فيلم جبال الصوان لنضال حسن

31 01

انجدال الإنسان بالطبيعة لتقديم فنونهما بكامل العفوية

إلى شمال مدينة جبلة وربما شرقها صعوداً، ولمسافةٍ طويلة، على أكتاف الجبال وقممها، إلى أحضان قريتي حمام القراحلة وجيبول.
يذهب بنا المخرج نضال حسن ليقدم لنا في فيلمه «جبال الصوان» حكاية انجدالٍ بين الإنسان وما يحيط به من بريّة، ويسمعنا صوتاً فنياً «صارخاً في هذه البريّة» بكامل العفوية صوت أبي بيرم ـحكمت عدراـ وهيثم الخطيب، في هاتين القريتين حمام القراحلة وجيبول، لينقل لنا الفيلم الذي وإن أدرج تحت عنوانٍ الوثائقي فإنه يذهب إلى تخوم الفيلم الروائي الطويل.
صحيح أنَّ حكمت عدرا وهيثم الخطيب لا يمثلان، لكنهما في تجسيد الحكاية الفنية، برزا كفنانين في سردهما بكامل الدرامية، وبدل أن يكون الصراع مع الطبيعة يأتي الانسجام والتكامل لصياغة المنحوتة الصخرية وقراءتها.
برأسٍ، تغطي نصفه قبعة دائرية ولحيةٍ بيضاء، وبوجه أوغاريتي قديم يظهر أبو بيرم في الفيلم وضمن شعاب المكان، وأحياناً من بواطنه، يستخرج فنونه، منحوتاته، ولوحاته التشكيلية، أو كما يسميها التشكيل العفوي للطبيعة، فكوّن «جبلاً» من تشكيلات الحجارة، بانتظار أن يفسح لها المكان المناسب لعرضها، أو لعلّ جهةً ما، وهذه غاية الفيلم التي يسعى إليها، تؤسس وتنشئ لهذه المنحوتات الصخرية الطبيعية متحفاً يليق بها. مع ذلك، فإنَّ بعض هذه التشكيلات وجد له مكاناً رائعاً تحت شجرة سنديان ضخمة في القرية، ومدخلها أيضاً يشهد على معمارية هذا الفنان الذي يقارب زميله، بنّاء «حصن سليمان» منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، بفخامة حجارته وأسطورة بنائها.
حكمت عدرا أيضاً شيّد معلماً آخر في أعلى نقطة في القرية ـ ربما ـ هو «نصب» الصديق، بعفوية الحجارة الضخمة وصلابتها وإبداعٌ نادر ومن طراز فن خاص بأبي بيرم.
حجارة هذا الفنان الفطري، الذي يسرد حكايته معها نضال حسن، نادراً ما يعدل على تشكيلاتها التي كونتها الطبيعة، فهو يختارها حسب قراءته هو نفسه لتشكيلات الطبيعة عليها، وأنت اقرأ كما تحب فلن يختلف معك.
في القرية المجاورة لحمام القراحلة «جيبول» هناك الشاب هيثم الخطيب، وهو أيضاً من عائلة لديها انجدلاتها مع الطبيعة، فيوسف الخطيب والد هيثم لديه مثل هذه الاهتمامات لحكمت عدرا، لكن ليس الشغف نفسه، أما هيثم فإنه يقوم بجمع الحصى الصغيرة ومن ثم يقوم بتلصيقها على شكل دمى تارةً، وطوراً على شكل شخصيات مسرحية، وأحياناً على شكل حشرات ليسرد القراءة التي يقوم هو بتصنيع «الكولاج» الذي يريده، وليس بما كونته الطبيعة، ربما تكون الأخيرة هنا، قد ساعدت الفنان الفطري على سرد حكايته المشتهاة أو كما يشتهيها على عكس جاره أبي بيرم.
نضال حسن في فيلم جبال الصوان، لا يقوم بسرد فنون أبي بيرم أو هيثم الخطيب كلٌ على حدة، بل يسرد حكاية فنونهما معاً، وضمن التماهي مع المحيط الاجتماعي والبيئي للشخصيتين، فنون عدرا والخطيب تقوم على التركيب، أي هما فنانان تركيبيان بالدرجة الأولى ودون أن يعيا ذلك، فطريقة عرض الحجارة، ومن ثم التشكيل النهائي لقراءتها هو ما يشكل هاجس كل منهما، هذا الهاجس أعطى عدة مستويات للقراءة في تركيبات هذا الفن النادر، مستوى سياسياً يقوم على مقاربة الواقع السياسي المحلي والإقليمي، وحتى الدولي ومستوى اجتماعي، وثالث جاء توثيقياً لكائناتٍ حية من الطبيعة التي تظهر وتحضر بقوة في تفاصيل حياة المكان، ومن ثم ستدخل في بطولة فيلم نضال حسن بالقوة نفسها، تلال وإطلالات، أشجار وأدغال، غروب وأغساق، وبيوت تتعمشق بقوة على حواف هذه الإطلالات الطبيعية حيث يصير التعمشق عناقاً ثم ناس هذا المكان من بساطة وطقوس وعادات منذ بداية الفينيقية القديمة.
ويمكن الحديث عن حس كاريكاتوري، سواءً في الأعمال التي يعيد قراءتها أبو بيرم، أو يلصقها هيثم الخطيب بطريقة كاريكاتورية أو بالطريقة التي يقدم بها نضال حسن شخصياته وطريقة حديثها التي تصل حدود الكوميديا في بعض المواقف.
«منحوتات» أو أعمال نحتية تأخذ مساراً توثيقياً أحياناً، لكنه توثيق جمالي لحيواناتٍ تتنوع، ابتداءً من حيوانات البيئة المحلية، إلى حيوانات أسطورية، فثمة وحش ينقض على ضحيته، وهنا تشكل حجارة المستحثات معظم هذه التشكيلات كحلزون متحجر، أو كلب وأسماك وغيرها من الكائنات البحرية.
هذه التشكيلات الفنية التي ساعدت الطبيعة في صياغتها تنوس بين المنحوتة الصغيرة التي توضع داخل واجهة فاترينا، كما في دمى هيثم الخطيب، وقد يحتاج حمل بعضها الآخر لرافعات ضخمة، وبين المنحوتة الصغيرة والنصب العملاق، فإن حكمت عدرا وهيثم الخطيب، يقدمان فيها جميعاً قراءات وإيحاءات كمتصوفين في معبد من حجر، فأبو بيرم يرى في الحجر كل شيء جمالي ولأنه يرى موته، كما ـ يقول ـ تماماً كقرمة قديمة الأمر الذي حثه، على أن يجسد أفكاره في هذه الأحجار، حتى لا تذهب معه إلى القبر ورغم أنه ـ يذكر ـ مقزم بالسيولة المادية فهذه التشكيلات تحتاج لمكان ما في هذا الوطن لعرضها بالطريقة التي تناسب قراءتها وأهميتها الجمالية والعلمية.
أبو بيرم، ورغم حرصه الشديد على كل تحويرة أو خط ما، والكتل النافرة وغيرها في هذه الحجارة، لكنه لا يقمعك في أن تشكل قراءة مغايرة لقراءته لاسيما أن بعض هذه التشكيلات قد يوفر لك قراءات متعددة لوجوه المنحوتة من أي وجه نظرت إليها.
بفيلم«جبال الصوان» الذي عرض مؤخراً في سينما الكندي في دمشق يكون نضال حسن، قد اشتغل على تنويعات الفيلم السينمائي كلها، لأن الفيلم يأتي بعد فلمين قصيرين هما: «فرح وحكاية كل يوم» وفيلم روائي طويل هو: «البشرة المالحة» واليوم يقدم فيلمه الوثائقي.. الذي وكما قلنا يذهب به إلى تخوم الفيلم الروائي آخذاً من إيقاع الفيلم القصير الشيء الكثير.


علي الراعي

تشرين

Share/Bookmark

صور الخبر

بقية الصور..

اسمك

الدولة

التعليق

أماني أسعد:

سيكون لهذا الفيلم نقلة نوعية في تاريخ السينما السورية وارى في المخرج نضال حسن انه مقدم على ان يضع بصماته الرائعة في السينما وخصوصا ان فيلم جبال نجد ان ملامح النسان ترسمها الطبيعة اللذي يراها

سوريا

سوريا