فضاء فاتح المدرس

لوحة دنياها قشرة الأصباغ.. وآخرتها بدائع النبوغ

فضاء فاتح المدرس

هذا بحر، زرقته تشي به، تلك بادية الوطن، جفافها يدبغ عروقنا بالعطش والسهوب والشمس التي تنقش على وجوه الفلاحين تجاعيد التاريخ، هذه سماء، مخزوقة بأزلية وجودها تاجاً، على رأس الشساعة الإنسانية اللامحدود الإبداع والمترامية التجليات، وفي السماء يرحل البدو إلى الماء والنار، وفي زرقتها يحاصر الهواء طهر الإنسان وبحثه عن بذور العدالة والحقيقة كائنات أسطورية تنزع ذاكرتها كما ننزع إلى ترك الصدى يعبر ذاته في واد سحيق.. هذه مساحة التوتر، أو لوحة فاتح المدرس، مادة تتجلى في نارية بحثها ووحشة مناخها وأسهل مما يمكن أن تحقق من رؤيتك للممتنع على الرؤية، تراكيبها محكومة بأعصاب المدرس ورائحة النعناع النفاذ إلى فضائه الموسيقي الصارم.. مادة خطوطها رقصة الشاعر في حضرة الحضارة والثقافات المتعددة وإعجاز الانتماء إلى سحر الأصباغ وهوية الإنشاء والمعمار والتنظيم ونبالة الاختيار والخيار. لوحة دنياها قشرة الأصباغ، وآخرتها بدائع النبوغ وفيض الروح على الأنفاس وهي تنسج ملاحم التودد للحياة وما وراء الفن ليحضر ما هو غائب على هيئة الضوء أو الصوت أو الزمان، ولتبرق منازل الجنون في رهانها على الشوق وهي ترحل من شمال سورية إلى جنوبها، ومن الافتتان برهان الروح على الجمال إلى ساحات المدن القلقة على غدها.

ويوماً بعد يوم كانت المغامرة ترفع راياتها على هيئة صبي وسيم لا يدري كيف يهيئ نفسه ليهندس مشاعر الناس، ويبتعد بها عن الظلم والجور والآلام فيكتب عنوان طفولته أنس روحه إلى مقام أمه الوادعة الشفافة المعادلة لما لا يمكن أن يمحى من ذاكرة الفنان أو يعتم على بستان الورد والياسمين والتراب الأحمر الذي يطوق خطوات الإقطاعي القاتل لصورة الليالي وهي تتموج منصهرة في حكاية كانت ككل الحكايا تتلذذ بنقش السكين على أروقة العشق أو ما تمثله الفرشاة وهي تئن بين أصابع الفنان والفرشاة والمتمايلة على أنغام ناي تفتنه شفاه الرعاة وقاعات العرض، وتملأ صدره شهوة الرسم ومفاتن التمتع بعينين كحيلتين عميقتين تنقضان على الجميل لتعميق الصلة بالكائنات من خلال توثيق الصلة بالذات وتشريح شروحها ليحكي الفن تاريخه ولتبلغ العين متعتها وهي تنسج علاقتها بالعالم، نظر صقيل إلى المتحرك من القيم يضمه كحبيب ليحيله رزانة أو مداً أو ملحمة تتغنى بظهر الإنسان ووداعته وميله لتمجيد أبناء جلدته بتعميق شعورهم الوطني بإنتاج لوحة وطنية تتحسس المكان والهوية والحياة والمآثر.

«ليست الأرض التي أنتمى إليها فضاء واحد البعد إنها فضاء بأبعاد كثيرة ومتنوعة جمع بصيغة المفرد.

أفروديت، فينوس: إسم آخر لعشتار، أثينا، روما ضوءان ظلان يتآلفان مختلفين، ويختلفان مؤتلفين، مع الأضواء والظلال في بابل وأوغاريت وبيروت، جلجامش أنموذج أول لأوليس، والأندلس هي التجسيد الأكثر تكاملاً للتآلف بين الذات والآخر، تأسيساً على رؤيا دمشق، وعلى كونية مدارها».

