزاب لامتنع وجود الديموقراطية، ولكن لولا الديموقراطية لامتنع وجود الحياة الحزبية.

صحيح أن الأحزاب سابقة الوجود على الديموقراطية. وصحيح أن العديد من المجتمعات والحضارات القديمة عرفت الظاهرة الحزبية، ولكن كان لابد من انتظار الحداثة الديموقراطية حتى يتبدل النصاب الوجودي لهذه الظاهرة، وحتى تكفّ الأحزاب عن أن تكون لعنة انقسامية تهدد وحدة المجتمع أو الدولة أو الدين أو الحضارة لتصبح تعبيراً عن التعددية من حيث هي شرط الديموقراطية.

والحزب في اشتقاقه الدلالي بالذات، سواء بالعربية أو باللغات الأوروبية الحديثة المتحدرة من اللاتينية، يحيل إلى «الجزء» إلى «الفئة»، إلى «الشطر» المتميز عن «الكل» الذي هو «الجماعة» أو «الأمة» إن لم نقل المنفصل عنها والخارج عليها.

وبالفعل، إن جميع المجتمعات القديمة السابقة على الحداثة الديموقراطية كانت تقوم على مقولة «الكلية»، على مبدأ «الوحدة» كمعطى مسبق الوجود ليس من شأن «الأجزاء» أو «الأحزاب» إلا أن تضعفه وتفت في عضده، هذا إن لم تعرض وجوده للخطر. وفي جميع تلك المجتمعات القديمة كانت «الحزبية» تعدّ ظاهرة مرضية. وحتى بعد إطلالة الحداثة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظلت الأحزاب تعتبر في نظر مؤسسي العلم السياسي الحديث من أمثال هوبز ولوك وروسو «شراً لابد منه»، وكانت الأولوية تعطى بإطلاق لفكرة «الوحدة» المطلوب دوماً صونها من الانقسام، وهو التقليد الذي أرسى أسسه الفلاسفة قبل سقراط وأدرك ذروته مع أفلوطين الممكن تعريفه بأنه فيلسوف «الواحد». أما في الحضارات التي قامت على أساس لاهوتي كالحضارة اللاتينية المسيحية والحضارة العربية الإسلامية، فإن الأحزاب قد أخذت في الغالب شكل «فرق» و «شيع» و«هرطقات». ولئن يكن تاريخ المسيحية في القرون الثلاثة الأولى من وجودها هو تاريخ اضطهادها كـ«فرقة» خارجة على المجتمع، فإن تاريخ المسيحية على امتداد العصر الوسيط هو تاريخ اضطهاد «الفرق» التي انشقت عنها بدءاً بالآريوسيين والنسطوريين وانتهاء بالكاتاريين الذين جرد ضدهم البابا أينوشنسيوس الثالث الحملة الصليبية التاسعة والأخيرة. وتاريخ «الانشقاقات» في المسيحية يقابله في الحضارة العربية الإسلامية تاريخ «الخروج». وليس من قبيل الصدفة أن يكون الاسم الذي أعطى لأول فرقة في الإسلام هو اسم «الخوارج». فعلى امتداد تاريخ «الأمة» في الإسلام كانت «الفرق» تصور باستمرار، أياً ما تكن العصبية التي ينتمي إليها الحزب الحاكم، على أنها، كما يدل اشتقاقها، مظهر «التفرقة» وعاملها. فالأمة معطى كلي سابق الوجود على أجزائه، وكل وجود للجزء إنما هو بالضرورة ضد الكل وعلى حسابه. والحزب المستأثر بالسلطة هو كل الأمة، وكل حزب آخر هو وجوباً حزب خارج على السلطات وعلى الأمة وعلى الدين سواء بسواء. وقد تتغير عصبية الحزب الحاكم، كما في الانقلاب العباسي أو الفاطمي، ولكن الجدلية السالبة التي ترى في «الحزب» معارضة للأمة ونفياً لها، وفي «الفرقة» تفريقاً لها، لا تتغير.

والواقع أن السوسيولوجيا نفسها ما رأت النور إلا مع الحداثة الديموقراطية. فمن قبل كانت الفلسفة، ووريثها اللاهوت أو علم الكلام - في وقت لاحق الأيديولوجيا - تطرح نفسها على أنها نظرية الوحدة وعلم الكل. وكان لابد من انتظار القرن التاسع عشر ليرى النور علم الاجتماع بوصفه علم الجزء. والحال إن رؤية العالم المباطنة للجزء هي النسبية والتعددية. فالجزء هو بالضرورة نسبي بالإضافة إلى الكل. والكل نفسه لا يعود مطلقاً بالنسبة إلى أجزائه بقدر ما يعود محصلة لمجموع أجزائه. فهو قابل للتعديل والتغيير بدالة تغير الأجزاء.

والحال إن العضادتين اللتين تنهض عليهما الديموقراطية هما النسبية والتعددية. فلا مطلق في الديموقراطية سوى النسبي وحده. وما كان مطلقاً بالأمس هو نسبي اليوم أو الغد. وحمولة النسبي من العقلانية هي التي تقترب أو تبتعد به عن عتبة المطلق المتنقلة باستمرار. والديموقراطية هي علاقة بين أطراف متعددة. ومتى غاب التعدد والصراع بين الأطراف غابت الديموقراطية نفسها. وبديهي أن الديموقراطية تعرف هي أيضاً نوعاً من الوحدة. ولكن هذه الوحدة غير ثابتة وغير معطاة لا أزلاً ولا أبداً، بل هي قيد الفرط وإعادة التشكيل الدائم. إنها وحدة نسبية ومؤقتة ومتحركة.

ولكن كما أن الحزب لا يعود يعتبر في الديموقراطية نفياً للكل، كذلك فليس من حقه أن يماهي بين نفسه وبين الكل. فالحزب الذي ينزل نفسه منزلة الكل يعيد آلياً إنتاج الدكتاتورية من حيث إن الدكتاتورية هي بالتعريف الجزء الذي يحسب نفسه كلاً، والنسبي الذي يفرض نفسه مطلقاً. وحتى لا يقع الحزب السياسي في هذا المطب فلا خيار له غير أن يكون حزباً سياسياً صرفاً. فتداخل الحيز الاجتماعي والسياسي، أو الحيز الديني والسياسي معاً هو ما يفسد اللعبة الديموقراطية من أساسها.

ولكن حتى لو تقيد الحزب السياسي بقواعد اللعبة الديموقراطية والتزم بحدود دوره كأداة جزئية ونسبية للتوسط بين الفرد والمجتمع ولم يتبن أيديولوجيا شمولية ولم يدع احتكار الحقيقة ووحدانيتها ووحدانية تمثيلها، فإنه يظل في بنيته الداخلية بالذات، كما يرى مؤلفا كتاب الديموقراطية الناقصة، مصدراً للاستلاب الديموقراطي. فالبنية الداخلية لأي حزب هي بالضرورة بنية سلطوية تقوم على الانفصال وتقسيم العمل ما بين القاعدة والقيادة. ومهما يكن من درجة ليبراليتها، فإنها تطالب العضو المنتسب إليها بالتخلي عن آرائه الشخصية وبالالتزام بالخط العام للحزب وبالتقيد بانضباطيته التي لا خيار لها إلا في أن تكون مركزية. والباب الوحيد الذي تتركه الأحزاب للحرية الشخصية هو باب الانشقاق أو الفصل أو التجريد من العضوية.

وصحيح أن الديموقراطية لا تقوم لها قائمة إلا إذا أباحت للأفراد حرية التجمع لتأسيس أحزاب تدافع عن مبادئ ومصالح سياسية محددة، ولكن بقدر ما أن الديموقراطية قابلة للتعريف بأنها «دولة أحزاب» فإنها قابلة للتوصيف استتباعاً بأنها «ديموقراطية ناقصة». فلا مجتمع ديموقراطي بدون الاعتراف المتبادل بالفروق وبسؤدد الآخر. والحال أن الحزب ينزع في بنيته وفي طريقة اشتغاله بالذات، إن لم يكن في أيديولوجيته أصلاً، إلى نفي الآخر وإلى تنميط الأعضاء المنتسبين إليه في قالب واحد وإلى إنكار الحق في الاختلاف عليهم. وهو إذا لم يفعل، يكف عن أن يكون حزباً. ونظام التفكير الواحد هذا، الذي هو جوهر الحزبية، هو أيضاً طاعون الديموقراطية. ومع ذلك فإن الديموقراطية لا خيار لها إلا في ركوب هذه المجازفة، فهي مع الأحزاب، تبقى ديموقراطية ناقصة، ولكنها، بدونها، تكف عن أن تكون هي الديموقراطية.

==من كتب جورج طرابيشي==
===أولاً: الإستراتيجية الطبقية للثورة===
1- لعل ما من نظرية من نظريات الفكر الثوري أثارت مساجلات ومناقشات وخلفت أحقاداً كنظرية الثورة الدائمة عند تروتسكي، مما يجعلنا نتساءل: هل نحن أمام «ثورة دائمة» أم «مناظرة دائمة» أم «ثرثرة دائمة».

2- إن الأصول التاريخية لهذه النظرية تعود إلى ماركس الذي حث أعضاء العصبة الشيوعية والعمال الألمان أن يكون شعارهم الثورة الدائمة.

3- ولكن ما كان عند ماركس مجرد تكتيك مرتبط بظروف محددة من تطور الثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، أخذ لدى تروتسكي نظرية متكاملة.

4- لقد صاغ تروتسكي نظريته في ظروف شديدة الخصوصية، ظروف الصراع بين المناشفة والبلاشفة، فهو صاغ نظريته ضد المناشفة أولاً مؤكداً أن الثورة البرجوازية مستحيلة في روسيا لأن البرجوازية الروسية تبرز كقوة مناهضة للثورة الديمقراطية حتى قبل أن تبلغ هذه الثورة ذروتها، وصاغها ثانياً ضد البلاشفة مؤكداً أن الطريق إلى الاشتراكية لا يمر بمرحلة الديمقراطية ولا حتى بمرحلة الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين، إنما يمر رأساً وفوراً بدكتاتورية البروليتاريا، ولكن استراتيجيته أقرب إلى استراتيجية لينين منها إلى استراتيجية بليخانوف.

5- إن نظريته في التحليل الأخير هي نظرية حرق المراحل، ففي الوقت الذي كان التكتيك المنشفي ينطلق من مبدأ حتمية المراحل بتمامها، وكان التكتيك البلشفي ينطلق من ضرورة حرق مرحلة واحدة على الأقل، مرحلة قيادة البرجوازية للثورة البرجوازية الديمقراطية، فإن من وجهة نظر حرق المراحل على وجه التحديد تبدو النظرية التروتسكية متقدمة بمرحلتين على النظرية المنشفية وبمرحلة واحدة على البلشفية.

6- إن نقطة انطلاق تروتسكي هي أنه من المحتمل أن يصل العمال إلى الحكم في بلد متخلف اقتصادياً قبل وصولهم إليه في بلد متقدم.

7- فوصول البروليتاريا للحكم ليس مرهوناً فقط بالمستوى الذي بلغته قوى الإنتاج، فهناك عوامل أخرى تتمثل بالعلاقات على الصعيد الطبقي، وميزان القوى العالمي، وفي عدد من العوامل الذاتية كتقاليد الطبقة العاملة ومبادرتها ووعيها واستعدادها للنضال.

8- إن قوة البروليتاريا، لا تقاس بعددها وحده، فالدور السياسي الذي تلعبه البروليتاريا يتعاظم بقدر ما يزداد طغيان الإنتاج الكبير على الصغير، وبقدر ما تسيطر الصناعة على الزراعة، وتسيطر المدينة على الريف.

9- وهناك سبب آخر للدور السياسي الكبير الذي تلعبه البروليتاريا في روسيا، وهو أن الرأسمال الروسي ذو أصول أجنبية بمعظمه، فالبروليتاريا تستمد قوتها في روسيا من كون أن العدو الطبقي الذي تواجهه هو عدو ضئيل العدد للغاية، معزول عن الشعب بحكم أن نصفه أجنبي، مفتقر إلى التقاليد التاريخية العريقة لأنه لم ينمو نمواً طبيعياً على الأرض الروسية وإنما جلب إليها من الخارج وعلى نحو مفاجئ.

10- إن الخلاف بين الماركسيين الروس ليس على ضرورة الثورة ولا على حتميتها، بل على القوة أو الطبقة التي ستقودها.

11- فالمناشفة يتصورون أن الثورة الروسية ستكون نسخة عن الثورة الفرنسية أي ثورة ديمقراطية برجوازية بقيادة البرجوازية.

12- لكن جماهير المدن في فرنسا عام 1789، كانت تتألف من الحرفيين وأصحاب الحوانيت وسائر البرجوازيين الصغار، لهذا أمكن أن تسير تحت راية البرجوازية. أما جماهير المدن الروسية فهي البروليتاريا والتي لا تملك أي استعداد عفوي للسير تحت لواء البرجوازية.

13- فالصناعة الروسية لم تتطور بدءاً من الحرف ومن ورشات الصناعة اليدوية، وهي برغم حداثة سنة ميلادها لم تتأخر عن الأخذ بأحدث أشكال الإنتاج الرأسمالي، أي بالتركيز الشديد للرساميل. لهذا فالبرجوازية الروسية ومنذ البدء واجهت بروليتاريا نامية متمركزة موحدة واعية لقوتها.

14- يصل تروتسكي للقول أن الركب الثوري قد فات البرجوازية وأن الطريق للثورة لا يمر من خلال قيادة البرجوازية بل على أشلائها. هذه هي الأطروحة الأولى في النظرية التروتسكية عن الثورة الدائمة وهي تؤكد أن الثورة الدائمة ليست نظرية منشفية بل هي بالأساس موجهة ضد المناشفة.

