النحات غازي عانا: العمل الفني يجـب أن يمتلك قدرة الدفاع عن نفسه

20 آب 2016

.

جدليات يثريها المكان، وأحاديث لا تبتعد عن المناخ الذي يفضله التشكيلي، هذا ما يوحي به مُحترف النحّات غازي عانا أو ما يمكن تسميته «ورشة خاصة» يحلم بها كل خريج أو محب للفن أكثر من فكرة المعرض الفردي على تميزها، فلا يمكن له أن يبدع أو يقدم ما لديه بعيداً عن فضاء المكان الخاص لذلك يفتح النحات مشغله للجميع من طلاب وخريجين، وهي فرصة أيضاً ليسمع آراءهم لكونهم يأتون بخيال واسع وأسئلة كثيرة.

يؤمن «عانا» في حديثه معنا بأن الجزء الأكبر من العمل الفني حلم، وما يتبقى شيءٌ من واقعٍ، ربما لا يمكن استحضاره، هنا يصبح الفن بكليته حلماً، وهنا تحديداً تكمن جماليته. ولهذا السبب لم يكن مُحترفه مجرد مكان للعمل؛ بل فضاء رحباً للحوار، زارته مختلف الشخصيات الثقافية في دمشق منها غسان السباعي، خزيمة علواني، عبد الله السيد، مجيد جمول، عز الدين شموط، لتتناقش وتختلف وتعمل، ولم يكتفِ المكان بالنحت بل امتد اليوم إلى الموسيقا بعد أن أصبحت من أولويات أولاده.

ما سبق إشارة إلى اختلاف التشكيل عن غيره من الفنون البصرية، وبطبيعة الحال اختلاف تأثره بما نعيشه، فهو على عكس الدراما مثلاً التي تأثرت بشكل مباشر وصل أحياناً إلى درجة الفجاجة، في حين يجب أن يبتعد التشكيل عن هذه الصفة. وإن كانت الأحداث الحالية قابلة للظهور في العمل التشكيلي لكن بشكل لا واع وغير مباشر، وربما بعد سنوات من انتهاء الحدث.

يقول عانا: «خلال سنوات الحرب، بات لدينا إنسان جديد، ربما فنون جديدة، ولاسيما أن الفن ليس اختراعاً ولا سراً، هو إضافة ما، حتى إن «بيكاسو» نفسه أخذ من الفنون السومرية والإفريقية وغيرها من الفنون القديمة، يجب أن نسأل أنفسنا كفنانين «إلى أي درجة يمكن لكل منا أن يقدم إضافته»، حيث يعرف المتلقي أعماله فور رؤيتها، وهذا ما أفتخر به، مع أن كثيراً من المهتمين ربما لا تعجبهم أعمالي، لكنه أمر لا يعنيني، ما يهمني أن تعجبني وأتفاعل معها، لكنها حين تكون صادقة، لا بد من أن تعجب أحداً ممن هم على اطلاع بالنحت». والنحات لا يقصد أولئك الذين تعاملوا مع المنحوتات الموجودة في الطرقات والحدائق العامة بشكل غير مفهوم، فهو كما يقول ليس مضطراً للنزول إلى ثقافة أيٍّ كان ليصنع منحوتته.

لكن ألا تساهم هذه الفكرة باتساع الفجوة بين التشكيل والمتلقي؟، يجيب عانا: ذلك يرتبط بداية بثقافة مجتمع لا توجد فيه حصة رسم فعلية حتى اليوم، إضافة إلى ظروف أخرى تحكمنا، رغم أن سورية غنية فنياً واجتماعياً وحضارياً، لكن ليست مسؤوليتي أن أشرح عملي للمتفرج، فأنا لا أرافق أعمالي دائماً، بعضها يباع أو تقتنيه جهات أو أشخاص، لذا يجب أن يمتلك العمل القدرة للدفاع عن نفسه. وهناك دور منوط بجهات أخرى منها كلية الفنون الجميلة ووزارة الإعلام، فكثير من الصحفيين يذهبون لتغطية معارض تشكيلية لكنهم يكتفون بنسخ ما يقوله الفنان.

ومع ذلك، يشير عانا إلى محاولاته التواصل مع المتلقي من خلال عمله كناقد في الصحافة المحلية والعربية مدة ثلاثين عاماً، قدم فيها أكثر من خمسين فيلماً حول الفن التشكيلي، و250 حلقة تلفزيونية عبر برنامج «رواق الفنون» بمرافقة نص غني وبسيط، بعيداً عما يكتبه عدد من النقاد بطريقة فلسفية يصعب تفسيرها، إلى أن توقف البرنامج عام 2014، وكما يصفه «كان عملاً مرهقاً من دون مردود مادي، مارسته بالمتعة ذاتها التي أمارس بها العمل الفني».