الحداثة الذاتية
ولد الفنان فاتح المدرس في عالم 1922 في حلب في فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946) حيث «تجددت حركة الرواد التشكيليين في هذا الزمن وبرزت بعض المتغيرات على الساحة الفنية، تبعاً للظروف الجديدة التي طرأت على الحياة في ظل الاحتلال.

ورغم أن التعبير الفني ظل تقليدياً، ولكن هناك بعض المفاهيم الفنية الجديدة التي سادت، جعلت الفن مختلفاً عن الفترة العثمانية السابقة، وكان على الفنان التشكيلي أن يراعيها حين يرسم، سواء كان واقعياً أو تسجيلياً أم لم يكن، وهكذا لا نرى فناناً من الرواد لم يتأثر بهذه الفترة أو يتفاعل معها وكذلك كان تأثيرها واضحاً وعميقاً على التجارب اللاحقة التي تلت فترة ما بعد الجلاء والتي تمثل قمة النضج لتجربة الرواد، وحتى التجارب الحديثة تأثرت بشكل أو بآخر بهذه الفترة بحيث نستطيع القول بأنها تمثل مرحلة التكوين الأولى الأساسية في الحركة التشكيلية، إذ بلورت فيها كل المفاهيم الأساسية لهذه الحركة وتوضحت كل معالمها وبرزت أهم المؤشرات التي استفاد الرواد منها بما لجأوا إليه من أشكال فنية، وما تخلوا عنه.

لقد تعرف الرواد إلى بعض التجارب الفنية الجديدة المهمة التي حملها الفنانون الذين سافروا للدراسة والاطلاع الفني، أو حملها الفنانون الفرنسيون الذين قدموا للرسم أو الذين استقدمهم الفرنسيون للعمل في مجال التعليم. وأحدث هذا تغييراً في الموضوعات والأشكال الفنية.

وتبلورت اتجاهات جديدة وافدة ولعل أهمها ظهور الانطباعية تحت تأثير الاحتكاك المباشر مع الفن الفرنسي، والتفاعل مع الطبيعة من جهة أخرى والذي جعل الفنان يحمل ألوانه ليرسم في الهواء الطلق ويبتعد عن الرسم في المحترف، ويقدم المنظر الطبيعي باللون وحده، معبراً عن جمال الطبيعة. وفي الفترة نفسها تراجعت الواقعية التسجيلية الأولى لتصبح قريبة من الواقع، حيث اتجه الفنانون إلى الموضوعات التاريخية للرد على الاحتلال الفرنسي والتمسك بالتاريخ العربي وإحياء بطولات العرب في المعارك التاريخية الكبيرة إذا رسم الفنانون معركة حطين والقادسية واليرموك وغيرها».

هذا ما كان عليه الحال التشكيلي في سورية في الفترة التي كان فاتح المدرس يتأمل ما حوله ويتفكر بالطريقة التي سينسق من خلالها بصيرته خاصة وأن سمة فترة ما بعد الجلاء ستتكثف حول التفرد الشخصي للفنانين سواء عبر الموضوع المحلي أم من خلال التعبير عن الذات كموضوع يحيكه النضج الفكري.. ولقد كانت فترة ما بعد الجلاء حافلة بالنشاط التشكيلي المتمثل بإقامة المعارض والتجمعات الفنية وتأسيس الروابط الفنية حيث تأسست في العام 1950 الجمعية السورية للفنون وجمعية محبي الفنون الجميلة في العام 1952 ورابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت في العام 1956. ويذكر الناقد طارق الشريف أن المنافسة كانت قائمة بين الروابط والجمعيات وخاصة بين جيل تقليدي تجمع في رابطة الفنانين السوريين وبين جيل أكثر شباباً تجمع في الجمعية السورية للفنون الجميلة.