15- ويختلف لينين عن تروتسكي، في أن لينين كان يعتبر إنجاز المهام الديمقراطية شرطاً لقيام دكتاتورية البروليتاريا، في حين تروتسكي اعتبر أن دكتاتورية البروليتاريا هي الشرط المسبق الضروري لإنجاز مهام الثورة الديمقراطية، ومن هنا كان اعتراض تروتسكي على صيغة لينين: «دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية»، فصحيح أن هذه الصيغة تقصي البرجوازية عن معسكر الثورة، ولكنها تلزم الصمت على آفاق الثورة واحتمالات تطورها، فهي لا تجيب عن سؤال بالغ الأهمية لمن ستكون الهيمنة في الدكتاتورية الديمقراطية للعمال أم للفلاحين؟

16- إن تروتسكي يشارك لينين الرأي في أن المسألة الزراعية والفلاحية هي محور الثورة الروسية، ولكن في حين كان لينين يرى بإمكانية قيام حزب فلاحي مستقل ودعا لقيامه، إلا أن تروتسكي ومنذ عام 1905، رأى أن الحزب الفلاحي مستحيل لأن الهلامية هي الماهية الأساسية للفلاحين كطبقة.

17- لقدر رأى تروتسكي أن لينين كان مخطئاً، ولكن تروتسكي أعاد تقييم مواقفه بعد انضمامه إلى البلاشفة في الفترة الفاصلة بين شباط وتشرين الأول (1917).

18- وما لاحظه تروتسكي أن لينين الذي سبق وأن وصف نظريته عن الثورة الدائمة «بالثرثرة الدائمة»، عاد وتبنى هذه النظرية، عندما سحب لينين شعار دكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية، ورفع مكانه شعار دكتاتورية البروليتاريا المتحالفة مع الفلاحين، وذلك في نيسان 1917. ولينين (برأي تروتسكي) هدم الحاجز الفاصل بين الثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية، وصار يتكلم عن نضج الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية.

19- ولكن قد يكون لينين مخطئاً نظرياً بتلك الصيغة، ولكنه لم يخطئ على الصعيد العملي، لأن صيغته عن الدكتاتورية الديمقراطية كانت في ظروف انقسام تاريخي بين المناشفة والبلاشفة، وكانت صيغة لينين تلك موجهة ضد الماركسية المبتذلة وضد التصور المنشفي عن الدور الثوري للبرجوازية الليبرالية الروسية، وكانت موجهة ضد تبجحات الليبراليين، وفي حين تروتسكي كان يأخذ موقفاً توفيقياً بين المناشفة والبلاشفة، لذلك بقيت نظريته عن الثورة الدائمة بقيت مجرد نظرية لم يكتب لها وقتها أن تتحول إلى فرضية عمل.

20- إن صيغة تروتسكي بالرغم من صحتها النظرية، لم تقدم أو تؤخر في توضيح الرؤية الثورية في الأعوام الممتدة بين 1905 و1917، لأنها لم تتحول لممارسة، ولأن موقفه التوفيقي كان يتناقض مع جوهر نظريته.

21-إن قطبي الصراع في الحركة الثورية الروسية، ليس بين لينين وتروتسكي، بل بين المناشفة والبلاشفة. ولكن صيغة لينين تفوقت على صيغة تروتسكي عملياً، لأن تروتسكي ونظريته كانا يقفان على هامش الصراع، ومن هنا وصف لينين نظرية تروتسكي بالثرثرة الدائمة.

22- إن تروتسكي أقر بتفوق اللينينية حتى وهو في معرض تصحيحه لخطأ لينين النظري.

23- فبرأيه إن الفلاحين هم المجهول الأكبر في معادلة لينين. وأن المسألة بالنسبة للينين تكمن بالإجابة على السؤال التالي: هل من الممكن أم غير الممكن نشوء حزب فلاحي مستقل عن البروليتاريا والبرجوازية؟ فلينين كان عليه أن يترك المعادلة مفتوحة، أي أن يتمسك بشعار الدكتاتورية الديمقراطية حتى لا يسد الباب سلفاً في وجه الدور السياسي المستقل للفلاحين. ومن اللحظة التي تبين فيها للينين أن الحزب الفلاحي المستقل مستحيل، سحب لينين شعار الدكتاتورية الديمقراطية، ورفع دكتاتورية البروليتاريا المتحالفة مع الفلاحين في مجموعهم كشرط لإنجاز الثورة الديمقراطية، ثم شعار دكتاتورية البروليتاريا المتحالفة مع الفلاحين الفقراء كمدخل إلى الثورة الاشتراكية.

'''تجريم الثورة الدائمة:'''
1- بعد وفاة لينين بأشهر ابتدأت الخلافات تظهر بين تروتسكي من جهة وستالين وزينوفييف وبوخارين وكويوسينان من جهة أخرى، وتحول هذا الخلاف لحرب وحرب مضادة، ابتدأها ستالين في محاضرات ألقيت عام 1924 مذكراً الجيل الجديد بانتقادات لينين لتروتسكي قبل أن يصبح تروتسكي بلشفياً، وبدوره فتح تروتسكي الدفاتر العتيقة مذكراً بالانتقادات التي وجهها لينين للبلاشفة القدماء بعد ثورة شباط، ومشيراً إلى أنه الوحيد الذي استوعب التكتيك اللينيني عقب شباط 1917.

2- وتصب الاتهامات الموجهة لتروتسكي بنقطتين: الأولى تتهم نظرية الثورة الدائمة بالفوضوية والمغامرة ،وأنها تخلط بين المراحل الثورية وتحاول القفز فوقها ، والثانية تتهم نظرية تروتسكي بأنها نظرية بلانكية تريد أن تعزل الطبقة العاملة عن سائر القوى الثورية في المجتمع ،وتنكر دور الحركة الفلاحية وأهمية تحالفها مع البروليتاريا .

3- بالنسبة للاتهام الأول فهو لم يكن جدياً بما فيه الكفاية لأن لينين قد تبنى بدوره في السنوات الأخيرة من حياته خطة الثورة المستمرة التي تقول بنضج الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية. وبالتالي ما قاله ستالين بهذا الصدد هو ليس إنكار هذه الفكرة بل بالقول أن لينين هو أسبق من تروتسكي بطرحها. (ملاحظة من الكاتب: حاول ستالين ذلك بمحاضرات عن اللينينية عام 1924، وقام بنبش نصوص توحي بأن لينين قال بديمومة الثورة منذ عام 1905، ولكن هذه النصوص على ندرتها توحي ولا تجزم).

4- وتروتسكي رد على هذا الاتهام الأول بقوله أن نظرية الثورة الدائمة ليست قفزاً فوق المراحل، بل قفزاً فوق النظريات الميكانيكية النزعة القائلة بحتمية المراحل، فمن وجهة النظر التاريخية ظهرت الصناعة الرأسمالية في روسيا بالقفز فوق مرحلتي الحرف والمانيفاكتورة في المدن، مع أن تقسيم ماركس لتطور الصناعة إلى مرحلة الحرف ومرحلة المانيفاكتورة ومرحلة المصنع يدخل في أبجدية الاقتصاد السياسي، بل في أبجدية النظرية التاريخية –الاقتصادية الماركسية.

5- وخلاصة القول أن نظرية الثورة الدائمة ما هي إلى التتمة الطبيعية لقانون التطور غير المتكافئ الذي استطاع بفضله الماركسيون الروس أن يتوقعوا وصول روسيا المتأخرة تاريخياً إلى ثورة البروليتاريا قبل وصول إنكلترا المتقدمة إليها. وهذا هو بالضبط ما تعنيه الثورة الدائمة عندما تقول بإمكانية القفز فوق المراحل.

6- أما بخصوص الاتهام الثاني بإنكار دور الفلاحين والقفز فوق الحركة الفلاحية فهي اتهامات جدية إلى حد كبير. ولينين أول من صاغها باتهامه لتروتسكي أكثر من مرة بين 1905 و1917، بأنه سرق من البلاشفة نداءهم إلى ثورة بروليتارية، وسرق من المناشفة نفيهم لدور الطبقة الفلاحية. والحق يقال (الكلام لطرابيشي) أنه إذا كان تروتسكي قد دلل قبل عام 1917 على استخفاف بالدور الثوري للفلاحين فهذه مسألة يتحمل مسؤوليتها شخصياً ولكنها لا تؤثر البتة على أهمية نظريته العبقرية عن الثورة الدائمة.

7- إن خطأ تروتسكي برأينا يكمن في أن رؤيته «الأوربية» للتاريخ كانت متناقضة مع الروح الآسيوية لنظريته ومن هنا كان تهوينه للدور الثوري للفلاحين. فنظرية الثورة الدائمة لم تكتسب أهميتها إلا في بلدان الشرق أي بلاد الفلاحين. لأنها حررت قوى الثورة في الشرق من أسطورة حتمية المراحل وكرست شرعية الثورة الاشتراكية في البلدان التي لم تنضج فيها الشروط الاقتصادية الموضوعية (هيمنة الصناعة) للتحويل الاشتراكي.

8- إن نظرية الثورة الدائمة تفترض أنه بوسع البروليتاريا أن تباشر بإنجاز مهام الثورة الاشتراكية قبل أن تصبح غالبية الأمة عمالية وقبل أن تهيمن الصناعة على الزراعة، وهذا بشرط واحد وهو أن تستغل البروليتاريا تأخر حل المسألة الزراعية وأن تقود جماهير الفلاحين إلى الديمقراطية، وتروتسكي هو القائل بأن مفتاح لغز الثورة الروسية يكمن في المسألة الزراعية فقد قال: «لو إن المسألة الزراعية، تركة البربرية وتاريخ روسيا القديم، قد لاقت حلها على يد البرجوازية، لما كانت البروليتاريا الروسية توصلت قط إلى الاستيلاء على السلطة عام 1917».

9- لقد صاغ تروتسكي تجربة الثورة الروسية هذه بقانون أسماه قانون التطور المركب في البلدان المتخلفة التي تمتزج فيها العناصر الأكثر تخلفا مع العناصر الأكثر تقدماً، وبموجب هذا القانون فإن ثورة أكتوبر أمكن لها أن تقوم بسبب تداخل عاملين من طبيعة تاريخية شديدة التباين: حرب فلاحية أي حركة مميزة لفجر التطور البرجوازي، وثورة بروليتارية أي حركة تشير إلى أفول المجتمع البرجوازي، هذا هو سر أكتوبر 1917 عند تروتسكي.

10- ولكن أكتوبر 1917 ليس هو الاشتراكية بعد. إن أكتوبر هو البروليتاريا التي استولت على السلطة بفضل دعم الفلاحين، ولكن الاستيلاء على السلطة ليس هو الاشتراكية بل المسيرة نحو الاشتراكية هذه نقطة يتفق عليها لينين وتروتسكي ولكنهما عندها أيضاً يختلفان.

11- لينين فهم دكتاتورية البروليتاريا في بلد متخلف تاريخياً على أنها تحالف الطبقة العاملة مع الفلاحين الفقراء بهدف خلق الشروط المادية لبناء الاشتراكية، ولينين لم يشك بتردد الطبقة الفلاحية وتململها تحت عبء التضحيات ومستلزمات التراكم الإشتراكي البدئي. كان لينين يعلم أن حصان الفلاح هزيل ولكن لا مفر من امتطائه لاسيما بعد صمت الغرب، لم يبق هناك خيار آخر ولهذا حاول لينين الحفاظ على تحالف العمال والفلاحين مؤجلاً إلى أجل غير معلوم استغلال التناقضات الطبقية في الريف للشروع بالثورة الاشتراكية.

12- أما تروتسكي فالصورة الراسخة في ذهنه هي صورة الفلاح الأوروبي، أي الفلاح الذي يمكن أن يكون حليفاً ما دامت آفاق الثورة ديمقراطية ولكنه سينقلب عدواً بمجرد أن تنضج الشروط الاشتراكية للثورة، لأن الاشتراكية تعني زوال الفلاح. وبكلمة واحدة يرى أن البروليتاريا تستولي على السلطة بمساعدة الفلاحين ولكنها ستبني الاشتراكية ضدهم.

13- ومن هنا رأى تروتسكي أن لا أمل بالخلاص إلا إذا هبت البروليتاريا الأوربية للنجدة، ومن هنا يبرز وجه جديد للثورة الدائمة التي تعني أن الثورة البروليتارية في قطر متخلف ستكون الشرارة التي تضرم نار الحريق الثوري في الأقطار المتقدمة، وتروتسكي لم يفكر بصمت الغرب، ويؤكد أن ما من هم للبروليتاريا الروسية بمجرد استيلائها على السلطة سوى أن«تنقل الثورة إلى الأرض الأوربية» وأن انتصار «الثورة في روسيا سيؤدي بشكل حتمي لانتصار الثورة في بولونيا وفي ألمانيا وفي فرنسا وحتى في إنكلترا».

14- إن مركز العالم عند تروتسكي هي أوروبا الصناعية التي قطعت شوطاً طويلاً على طريق التحرر من البربرية الفلاحية، وليس من حليف للبروليتاريا الروسية المحاصرة كالجزيرة بالمد الفلاحي غير بروليتاريا أوروبا الغربية (ملاحظة من طرابيشي: لقد قال لينين شيئاً مماثلاً ولكنه إزاء صمت الغرب عرف كيف يستدير إلى الداخل وهذا ما لم يفعله تروتسكي).

15- إن النصوص التروتسكية غزيرة في ذلك، يقول تروتسكي: «بدون مساعدة حكومية مباشرة تقدمها لها البروليتاريا الأوربية لن تتمكن الطبقة العاملة في روسيا من البقاء في الحكم وتحويل سيطرتها الآنية إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة». ويقول أيضاً: «إذا تركت الطبقة العاملة الروسية للاعتماد على قواها وحدها، فإن الثورة المضادة ستسحقها حتماً حالما يتخلى عنها الفلاحون. ولن يكون أمامها من بديل سوى أن تربط مصير حكمها السياسي وبالتالي مصير الثورة الروسية كلها بمصير الثورة الاشتراكية في أوروبا».

16- إن خطأ تروتسكي لم يكن كما يبادر إلى أذهان البعض بنزعته الأممية، فقد كان لينين هو الآخر أممياً، بل يكمن في تجريده الأممي في تصوره الميكانيكي النزعة عن حتمية الثورة العالمية وفي تصوره أنها لا يمكن أن تكون إلا أوروبية بروليتارية. بينما لينين فهم الثورة العالمية فهماً تاريخياً عينياً، وذلك بوعيه الفذ لتناقضات العصر الإمبريالي.

17- لقد كان لينين بداية كتروتسكي، يرى بأن الثورة العالمية لا يمكن أن تكون إلا ثورة بروليتارية أوروبية، ولكن الصدع العميق الذي أحدثته رشوة الإمبريالية في ثورة البروليتارية الأوروبية، دفعت به إلى أن يموضع الثورة العالمية في محيط العالم الرأسمالي لا بمركزه، في آسيا والمستعمرات والشرق لا بأوروبا الرأسمالية، في الحلقات الضعيفة من السلسلة الإمبريالية لا في الحلقة المركزية الأوروبية.

18- لقد كان آخر ما كتبه لينين قبل أن يصاب بالشلل الكلي هو: كيف يمكن لروسيا السوفياتية أن تصمد باقتصادها الفلاحي أمام الحملة الصليبية الأوروبية المناهضة للثورة؟ وكان جواب لينين هو امتطاء حصان الفلاح واستمرار التحالف مع الفلاحين، وهذا ليس بدافع عوامل داخلية فقط، بل بدافع العوامل الخارجية، ليس بدافع الحرص على الثورة الروسية فقط، بل بدافع الحرص على مصالح الثورة العالمية.

19- وبالتالي هنا تظهر النتيجة المتناقضة التي توصل لها لينين وتروتسكي بصدد المسألة الزراعية: ففي حين رأى لينين أن الحفاظ على تحالف البروليتاريا والفلاحين في ظل السلطة السوفياتية ضروري لا لمستقبل الاشتراكية في روسيا فقط، بل لمستقبلها في العالم أجمع، وهو افترض أن لا أمل للثورة الروسية في تخطي حدودها القومية إلا عن طريق هذا التحالف كنقطة انطلاق للتحالف مع قوى الثورة العالمية الفلاحية. افترض تروتسكي على عكس ذلك بأن من أول واجبات البروليتاريا أن تفك هذا التحالف حتى تستطيع أن تجذب إليها قوى الثورة البروليتارية الأوروبية الصناعية، تلك البروليتاريا المتمدنة التي لا يمكن أن تغريها البتة صورة اشتراكية متخلفة تبنى في روسيا بمساعدة الفلاحين.

20- إن نظرية الثورة الدائمة أصيلة وعبقرية عندما تلاحظ أن الأصل غير الحرفي للبروليتاريا الروسية قد هيأها لتلعب دوراً قيادياً في الثورة الديمقراطية بعكس البروليتاريا الأوروبية، ولكن رؤيته الأوروبية جعلته ينسى بالمقابل أن الأصل غير الحرفي للبروليتاريا الروسية يعني على وجه التحديد أنه أصل فلاحي، وهذا يتيح للعامل الروسي إمكانية للتحالف مع الفلاح لم تكن متاحة للعامل الأوروبي.

21- إن نظرية تروتسكي أصيلة وعبقرية عندما تلاحظ أن قانون التطور المركب قد أتاح لروسيا المتأخرة تاريخياً إمكانية الوصول إلى دكتاتورية البروليتاريا قبل أوروبا المتقدمة، ولكن رؤيته الأوروبية حالت بينه وبين تعميم هذا القانون ليشمل سائر الأقطار الفلاحية المتأخرة.

22- إن نظرية الثورة الدائمة أصيلة وعبقرية عندما تلاحظ أن التأخر التاريخي للقطر الذي تقوم به الثورة الاشتراكية، يجعل الاشتراكية هشة في هذا القطر ما لم تهب لنجدته قوى الثورة العالمية، ولكن رؤيته الأوروبية جعلته يصر على أن هذه النجدة لن تأتي إلا من الغرب فقط.

===ثانياً: من كتاب شرق وغرب أنوثة ورجولة===

في مجتمع أبوي شرقي، متخلف متأخر، مشحون حتى النخاع بأيديولوجيا طهرانية، متزمتة حنبلية، تغدو مفهوم الرجولة والأنوثة مفهوماً موجهاً لا للعلاقات بين الرجل والمرأة فحسب، بل أيضاً للعلاقات بين الإنسان والعالم.

بمعنى آخر تفترض الأيديولوجية الأبوية إن الإنسان هو المبدأ المذكر في العالم الذي هو المبدأ المؤنث.

بما أن علاقات الرجل بالمرأة في ظل الحضارة الأبوية كانت منذ ألوف السنين وما تزال علاقات سيطرة واضطهاد، فإنها تنسحب على علاقة الإنسان بالعالم.

فتغدو الحرب رجولة، والسلام أنوثة، والقوة رجولة، والضعف أنوثة، والسجن للرجال، والبيت للنساء. وحتى ألعاب الأطفال: فالصبيان تستهويهم المسدسات والبنادق البلاستيكية، والبنات يملن إلى الدمى والعرائس وأشغال الإبرة. وحتى المجلات المصورة: فالمراهقون يقبلون على قصص المغامرات والبطولات والمطاردات السوبرمانية، والمراهقات يتهافتن على قصص الحب والعاطفيات والجنيات.

إن الرجال هم صانعو الثورة، وصانعو التاريخ، كما إن الفن والإبداع إطلاقاً، مهنة الرجال. إذا صدقنا فرويد، فإن التصعيد ميزة للرجال، بينما تقضي «شهوة القضيب» على النساء بدونية شبه أبدية، إن علم النفس التحليلي يكرس ثنائية الرجولة – والأنوثة وبالتالي الفعل – الانفعال، الإيجاب – السلب.

وفي مضمار الأمراض النفسية تذهب الفرويدية إلى أن السادية انتصار للمبدأ المذكر من حيث هو مبدأ فعل، وأن المازوخية من حيث هي مبدأ انفعال، انتصار للمبدأ المؤنث. وبالتالي تؤول العلاقات البشرية في السادية والمازوخية إلى علاقات قوة، علاقات سيطرة وخضوع. كما يؤكد فرويد إن هذه الثنائية تطال الأحلام، «فالأسلحة المدببة، وجذوع الأشجار والقصب، تمثل العضو المذكر، بينما الخزائن والعلب والعربات والمدافئ تمثل العضو المؤنث في الحلم».

صحيح إن التحليل النفسي يقرر هنا حقيقة واقعة، ولكنه إذ يقرر الحقيقة الواقعة يكرسها، ووظيفة التحليل النفسي هنا تشبه اللغة، فاللغة لا تكتفي بتذكير الفعل (اللغة مذكرة) بل تتجاوز ذلك لتشحن المفردات الدالة على العلاقات الجنسية بمنطوق الثنائية. فجميع الألفاظ التي تدل على الجماع في اللغة العربية تنم عن علاقة قوة وسيطرة، فالرجل هو الذي يأتي المرأة، ولهذا يقال: غشيها، وطئها، دعكها، وسمها، دعسها، رعزها، الخ.

وقد عرفت ثنائية الرجولة والأنوثة ازدهاراً عظيماً في عصر الفتح والاستعمار والعنصرية. وليس من قبيل الصدفة أن يكون نعت «العذراء» قد أطلق على قارات ومناطق لم يتم فتحها من قبل المستعمر. وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يكون مالك العبيد والمستكشف والفاتح والمستعمر والمستوطن قد سمي بـ «الرجل الأبيض». إن علاقة المستعِمر بالمستعَمر، يفترض فيها أن تكون علاقة رجل بامرأة، أي فتح وسيطرة من جانب، ورضوخ واستسلام من جانب آخر، وفي الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات الاجتماعية والنفسية على الفارق الجنسي الطبيعي بين البيض والسود. نجد مثالاً شبيهاً من العصر العباسي، حيث تمارس تقنية خصاء العبيد، كما يقدم لنا مجتمع القنانة مثالاً آخر على تجنيس علاقات الاضطهاد الطبقي في منحه السيد الإقطاعي حق الليلة الأولى في عروس الفلاح.

يذكر فرانز فانون في كتابه «جلد أسود وأقنعة بيضاء» بان الرجل الأبيض، باغتصابه المرأة السوداء، يشعر الزنجي بأنه رجل مخصي، والزنجي بإقامته علاقات جنسية طوعية أو غصبية مع المرأة البيضاء، ينتقم من المستعمر ويثبت له أنه رجل مثله.

يصف حسنين البطل البرجوازي الصغير في رواية نجيب محفوظ «بداية ونهاية» مشاعره إزاء فتاة نقية البشرة من الطبقة الأرستقراطية، فيقول: هذه امرأة إذا ركبتها فقد ركبت طبقة بأسرها. ومن المؤكد إن جدل القهر الكولونيالي والاغتصاب الجنسي قد جعل الكثيرين من أبناء المستعمرات المقهورين والمخصيين نفسياً يعتقدون أنهم في حال ركبوا امرأة بيضاء البشرة، فهذا يعني أنهم ركبوا أمة بكاملها.

إن الرجل الأبيض يعتقد أن جميع نساء المستعمرات مباحات له، ويرد الرجل المستعَمر بتطرف مماثل: إن كل امرأة بيضاء مشتهاة، ونقاء بشرتها دعوة دائمة إلى الاغتصاب.

إن الرجل المستعِمر، يرخي العنان لجماح غرائزه، وشهواته الملجومة ما أن تطأ قدماه أرض المستعمرة. وكذلك يفعل الرجل المستعَمر، إذا ما قيضت له الأقدار أن يجيء إلى الدولة المتروبولية (المستعِمرة)، لأنه يريد أولاً أن يثار لنفسه ولرجولته، ولأنه يعاني ثانياً من كبت جنسي شديد ناشئ عن الأيديولوجية الأبوية الحنبلية. وزوال الاستعمار، بشكله الاستيطاني والاحتلال المباشر، لا يغير كثيراً من طبيعة العلاقات بين المستعِمر والمستعَمر. وكذلك الأمر ينسحب على عصر الإمبريالية (الاستغلال الاقتصادي غير المباشر) فالأمة المستعمرة سابقاً ما تزال، بفعل عملية المثاقفة acculturation، أي استيراد ثقافة المتروبول، تحس إحساساً ساحقاً بدونيتها «المؤنثة» إزاء «رجولة» ثقافة الغرب وفحولتها.

إن عملية المثاقفة، والتي تكون بين طرفين غير متكافئين، موجب وسالب، فاعل ومنفعل، ملقح وملقح، تطرح نفسها على أنها بين قطبين مذكر ومؤنث. إن المثاقفة لا توقظ في الطرف المتلقي إحساساً بالدونية المؤنثة بقدر ما تبعث فيه شعوراً مرهقا بالخصاء الفكري والعنة الثقافية. وتحت وطأة هذا الإحساس الذي لا يطاق، يلوذ مثقف المستعمرة أو المستعمرة السابقة، بماضيه الحضاري الذي يعتقد أنه تعبير عن الرجولة. لكن بعث الماضي الثقافي لا يمكن أن يكون كافياً. وإن ما يحتاجه مثقفنا هو المقدرة الحاضرة التي تمكنه من القبض على الروح التقنية الحديثة. على فرض أن إحياء التراث القومي كافٍ ليستعيد رجولته في نظر نفسه، إلا أنه بأمس الحاجة ليستعيد رجولته في نظر الطرف الفاعل في عملية المثاقفة بوصفها علاقة تحد وسيطرة وعنف وحتى اغتصاب. يجب أن نذكر إن المثقف المعني هنا هو المثقف «الشرقي» المغترب، المثقف الذي يدخل طرفاً متلقياً في عملية المثاقفة وهو في بلاد الغربة، في حاضرة الدولة المستعِمرة سابقاً. إن جميع الروايات العربية التي عالجت مشكلة العلاقة بين الشرق والغرب، ابتداءً من «عصفور في الشرق» لتوفيق الحكيم ومروراً بـ «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس وصولاً إلى «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب الصالح، قد اختارت إطاراً مكانياً لها بين باريس ولندن. وكان الغرب غرباً في هاتين العاصمتين، وكان الشرقي ليس شرقياً إلا هائماً.

إن أبطال هذه الروايات وبلا استثناء هم المثقفون الذين قد قدموا الغرب طلباً للعلم أو الأدب أو الفن. وكل رواية هي بمثابة تجربة ذاتية، حتى ولو لم ترو بضمير الأنا، بل إن الرسوم التي تصور بعض المشاهد من «عصفور من الشرق» تمثل توفيق الحكيم شخصياً، إذ يمثل نفسه بشخصية محسن، وهكذا فان الرواية العربية الحضارية تستحيل إلى ضرب من أدب الاعترافات. وهذا المثقف أو هذا البطل الروائي هو على الدوام رجل. وان موضوع العلاقات الحضارية لم يأخذ طريقه إلى الرواية النسائية. ثم إن الخصاء لا يطال سوى الرجال وحدهم، لذلك فالمثقف الآتي من المجتمع الكولونيالي «التابع» يصدق لعبة المثاقفة، ويسلم بمنطقها. إنه يعترف بتجنيس عملية المثاقفة، ويقبل لا شعورياً على الأقل بأن يقيم علاقة تساو وتماه بين الثقافة والرجولة، وبالتالي تماه بين الثقافة والذكورة. فإحساسه بالخصاء الثقافي لن يزيده إلا تشبثاً بذكورته. فلئن لم يكن رجلاً في مضمار الثقافة فليكن رجلاً في مضمار الرجولة الطبيعي. وهذا معناه، إن رده على عملية مثاقفته سيكون بقضيبه. يحمله أينما ذهب معربداً، أينما حل وارتحل، وعلى الأخص في أماكن الثقافة: في مدرجات الجامعة، في دور السينما، في صالات المعارض، وقاعات الموسيقى. لن يرى إلا المرأة، ولن يصغي إلا لموسيقى ساقيها، ولن ترتجف أرنبة انفه إلا لرائحتها، ولن تطيب له إلا عاشقات الفكر والفلسفة، وإن لم يتوفرن فقاطعات التذاكر في شباك المسرح. إن طاقته الجنسية، وهو القادم من مجتمع حنبلي، مختزنة في عروقه إلى حد الانفجار، فلا ينضب له معين. وإن هذه الطاقة المختزنة تجعله ينقض على كل امرأة تتاح له دونما تمييز وبلا اختيار. وبعد أن يتحرر من ذلك الضغط شبه الحيواني، ويفرج عن بعض مخزون طاقته، ويبدأ بالاختيار، هنا يأتي دور المثقفات، وعلى الأخص اللائي يتراءين له منيعات، محصنات، عازفات عن المرأة التي فيهن، مأخوذات إلى حد التصوف بعوالم الفن والشعر والعلم المحض.

فما دامت العلاقة بين الشرق والغرب هي بالضرورة علاقة مجنسة لأنها علاقة قوة وتحد، فمن المحال أن تتسع لمبدأين مذكرين. ويكفي أن يثبت أحد الطرفين أنه الذكر، حتى يكون قد قام بالبرهان على أنوثة الطرف الآخر. لكن المثقف الشرقي حتى بعد تقديمه البرهان على أنه رجل، يظل يشعر بالحاجة إلى إثبات أنوثة الغرب، وهذا بكل بساطة لأن دليله على رجولته كان قضيبه لا ثقافته. وهكذا فإنه يرد على التحدي الغربي لرجولته الثقافية بإشهار سيف ذكورته، ثم إنه يقيم وحدة بين الأنثى الغربية وبين الغرب، فيستحيل الغرب إلى مجرد فرج. شأنه شأن بطل نجيب محفوظ، سيساوره شعور مزهو بأنه يركب أوروبا بكاملها كلما ركب فتاة أوروبية. وبذلك تكون جميع المعادلات فد قلبت، ولو بالوهم. وبذلك تكون دائرة الوعي الكاذب قد أغلقت بإحكام، لأن المثقف الشرقي يرد على الاستلاب باستلاب مماثل.

لقد تبنى المثقف الشرقي تصور الغربي، من حيث إن المثاقفة مجامعة. وشعر أنه تلقى ضربة في صميم رجولته. وعندما تتاح له الفرصة فإنه سوف يرد لا كمثقف بل كذكر. والأمر الذي جعله يسلك هذا السلوك هو الكبت الجنسي الخانق في مجتمعه الحنبلي. وكما أنه قد وحد بين قضيته وقضيبه، كذلك فإنه سيوحد في الهوية بين الغرب والفرج. ولكن ما فاته في إطار وعيه لعلاقة الراكب والمركوب، هو عدم إدراكه بأن النضال لا يكون بتبني منطق رد الفعل السلبي أي منطق الظلم، حيث يقوم اعتباره على إن الغرب هو الذي بدأ والبادئ أظلم.

ما نستنتجه مما سبق: إن تجنيس العلاقات الحضارية بين الأمم يساهم في تأبيد عبودية المرأة في المجتمع المتخلف وفي تأبيد تخلف هذا المجتمع بالذات.

يجب أن لا يغيب عن بالنا إن منطق الرمز في الرواية العربية هو في الوقت نفسه رمز لمنطق: منطق رجال في عالم رجال وثقافة رجال ورواية رجال. إنهم رجال شرقيون بامتياز.

===ثالثاً: من كتاب هرطقات===
'''مقدمة:'''
الهرطقة في المعجم اللاهوتي المسيحي تقابلها البدعة في المعجم الإسلامي، ولكن على حين أن الهرطقة في المعجم الأول لا تعني سوى الخروج على العقيدة القويمة، فإن البدعة مشتقة في العربية من نفس المصدر الذي تشتق منه كلمة إبداع، فكأن لا مبدع إلا أن يكون مبتدعاً أي خارجاً في محصلة الحساب على الإجماع والفكر الجماعي، ومن هنا الطابع «المهرطق» للدراسات المجموعة في هذا الكتاب والتي لا تقدم أجوبة بقدر ما تثير أسئلة وتعيد صياغة الإشكاليات، ومن هنا إشكالية الديمقراطية: هل هي ثمرة برسم القطف أم بذرة برسم الزرع؟ وهل هي محض آلية مرهونة بصندوق الاقتراع أم هي أيضا ثقافة ومرهونة بالتالي بصندوق جمجمة الرأس؟

ومن هنا تكمن مفارقة الشرط الوجودي والمهني للكاتب، فمهما يكن من حرصه على الانتماء بضميره إلى أهل الجماعة، فلا خيار له إلا أن ينتمي بقلمه إلى أهل البدعة، هذا إن كان حريصاً على أن يرقى في نظر نفسه على الأقل إلى مصاف كاتب مبدع.

'''إشكالية الديمقراطية في العالم العربي:'''
هنالك فرق مفهومي بين الإشكالية والمشكلة، فالإشكالية لا تتحرى جواباً بقدر ما تعنى بصياغة السؤال وسوقه إلى مجال الوعي وبالتحريض على البحث والتحري عن جواب أو أجوبة، ونحن هنا ضداً على منطق المعجزة المباطن لزوماً لكل إيديولوجيا خلاصية، نصوغ ونطور صياغة الإشكاليات التالية حول المسألة الديمقراطية في العالم العربي.

أولاً- مشكلة المفتاح والتاج:
هل الديمقراطية هي المفتاح السحري الذي نفتح به جميع الأبواب المغلقة، أم أن الديمقراطية هي على العكس من ذلك التاج الذي يتوج التطور العضوي للمجتمع المعني وينهض مقياساً على تطوره؟
وبعبارة أخرى: هل الديمقراطية شرط مسبق أم هي أيضاً نتيجة وحصيلة تطور مجتمع بعينه؟
من البديهي أنه في أي صيرورة عضوية تاريخية – والديمقراطية سيرورة من هذا القبيل- لا يمكن فصل الشرط عن النتيجة والنتيجة عن الشرط، لكن النظرة الأيديولوجية الخلاصية تفسخ العلاقة الجدلية مابين الشرط والنتيجة، فالديمقراطية تعمل من منظور الأيديولوجيا الخلاصية كمطلق، فهي شرط لكل نتيجة لاحقة.

ثانياً- إشكالية البذرة والثمرة:
هل الديمقراطية ثمرة يانعة برسم القطف؟ أم بذرة برسم الزرع؟
عندما تستزرع الديمقراطية في غير تربتها فإنها تكون عرضة للموت أو للتحول إلى عشبة سامة إذا لم يضاعف كم مجهود الرعاية. إن الأيديولوجية الخلاصية تصور الديمقراطية بأنها لا تقتضي جهداً بل تعفي من الجهد، إنها وصفة سحرية قادرة على انتشال المجتمعات العربية من هوة الفوات الحضاري المتعمقة، ونحن نرى بأن الديمقراطية شرط من شروط الإقلاع ولكنه شرط لازم من دون أن يكون كافياً، بل هو شرط مشروط.

ثالثاً- إشكالية مفتاح المفتاح:
إن الديمقراطية قبل أن تكون مفتاحاً هي نفسها بحاجة إلى مفتاح، ولعل بابها لا ينفتح إلا بعد أن تكون سائر الأبواب قد انفتحت أو بالتوافق معها.

'''الفلسفة العربية المستحيلة:'''
يرد جورج طرابيشي سبب استحالة وجود فلسفة عربية حديثة أو معاصرة إلى ثلاث مسائل أساسية:

أولاً- إن الفلسفة المعاصرة نفسها، على الصعيد العالمي في أزمة، ومرد هذه الأزمة إلى تطور العلم بالذات، فبعد أن طرح العلم نفسه كأداة وحيدة للمعرفة والسيطرة على الكون راح مجال الفلسفة يتقلص، فتطور الفيزياء الرياضية قد أغنى عنها في معرفة الطبيعة والكون، وتطور علم الأحياء والتشريح قد وضع حداً للتفلسف في مجال خلقة الإنسان، وجاء مولد علم النفس ليستنقذ منها موضوعه الأثير في النفاذ إلى كنه النفس البشرية، وبالتالي يمكن القول بأن الثقافات الوحيدة المنتجة للفلسفة اليوم هي الثقافات المنتجة للعلم، وحسبنا أن نقرر أن الثقافة العربية غير منتجة للعلم حتى نفهم لماذا يتحتم أن يكون المتفلسفون العرب عالة سواء على الفلسفة الإسلامية القديمة أو الفلسفة الغربية الحديثة، فانتقاء شرط الإنتاجية العلمية لا يترك لهم من نصاب آخر سوى أن يكونوا في الفلسفة من المستهلكين، أي المحاكين شرحاً أو ترجمة.

ثانياً- إن الحضارة الغربية بحكم أسبقيتها في الحداثة أصبحت تتحكم بالزمان الثقافي للحضارات الأخرى، وعدا الخروج من التاريخ والسقوط في الهمجية لم يبق للمتخلفين اليوم بهذا العالم من مستقبل آخر غير حاضر المتقدمين، بالتالي فكل ما يمكن أن يفكر به الملتحقون بالحداثة هو مفكر به مسبقاً، إضافة إلى أن كل ما يمكن أن ننقد عليه الحضارة الغربية قد سبقتنا هي نفسها في نقده.

ونلاحظ في هذا السياق أن الفلسفة النقدية التي يدعو إليها حسن حنفي تحت اسم الاستغراب كرد على الاستشراق لا تعدو هي نفسها أن تكون فلسفة وكيلة، فمن دهن الفلسفة الغربية لا يفتأ هو نفسه يسقي نقده لهذه الفلسفة الغربية.

ثالثاً- إن الفلسفة نبتة لا تزهر إلا في تربة العقل واستقلالية العقل، فالعقلانية هي الشرط الشارط لتمخض الفلسفة، ونلاحظ أن العقلانية مازالت بعيدة أن تكون صاحبة الكلمة العليا في الثقافة العربية المعاصرة، ولا نعني بالعقلانية سوى هذا المبدأ البسيط والثوري معاً: إنه لا يجوز أن تعلو فوق سلطة العقل أي سلطة أخرى.

'''الأنتلجنسيا العربية والإضراب عن التفكير:'''
تمثل المناظرة التمثيلية التي جرت بين مفكر المغرب محمد عابد الجابري، ومفكر المشرق حسن حنفي على صفحات اليوم السابع عام 1989، مثالاً لأنتلجنسيا رافضة لأداء وظيفتها، أي أنتلجنسيا هي في حالة إضراب عن التفكير، وتقدم لنا ثالث حلقات هذه المناظرة التي دارت على «العلمانية والإسلام» مثالاً تطبيقياً على ما يمكن أن تعنيه حالة الإضراب عن التفكير.

وفي البدء من الضروري القول بأن كلمة «مناظرة» لا تنطبق على ما دار بين الرجلين من حوار، فكيف يعقل أن «يتناظر» مفكران، هما في الأساس متفقان بالموقف من العلمانية، فالجابري يتبرأ من العلمانية بحجة أن «الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة» كما يقول عنوان مداخلته، والثاني يغسل يديه من العلمانية بحجة أن «الإسلام لا يحتاج لعلمانية غربية» كما يقول عنوان مداخلة حسن حنفي. إن عنوان كل من المداخلتين ينطوي على قدر من اللاتفكير، فعنوان الجابري ينطوي في بنيته على المنطق الصوري: العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة، الإسلام ليس فيه كنيسة، إذاً الإسلام لا يحتاج العلمانية، ويختم الجابري مداخلته بالقول: «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة أو تفصل الدولة عنها».

وكما في كل منطق شكلي فإن العملية الاستدلالية يثبت فسادها ومن ثم خلوها من التفكير إذا أمكن الطعن في مقدمتها الكبرى أو الصغرى تمهيداً للطعن بنتيجتها، واستدلال الجابري قابل للطعن في مقدمتيه الكبرى والصغرى تمهيداً للطعن بالنتيجة.

المقدمة الكبرى: العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة.
المقدمة الصغرى: الإسلام ليس فيه كنيسة.
النتيجة: الإسلام لا يحتاج للفصل.

ونلاحظ أن المقدمة الكبرى عند الجابري مبنية على حيلة شكلية، فليس صحيحاً تعريف العلمانية بأنها فصل للكنيسة عن الدولة، فالكنيسة هي حالة جزئية من حالات ذلك الكلي وهو الدين. وبالمنطق فحين تبنى المقدمة الكبرى فمن الواجب كما يعلمنا المنطق أن تبنى من خلال الكلي الأكثر كلية، والجابري اختار أن يرد الكلي وهو الدين إلى إحدى جزئياته فقط أي الكنيسة، لأنه لو بنى محاكمته ابتداء من الكلي لأفلتت من يده النتيجة التي يتوخاها ولأخذت المحاكمة الشكل التالي: العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، الإسلام دين، الإسلام يحتاج للفصل.

إن الجابري يعرف سلفاً النتيجة التي يريد الوصول إليها ولم يكن أمامه سوى التلاعب بتعريف العلمانية ويزيحه بوصة أو بوصتين عن منطوقه الأكثر شمولية ليجعله يعني فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لا فصل الدين عن الدولة. ولنأتي للمقدمة الصغرى التي يفترض بها منطقياً أن تتصل بتقرير الوقائع أكثر مما بتقرير المبادئ، فمن البداهة أن الإسلام ليس فيه كنيسة ولكن من البداهة أيضاً وجود سلطة دينية في الإسلام، وصحيح أن الإسلام ليس فيه كهنوت لكنه ككل دين فيه رجال دين ووظيفتهم القيام بشؤون الدين، وصحيح أن وظيفتهم ليست كما في الكاثوليكية أن يكونوا وسطاء بين الإنسان وربه، ولكن وساطتهم لا غنى عنها بين الإنسان وشؤون دينه، وقد يقع خلاف حول وظيفتهم وجواز تسميتهم رجال دين لكن لا يمكن أن يقع خلاف على الواقع التاريخي لوجودهم فهم كانوا موجودين والآن موجودون وليس ثمة ما يحمل على الاعتقاد أنهم لم يكونوا موجودين، فلا دين بدون رجال دين. إذا ليس في الإسلام كنيسة أو كهنوت، لكنه ككل دين فيه سلطة دينية، وبطبيعة الحال فالعلمانية لا تعني إلغاء السلطة الدينية بل تعني فقط فصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، وتبدو الحاجة للفصل أكثر إلحاحاً في الحالة العربية، خاصة في هذه المرحلة حيث تجري عملية تسييس الدين وتديين السياسة. وباستطاعتنا أن ندرك عدم لزوم النتيجة التي ينتهي إليها الجابري ترتيباً على مقدمته الصغرى، ومن قبلها على المقدمة الكبرى المكافئة لها في عدم المطابقة، من خلال التذكير أن مفكراً مثل طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» كان قد استنتج من المقدمة نفسها (الإسلام ليس فيه كنيسة) نتيجة معاكسة تماماً لنتيجة الجابري، حيث رأى طه حسين بأنه ما دام لا يوجد في الإسلام كنيسة أو لاهوت وطالما لم تنشأ فيه طبقة منفصلة ذات مصالح في سيطرة الدين على المجتمع فإن الفصل بين الدين والدولة سيكون أسهل على المسلمين.

والواقع أننا لو أجرينا مقارنة بين ما يقوله الجابري لإثبات عدم لزوم العلمانية مع ما يقوله الأصوليون، فسنجد أنهم يصلون لنفس نتيجة الجابري ولكن بصراحة ودون مراء ولا يلجؤون لحيل المنطق، فالأصوليون يجرون المحاكمة التالية: العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، الإسلام دين ودولة، فالإسلام لا يحتاج للعلمانية. والواضح أن استدلالهم أقوى من استدلال الجابري لأنه على الأقل يقوم على مقدمة كبرى صحيحة، في حين أن نقطة ضعفه تكمن في مقدمته الصغرى.

إن الجابري يدعو لسحب مصطلح العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية لأنهما تعبران عن حاجات المجتمع العربي تعبيراً مطابقاً، ومن الغريب أن تصدر هذه الدعوة من مفكر لأن مهمته كمفكر أن يوسع – ما أمكنه – قاموس الفكر، لا أن يضيقه. إن الجابري يمارس ضرباً من العزل والتقطيع والبتر للمفاهيم حينما يدعو إلى الاستعاضة عن شعار العلمانية بشعاري الديمقراطية والعقلانية، وعلى هذا النحو تتحول الحداثة إلى سوق للخردة نبتاع منها بأبخس الأثمان ما نشاء، وندع ما نشاء إذا تخوفنا من ارتفاع ما في ثمن التكلفة. والواقع أن استبعاد الجابري للعلمانية أشبه بفعل من يريد أن يجعل كرسي الحداثة يقف على قائمتين بدلا من ثلاث أو أربع، ومثل هذه العملية البهلوانية كان يمكن مع ذلك أن تكون ممكنة لولا أن المنشار لا يستطيع أن ينشر قائمة العلمانية بدون أن ينشر بعضاً من قائمتي العقلانية والديمقراطية بالذات.

إن مبدأ المنشار كبديل عن مبدأ التفكير، هو ما يعتمده المناظر المفترض للأستاذ الجابري، أي الدكتور حسن حنفي، حيث يرى حنفي هو الآخر بأن «الإسلام لا يحتاج علمانية غربية» لأن العلمانية منقولة إلينا من الغرب. إن حسن حنفي لو أنه مارس فقط التفكير اللامتماسك المنطق لكنا اعتبرنا ممارسته عينة أخرى من إضراب الأنتلجنسيا عن التفكير فقط، لكن هو يتعدى ذلك إلى ما يمكن تسميته مع جورج قرم بثقافة الفتنة أي ثقافة التحريض الطائفي، حيث يرى حنفي أن كل العلمانيين كانوا من نصارى الشام اللذين كان ولاؤهم الحضاري للغرب ولا ينتسبون للإسلام ديناً وحضارة، ومن المخجل حقيقة الرد على كلام حنفي. إن العلمانية لم تنقل إلينا من قبيل التغريب والتقليد الببغاوي، وما يقوله حنفي عن ربط العلمانية بالتغريب نقول نحن عكسه هو الأصح، ففي مصر و(+(بنك:سورية)+)، وعقب الاحتلالين الإنكليزي والفرنسي، جاءت مبادرة رفع شعار العلمانية من قبل الوطنيين والقوميين، من مسلمين ومسيحيين على حد سواء، وذلك رداً على محاولة الاستعمار الضرب على وتر التفرقة الدينية وتطوير الحساسيات المذهبية إلى «مسألة طائفية» تكون بمثابة رديف تبريري وتدعيمي للمسألة الكولونيالية.

'''الذات العربية وجرحها النرجسي:'''
'''عودة إشكالية التراث والحداثة في الثقافة العربية:'''
في مقال نشره سيغموند فرويد عام 1917، تحت عنوان «الجرح النرجسي الكوني»، تحدث عن جرح نرجسي فريد يصح أن نسميه الجرح النرجسي الكوني، إذ قد نشأ هذا الحرج بسبب الإذلال الذي تعرضت له كبرياء البشرية وعزة نفسها الكونية ثلاث مرات على التوالي من جراء تقدم العلم وتوالي كشوفه.

وقد كان أول تلك الجروح التي منيت بها النرجسية الكونية الجرح الكوسمولوجي، وهو ذاك الذي أحدثته نظرية كوبرنيكوس عندما قلبت معادلة الجاذبية الكونية وبدلت قطب المركزية في النظام الفلكي وقررت الحقيقة المؤلمة بالنسبة إلى عزة نفس البشرية وهي: أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس.

ثم كان بعد ذلك الجرح البيولوجي، فالإنسان الذي تفاخر بأنه من أصل سماوي وجد نفسه مكرهاً وتحت ضغط البرهان العلمي على الاعتراف بأن السلالة البيولوجية التي ينحدر منها هي السلالة الحيوانية.

أما ثالث الجروح النرجسية فكان من طبيعة سيكولوجية، وقد كان من فعل مؤسس علم نفس الأعماق، فرويد نفسه. فالتحليل النفسي مثل كذلك نظرية انقلابية، فكما أن الأرض لم تعد مركز الكون مع كوبرنيكوس، وكما أن الإنسان السماوي لم يعد مركز سلالته مع داروين، كذلك فإن النفس البشرية لم تعد مع فرويد مركز ذاتها، فتحت سطح الوعي يكمن أوقيانوس اللاشعور.

وإضافة لهذه الجروح الثلاث نضيف نحن جرحاً نرجسياً رابعاً، لا نتردد في وصفه بأنه جرح من طبيعة أنتربولوجية.

إن صاحب نظرية الجرح النرجسي الكوني كان ابناً نموذجياً للحضارة الغربية، وبالتالي فإن الإنسان المعني بتلك الجروح التي أنزلتها ثورة العلم الحديث ليس الإنسان بمطلقيته، بل الإنسان الغربي حصراً، أما الإنسان غير الغربي بالمقابل فكان كوبرنيكه بالأحرى هو الغرب عينه: فقد اكتشف نفسه متأخراً في مرآة الغرب المتقدم. وفي الحالة العربية، فإن هذا الجرح الأنتربولوجي كان مضاعفاً، فقد اقترن السؤال: لماذا تقدم الغرب؟ بآخر لا يقبل عنه انفصالاً: لماذا تأخرنا نحن العرب المسلمين؟

في الحالة العربية، نزع السؤال منذ البداية إلى أن يكون تراجيديا. إن الجرح الأنتربولوجي العربي بالغ العمق، إنه جرح تقدم الآخر مع أنه كان في الوعي السائد، لحظة صدمة اللقاء مع الغرب متأخراً. وجرح تأخر الذات مع أنها كانت في توهمها متقدمة.

إن مفهوم التراث بل الوعي بوجود تراث بمعنى «ثقافة الأسلاف»، قد رأى النور هو نفسه عقب «صدمة اللقاء مع الغرب» ومن جراء الاحتكاك بثقافة الآخر، فإلى حين الحملة النابليونية على مصر، لم تكن كلمة تراث تعني إطلاقاً ما تعنيه اليوم، وبالإحالة إلى «لسان العرب»، فإننا نجد أن كلمة تراث ما كانت تعني شيئا آخر غير الإرث والميراث بالمعنى المادي للكلمة.

وبالعودة إلى مفهومنا عن «الجرح الأنتربولوجي»، فإننا نستطيع القول بأن مفهوم التراث لم يفرض نفسه بالقوة التي فرض بها نفسه في الحقل التداولي للثقافة العربية الحديثة إلا على سبيل رد الفعل وكمحاولة واعية لتضميد ذلك الجرح. فالتراث، بالكيفية التي وظف بها هذا المفهوم، هو رد فعل ثقافة ذات اكتشفت على حين غرة، في مواجهة ثقافة الآخر، أنها بلا ثقافة. أو فلنقل، إنه ردة فعل ثقافة اكتشفت على حين غرة، في مواجهة حاضر ثقافة الآخر، أنها بلا حاضر، فارتدت نحو ماضيها لتوصل ما انقطع. وهكذا يكون الجرح الأنتربولوجي قد اعتمل على مستوى قطيعتين: قطيعة العرب عن حاضر الغرب، وقطيعتهم عن ماضي العرب أنفسهم. وعلى هذا النحو، اقتحم ساحة الوعي العربي مفهومان تأسيسيان جديدان: الثقافة بالإحالة إلى الآخر، والتراث بالإحالة إلى الذات. وبين فكي كماشة هذين المفهومين لا يفتأ الوعي العربي منذ نحو قرنين من الزمن، يتقلب ويتخبط. فهو يريد نفسه في ثقافة العصر بدون أن يقطع مع تراثه، وهو يريد أن يحيي تراث ماضيه بدون أن يميت نفسه عن ثقافة العصر.

'''العلمانية: مسألة سياسية لا دينية:'''
ما يميز الخطاب العربي الحديث قدرته الهائلة على الاستدماج السريع للمصطلحات الأيديولوجية، فقبل قرن لا أكثر كانت اللغة العربية تجهل مئات المفاهيم التي باتت لها الغلبة في الخطاب العربي الحديث من قبيل القومية والأممية والرأسمالية والاشتراكية والليبرالية والفاشية والسريالية والبنيوية...الخ.

مفهوم واحد لم يأخذ طريقه إلى التبيئة: «العلمانية». وإن استطاع المصطلح أن يفرض نفسه في المشرق العربي حيث ثمة وجود لأقليات مسيحية، فاستعار من قاموسها اللاهوتي تعبير «العلماني»، بالتعارض مع «الإكليريكي»، فإنه في المغرب حيث لا وجود لتلك الأقليات لم يفلح إلا في أن يلجأ إلى التعريب الحرفي، فبات يقال للعلمانية «لائكية».

وبغض النظر عن اللفظ ذاته، فإن المفهوم لم يفلح قط في أن يفوز بحقوق المواطنة، ولقد استبيح المفهوم واللفظ معاً إلى درجة أن مفكر مثل محمد عابد الجابري طالب بسحب مصطلح العلمانية نهائياً من القاموس التداولي للفكر العربي.

وفي سياق المساءلة الجديدة لإشكالية العلمانية يأتي كتاب «العلمانية» لموريس باربيه مدرس مادة العلوم السياسية في جامعة نانسي الثانية. كتاب مميز، لأنه يفك أسر العلمانية من قيود الأيديولوجيا أولاً، وثانياً لأنه يتقدم بنظرية في العلمانية تتمتع بمستوى عالٍ من الأصالة، وذلك بقدر ما تربط بين العلمانية وبين ما يسميه م. باربييه «الحداثة السياسية».

ففيما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الدولة والدين، ثمة صيغتان كبيرتان تتسع كل منهما لتمايزات وتباينات في الجزئيات: فإما أن تكون الروابط موصولة وموثوقة بين الدولة ودين بعينه، يحكمها ويقودها (وتلك هي الثيوقراطية أو الحكومة الدينية)، أو تدعمه وتقوده (وتلك هي الدولة الطائفية)، وإما أن يكون بين الدولة والدين انفصال، متفاوت في حديته بحيث لا تتدخل الدولة في مسائل الدين، ولا تمارس الطوائف أي تأثير مباشر على الشؤون العامة.

إن الفصل التام بين الدولة والدين لا يقوم إلا في بلدان قليلة: فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، المكسيك، تركيا. وكثيرة هي بالمقابل الدول التي تعرف في أوروبا بـ «نصف علمانية» مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا. فالدولة في ألمانيا مثلاً، حيادية لا تنتصر لدين على دين، ولا وجود فيها لدين دولة أو لكنيسة قومية، وهي بهذا المعنى دولة علمانية، ولكنها بالمقابل لم تبت صلتها بالكنائس، البروتستانتية والكاثوليكية حصراً، وتعتبرها كهيئات اجتماعية تابعة للقانون العام وتقر لها بحقها في التعليم الديني لأتباعها في المدارس العمومية.

وأما بريطانيا فإنها تقدم نموذجاً لدولة «لا علمانية» بدون أن يعني هذا أنها دولة دينية. فالكنيسة الأنغليكانية مازالت لها في إنكلترا صفة الكنيسة الرسمية، والملك أو الملكة هو رأس هذه الكنيسة. وتقدم الحكومة للكنيسة نصف كلفة صيانة مبانيها، وتعفي مداخيلها من الضريبة، والأساقفة الأنغليكانيون أعضاء شرف في مجلس اللوردات.

هذا فيما يتعلق بالواقع التطبيقي للعلمانية، أما فيما يخص نظريتها فإن الجديد الذي يقدمه كتاب باربييه هو افتراضه بأن العلمانية لا تقضي فقط فصلاً بين الدولة والدين، بل فصلاً أكثر جذرية ما بين الدولة والمجتمع المدني، مما يستلزم بدوره تشكل دولة حديثة مكلفة بالمصلحة العامة، وفي الوقت نفسه تشكل مجتمع يستطيع الأفراد في إطاره أن ينشدوا بملء الحرية مصالحهم الخاصة.

هذا الفصل بين المجتمع المدني والدولة هو ما يسمح بالتمييز بين الإنسان كفرد وبين المواطن، وحقوق المواطن هي تلك التي يحوزها الأفراد بصفتهم أعضاء في المجتمع المدني، ومن ثم فهي لا توجد، ولا يمكن أن توجد إلا بعد أن يتكون المجتمع المدني بافتراقه عن الدولة وبحيازته استقلاله أو سؤدده الذاتي.

إذن فالانفصال بين الدولة والمجتمع المدني يشكل شرطاً أساسياً للعلمانية، فالدولة الحديثة الحقة توجد بذاتها ولذاتها بدون أن تكون بحاجة إلى دين، وينجم عن ذلك أن العلمانية مسألة سياسية في جوهرها، لا مسألة دينية. وهذا معناه أنها مسألة تابعة للدولة لا للدين، وبالفعل إن الدولة هي التي تقرر دوماً وتفرض العلمانية فرضاً أحياناً. فالدولة الحديثة الناجزة هي الدولة العلمانية، وإذا كان قوام المسألة السياسية تكوين دولة حديثة منفصلة عن المجتمع المدني، فإن العلمانية تبدو في هذه الحال عنصراً تركيبياً أساسياً في هذه السيرورة، إذ بدونها لا يمكن أن توجد دولة حديثة حقاً وعليه فإن العلمانية مسألة سياسية أو جزء لا يتجزأ من المسألة السياسية.

'''تذييل حول أصل كلمة علمانية باللغة العربية:'''
هناك تصور شائع في الأدبيات العربية المعاصرة عن العلمانية مؤداه بأن هذا المصطلح جرى نحته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ووقع خلاف حول إعجام العين في هذا المصطلح المترجم: أهو بالفتح (عَلمانية) نسبة إلى العالم، أم بالكسر (عِلمانية) نسبة إلى العلم.

ولكن التنقيب عن أصل المصطلح أتاح لنا أن نربطه باللاهوت المسيحي المكتوب بالعربية، وهذا منذ القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي على الأقل. ففي كتاب بعنوان «مصباح العقل»، وضعه الأسقف واللاهوتي القبطي ساويرس بن المقفع، والذي شغل منصب كاتب في الدولة الإخشيدية في العهد الفاطمي، وفي معرض الكلام عن الخلاف بين الطوائف المسيحية حول زواج الكاهن قال: «التزويج مختلف عندنا، لأن للكهنة شروطاً ذكرها الكٌتاب، وهي ألا يتزوجوا بأرملة ولا مطلقة ولا زانية. وليس للكاهن أن يتزوج بعد امرأته الأولى بغيرها،هذا بإجماع النصارى. وقد رأى المتقدمون بعد ذلك رأياً في الأساقفة، أما المصريون فرأوا أن يكون الأسقف، بالإسكندرية خاصة، بتولاً لم يتزوج في حال عَلمانيته».

وليس لنا على هذا النص سوى تعليقين: الأول- إن استعمال ابن المقفع القبطي لكلمة علمانية دون أن تكون به حاجة إلى شرحها، إنما يدل على أنه ليس أول من استعملها وعلى أنها كانت رائجة بالتالي في الحقل التداولي لرجال الكنيسة، وهذا معناه أن تاريخ نحت المصطلح يعود إلى أبعد من القرن الرابع الهجري، وربما إلى القرن الثاني الهجري الذي شهد بداية تعريب الكنائس المسيحية.

الثاني- نظراً إلى السياق الذي وردت فيه الكلمة في النص وهو التمييز في الأسقف بين طوره الدنيوي وطوره الكنسي، إذ يشترط فيه البتولية (عدم الزواج) «في حال علمانيته»، فلا مجال للشك في أن عين العلمانية ينبغي أن تعجم بالفتحة لا بالكسرة، لأنها لا تحيل إلى العلم، بل إلى العالم أي الدنيا. وهذا هو أصلاً معنى الجذر اليوناني (لايكوس) واللاتيني للكلمة. فاللايكوس هو من ينتمي للشعب، إلى العامة، ومن ثم إلى الأميين، وليس إلى طبقة رجال الكهنوت الذين كانوا يحتكرون العلم في حينه.

===ثالثاً: من كتاب التحليل النفسي لعصاب جماعي===
'''الرضة والنكوص:'''
ثمة شبه إجماع في الخطاب العربي المعاصر على توصيف لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب بأنها بمثابة صدمة، فهي تارة الصدمة الاستعمارية أو الكولونيالية أو الإمبريالية، وتارة ثانية الصدمة الأوروبية والغربية، وتارة ثالثة الصدمة الحضارية أو صدمة الحداثة، ولكن مهما تعددت الأوصاف فإن الموصوف يبقى واحداً: فالصدمة هي اليوم واحد من المفاهيم المحورية التي تحكم وعي الوعي العربي لذاته. ولسنا بحاجة إلى الإكثار من الشواهد، حسبنا أن نأخذ عينة تمثيلية ثلاثية لممثلي أبرز ثلاثة تيارات في الخطاب العربي المعاصر: التيار العقلاني المعتدل أو النسبي، والتيار السلفي المتنور، والتيار السلفي الخالص. يقول محمد عابد الجابري وهو اليوم من أبرز ممثلي العقلانية المعتدلة في الساحة الفكرية العربية: «إن النهضة العربية الحديثة كانت أساساً، ومنذ البداية، وليدة الصدمة مع قوة خارجية ومهددة، قوة الغرب وتوسعه الرأسمالي».

ويقول محمد عمارة وهو من أبرز ممثلي السلفية المتنورة: «كان منطقياً ومبرراً تماماً ذلك المشهد الذي استيقظ له الشرق العربي وفتح بسببه عقله وعيونه، مشهد الغرب الذي عاد في صورة بونابرت ومن بعده من تلاه من الغزاة، لينتصر عسكرياً، بعد أن انتصر في بلاده حضارياً. وعندما أدهش هذا المشهد عقل العرب وقلبهم، حرك فيهم ما يحركه مس الكهرباء، إذا هي لم تصعق وتميت، وإذا هي وقفت عند حد الإيقاظ والتنبيه». ويقول راشد الغنوصي ممثل السلفية الخالصة: «لم يصح العالم الإسلامي من غطيطه الطويل إلا على مدافع الغرب تدك كهوفه المتداعية وتقوض مؤسساته، فتصدمه في كبريائه وطمأنينته الزائفة إلى سلامة أوضاعه، فكانت صدمة عنيفة في شعور المسلم أيقظته من نومة الانحطاط».

إن الأطروحة المركزية التي يدور عليها البحث الذي نضعه هنا بين يدي القارئ هي أن ذلك المفعول الإيقاظي التنبيهي قد انقلب ضده، أي إلى مفعول تنويمي تخديري، وذلك طرداً مع تحول الصدمة إلى كدمة أو رضة. وهنا يطرح التساؤل التالي : ما هو الفرق بين الصدمة والرضة؟

إنه فارق كمي في المقام الأول: فإذا كانت شحنة التنبيه التي تأتي بها الصدمة ضمن طاقة احتمال الجسم المصدوم، وقابلة بالتالي للتمثل والهضم وإعادة التوظيف، تحولت إلى قوة دفع وحفز. ولكن بالمقابل لو كانت شحنة الصدمة من التنبيه فوق طاقة احتمال الجسم المتلقي وغير قابلة بالتالي للدمج والتوظيف كان لها مفعول عكسي فبدلاً من أن تطلق في الجسم المعني آليات الدفاع السوي والتكيف الواعي من خلال تعرف الواقع ومواجهته، تطلق فيه على العكس الآليات اللاشعورية للدفاع المرضي من خلال العزوف عن تعرف الواقع وعن مواجهته، ومن خلال إلغاء العقل النقدي، والعدول عن التعاطي الواقعي والعملي مع العالم إلى التعاطي السحري، والاستعاضة عن الواقع بالاستيهامات، وعن الأشياء بالألفاظ. وبالتالي إذا كانت الصدمة تستفز الوعي وتجعله أكثر حساسية بالواقع الداخلي والخارجي على حد سواء، فإن ما تستفزه الرضة النفسية بالمقابل هو اللاشعور، ويكون من شأنها بالتالي أن تلثم الوعي وأن تخدر حساسيته وأن تفتح أمامه المسارب للهروب من الواقع بدل مواجهته. وإن يكن المفعول الوظيفي للصدمة هو مطلب التغيير، فإن منزع الرضة النفسية هو إلى التثبيت. فبدلاً من النمو يزداد الضغط اللاشعوري من أجل وقف النمو وإلغائه. والاندفاعة نحو الأمام باتجاه التقدم تنكفئ على نفسها نكوصاً، ولا يندر في بعض الحالات المشتطة أن يبلغ من ضيق الذات بذاتها أن يداخلها الاعتقاد بأن الوسيلة الوحيدة المتبقية أمامها لحماية ذاتها وفك الحصار عنها هي تدمير ذاتها، لكن بما أنه يتعذر على المعدة عادة أن تهضم نفسها، فإنه غالباً ما يكتفى من تدمير الذات بتدمير واجهتها الأكثر قابلية للتدمير، أي الوعي. والوعي المدمر أو الملغى هو الشكل الرئيسي لتظاهر العصاب الجماعي. ولكن بما أن العصاب، سواء كان فردياً أو جماعياً، لاحق على الرضة وعقبى لها، فقد آن لنا أن نطرح السؤال الأكثر عيانية: ما هي في تاريخ الحالة المرضية العربية التجربة التي كان لها مفعول الرضة وأدت إلى تمخض عصاب جماعي تظاهرت أول أعراضه –ولا تزال- في شكل وعي مدمر أو ملغى في أوساط عين الشريحة الاجتماعية المتخصصة في إنتاج الوعي، أي الأنتلجنسيا؟ إنها بالطبع تجربة حرب حزيران 1967م.

ويرى الجابري أن هزيمة 1967، ما كانت لتقرأ في الوعي العربي قراءة مرضية لولا أن الخطاب الناطق بلسان هذا الوعي والمفرز من قبله هو بالأساس خطاب مريض، كل وظيفته أن يعكس «أحوالاً نفسية وليس حقائق موضوعية»، والحال أننا نرى أن هزيمة حزيران، بمفعولها الرضي، هي التي أمرضت الوعي العربي وخطابه معاً، أو على الأقل هي التي أتاحت المناخ النفسي الملائم لجرثومة المرض الثاوية في الوعي العربي لتنمو وتتطور ولتحطم دفاعات الصحة فيه وتسلمه فريسة مستباحة لمحفزات اللاشعور وتياراته التحتية الجارفة.

وبعبارة أخرى إن مرض الخطاب العربي المعاصر هو عند الجابري بلا تاريخ، بلا ما قبل وما بعد، ومن هنا اعتباره مجرد امتداد لمرض الفكر العربي، بله العقل العربي برمته دونما تمييز بين مرحلة وأخرى، على حين أنه في تأويلنا مؤرخ، ومعين، كما في كل الحالات العصابية. وبطبيعة الحال إننا إذ نؤكد أن لعصابية الخطاب العربي المعاصر باتالوجيا خاصة، لا ننفي عامل الوراثة، فلا ريب عندنا بأن الخطاب العربي المعاصر قد ورث عن سلفه، الخطاب العربي النهضوي والحديث، استعدادات مرضية، أو على كل حال جبلة ليست المناعة من سماتها. فمن موروثاته من الخطاب النهضوي، ما اتسم به من ازدواجية مستعصية على الحل بين روح المنافحة وروح النقد، وهي الازدواجية التي أملتها على الخطاب النهضوي الحاجة إلى تأكيد الذات في مواجهة الغزوة الكولونيالية المنطلقة من قاعدة تفوق الحضاري الغربي، والحاجة إلى تغيير الذات في الوقت نفسه للاقتدار على القيام بعبء تلك المواجهة، كما أن من موروثاته من الخطاب العربي الحديث وتحديداً من الخطاب الثوري الذي ساد الساحة الفكرية العربية في مرحلة الاستقلالات القطرية ابتداءً من نهاية الحرب العالمية الثانية، التضخم الأيديولوجي على حساب تقلص البعد المعرفي، وهو التضخم الذي ساقته إليه الحاجة التاريخية والإرادوية إلى التبديل السريع للواقع على أساس من استراتيجية حرق المراحل وتطوير النهضة إلى ثورة استباقاً للشروط الموضوعية التي ما كانت قد نضجت بعد لتطور من هذا القبيل.

ولكن أياً يكن الدور الإمراضي الذي يمكن أن يعزى إلى هذه الموروثات، وحتى تلك الأكثر إيغالاً منها في القدم كما قد تكشف عنها حفريات البنية الأثرية للعقل العربي في المرحلتين الشفوية والمدونة على حد سواء من تكوينه، فإن تفعيل هذه الموروثات يظل مرهوناً بخبرة راضة فعلية من نتاج الواقع الموضوعي لا من استيهام الواقع النفسي، وهو ما يعيدنا مرة ثانية إلى حرب حزيران السوداء. ونحن نرى بأن هزيمة حزيران كانت هزيمة لعمارة المجتمع العربي برمته ولبنيتيه المادية والفكرية معاً، هزيمة كشافة لتأخره السياسي والثقافي والاقتصادي والتقني، فضلاً عن تأخره العسكري.

إن اللاشعور سيد مملكة النفس التحتية، لا يساير الشعور في لعبته ولا ينخدع بخداعه لذاته. فإذا كان الشعور يطيب له، لاعتبارات تتعلق بالإنجراحية النرجسية، أن يعطي لمعادلة عوامل الهزيمة صيغة برانية، فإن اللاشعور الذي لا يقيم وزناً كبيراً للعالم الخارجي، يصر على العكس إلى تأويل الهزيمة وفقاً لصيغة جوانية، فحتى الصدفة ليست من العوامل التي يعتد بها بالنسبة إلى اللاشعور، ومن منظوره ليس ثمة من ظرف تخفيفي يسوغ الإعفاء من المسؤولية، والحق أن لسان هذا القاضي الداخلي أقرب إلى أن ينطق بما جاء به القرآن الكريم «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم». وبعبارة أخرى إن اللاشعور خزان هائل للتأثيم ولتوليد المشاعر بالذنب. ومشاعر الإثم وتعذيب الضمير التي فجرتها ولا تزال هزيمة حزيران يمكن أن ترصد بسهولة عبر الصحافة العربية اليومية ابتداءً من المقولة التي باتت مشهورة: «إن العرب كان لابد من أن يخسروا الحرب لأن السلاح الذي حاربوا فيه كان سلاحاً كافراً»، وانتهاءً بتصريح وزير الأوقاف المصري السابق الشيخ محمد متولي الشعرواي أنه حين وقعت الهزيمة سجد لله «ركعتي شكر لأن مصر لم تنتصر». وإذا تجاوزنا الصحافة اليومية أو الأسبوعية وجدنا منظراً إسلاموياً مثل منير شفيق لا يتردد في تأسيس لاهوت تأثيمي للهزيمة «باعتبارها عقوبة حتمية» كان لابد من أن «تدفعها الأمة» كــ «محصلة طبيعية لمحاربة الإسلام والسير في طريق التغريب».

'''النكوص كإضراب عن التفكير:'''
في الحياة الفكرية كما في الحياة النفسية يبدو أن النكوص يأخذ شكل مقاطعة للنضج وإضراب عن النمو وانسحاب من سيرورة التطور والتقدم، ولكن ما يتم على صعيد الحياة النفسية على نحو صامت، يأخذ على صعيد الحياة الفكرية بحكم الطبيعة الظهورية للفكر، شكل إعلان صاخب أو مجهور به في أدنى الأحوال. وعلى هذا النحو وبالتضاد مع كل البيانات والتصريحات المعبرة عن الرغبة في التطور والتقدم، سواء بطريق الإصلاح أو الثورة، والتي يحفل بها تاريخ الفكر العربي منذ أن نبهته مدافع نابليون بعنف بضرورة التغيير، تطالعنا في عهد الردة الإيديولوجية تصريحات يندر العثور عليها في تاريخ الحياة الفكرية، فمثلاً في مؤتمر «القومية العربية والإسلام» الذي نظمه مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1980، وقف طارق البشري ليقول: «إذا كان التطور يرفضني كجماعة فلست من أنصار التطور، وإذا كان التقدم ينفيني ويسحقني كجماعة فإني إذاً لمن الراجعين».

وفي ندوة «التراث وتحديات العصر» التي نظمها المركز نفسه وقف عبد الله فهد النفيسي ليعلن ضرورة الانسحاب من السباق الحضاري والامتناع أصلاً عن الجري تحاشياً «للصدمة الحضارية» واللهاث حتى الموت: «إن الغرب يريد أن يجعلني دائماً متعلماً لديه، وأن يوهمني بأني مهما حاولت اللحاق به، فمعدل إنتاجه أسرع بكثير من معدل لحاقي به، وبالتالي تتسع الفجوة بيني وبين الغرب، فأصاب بالصدمة الحضارية وأجري يائساً وراءه حتى أموت».

والعجيب أن هذه الكلمات المتفجرة باليأس الحضاري تكرر بصورة شبه حرفية ما كان كتبه ممثل السلفية اليسارية حسن حنفي حيث قال: «نحن مازلنا نترجم،مازلنا نستوعب ونتعلم ونتتلمذ. ولما أصبح معدل الإنتاج الغربي أسرع بكثير من معدل الاستيعاب فسنظل دائماً لاهثين وراء الغرب محاولين اللحاق به حتى نصاب بالصدمة الحضارية، فنتعب ونيأس ونموت».

'''النكوص كإلغاء للذاتية واستقالة من الفعل التاريخي:'''
إن فلسفة التاريخ التي يمارسها المثقف العربي المنخرط في سيرورة نكوص عميقة قابلة لأن توصف تماماً بأنها من نمط توكلي، فليس صانع هذا التاريخ هو الإنسان، بل هو على الدوام قوة مجردة، محبوة بكلية قدرة سحرية، تنوب مكانه وتكون للتاريخ بمثابة المحرك اللامشخص. وهكذا يتحول الخطاب التاريخي، لا من «خطاب فردي إلى خطاب اجتماعي» كما يقول محمد أركون فحسب، بل كذلك من خطاب عيني إلى خطاب مجرد، من خطاب مبني للمعلوم إلى خطاب مبني للمجهول، من خطاب يحمل تاريخ الفاعل إلى خطاب مغفل من الإمضاء. وسواء كان فاعل الفعل في هذا الخطاب هو التراث أم بدائله ومعادلاته مثل الوحي والتوحيد في خطاب السلفيين، فإن الواقعة الأساسية التي يحيلها إلينا هي استقالة الذاتية الإنسانية وغياب الفعلة التاريخيين الذين هم بالضرورة بشر (وإلا استحال أن يكون التاريخ هو التاريخ).

'''النكوص كإحياء للمخطط العائلي:'''
إن ما من قضية يعيشها المثقف العربي «وكأنه لا يزال طفلاً في أسرته»، مثل قضية التراث في هذه المرحلة التاريخية الموسومة بردة فكرية من طبيعة نكوصية تحتل مكانها في الخطاب العربي المعاصر بصفتها «قضية القضايا». والواقع أننا لا نغالي إذا قلنا بأن التراث في الخطاب العربي المعاصر قد تحول إلى خشبة مسرح لتمثيل أو إخراج مختلف الضروب الممكن تخيلها من تلك المسرحية الطفلية، وإذا أخذنا الدور الرئيسي الموكل إلى التراث بصفته أباً رمزياً، فلا غرو أن تكون الرواية العائلية الأكثر تداولاً في الخطاب العربي المعاصر باعتباره بالتعريف سنة الآباء وتقاليدهم وأخلاقهم، ومن الممكن تأويل كل موجة السلفية التي انزاحت عقب الهزيمة الحزيرانية على أنها فعل لواذ بحمى ذلك الأب المعنوي الكبير الذي اسمه التراث.

'''النكوص كتقهقر من تلقائية الفعل إلى آلية رد الفعل:'''
إن التأسيس السلبي لهوية الذات عن طريق نفي الآخر، يأخذ - في إحدى صوره - شكل مناقضة آلية مطردة للآخر.فمهما فعل هذا الأخير ومهما صدرت عنه من مواقف، فإن الذات هنا تفعل أو ترتئي العكس، ولا يصعب أن نرى في لاهوتية الضدية هذه موقفاً يكرر بشكل لا شعوري موقف الأنا الطفلي الذي غالباً ما يحتاج كي يثبت شخصيته، إلى معاكسة من حوله من الراشدين ومناقضتهم قولاً أو سلوكاً. ويجد هذا الموقف الطفلي تعبيره في مداخلة لممثل السلفية المنفتحة محمد عمارة حين قال في ندوة نظمت في المملكة العربية السعودية عام 1988 حول «التراث والفنون الشعبية»: «إذا كان الغرب يفرق شعره، إلى جانب معين، فنحن نفرقه إلى الجانب المعاكس، وإذا حلق ذقنه فنحن نطيلها، وإذا أطالها فنحن نحلقها». وعلى الرغم من أن الأيديولوجيا المعلنة التي يصدر عنها هذا الموقف هي إيديولوجية الأصالة ورفض التغريب والتبعية، فمن الواضح أننا هنا أمام موقف يقوم على التقليد الآلي العكسي، موقف لا قوام له ولا غائية إلا ضده، موقف تنبع سيادته لا من ذاته، بل من غيره وبكلمة واحدة إنه موقف عادم الأصالة كلياً لا يقوم على الفعل، بل على رد الفعل.

'''النكوص كارتداد فعلي عن عصر النهضة:'''
يقول فؤاد زكريا: «إنه لأمر يدعو إلى الأسى العميق أن يجد المثقف العربي نفسه في أواخر القرن العشرين مضطراً إلى أن يخوض معركة كاد المفكرون العرب في أواخر القرن التاسع عشر أن يحسموها نهائياً لصالح العقل والتقدم. فهل هناك دليل على انتصار خصوم العقل وأعداء التبادل الفكري الخصب، أبلغ من نجاحهم في العودة بمستوى الجدل الثقافي قرناً من الزمان بالنسبة إلى العرب أنفسهم، وخمسة قرون على الأقل بالنسبة للمجتمعات المتقدمة». والحال إن الإضافة الوحيدة التي بإمكاننا إضافتها إلى ما قاله فؤاد زكريا، هي أن ما نحن بصدد مواجهته اليوم على صعيد الخطاب العربي المعاصر ليس حالة ارتداد إلى عصر النهضة، بل بشكل أدق ارتداد عن عصر النهضة. فليس أخطر مظاهر الردة النكوصية التي نحن بصددها هي تأثيم عصر النهضة وإدانة رجالاته فهذا المظهر التأثيمي يبقى أكثر اتصالاً بالتاريخ منه بالحاضر، وما كان له أن يكون أكثر من حكم قيمة سلبي على عصر ولى ومضى لولا أنه يقترن بالارتداد عن مقولات النهضة من حيث هي مقولات لا تزال لها فاعليتها في الواقع العربي الراهن وفي الأيديولوجيا العربية المعاصرة. ولا نقصد تجديد الانتماء لعصر النهضة من خلال إعادة طرح نفس أسئلته ولا على الأخص تبني نفس أجوبته، فإشكالية النهضة بالذات بحاجة إلى إعادة صياغة على ضوء الواقع المحلي أولاً، فالمجتمع العربي يواجه اليوم تناقضات متفاقمة وذات طبيعة انفجارية، وعلى ضوء الواقع الإقليمي ثانياً فمن قبل كان العدو غازياً من الشمال أو من الغرب ولم يكن بمقدوره - باستثناء الحالة الجزائرية - أن يتعدى في انغراسه في التراب الوطني سياج الثكنات والمخافر الأمامية، وأما اليوم فإن العدو مقيم بين ظهراني الوطن وفي نقطة القلب منه. وثالثاً على ضوء الواقع العالمي، فالعالم لم يعد منقسماً اليوم كما في عصر النهضة إلى «غرب» أثبت أنه قد تقدم، و«شرق» اكتشف أنه تأخر. بل تكشفت هذه القسمة أنها من طبيعة دينامية، فالعالم المتقدم يزداد تقدماً والعالم المتأخر يزداد تأخراً بالمقياس النسبي، إن لم يكن في بعض الحالات بالمقياس المطلق. وما كان بالأمس القريب عالماً ثالثاً، فإنه يتمايز اليوم إلى عالم رابع وخامس. ولكن المتغير الكبير في إشكالية التقدم كما تطرح نفسها اليوم بالمقارنة مع النحو الذي كانت تطرح به نفسها في عصر النهضة إنما يكمن في موقف صائغة هذه الإشكالية، أي الأنتلجنسيا العربية. ففي عصر النهضة بدا وكأن الأنتلجنسيا تنفصل بنفسها عن سواد الأمة الغارقة في ظلمات الانحطاط لتضطلع بدور مهماز اليقظة وحامل لواء الدعوة إلى التقدم. أما اليوم فيبدو أن الأنتلجنسيا العربية لا تنفصل بنفسها عن سواد الأمة، المعذبة بتوقها إلى الحضارة، لتحمل على العكس لواء الدعوة إلى النكوص ولتمارس دور التيئيس الحضاري. والواقع أنه لا يكفي أن نقول إن دور الأنتلجنسيا العربية في إشكالية النهضة هو وحده الذي تغير، بانقلابها في شطر لا يستهان به منها، من طالبة تقدم إلى طالبة نكوص، بل لابد أن نلاحظ أنها أيضاً أضحت في وجودها وفي وظيفتها المعرفية بالذات، واحداً من تعابير التخلف. فبالأمس كان يمكن القول أن الأنتلجنسيا العربية، التي سبقت غيرها من الشرائح الاجتماعية إلى الاستفاقة على واقع التخلف، استطاعت أن تقدم للمجتمع المتخلف، من خلال مقتناها المعرفي، المقياس الذي كان يحتاجه ليقيس مدى تخلفه. أما اليوم، فإن الأنتلجنسيا العربية في شطر لا يستهان به منها، تحولت هي نفسها من أداة للقياس إلى موضوع له، وبعبارة أخرى يمكن القول بأن الأنتلجنسيا العربية عندما صاغت في عصر النهضة معادلة التخلف وضعت نفسها خارج المعادلة، باعتبارها عامل التقدم أو مهمازه، ولكن اليوم لم يعد من الممكن إعادة صياغة معادلة التخلف بدون أن تدرج الأنتلجنسيا العربية نفسها ضمن عواملها.

==خاتمة==
يقول طرابيشي: إن الجيل الذي أنتمي إليه، عاش وعشنا معه قطيعة كاملة مع التراث. لقد اتجه تفكيرنا واتجه بنياننا الذهني كله إلى الأيديولوجيات الغربية الحديثة التي تحولت كلها على أيدينا إلى كتب مقدسة سواء كانت ماركسية أو قومية أو اشتراكية أو وحدوية. عشنا قطيعة تامة مع تراث كنا ننظر إليه على أنه ليس أكثر من كتب صفراء. بعد ذلك أمام فشل مشروعنا التحديثي وخيبته، إزاء فشل "ثورتنا" التي لم تنجح إلا في إحراقنا وإحراق نفسها، ثم أمام السقوط المدوي للأيديولوجيات، حدث تبدل أساسي، خصوصاً إن ذلك كله تلا هزيمة العام 1967، ثم امتداد أفكار التطرف والعنف، باسم الإسلام.

إن هذا كله جعلني أنا شخصياً على الأقل أعيد النظر في موروثي الثقافي لأكتشف ما كان بيني وبين التراث من قطيعة. والحال إن هذه القطيعة بدت لعيني أكبر حين اضطرتني الحرب اللبنانية للرحيل إلى باريس هرباً وخصوصاً من الاقتتال الطائفي في لبنان الذي كنت أقيم فيه عند ذاك. إزاء هذا كله راحت تتفاعل لدي، وعلى غير توقع مني، علاقتي مع التراث، إذ اكتشفت فيه بديلاً عن الوطن الذي غادرت. ومن هنا جاء اهتمامي بمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي كان أول من طرح فكرة نقد العقل العربي، راغباً لنفسه أن يكون أبستمولوجياً (معرفياً) في نقده، متكئاً على المناهج الحديثة. لقد وجدت في مشروعه، أول الأمر، نقيضاً للمشروع الذي كنت عشت عليه. غير إن رحلة إعجابي بالجابري لم تدم طويلاً، إذ شعرت بسرعة أن هذا المفكر أصاب العنوان لكنه أخطأ الهدف. أي انه لم يقم بعملية النقد التي اعتقدناها. بل صادر عملية النقد في الوقت الذي كنا في أمس الحاجة إليها. وفي المقابل اكتشفت هنا في الغرب، أن هذا الغرب لم يبن نفسه إلا بقدر ما نقد نفسه. العقل الغربي صار متفوقاً وعالمي الحضارة حين مارس النقد الذاتي. أما نحن الذين لدينا موروث لا يقل أهمية أو حجماً عن الموروث الغربي، فإننا لن نستطيع أن نباشر مهمة التحديث والوصول إلى النهضة المرجوة ما لم نقم بالعملية النقدية نفسها التي أخضع الغرب نفسه لها. لن نستطيع أن نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي.

فإذا قارنا بين حالنا وحال اليابان سنجد الفارق أساسياً: هم لم يصطدموا، حين بدؤوا نهضتهم بوجود الاستعمار في أراضيهم. اصطدموا بالتقدم الغربي وأرادوا أن يتقدموا ففعلوا. أما نحن فإننا اصطدمنا مباشرة بالاستعمار، وكان ذلك قبل اكتشاف التقدم. وبالتالي كان على المثقف النهضوي أن يهدم ويبني في الوقت نفسه، كان عليه أن يحارب الاستعمار ويبني النهضة. فضاع بين الأمرين، فلا استطاع، هو أن ينتصر على الاستعمار لاحقاً، ولا استطاع أن يبني نهضة فكرية نقدية حقيقية. ونحن نعرف، من دون ذكر الأمثلة، إن عشرات من المفكرين العرب كتبوا تحت وطأة هذا المأزق في شقيه. ونعرف إن النقد لا يمكنه إلا أن يكون جذرياً. وأنا، بالنسبة إلي اكتشفت لاحقاً حاجتنا العربية الماسة إلى النقد. لكنني اكتشفت أيضاً إننا، في فكرنا العربي، كنا كلما ابتعدنا عن الاستعمار، تزداد لدينا عقدة الانطواء والدفاع عن النفس، مما ولّد لدينا عصاباً جماعياً، لعل سببه الأحدث بالأساس، هو رضة حزيران. وأقول رضة لأن الرضة أقسى من الصدمة. صدمة الحملة الفرنسية أوائل القرن التاسع عشر أيقظتنا من السبات وكشفت لنا الحاجة إلى التقدم والنهضة.

أما رضة حزيران 1967 فكانت مخدرة، ذهبت بعقولنا، مما دفعنا إلى البحث عن حل وسط جملة استيهامات لا وجود لها في الواقع. بل أقول إن هذه الرضة لم توصل المثقف العربي (لئلا أقول الإنسان العربي) فقط إلى عصاب جماعي، بل إلى ذهان جماعي. من هنا نلاحظ كيف إن كثراً من أبناء جيل القوميين – بل الماركسيين حتى – انتهوا متطرفين غيبيين، رضة حزيران كانت أقوى منهم.

وهنا أود أن أوضح فارقاً أساسياً بين جيلنا على علاته، وجيل اليوم المتطرف. في سنوات الخمسين من القرن الماضي، كنا جميعاً نقاتل الاستعمار وكانت ثورة الجزائر قدوة لنا في ذلك.

كنا نقاتل ضد الاستعمار الغربي، لكننا كنا منفتحين كلياً على التقدم الغربي، وعلى الثقافة الغربية. اليوم انقلبت الآية، غُضَّ النظر تماماً عن الاستعمار والاستغلال الغربيين، لتنصّب الكراهية كلها على الثقافة الغربية. وفي رأيي إن هذا أخطر مقلب تعيشه أمتنا ومنطقتنا. إن المثقف العربي مسؤول، ولو جزئياً، عن هذا الواقع الذي يحمل قدراً كبيراً من التناقض والازدواجية القاتلة، انطلاقاً من بعدين: بعد اللاوعي، حيث إن هزيمة حزيران دمرت قدرته على رؤية الواقع وقراءته في شكل صحيح، فكان أن التجأ إلى أواليات دفاع لا شعورية، وبعد ذلك البعد الواعي الذي ساهمت فيه إغراءات سلطة المال والامتيازات التي أغرقت الساحة واشترت النشر والأعلام والنشاط الجامعي، في شكل لا سابق له في تاريخ العرب أو الغرب. لقد أنفق في العالم العربي عشرات بلايين الدولارات لخلق ثقافة مضادة للحداثة. وبالتالي فقد المثقف سيطرته على الواقع. في المقابل بحث عن خطاب يسيطر عبره، فوجد خطاب التراث، فأمسك به كما هو وأعاد إنتاجه، ولكن في شكل سيئ، يبدو أكثر ضآلة من الشكل الذي به اشتغل عليه تراثيون سابقون، بحيث لم نجد لدينا، مثلاً، من هو في مستوى السيوطي أو الشافعي عمقاً وفاعلية. رحنا نأكل على مائدة التراث، لكننا لم نأكل سوى الفتات. ولعلني أستطيع أن أتحدث هنا، للتوضيح، عن عقدة قتل الأب. فنحن، إذ قاطعنا التراث طويلاً أيام ازدهار «الثورة» أتت هزيمة حزيران لتولد لدينا مشاعر التأنيب فاكتشفنا أننا كمن قتل أباه. وبدا لنا إن مشروعنا السابق لإيجاد بديل له قد سقط بدوره. وأتحدث هنا، طبعاً، عن جمال عبد الناصر، الذي أردته إسرائيل أولاً، ثم أرداه حلفاؤه. عبد الناصر كان يمكن أن يشكل بديلاً حقيقياً، لكننا ساهمنا في قتله، لنعود إلى أب مثالي كان هذه المرة: التراث.

أنا لا أقول هنا إن التراث ليس أباً. بل هو بالفعل أب بين الآباء، لكن المشكلة فينا لأننا اكتفينا بطلب حمايته لنا، فلم نؤد له خدمة، بل ساهمنا في موته هو الآخر. كان – ولا يزال – المهم أن نحييه فعلاً، بوسائل حديثة، لا أن نهرب إليه من الحداثة في قطيعة معها. إننا محتاجون إلى التراث، ولكن أن نتقدم منه من خلال سلاح النقد وحفريات المعرفة ومناهج الحداثة. يجب أن نعيد إحياءه لا أن نبتعثه كما كان قبل ألف سنة، إذا أردنا حقاً إحياءه يجب أن نمكنه من أن يتعايش مع العصر، لا أن نكرره معيدين إنتاجه وكأن الزمن واقف من دون حراك.

ينوس المثقفون العرب بين نزعتين: الذعر حتى الموت إزاء ذلك المخلوق، والإعجاب حتى التماهي معه. وما هذا إلا لأن المثقف العربي لا يزال – في شكل عام – فاقد الفعالية التاريخية، باحثاً عن آباء وهميين يحتمي بهم.

ولكن المسالة مسألة وعي، أما كيف سيعم هذا الوعي في المجتمع، فسيرورة طويلة قد تحتاج إلى أكثر من مئة سنة. أنا لست متفائلاً قبل انقضاء قرن بكامله.

قبل عقود كنا نعتقد إن المسافة التي تفصلنا عن الحداثة، مجرد مسافة اقتصادية – تكنولوجية. اليوم، بتنا واثقين أنها مسافة ثقافية – عقلية وهذه أخطر بكثير وأعمق بكثير من تلك التي كنا نتوهمها، ونتوهم أننا نستطيع ردمها بقفزة واحدة.

لن يبقى المجتمع على حاله خلال قرن، فالصورة التي أتصورها تتضمن صدامات ومذابح كالتي تحدث الآن في العراق، وكان سبق لها أن حدثت في لبنان والجزائر. كنا في الماضي نتحدث عن «القبرصة»، اليوم، الوضع أخطر ومرشح لمزيد من الخطر. اليوم نتحدث عن اللبننة ثم عن العرقنة، التي هي أخطر من اللبننة. وأنا واثق من أن من سيدفع الضريبة ليس المثقف بل المجتمع ككل، سيدفعها من دمه ودم ضحاياه. مهما يكن فإن حال العراق ستنتج في نهاية الأمر شيئاً شديد السلبية. ففي العراق الآن حرب طائفية أكثر منها حرب تحرير أو حرب تطوير، إنها حرب طائفية مكشوفة، لو تفاقمت ستدفع كل المجتمعات العربية الثمن غالياً جداً.

كخلاصة لهذا كله نحن أمام مأزق جوهري: إن المتطرفين باسم الإسلام، غزوا المجتمع كله من دون أن يطالبوا بالسلطة، اشتغلوا على المجتمع وهنا كمنت عبقريتهم، في المقابل نحن الذين، سواء كنا قوميين أو ماركسيين وما إلى ذلك، كان أول ما سعينا إليه هو السلطة مستبعدين حتى مطالب مثل فصل الدين عن الدولة، حتى لا نصطدم بالمجتمع!! وكانت النتيجة أن قالت السلطات: إما أنا وإما هم. أنا شخصياً أرفض هذا الخيار. ربما لأن لدي امتيازاً في أنني أعيش في الخارج. ولكن إذا استمر هذا المأزق سيكون هناك دمار كبير كما حدث في العراق. عندها سيدفع المجتمع كلفة عالية.

==المراجع==
- التحليل النفسي لعصاب جماعي، جورج طرابيشي.
-شرق وغرب، أنوثة ورجولة: جورج طرابيشي.
- الإستراتيجية الطبقية للثورة: جورج طرابيشي.
- هرطقات: جورج طرابيشي.
- المدخل إلى علم الجمال (هيغل): ترجمة جورج طرابيشي.
- الحلم وتأويله (فرويد): ترجمة جورج طرابيشي.
- المقدمة وحياة المفكر وأعماله والخاتمة ومقالاته من المواقع الإلكترونية.

); php>

أسعد طرابية
مروان رضوان

اكتشف سورية

Share/Bookmark

مواضيع ذات صلة:

parser->related_records( (#(related:جورج طرابيشي||dsyria_articles_text||first_title||keywords||5||id||news/_self||id||5817)#) ); php>

اسمك

الدولة

التعليق

وفاء:

سمعت الكثير عن إسم جورج طرابيشي لكني لم أقرأ له أية دراسة إلى أن وجدت هذه المقتطفات من هذه الدراسات القيمة أعجبتني كثيرا شكرا لكم

تونس

تونس

علاء نعمة:

على الرغم من قراءاتي لأغلب كتب هذا المفكر العملاق إلا أنني أشكر هذا الجهد في التذكير وفي عرض هذه المقتطفات. في زمن نحن في حاجة إلى مفكر وفيلسوف من هذا الطراز
شكرا لكم

الإمارات