ويبدو أن عمله التلفزيوني كان حافلاً بالتحديات، بدءاً من حجز الكاميرا إلى الفريق المرافق، وما زاد الأمر صعوبة هو طبيعة البرنامج الثقافية، إذ إن تصوير المنحوتة يحتاج مصوراً محترفاً، إضافة إلى الساعات الطويلة التي كان عانا يمضيها مع الفنان في مرسمه، مقابل 2500 ليرة للحلقة. وفيما بعد طُلب منه العمل لإعداد حوالي 20 فيلماً تلفزيونياً عن التشكيل، لكنه لم يباشر بالتنفيذ بعد.

تتعدد وجهات نظر المتابعين حول اشتغال «عانا» على التجريد، في تبنيه لمفاهيم عصرية لفن النحت أو العودة إلى الطبيعة، لكنه يرفض اختيار أحدها كأسلوب لعمله، ومع أن البعض وجد تشابهاً بين أعماله وما قدمه النحات الكبير «مجيد جمول»، أو ما قاله النحات مصطفى علي بأن فهمه للكتلة واشتغاله على الثنائيات وعلاقتها ببعضها يشبه أسلوب النحات المعروف «هنري مور»، كل هذا فخر بالنسبة له، لكن في النهاية أعماله تعنيه أكثر.

ومن اللافت أن ما اشتغله النحات خلال سنوات الحرب، يعادل ما قدمه خلال خمسة وعشرين عاماً، ولهذا أسباب عدة، من بينها الأزمة لا شك، لكنه لا يستطيع أن يحدد مكامن ذلك بدقة في العمل، على عكس المتلقي الذي ربما يلحظ فرقاً عما سبق من أعمال مملوءة بالحيوية والحرية.

يقول عانا: «رغم إنني أقدم التجريد عادة لكن يمكن ملاحظة اختلاف في إيقاع أعمالي ونهوض الكتلة واستقرارها، وفي الفترة الأخيرة، قدمت أعمالاً واقعية أكثر من قبل، كالوجوه مثلاً، مع أنها ليست ما أميل إليه عادة، وهنا مشكلة حقيقية بين ما يعجبك وما يعجب الناس، هناك من يعمل ليرضي أذواق الآخرين وهؤلاء كثرة في المشهد التشكيلي، حتى إن هذا ينطبق على عدد من النحاتين الشباب إلى درجة يصعب فيها التفريق بين أعمالهم بحجة التعبيرية».

تتنوع المواد المستخدمة في النحت، لتفرض كل منها شروطها وتعابيرها على الفنان، ويبحث النحات عن مواد تخدمه وتتوافق مع التشكيل في ذهنه، في حال كان لديه تصور مسبق، لكن «عانا» يبدأ عادة في العمل مباشرة، إلى أن تستقر الكتلة بشكل جميل، ثم يبدأ عمليات أخرى. لكن ما يهمه هو نتيجة العمل، وما يحمله من قيم فنية جمالية تعبيرية، وقدرته على إثارة أسئلة وأخيلة، وهنا صعوبة النحت أو كما يصفه «التعب الممتع».

الحديث عن معرض فردي للنحات، أصبح حلماً بما تعنيه الكلمة، إذ ربما لا يدرك البعض، والكلام لـ عانا «أن منحوتة صغيرة من البرونز تكلف حوالي 60 ألف ليرة سورية، تالياً لا يمكن له أن يقيم معرضاً يحوي على الأقل 20 عملاً لأن التكلفة ستكون مرتفعة جداً، وهنا تكتسب علاقته مع أعماله، ما يعيشه معظم الفنانين فهو لا يتمنى بيع أي منها، لكن هناك ضرورة تفرضها الرغبة والاستمرار والعمل. وتختلف العلاقة مع العمل في رأيه بانتقاله إلى صالة العرض، هناك ينال ما يستحقه في الفرجة، ولأن المناخ يختلف، ربما تختلف النظرة إليه».

ويضيف: «رسمياً لم تستطع وزارة الثقافة أن توجد توافقاً بين ما كانت عليه الأسعار قبل عشر سنوات وما أصبحت عليه اليوم، وهي إشكالية قائمة، فما تقدمه كسعر لا يصل حتى إلى تكلفة العمل، إذاً لا بد من وجود جهة راعية.

وكما درجت العادة تنتقي الوزارة بعد المعرض السنوي عدداً كبيراً من اللوحات والمنحوتات في مستودعاتها، ثم لا تلبث أن تتلفها وتحتفظ بعشرة أعمال فقط، لذلك تقدم «عانا» باقتراح للمعنيين، بأن يتاح العرض للجميع، لكن يتم انتقاء أفضل عشرة أعمال، حيث تكون لها قيمة مضافة وتمكن المشاركة بها في معارض خارجية مع إعطاء الفنان حقه، وتقديم مبلغ آخر لبقية الفنانين المشاركين، حيث لا تقتصر الفكرة على مجرد العرض ثم النسيان أو التناسي.
طارق الحسنية


لبنى شاكر

tishreenonline

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق