الأخوان فليفل


محمد فليفل

ولد الأخوان فليفل في حي الأشرفية في بيروت: الشقيق الأكبر محمد في عام 1899 وأخوه أحمد عام 1903 (في مرجع آخر، ولد محمد عام 1902 وأحمد عام 1906)، في بيت تعلما فيه، منذ الطفولة، عبق الفن وتشربا فيه روح النغم الشرقي الأصيل.

كان والدهما يتمتع بحس موسيقي فطري، ووالدتهما كانت ذات صوت حسن تحفظ التواشيح والإبتهالات الدينية والمدائح النبوية عن والدها الشيخ ديب، شيخ مؤذّني الجامع العمري الكبير في بيروت، وتترنم بها على مسامع أولادها قبل المنام ولا سيما في المناسبات الدينية.

وسط هذه الألحان التراثية الأصيلة ترعرع الولدان وتفتحت موهبتهما الموسيقية التي فطرا عليها، وتجلى ولعهما المبكر بالموسيقى بتعلقهما بالفرق الموسيقية العسكرية التي كانت تجوب شوارع بيروت فينتظران مرورها من أمام منزلهما الأبوي بشغف.

هذه الاجواء الموسيقية العسكرية، إضافة إلى ما كانت تقدمه فرق موسيقية أخرى تعرّفا إليها، في ما بعد، وأعجبا بجمال عزفها، كانت الحافز لتحديد مسارهما، إذ وجدا نفسيهما مسوقين نحو دراسة الموسيقى وتعلم العزف على آلاتها، فالتحق محمد بموسيقى دار المعلمين التركية، وأحمد بفرقة موسيقى دير المخلص حيث تعلم فيها العزف على البيانو وآلات النفخ.

ثم عمّق الأخوان فليفل دراستهما الموسيقية على أيدي أساتذة مشهود لهم بالعلم والكفاءة مثل الأب مارون غصن، والأستاذ بشارة فرزين، والإيطالي فريدريك ريتلي، كما تعلما دروس الهارموني على يد الأستاذ وديع صبرا. ولما كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة الأوار والتجنيد الإجباري مفروضاً على رعايا الدولة العثمانية، استُدعي محمد فليفل الى الجندية سنة 1915 وأُلحق بمدرسة الضباط الاحتياط في اسطنبول، فاغتنم فرصة وجوده في عاصمة الدولة العثمانية ليتابع دروسه الموسيقية في دار الفنون وليتعلم العزف على بعض الآلات الموسيقية على يد الفنان التركي يوسف افندي.

خلال هذه المرحلة كان أحمد فليفل يكمل دراسته الموسيقية في بيروت ويتابع تعلم العزف على البيانو وآلات النفخ، فلما انتهت الحرب عاد أخوه محمد إلى بيروت وقد تخرج برتبة ملازم. فلما التقيا كانت اختمرت في ذهنهما فكرة تكوين فرقة موسيقية، فعملا بتصميم وثبات حتى تمكنا عام 1923 من تأسيس فرقة شبيهة بالفرق الموسيقية العسكرية التركية التي جذبتهما في طفولتهما، قوامها ستة وعشرون عازفاً، اشتريا لها آلات النفخ والإيقاع من جيبهما الخاص وسمياها «فرقة الأفراح الوطنية». باشرت الفرقة نشاطها في حديقة آل فليفل حيث أخذت تعزف الأناشيد والألحان الشائعة التي كانت في معظمها تركية، ثم صارت تشارك في احتفالات المدارس والجمعيات الأهلية إلى أن توصلت إلى العزف في بعض المناسبات الرسمية والوطنية.

في نهاية الحرب العالمية الأولى كانت البلدان العربية واقعة تحت سيطرة الانتداب الفرنسي والاستعمار البريطاني ، وكان من الطبيعي أن يكون الشباب العربي رافضاً هذا الانتداب بل متألما أشد الألم من وطأته ويحس بالذل والهوان، وبخاصة بعد وصول رياح مبادئ الحرية التي كانت تهب من الضفة الأخرى لحوض المتوسط فتنعش الآمال بمستقبل سعيد وعيش رغيد. وأحس الأخوان فليفل بواجب المساهمة في تأجيج المشاعر الوطنية فاختارا بعض قصائد الشاعر عبد الرحيم قليلات، مدير البوليس في ذلك العهد، فلحنّاها ولقّناها لتلامذة المدارس الرسمية والخاصة في بيروت منها:

يا حياةَ المجدِ عودي/ للحِمى طالَ المطال
ارحمي الشرق وجودي/ لبَنيهِ بالوِصال

وفي منزل الشاعر قليلات كُتبت أجمل الأناشيد الوطنية والقومية، إذ تم التعارف بين الأخوين فليفل والطالب في الجامعة الأميركية الشاعر ابرهيم طوقان الذي كتب كلمات نشيدين خالدين هما «موطني» الذي أبدع الأخوان فليفل في تلحينه أيما إبداع، وما عتم أن صار على كل شفة ولسان. أما الثاني فكان نشيد «وطني أنت لي والخصم راغم» وهو موجه للوطن الفلسطيني. في مطلع النشيد الأول يقول الشاعر:

موطني..

الجلالُ، والجمالُ، والسناءُ، والبهاءُ.. في رُباكْ

والحياةُ، والنجاةُ، والهناءُ، والرجاءُ.. في هَوَاكْ

يا رعاك..
سالما منعّما وغانما مكرّما..

يا رعاك في عُلاك..
تبلُغُ السِماك..
موطني
موطني


أما الثاني فيقول:

وطني أنت لي والخصمُ راغمُ.. وطني أنت كلُّ المنى

وطني إنني إن تَسلمْ سالمُ.. وبكَ العزُّ والهَنا

يا شبابنا إدفعوا من ظَلَمْ.. عن فلسطين واجلوا الظُلَمْ

موطنَ العُرب قلْ للأُممْ.. مهدُ عيسى لنا والحَرَمْ

بعد مؤتمر سايكس – بيكو الذي تم فيه اقتسام النفوذ في البلدان العربية ازداد تململ اللبنانيين وسائر العرب من ضغط الاحتلال ومساوئه وراح رجال البلاد وزعماؤها يؤمّون المحافل الدولية يطالبون بالاستقلال وبخروج الجيوش الأجنبية من البلاد.

وأمام مماطلة المستعمر ارتفعت وتيرة الضغط الشعبي وخرجت الجماهير إلى الشوارع تعبر عن استنكارها، وصارت التظاهرات الوطنية تجوب الشوارع في أكثر من عاصمة عربية تدعو المستعمر للرحيل وتطالب بالاستقلال الناجز.

في هذا الجو السياسي المشحون بالغضب والتمرد وأمام حالة الغليان هذه، وجد الأخوان فليفل نفسيهما مطالبين بضخ المزيد من أناشيدهما التي تزكّي الروح الوطنية للوقوف في وجه الانتداب، فعكفا على تلحين العديد من الأناشيد الوطنية لشعراء كبار أمثال الأخطل الصغير، ابرهيم طوقان، سعيد عقل، عمر أبو ريشة، معروف الرصافي، أمين تقي الدين، شبلي الملاط، سابا زريق، عبد الحليم الحجار وفخري البارودي. وفي مرحلة لاحقة لجورج غريب ونسيم نصر ومحمد يوسف حمود وسلام فاخوري وشفيق جدايل ووديع عقل وآخرين.

كان الأخوان فليفل بارعين في اختيار أشعار أناشيدهما وتوقيع معانيها بحيث تأتي لتهز المشاعر، وتميزت هذه الأناشيد بالألحان الحماسية المعبرة عن المعاني والقيم الوطنية:
«فالسادةُ الأحرار لا يُطيقون أطواق الحديد»،
و«إن عيش الذُلّ والإرهاق أولى بالعبيد»، كما جاء في نشيد «في سبيل المجد» الشاعر الكبير عمر أبو ريشة..
والشباب لن يكلّ همه أن يستقل أو يبيد...
ونستقي من الردى ولن نكون للعدى كالعبيد،

كما في نشيد «موطني» لطوقان. والشباب قد باع أرواحه للوطن دون ثمن، كما جاء في نشيد «نحن الشباب لنا الغدُ» لبشارة الخوري. هذه المعاني والكلمات ومثلها الكثير حفلت بها أناشيد فليفل أخوان وكلها تثير في النفوس الشابة الحمية والحماسة وتحرك الروح الوطنية التواقة للحرية والإنطلاق:

فاذا دقّ النفير.. نملأ الدنيا زئير

وحديدا ودخان «الأخطل الصغير»

ولعلم البلاد لحّن الاخوان فليفل «هل تعود» للشاعر حبيب تابت:

يا شباب... إرفعوا صوت الوطن.. في الصحاري والسهول والهضاب

يا شباب... قدّموا الروحَ ثمنْ.. واهتفوا نحن لمنْ

للعُلى للعلم.. لا نَهابْ

وغنّى العرب في كل مكان من ألحانهما ومن شعر فخري البارودي:

بلادُ العُرْبِ أوطاني.. من الشامِ ِلبَغْدانِ

ومن نَجْدٍ إلى يَمَنٍ.. إلى مصرَ فتطوانِ

وفي لبنان كان نشيد «الفخر في بلادنا» الذي كتب كلماته الشاعر عبد الحليم الحجار بمثابة النشيد الوطني الجامع لكل التيارات السياسية ولكل التظاهرات الوطنية حيث كان المتظاهرون ينشدون بحماسة :

الموتُ في جهادنا.. خيرُ من استعبادنا

نمشي على أكبادنا.. في الحادث الجَلَلْ

بدأت السلطات الفرنسية المنتدبة تبدي انزعاجها مما يقدمه الأخوان فليفل من أناشيد أحدثت تياراً متمرداً ثائراً أخذت دائرته تتسع يوماً بعد يوم. الشرارة الأولى التي أشعلت غضب السلطات بدأت في العام 1940 عندما أطلقا من كلية المقاصد نشيد «العلى للعرب» من نظم عبد الحميد زيدان، الأستاذ المنتدب من مصر لتدريس اللغة العربية في الكلية. تقول كلمات النشيد:

العُلى للعربِ.. الأُباةِ النُجُبِ

فلتكن خطوتنا.. فوق هامِ الشُهُبِ

من يثربٍ أو جِلّقِ.. طاف الهدى في فَيْلَقِ

بالغرب بعد المشرق.. فلنُحيي عهدَ العرب

باتّحادِ الكَلِمِ.. وائتلافِ الهِمَمِ

فاعتلاءُ القمم.. من سجايا العرب

الدهرُ دارت دورتُهْ.. والمجدُ حانتْ عودتُهْ

قد أسمعتنا دعوتُه.. لبيكَ مجدَ العربِ

وصار صوت الطلاب المتقد بالحماسة يهدر كل صباح بهذا النشيد مما لفت انتباه المفوض السامي الفرنسي، لقرب مقره في قصر الصنوبر من مبنى الكلية، فطلب ترجمة كلماته. فلما اطّلع على مضمونه ومراميه استشاط غضباً وطلب من مدير الأمن العام الفرنسي طرد الأستاذ زيدان من لبنان وإرجاعه إلى بلده، وهدد الأخوين فليفل بالسجن أو النفي إذا لم يتوقفا عن تلحين مثل هذه الأناشيد، لكنهما لم يتوقفا عن تأدية واجبهما الوطني، فما كان من المفوض السامي الفرنسي إلا أن طلب من المشرف على وزارة المعارف الاستغناء عن خدماتهما فصُرفا من العمل.

لحّن الأخوان فليفل مئات الأناشيد الوطنية، وفي أواخر الثلاثينات كلفهما رئيس جمعية «العروة الوثقى» في الجامعة الأميركية الدكتور قسطنطين زريق تلحين نشيد الجمعية الذي كتب كلماته الشاعر سعيد عقل وأحدث ضجة كبرى في المنتديات الثقافية والسياسية العربية. يقول مطلع النشيد:

للنسورْ... ولنا الملعبُ والجناحان الخضيبان بنورْ... العُلا والعَرَبُ
ولنا القولُ الأبي والسماحُ اليعرُبي.. والسِّلاحْ
ولنا هزُّ الرماحْ.. في الغضوب المشمسِ
ولنا هزُّ الدُّنى.. قُبباً زُرقَ السّنا
ولنا صَهْلَةُ الخيلِ.. من الهندِ الى الأندَلُسِ

وقد أقرّت يومها وزارة المعارف العراقية هذا النشيد رسميا في مدارسها وجامعاتها، وردده الشعب العراقي مع سائر الشعوب العربية في جميع المناسبات.