لقد كان الفنان فاتح المدرس يدرس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في روما في الفترة (1954-1960) وقد استطاع الانفتاح على الإرث التقليدي لعالم التصوير وتاريخه مما حدا به للبحث المعمق عن أشكال أكثر حداثة تلائم نزوعه للتعبير الذاتي خصوصاً أنه كان يحمل حساً متمرداً على الأوضاع الاجتماعية والسياسية منذ نعومة أظفاره نتيجة العديد من المواقف التي أحاطته في أسرته، ولقد استطاعت الأفكار التحررية التي سادت حينذاك أن تمهد السبيل لمواهبه في تحقيق ما تعتبره كشفاً فنياً في التعبير بخاصة فيما اعتمده واهتم به ألا وهو المخزون الكبير لإرث المنطقة الحضاري والتاريخي والآثاري الذي أعانه فيما بعد لربط هذه الأشكال الإنسانية المعاصرة بتاريخها الشكلي والمعنوي وتحقيق الصلة فيما بين الوعي الذاتي والوعي المجتمعي لإبراز كل ما له علاقة بالتراث القومي، ولقد كان الفنان فاتح المدرس رائداً لواحد من أهم الاتجاهات الحداثوية في التشكيل السوري ألا وهو «الحداثة الذاتية» التي يشير إليها طارق الشريف إلى جانب حداثات أخرى يمكن حصرها ضمن مفاهيم «الحداثة والتراث العربي والحداثة الاجتماعية والحداثة والتجريد، والحداثة والاتجاهات الشخصية».

وقد اعتبر الفنان المدرس «من أهم الذين قدموا هذه اللغة التعبيرية بشكل شخصي، وأصبحت لوحته عبارة عن وجوه لأطفال، يحورهم ليعكسوا مأساة حياتهم ويرسمهم على أرضية ممتدة إلى الأفق ممثلة الأرض التي أصبحت رمزاً لكل ما هو مخزون فيها من تراث قديم يمتد عبر آلاف السنين، ولقد اختلطت العناصر القديمة بالأشكال الحديثة، ما هو عريق في التراث بما هو ذاتي شخصي، وهو يقدم موضوعاته في شكل ملحمة إنسانية حيث يصارع الإنسان القوي والمشكلات التي تواجهه.

لغة بصرية متكاملة
إن عودة المدرس لمتابعة الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس في الفترة (1969-1972) عمقت ميوله الذاتية وتجاوز ما كان حوله من اهتمام بالمحتوى التصويري، متجهاً بقوة لتحقيق لغة بصرية متكاملة تتيح التواصل مع الموروث الحضاري لإنسان المنطقة بكل ما يعنيه من ثبات واستغلال ولكي نكون أكثر انصافاً فإن هذا التوجه للفنان فاتح المدرس لم يكن معزولاً عما حوله من تجارب عربية في مناطق أخرى من الوطن العربي، فتوجهه إلى التجديد تزامن مع تجاوب في المغرب الأقصى، لأسماء مثل أحمد الشرقاوي وفريد ملكاهية ومحمد المليحي وفي العراق مع شاكر حسن آل سعيد وجماعة البعد الواحد التي أعلنت عن نفسها في أوائل السبعينيات، ويمكن أن نذكر أسماء مهمة في مصر ولبنان وتونس وغيرها.. إلا أن الإشارة إلى وعي أمثال هؤلاء الفنانين من خلال احتكاكهم بالغرب والفن الغربي والتحقق من قضايا كثيرة أهمها تنبه الأجيال العربية في تلك الفترة إلى مخزونها التراثي التجريدي من خلال الإلمام باستفادات كبار الفنانين الغربيين المعاصرين من التراث الشرقي (مائيس، هارتونغ، يول كلي) الأمر الذي أدى إلى يقظة الكثير من الفنانين العرب منذ الستينيات وتوجههم لبناء المفردة التشكيلية المعاصرة الوثيقة الصلة بذاكرتها الحضارية.