عندما تأسست الجامعة العربية أعلنت عن عزمها على وضع نشيد رسمي لها، فوقع اختيار اللجنة على قصيدة الشاعر المصري محمد المجذوب، وفي مباراة اللحن فاز الأخوان فليفل بالمرتبة الأولى. تقول كلمات النشيد:

أشرق الفجرُ فسيروا في الضياء.. ودعا الحقُ فهبّوا للنداء
إنه وحيُ السماء.. إنه صوت الإباء
بوركَ النورُ سرى في الغَيْهَبِ.. مُعْلِناً مطلع شمسِ العربِ
فاسكبوا البشرى بسمع الحِقَبِ

لم يقتصر عطاء الاخوين فليفل على الأناشيد الوطنية فحسب بل أوليا اهتمامهما الناحية التربوية بعدما شعرا بالحاجة إلى توجيه الناشئة وحضهم على العلم والخلق الحسن فلحّنا العديد من الأناشيد ذات المضمون التربوي والأخلاقي والاجتماعي لكبار الشعراء وألّفا فرقة مختارة من طلابهما قدّمت مئات الحلقات التوجيهية التمثيلية الغنائية من الإذاعة اللبنانية.

حماة الديار

نشيد كلما استمعنا إليه حل برداً وسلاماً على أكبادنا .

في موسيقاه نبع من الحماسة لا ينضب. وفي كلماته خلاصة لتاريخنا العريق وحاضرنا المليء بالنضال، هو عنوان الجلاء ورمز الاستقلال. عزف لأول مرة كنشيد وطني رسمي لسورية صبيحة السابع عشر من نيسان عام 1946م يوم الجلاء الكبير.
ما هي حكاية هذا النشيد؟ وكيف تم اختياره نشيداً وطنياً لسورية؟

هذه الحكاية روتها الأديبة الكبيرة كوليت خوري التي سمعتها من أصحابها الأصليين . وهما الأخوان أحمد ومحمد فليفل ملحنا النشيد:

بدأت الحكاية باختيار القصيدة التي سوف تتحول الى نشيد وطني ولم يكن هنا أي مشكلة حول ذلك فقد كان هناك اتفاق على اختيار قصيدة الشاعر خليل مردم «حماة الديار»، وخليل مردم شاعر سوري ولد في أواخر القرن التاسع عشر وعايش نهاية العهد العثماني والاحتلال الفرنسي لسورية.... وكتب الكثير من القصائد الوطنية التي تحدثت عن نضال شعبنا في سبيل الاستقلال.‏

أما الحكاية الحقيقية.. فكانت عند تلحين القصيدة فقد أعلنت الحكومة السورية عن مسابقة لتلحين قصيدة «حماة الديار» كان ذلك عام 1938، وكان هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية. وتقدم لتلحين القصيدة نحو ستين موسيقياً منهم ملحنون معروفون مثل أحمد الأوبري.

وكان من جملة المتقدمين الموسيقيين الأخوان أحمد ومحمد فليفل من بيروت، وشكلت لجنة لاختيار اللحن الأفضل ولما تقدم الأخوان فليفل، رفضت اللجنة حتى مجرد استقبالهما والاستماع إلى لحنهما، فذهب الأخوان إلى فارس الخوري الذي كان رئيساً لمجلس النواب آنذاك، وشكوا عدم استقبال اللجنة لهما فطلب سماع النشيد فوجد لحنه جميلاً ولم يشأ التدخل في عمل اللجنة فطلب من الأخوين فليفل تعليم النشيد لطلاب المدارس، حتى يحين وقت اختيار النشيد.

نفذ الأخوان طلب فارس الخوري، وانتشر النشيد انتشاراً واسعاً، ليس كنشيد رسمي، وإنما كنشيد وطني عادي إلى جانب أناشيد الأخوين فليفل الأخرى مثل أناشيد «بلاد العرب أوطاني»، «في سبيل المجد»، «موطني»، «نحن الشباب» ....‏

ولم يتم البت في أمر النشيد السوري، حتى انعقاد اجتماع سان فرانسيسكو الذي بحث استقلال سورية، ومثل سورية فيه فارس الخوري، وكان معه قسطنطين زريق الوزير المفوض لسورية في الولايات المتحدة ورفيق العشا الذي كان قنصلاً لسورية هناك.

في ذاك الاجتماع تم إقرار حق سورية في الاستقلال، ومن هناك أعلن فارس الخوري أن النشيد الوطني الرسمي لسورية سيكون «حماة الديار» للحن الأخوين فليفل.

وأثناء العرض العسكري الذي أقيم احتفالاً بالجلاء لجيشنا الفتي عام 1946، كانت مكبرات الصوت تذيع النشيد الوطني بلحن الأخوين فليفل.

==
المصدر: «اقتباساً عن زهرة سورية - وعدد من المواقع الإلكترونية»