إن التناقضات الفكرية والفلسفية التي رافقت تلك الفترة عربياً ودولياً قد زادت من حدة اهتمام الفنان فاتح المدرس وزملائه لإنتاج أعمال تؤكد التوجه إلى الالتزام الفني وبما لا يتناقض مع التوجه الحداثوي والنزوع لتثبيت رؤاه الذاتية، ولعل تبادل الرسائل فيما بين المفكر أنطون المقدسي والفنان فاتح المدرس في تلك الفترة يكشف حدة هذه التناقضات. وقد أشار الناقد طارق الشريف في مقدمة كتابه «فاتح المدرس. فن حديث.. بروح تعبيرية» الذي صدر في العام 1991 ضمن سلسلة أعلام الفن التشكيلي عن وزارة الثقافة السورية، أشار إلى أن رسالة الأستاذ أنطون المقدسي إلى الفنان فاتح المدرس «تنطلق من موقعه كمفكر وأستاذ فلسفة، وتعبر عن هذا الموقع، ذلك لأنه كان يبحث عن التناقضات فيما يراه من الأعمال الفنية، وذلك ليبرر هذه التناقضات ويكون القناعة الضرورية له، وذلك حتى يقنع الآخرين ويساعدهم على فهم تجربة (فاتح المدرس) وكان يريد من الفنان أن يرافق المشاهد في رحلته في التجربة الفنية ولهذا وضع كل التساؤلات والتحليلات للظواهر، والحلول للتناقضات أمام (فاتح المدرس) ليؤكد عليها أو ينفي أو يبرر في الخاتمة».. وهكذا يخلص الفنان لتحديد الكثير من الأمور عبر الإجابة المباشرة عن تساؤلات الفلسفة مؤكداً على أن تجربته: «تجمع النقائض وتؤلف بين عدة عناصر أخذها من عدة مصادر واستخدمها بخصوصية، وعن طريق (حدس فني خاص) يعتمد على مخزون من عالم داخلي غني وعلى تراكم لعناصر مختلفة في هذا العالم، والإضافات الرمزية التي أعطت دلالتها الجديدة في لحظة الخلق الفني، وبرر هنا عملية التركيب والجمع لهذه العناصر في كل موحد، ولهذا تطل اللوحة على أكثر من عالم.. داخلي وخارجي، وتتشابك العناصر والدلالات وتقدم الحداثة التي يقدمها (فاتح المدرس) لها خصوصيتها التي تجمع شرط الحداثة بما هو معاصر من مشكلات وقضايا خصوصية ترتبط بنا كعرب. وأخيراً هناك الجانب الذاتي الخاص، والذي يقدمه (فاتح المدرس) بخصوصية، والذي تحس بأنه يعتمد على عملية (الخلق الفني) للوحة، والإضافة التي تقدمها هذه العملية حتى يتجاوز الفنان نفسه، يدمج، ويجمع، ويقدم ما هو شخصي خاص، وما هو غير متوقع. ولهذا تحتاج كل لوحة إلى معالجة قد تطول وقد تقصر، لكنها مرتبطة بالرصيد الداخلي والحالة الانفعالية التي يعيشها والتي تكون المنبه، والتي يسعى من أجل أن تكون وسيلة للتعبير عن نفسه، هذا التعبير الذي أصبح له حضوره الخاص، وله امتداداته العميقة الجذور في الطفولة، وفي الطفولة الجماعية لبلده، وفي التراث المحلي وبما يملكه التراث الفني التشكيلي العالمي من مفاهيم صياغات».

الصدمة الحقيقية لدرامية الألوان
وكما تشير هذه الباقة من العناوين عن رؤية واحدة، وهم وطني وقومي وإنساني واحد يتمثل في نغمة الإيقاع الثابت في الدلالة إلى موضوع يؤكد نفسه باستمرار ويشكل هاجساً دائما لدى الفنان يوتر المشاهد ويجعله مباشرة أمام الصدمة الحقيقية لدرامية الألوان التي يستلهم أطيافها من واقع ينبثق في ذاكرة الفنان وتؤججها شفافية العلاقة الإنسانية الصادقة فيما بين فاتح المدرس والعالم من حوله في جدلية أزلية تعمر مملكة الإنسان بالمعاني البهيجة التي تغري المشاهدين بانتمائها التراب ودلالته التي تشحذ الذاكرة والروح وتحشد كل القوى التعبيرية لاستنباط التاريخ من أزليته وتدفقه فينا والتحول ما تستنطقه لغة الرسم الكونية من صراعات عاصفة توازي مآسي الحياة.

لقد استمر المدرس ولفترة طويلة بتحقيق إنسانه الأسطوري الذي يقف جامداً على الأغلب في مواجهة المتلقي، يستعرض ألوانه وتقاسيمه وملامحه كما يستعرض فيما بعد حرب 1967 ولهذا فإنه يقول: «تسربت الوحوش الأسطورية إلى لوحاتي بعد أحداث حرب 1967 وازدادت حشودها وتدافعها مع الحرب الأهلية اللبنانية».

عروقه، أعصابه وشرايينه
إن معرفة الفنان فاتح المدرس عن قرب تزيد من لمعانه التأثيري وعصف تدفق الأفكار التي يتكلم بها، إذ تعلو رياح هياجه وانفعاله بكل ما يتصل بالوطن والإنسان والعدالة والطهر والإبداع، وتتدفق الحكم والخبرات الفلسفية التي تدعو لأن نكون مركزاً للثقافات المتسامحة والمتعانقة وأرضاً لفنون تتدفق من أجل إحقاق الحق وخلق القيم الجمالية التي لا تعترف بحدود وتأبى الانغلاق على نفسها.

لقد كان المدرس شديد الصلة بلوحته، وكانت لوحته أوثق صلة بذاته ومتغيراتها ولهذا فقد وصفها بعض النقاد بأنها (مستودع أسراره) ويضيف طارق الشريف بأن هذه اللوحات جزء لا يتجزأ منه وقطعة من مشاعره وانفعالاته ومعاناته اليومية وهي لهذا مستودع أسراره ووسيلة أساسية يعبر بها عن نفسه وعلى نحو مباشر وصادق لذا لا نرى حدثاً مهماً يمر بحياته إلا وينعكس على تجربته لوناً أو شكلاً أو شخصاً أو تكويناً فنياً أو موضوعاً متكاملاً له أبعاده المختلفة الذي يغلقه بالرموز والأحداث التاريخية وبالأشكال المأخوذة من التراث والأساطير القديمة والتي تمتزج بحياة طفولته في الريف ومآسي طفولته.

ونظراً للتطابق فيما بين ذات الفنان وأدوات تعبيره فإن الريادة والأهمية التي اكتسبها في حقل الحداثة التشكيلية السورية إنما تأتي من الوعي بالهوية والإنتماء للمكان والزمان اللذين يبقيان شاهدين يقطران إبداعاً خلاقاً لتعدد فروع هذه الهوية ولاجتماع التحولات التخييلية بين ذراعي المكان الذي نشأ به (المدرس) وانطلق من خلاله إلى أوروبا لمتابعة الدراسة من دون أن يقع فريسة الاستلاب الروحي والثقافي وقد أشار إلى ذلك أدونيس في مقدمة (الفن التشكيلي المعاصر في سورية)، «ولنتذكر ولو تكراراً، أن أوروبا، القارة، أخذت اسمها من أوروبا، الآلهة الفينيقية التي اختطفها زيوس كبير آلهة اليونان وأن أخاها قدموس الذي ذهب وراءها بحثاً عنها ولم يجدها كأنه ذابت في الأرض الأوروبية، أعطى أوروبا أعمق وأغنى ما عنده: «الأبجدية».

بل إن الأمر يتعدى هذا الفهم لرحابة الذات وشمولها وثبات ركائزها في أنحاء التاريخ حيث «كانت الطقوس الخاصة بالآلهة السورية تتردد في أرجاء الدلتا ومعابدها، تصادياً مع آلهة الدلتا التي تنتشر في سورية ومعابدها، وكانت مقابر طيبة تزين بنقوش كريت.. وقد استمرت هذه الزيادة عربياً وتمثل تتويجها الثقافي الفريد في احتضان الفلسفة الإغريقية وفي تأسيس الأندلس خصوصاً».

على هذا المقام كانت تشرئب عروق وأعصاب وشرايين (المدرس) وهو يلقي بنظرته البعيدة إلى مركز اللوحة واضعاً يده اليسرى تحت إبطه وفي يمناه ريشة معطرة بورد الشام ترنو إلى شمس اللوحة التي ستغدو أيقونة الزمان الحديث. وقبل أن تقرع أجراس بدء الرقصة التشكيلية أمام المساحة البيضاء كانت تتكثف اللغة في حوار مع الذات يتلو صدى الأيام واللحظات القاسية التي عاشها المدرس وعاشها الوطن على مدى الضوء الذي يعيد صياغة تمجيد الإنسان ومادة إبداعه في ضوء المركبات الحضارية لمجتمعات الجبل والسهل والشاطئ وهي تلون صفحات الشرق التي تبزغ مع الشمس التي تولد الرؤية المستقبلية للناس وتأويلهم الخلاقة المخصبة للفكر الإنساني. إن انتماء (المدرس) للبادية السورية، وتكراره لموازين انفتاحها على آفاق السماء كان انتماء للموقع التدمري في تلك البادية، وقد حقق بذلك خلفية للإنسان ـ الأيقونة الذي تجلى في النحت التدمري أو ما يمكن أن ندعوه بالمدرسة التدمرية التي تعتمد على التلخيص والتكثيف (الشكلي والتعبيري) مطبقة جوانحها على السر الهائل للإنسان وتستنبط عبرة فتنة مناجاة الكينونة، كينونة المبدع وكينونة العمل الفني الذي سيميط اللثام عن أعماق مجالات تفكير (المدرس) وموقفه من قضايا وحدود طرح الموضوع الذي سيبدو. أحياناً. متكرراً نظراً لانشغالنا بالتفاصيل اليومية للإبداع بينما تشكل النظرة الإستراتيجية للمبدع قراءة حقيقية للغاية من الفن، هل تشكل غاية ذاتية لدى (المدرس) أم أن العمل الفني سيشكل وسيلة لغاية أبعد من كينونتها اللحظية في مواجهة عيوننا التي تعاند غبار الزمن وأمراضه ونحن نستسلم للماضي بينما القرن يكاد يفقد أوراقه في ساحات تساؤلنا. هل سنعترف اليوم. وقد فقدنا (المدرس) بأهمية هذه الذات، وهل ستكون علاقتنا بمبدع الصور على مدى يتجاوز نصف القرن كعلاقتنا بالضوء في رهبة الظلام، وهل سنتساءل عن الدور التضادي مع الأشياء والأحداث والأفكار التي كانت عينا (المدرس) العميقتان تعيشانها كل لحظة وهو ينتقل بأصابعه على مغائر الموسيقى التي كان يخلو إليها في قطيعته الداخلية التي تتوق للرقص في حضرة قيامات صغيرة وعذابات الاحتجاب في ظلال الزيتون الجبلي وطيبة والدته الجبلية التي عاش في رحمها مذ قتل الفرنسيون والده إلى أن مات قبل أيام، مستذكراً عنف الاحتراق الأسرى الذي رماه في نار المؤسسة التي تهل عليه كل يوم لتهز عزلته وعشقه وشفافيته، ولتركض خلف الطفل المنفلت في وعيه الذي ما زال يختبئ في نوافذ الألوان وذكريات المرور أمام مدرسة البنات في حلب ذات مكحلة بكينونتها، تعيد ربط خيوط اللعبة في كل ضربة فرشاة تمد الدهشة على كتاب عيوننا، باحثة عن مخلوقات تختفط برائحة زيت الزيتون أو زيت الألوان الذي أحال جدران المرسم أكثر إنسانية وأكثر ارتباطاً بشروط الخلق الشخصي الذي كان يمارسه المدرس لتحطيم العلاقة بالسائد.. حيث تعني الحداثة عدم الحنين إلى ماض يكرس نفسه في قوالب ثابتة، وحيث يشكل الانقلاب تحقيق بشروط (الحنين إلى الوجود والانبهار بالوطن) والتأرجح فيما بين الغريزة والعقل أو اللذة والقانون والتحوط من هذه المتضادات التي ستكشف الطريق لثقافة جديدة ومجتمعات جديدة ولغة جديدة تفترض القطيعة مع ما قبلها باعتباره بالياً، الأمر الذي يؤدي إلى تنسيق ذهني مختلف يعيد قراءة الحضارة والطبيعة والإنسان، وبيني أشكال الأسطورة بمقاييس الانفجار الجمالي الذاتي الذي حققه (المدرس) في تجربته الذاتية التي استمرت لفترة طويلة في بناء لغة الخطاب البصري السوري المعتمد على الإنجازات الجادة لفنانين استمروا في التمرس بمهنهم المنغرسة في أركان النور الوهاج اللاهي بخدعه المسافرة في بصيرتنا كمتلقين موعودين بولادة تجهد لإنارة وجودنا.

العلاقة الحميمية مع سارتر
إن تجربة (المدرس) فرضت إلى جانب كينونتها وخطابها الجمال خطاباً نقدياً مختلفا ًكفنان إشكالي يعيد صياغة التعبير بمفردات جديدة وذهنية جديدة من دون أن يتمكن هذا الخطاب الإحالة إلى مذهب أو مدرسة أو اتجاه كان من الممكن أن يقاسم توجه الفنان ويعطي الأولوية لترك أثر نقدي يكون بداية المنهج حداثوي في النقد التشكيلي العربي بخاصة وأن ظروف تحقيق المعركة فيما بين التقليدية والحداثة كانت جاهزة في إطار المتغيرات الفكرية الدولية وما كان من صراع بين القديم والجديد على المستوى الأوروبي وبخاصة في النقد الفرنسي الذي رفد المعرفة الإنسانية باستيحاء العلوم الإنسانية والاهتمام بالتيارات الفكرية المعاصرة لفهم الأثر الإبداعي وتفسير عملية الخلق وكل ما يتعلق (بالأنا الخالقة)... ولعل إحساس الفنان فاتح المدرس المتطور في هذا الاتجاه هو الذي جعله على علاقة حميمة بالفيلسوف جان بول سارتر وعلى صداقة مؤسسة على ندية الاكتشاف أو التماهي في الأفكار بخاصة أن سارتر يقول: «إن الإنسان كلية وليس مجموعاً، وبالتالي فهو يعبر عن نفسه بكليته في أكثر تصرفاته سطحية وأكثرها تفاهة وبعبارة أخرى ليس هناك ذوق أو عادة أو عمل إنساني لا يكون كاشفاً».

ولعل الربط فيما بين الأثر الإبداعي وظروف مبدعه وسيرة حياته ونمو ذاته تعمق القدرة الاكتشافية للعمل الفني وتحليله اعتماداً على فسحة الحرية التي تمثلها هذه العلاقة.

ويشير بعض الباحثين إلى أن سارتر اعتمد في مؤلفاته النقدية على علم الوجود بالانطلاق نحو الانثربولوجيا وهذا يفسر بشكل موجز التحول الذي سار به المدرس إثر دراسته في الغرب والتعمق في الأفكار نقدها كمعرفة إنسانية وبالتركيز على شخصية المبدع العصابية التي ترسم سيرة إبداعه.

إن الذات الواقعة تحت وصاية (فاتح المدرس) بقيت خاضعة لمجموعة التآليف التركيبية التي يتكون منها مشروعه البصري والجمالي بحيث تشمل هذه الخصوصية وجوده في ذاته في محاولة لتأليف مشروع مطلق فيما بين (الكينونة الثابتة والوجود العابر) كمغامرة حرية تمتد على إرث شعوري فياض يشرح فهم (المدرس) للوجود الذي يحيط به أو الذي ألف ذاته التي لا يمكن تجزئتها إلى أجزاء ارتدادية تجعلنا نعيد تكوين أو تشكيل المشهد الفجائعي لطفولة (المدرس) أو حتى مراقبة التقاطعات التي وقف عليها في اختياراته الحياتية لينأى عن الوصايات المعهودة بإحلال تمثيلات أسطورية مكان الواقع أو انحطاط الوجود الذي يستلب الإنسان إلى الدرجة التي يبدأ فيها المبدع بتحويل هذا الواقع إلى حلم يعيد صياغة الماضي وفق الشروط التي سيفرضها الفنان المتحرر من حاضره ليعطي المستقبل إمكانية تحقيقه.

إن الإشارة إلى الظروف المختلفة والمأساوية التي عاشها الفنان فاتح المدرس ستحتاج إلى زمن أوسع لدراستها والوقوف على تفاصيلها، بما يخدم السيرة الزمانية الدينامية التي رافقت عطاءه الواسع والقيمة التي أضافها إلى التشكيل العربي من منظور الفترة التاريخية التي عاشها كمتحولات سياسية واجتماعية كان له موقف نقدي واضح منها ومما تنطوي عليه من تفجرات لشفافية المبدع وكأن (المدرس) كان يقوم بتحليل ذاته للوصول إلى يقظة يظنها الانتصار الأخير أو نقطة الصفر التي كان يشير إليها كمعادل للولادة وكأنه يشير إلى أن «السبب في إخفاق كل انتصار هو أن المنتصر يتغير بوساطة انتصاره والمغلوب بوساطة اندحاره».


طلال معلا